الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿فَإذا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وجَدْتُمُوهُمْ وخُذُوهُمْ واحْصُرُوهُمْ واقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإنْ تابُوا وأَقامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ۝﴾ [التوبة: ٥]. اختُلِفَ في المُرادِ بالأشهُرِ الحُرُمِ في هذه الآيةِ: هل هي التي حَرُمَ فيها القتالُ، ذو القَعْدةِ وذو الحِجَّةِ والمحرَّمُ ورجَبٌ، أو هي الأشهُرُ الأربعةُ التي جعَلَها اللهُ أجَلًا للمشرِكِينَ كافَّةً يُراجِعونَ أنفُسَهُمْ فيها، وهي أشهُرُ التَّسْيِيرِ؟! اختَلَفَ الناسُ في ذلك على قولَيْنِ: الـقـولُ الأولُ: أنّها الأشهُرُ الحرُمُ التي كان القِتالُ فيها محرَّمًا، وهي المقصودةُ بقولِهِ تعالى: ﴿مِنها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أنْفُسَكُمْ﴾ [التوبة: ٣٦]، وبهذا القولِ قال ابنُ عبّاسٍ، رواهُ عنه عليُّ بنُ أبي طَلْحةَ، وقال به الضحّاكُ، ورجَّحَهُ ابنُ جَريرٍ[[«تفسير ابن كثير» (٤ /١١٠).]]. القولُ الثّاني: أنّها الأشهُرُ الأربعةُ المقدَّرةُ للمُشرِكينَ يومَ الحجِّ الأكبرِ خاصَّةً، وهي أشهُرُ التَّسْيِيرِ والسَّيْحِ في الأرضِ، فسُمِّيَتْ حُرُمًا، لأنّ اللهَ حرَّمَ فيها قِتالَ أحَدٍ في تلك المُهْلَةِ خاصَّةً، وبه قال مجاهدٌ ومحمدُ بنُ إسحاقَ وقتادةُ وعبدُ الرحمنِ بنُ زيدٍ وغيرُهم[[«تفسير ابن كثير» (٤ /١١١).]]. وقولُه تعالى: ﴿فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وجَدْتُمُوهُمْ وخُذُوهُمْ واحْصُرُوهُمْ واقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾، فيه الأمرُ بعدَمِ الاكتفاءِ بقتالِ المشرِكينَ المُحارِبينَ عندَ لقائِهم، واعتراضِهِمُ الطَّرِيقَ: ﴿حَيْثُ وجَدْتُمُوهُمْ﴾، وإنّما أمَرَ بالبحثِ عنهم وتَتبُّعِهِمْ في أماكنِ وجودِهم ولو كانوا مُستتِرينَ متخفِّينَ: ﴿واحْصُرُوهُمْ واقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾. وقد جعَل الضَّحّاكُ هذه الآيةَ ناسِخةً ومنسوخةً، جعَلَها ناسخةً لكلِّ آيةٍ فيها ميثاقٌ مِن النبيِّ ﷺ معَ أحدٍ مِن المُشرِكينَ[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٦ /١٧٥٢).]]، ثمَّ جعَلَها منسوخةً بقولِهِ تعالى: ﴿فَإمّا مَنًّا بَعْدُ وإمّا فِداءً﴾ [محمد: ٤] [[«تفسير الطبري» (١١ /٣٤٨).]]. ومِنهم: مَن قال بعَكْسِ ذلك، فجعَلَ هذه الآيةَ: ﴿فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وجَدْتُمُوهُمْ﴾ ناسخةً لقولِهِ: ﴿حَتّى إذا أثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الوَثاقَ﴾ [محمد: ٤]، قالَهُ قتادةُ[[«تفسير الطبري» (١١ /٣٤٩).]]. وفي إطلاقِ النَّسْخِ نظَرٌ، فالعمَلُ بالآياتِ مُحْكَمٌ، وكلُّ موضعٍ في سياقِهِ وحالِه. وفي قولِهِ تعالى: ﴿فَإنْ تابُوا وأَقامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ۝﴾، وفي الآيةِ التي تَلِيها بآياتٍ: ﴿فَإنْ تابُوا وأَقامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكاةَ فَإخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾ [التوبة: ١١]: دليلٌ على أنّ الإيمانَ قَوْلٌ وعَمَلٌ واعتقادٌ، فلم يَعْتَبِرِ اللهُ تَوْبَتَهُمْ مقبولةً حتّى يَستسلِموا ظاهرًا بعمَلٍ، وهذا الذي عليه إجماعُ الصَّحابةِ والتّابعينَ، وقد بيَّنّا هذه المسألةَ في «العقيدةِ الخُراسانيَّةِ».
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب