الباحث القرآني

﴿فَإذا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ﴾ أيِ انْقَضَتْ، وأصْلُهُ مِنَ السَّلْخِ بِمَعْنى الكَشْطِ يُقالُ: سَلَخْتُ الإهابَ عَنِ الشّاةِ أيْ كَشَطْتُهُ ونَزَعْتُهُ عَنْها، ويَجِيءُ بِمَعْنى الإخْراجِ كَما يُقالُ: سَلَخْتُ الشّاةَ عَنِ الإهابِ إذا أخْرَجْتَها مِنهُ، وذَكَرَ أبُو الهَيْثَمِ أنَّهُ يُقالُ: أهْلَلْنا شَهْرَ كَذا أيْ دَخَلْنا فِيهِ فَنَحْنُ نَزْدادُ كُلَّ لَيْلَةٍ لِباسًا إلى نِصْفِهِ ثُمَّ نَسْلَخُهُ عَنْ أنْفُسِنا جُزْءًا فَجُزْءًا حَتّى يَنْقَضِيَ وأنْشَدَ: ؎إذا ما سَلَخْتُ الشَّهْرَ أهْلَلْتُ مِثْلَهُ كَفى قاتِلًا سَلْخِي الشُّهُورَ وإهْلالِي والِانْسِلاخُ فِيما نَحْنُ فِيهِ اسْتِعارَةٌ حَسَنَةٌ، وتَحْقِيقُ ذَلِكَ أنَّ الزَّمانَ مُحِيطٌ بِما فِيهِ مِنَ الزَّمانِيّاتِ مُشْتَمِلٌ عَلَيْهِ اشْتِمالَ الجِلْدِ عَلى الحَيَوانِ، وكَذا كُلُّ جُزْءٍ مِن أجْزائِهِ المُمْتَدَّةِ كالأيّامِ والشُّهُورِ والسِّنِينَ، فَإذا مَضى فَكَأنَّهُ انْسَلَخَ عَمّا فِيهِ، وفي ذَلِكَ مَزِيدُ لُطْفٍ لِما فِيهِ مِنَ التَّلْوِيحِ بِأنَّ تِلْكَ الأشْهُرَ كانَتْ حِرْزًا لِأُولَئِكَ المُعاهِدِينَ عَنْ غَوائِلِ أيْدِي المُسْلِمِينَ، فَنِيطَ قِتالُهم بِزَوالِها، ومِن هُنا يُعْلَمُ أنَّ جَعْلَهُ اسْتِعارَةً مِنَ المَعْنى الأوَّلِ لِلسَّلْخِ أوْلى مِن جَعْلِهِ مِنَ المَعْنى الثّانِي بِاعْتِبارِ أنَّهُ لَمّا انْقَضى كَأنَّهُ أُخْرِجَ مِنَ الأشْياءِ المَوْجُودَةِ إذْ لا يَظْهَرُ هَذا التَّلْوِيحُ عَلَيْهِ ظُهُورَهُ عَلى الأوَّلِ ( وال ) في الأشْهُرِ لِلْعَهْدِ فالمُرادُ بِها الأشْهُرُ الأرْبَعَةُ المُتَقَدِّمَةُ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ( ﴿فَسِيحُوا في الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ﴾ ) وهو المَرْوِيُّ عَنْ مُجاهِدٍ، وغَيْرِهِ، وفي الدُّرِّ المَصُونِ أنَّ العَرَبَ إذا ذَكَرَتْ نَكِرَةً ثُمَّ أرادَتْ ذِكْرَها ثانِيًا أتَتْ بِالضَّمِيرِ أوْ بِاللَّفْظِ مُعَرَّفًا بِألْ ولا يَجُوزُ أنْ تَصِفَهُ حِينَئِذٍ بِصِفَةٍ تُشْعِرُ بِالمُغايِرَةِ (p-50)فَلَوْ قِيلَ رَأيْتُ رَجُلًا وأكَرَمْتُ الرَّجُلَ الطَّوِيلَ لَمْ تُرِدْ بِالثّانِي الأوَّلَ وإنْ وصَفْتَهُ بِما لا يَقْتَضِي المُغايَرَةَ جازَ كَقَوْلِكَ فَأكْرَمْتُ الرَّجُلَ المَذْكُورَ، والآيَةُ مِن هَذا القَبِيلِ، فَإنَّ ( الحُرُمُ ) صِفَةٌ مَفْهُومَةٌ مِن فَحْوى الكَلامِ فَلا تَقْتَضِي المُغايَرَةَ، وكَأنَّ النُّكْتَةَ في العُدُولِ عَنِ الضَّمِيرِ ووَضْعِ الظّاهِرِ مَوْضِعَهُ الإتْيانُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِتَكُونَ تَأْكِيدًا لِما يُنْبِئُ عَنْهُ إباحَةُ السِّياحَةِ مِن حُرْمَةِ التَّعَرُّضِ لَهم مَعَ ما في ذَلِكَ مِن مَزِيدِ الِاعْتِناءِ بِشَأْنِ المَوْصُوفِ. وعَلى هَذا فالمُرادُ بِالمُشْرِكِينَ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ( ﴿فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ﴾ ) النّاكِثُونَ فَيَكُونُ المَقْصُودُ بَيانَ حُكْمِهِمْ بَعْدَ التَّنْبِيهِ عَلى إتْمامِ مُدَّةِ مَن لَمْ يَنْكُثْ ولا يَكُونُ حُكْمُ الباقِينَ مَفْهُومًا مِن عِبارَةِ النَّصِّ بَلْ مِن دَلالَتِهِ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِها تِلْكَ الأرْبَعَةَ مَعَ ما فُهِمَ مِن قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ( ﴿فَأتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهم إلى مُدَّتِهِمْ﴾ ) مِن تَتِمَّةِ مُدَّةٍ بَقِيَتْ لِغَيْرِ النّاكِثِينَ، وعَلَيْهِ يَكُونُ حُكْمُ الباقِينَ مَفْهُومًا مِنَ العِبارَةِ حَيْثُ إنَّ المُرادَ بِالمُشْرِكِينَ حِينَئِذٍ ما يَعُمُّهم والنّاكِثِينَ إلّا أنَّهُ يَكُونُ الِانْسِلاخُ وما نِيطَ بِهِ مِنَ القِتالِ شَيْئًا فَشَيْئًا لا دُفْعَةً واحِدَةً، فَكَأنَّهُ قِيلَ: فَإذا تَمَّ مِيقاتُ كُلِّ طائِفَةٍ فاقْتُلُوهم، وقِيلَ: المُرادُ بِها الأشْهُرُ المَعْهُودَةُ الدّائِرَةُ في كُلِّ سَنَةٍ وهي رَجَبٌ، وذُو القِعْدَةِ، وذُو الحِجَّةِ، والمُحَرَّمُ، وهو مُخِلٌّ بِالنَّظْمِ الكَرِيمِ لِأنَّهُ يَأْباهُ التَّرْتِيبُ بِالفاءِ وهو مُخالِفٌ لِلسِّياقِ الَّذِي يَقْتَضِي تَوالِيَ هَذِهِ الأشْهُرِ، وقِيلَ: إنَّهُ مُخالِفٌ لِلْإجْماعِ أيْضًا لِأنَّهُ قامَ عَلى أنَّ هَذِهِ الأشْهُرَ يَحِلُّ فِيها القِتالُ وأنَّ حُرْمَتَها نُسِخَتْ وعَلى تَفْسِيرِهِ بِها يَقْتَضِي بَقاءَ حُرْمَتِها ولَمْ يَنْزِلْ بَعْدُ ما يَنْسَخُها، ورُدَّ بِأنَّهُ لا يَلْزَمُ أنْ يُنْسَخَ الكِتابُ بِالكِتابِ بَلْ قَدْ يُنْسَخُ بِالسُّنَّةِ كَما تَقَرَّرَ في الأُصُولِ، وعَلى تَقْدِيرِ لُزُومِهِ كَما هو رَأْيُ البَعْضِ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ناسِخُهُ مِنَ الكِتابِ مَنسُوخَ التِّلاوَةِ، وتُعُقِّبَ هَذا بِأنَّهُ احْتِمالٌ لا يُفِيدُ ولا يُسْمَعُ لِأنَّهُ لَوْ كانَ كَذَلِكَ لَنُقِلَ، والنَّسْخُ لا يَكْفِي فِيهِ الِاحْتِمالُ، وقِيلَ: إنَّ الإجْماعَ إذا قامَ عَلى أنَّها مَنسُوخَةٌ كَفى ذَلِكَ مِن غَيْرِ حاجَةٍ إلى نَقْلِ سَنَدٍ إلَيْنا، وقَدْ صَحَّ أنَّهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ حاصَرَ الطّائِفَ لِعَشَرٍ بَقِينَ مِنَ المُحَرَّمِ، وكَما أنَّ ذَلِكَ كافٍ لِنَسْخِها يَكْفِي لِنَسْخِ ما وقَعَ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ وهو «إنَّ الزَّمانَ اسْتَدارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ تَعالى السَّماواتِ والأرْضَ السَّنَةُ اثْنا عَشَرَ شَهْرًا مِنها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ؛ ذُو القِعْدَةِ وذُو الحِجَّةِ والمُحَرَّمُ ورَجَبٌ» فَلا يُقالُ: إنَّهُ يُشْكِلُ عَلَيْنا لِعَدَمِ العِلْمِ بِما يَنْسَخُهُ كَما تُوُهِّمَ، وإلى نَسْخِ الكِتابِ بِالإجْماعِ ذَهَبَ البَعْضُ مِنّا، فَفي ”النِّهايَةِ شَرْحِ الهِدايَةِ“ تَجُوزُ الزِّيادَةُ عَلى الكِتابِ بِالإجْماعِ، صَرَّحَ بِهِ الإمامُ السَّرَخْسِيُّ، وقالَ فَخْرُ الإسْلامِ: إنَّ النُّسَخَ بِالإجْماعِ جَوَّزَهُ بَعْضُ أصْحابِنا بِطَرِيقِ أنَّ الإجْماعَ يُوجِبُ العِلْمَ اليَقِينِيَّ كالنَّصِّ، فَيَجُوزُ أنْ يَثْبُتَ بِهِ النَّسْخُ، والإجْماعُ في كَوْنِهِ حُجَّةً أقْوى مِنَ الخَبَرِ المَشْهُورِ والنَّسْخُ بِهِ جائِزٌ فَبِالإجْماعِ أوْلى، وأمّا اشْتِراطُ حَياةِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ في جَوازِ النَّسْخِ فَغَيْرُ مَشْرُوطٍ عَلى قَوْلِ ذَلِكَ البَعْضِ مِنَ الأصْحابِ اهـ، وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ المَسْألَةَ خِلافِيَّةٌ عِنْدَنا، عَلى أنَّ في الإجْماعِ كَلامًا، فَقَدْ قِيلَ: بِبَقاءِ حُرْمَةِ قِتالِ المُسْلِمِينَ فِيها إلّا أنْ يُقاتِلُوا، ونُقِلَ ذَلِكَ عَنْ عَطاءٍ لَكِنَّهُ قَوْلٌ لا يُعْتَدُّ بِهِ، والقَوْلُ بِأنَّ مَنعَ القِتالِ في الأشْهُرِ الحُرُمِ كانَ في تِلْكَ السَّنَةِ وهو لا يَقْتَضِي مَنعَهُ في كُلِّ ما شابَهَها، بَلْ هو مَسْكُوتٌ عَنْهُ فَلا يُخالِفُ الإجْماعَ، ويَكُونُ حِلُّهُ مَعْلُومًا مِن دَلِيلٍ آخَرَ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأنَّ الظّاهِرَ أنَّ مَن يَدَّعِي الإجْماعَ يَدَّعِيهِ في الحَلِّ في تِلْكَ السَّنَةِ أيْضًا، وبِالجُمْلَةِ لا مُعَوِّلَ عَلى هَذا التَّفْسِيرِ، وهَذِهِ عَلى ما قالَ الجَلالُ السُّيُوطِيُّ هي آيَةُ السَّيْفِ الَّتِي نَسَخَتْ آياتِ العَفْوِ والصَّفْحِ والإعْراضِ والمُسالَمَةِ. وقالَ العَلّامَةُ ابْنُ حَجَرٍ: آيَةُ السَّيْفِ ﴿وقاتِلُوا المُشْرِكِينَ كافَّةً﴾ وقِيلَ: هُما، واسْتَدَلَّ الجُمْهُورُ بِعُمُومِها عَلى قِتالِ التُّرْكِ والحَبَشَةِ كَأنَّهُ قِيلَ: فاقْتُلُوا الكُفّارَ مُطْلَقًا ﴿حَيْثُ وجَدْتُمُوهُمْ﴾ مِن حِلٍّ وحَرَمٍ ( ﴿وخُذُوهُمْ﴾ ) قِيلَ: أيِ أْسِرُوهم (p-51)والأخِيذُ الأسِيرُ، وفُسِّرَ الأسْرُ بِالرَّبْطِ لا لِاسْتِرْقاقٍ، فَإنَّ مُشْرِكِي العَرَبِ لا يَسْتَرِقُّونَ. وقِيلَ: المُرادُ إمْهالُهم لِلتَّخْيِيرِ بَيْنَ القَتْلِ والإسْلامِ، وقِيلَ: هو عِبارَةٌ عَنْ أذِيَّتِهِمْ بِكُلِّ طَرِيقٍ مُمْكِنٍ، وقَدْ شاعَ في العُرْفِ الأخْذُ عَلى الِاسْتِيلاءِ عَلى مالِ العَدُوِّ، فَيُقالُ: إنَّ بَنِي فُلانٍ أخَذُوا بَنِي فُلانٍ أيِ اسْتَوْلَوْا عَلى أمْوالِهِمْ بَعْدَ أنْ غَلَبُوهم ( ﴿واحْصُرُوهُمْ﴾ ) قِيلَ أيِ احْبِسُوهم. ونَقَلَ الخازِنُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّ المُرادَ امْنَعُوهم عَنِ الخُرُوجِ إذا تَحَصَّنُوا مِنكم بِحِصْنٍ. ونَقَلَ غَيْرُهُ عَنْهُ أنَّ المَعْنى حِيلُوا بَيْنَهم وبَيْنَ المَسْجِدِ الحَرامِ ﴿واقْعُدُوا لَهم كُلَّ مَرْصَدٍ﴾ أيْ: كُلَّ مَمَرٍّ ومُجْتازٍ يَجْتازُونَ مِنهُ في أسْفارِهِمْ، وانْتِصابُهُ عِنْدَ الزَّجّاجِ ومَن تَبِعَهُ عَلى الظَّرْفِيَّةِ، ورَدَّهُ أبُو عَلِيٍّ بِأنَّ المَرْصَدَ المَكانُ الَّذِي يُرْصَدُ فِيهِ العَدُوُّ فَهو مَكانٌ مَخْصُوصٌ لا يَجُوزُ حَذْفُ في مِنهُ ونَصْبُهُ عَلى الظَّرْفِيَّةِ إلّا سَماعًا، وتَعَقَبَّهُ أبُو حَيّانَ بِأنَّهُ لا مانِعَ مِنِ انْتِصابِهِ عَلى الظَّرْفِيَّةِ لِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ( ﴿واقْعُدُوا لَهُمْ﴾ ) لَيْسَ مَعْناهُ حَقِيقَةَ القُعُودِ بَلِ المُرادُ تَرَقُّبُهم وتَرَصُّدُهم، فالمَعْنى ارْصُدُوهم كُلَّ مَرْصَدٍ يُرْصَدُ فِيهِ، والظَّرْفُ مُطْلَقًا يَنْصُبُهُ بِإسْقاطِ- فِي- فِعْلٍ مِن لَفْظِهِ أوْ مَعْناهُ نَحْوَ جَلَسْتُ وقَعَدْتُ مَجْلِسَ الأمِيرِ، والمَقْصُورُ عَلى السَّماعِ ما لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، و( كُلَّ ) وإنْ لَمْ يَكُنْ ظَرْفًا لَكِنْ لَهُ حُكْمُ ما يُضافُ إلَيْهِ لِأنَّهُ عِبارَةٌ عَنْهُ. وجَوَّزَ ابْنُ المُنِيرِ أنْ يَكُونَ مَرْصَدٌ مَصْدَرًا مِيمِيًّا فَهو مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ والعامِلُ فِيهِ الفِعْلُ الَّذِي بِمَعْناهُ، كَأنَّهُ قِيلَ: وارْصُدُوهم كُلَّ مَرْصَدٍ ولا يَخْفى بَعْدَهُ، وعَنِ الأخْفَشِ أنَّهُ مَنصُوبٌ بِنَزْعِ الخافِضِ، والأصْلُ عَلى كُلِّ مَرْصَدٍ، فَلَمّا حُذِفَ عَلى انْتَصَبَ، وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ النَّصْبَ بِنَزْعِ الخافِضِ غَيْرُ مَقِيسٍ خُصُوصًا إذا كانَ الخافِضُ عَلى، فَإنَّهُ يَقِلُّ حَذْفُها حَتّى قِيلَ: إنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالشِّعْرِ ( ﴿فَإنْ تابُوا﴾ ) عَنِ الشِّرْكِ بِالإيمانِ بِسَبَبِ ما يَنالُهم مِنكم ( ﴿وأقامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكاةَ﴾ ) تَصْدِيقًا لِتَوْبَتِهِمْ وإيمانِهِمْ، واكْتَفى بِذِكْرِهِما لِكَوْنِهِما رَئِيسَيِ العِباداتِ البَدَنِيَّةِ والمالِيَّةِ ( ﴿فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ﴾ ) أيْ فاتْرُكُوهم وشَأْنَهم ولا تَتَعَرَّضُوا لَهم بِشَيْءٍ مِمّا ذُكِرَ. وقِيلَ: المُرادُ خَلُّوا بَيْنَهم وبَيْنَ البَيْتِ ولا تَمْنَعُوهم عَنْهُ والأوَّلُ أوْلى، وقَدْ جاءَتْ تَخْلِيَةُ السَّبِيلِ في كَلامِ العَرَبِ كِنايَةً عَنِ التَّرْكِ كَما في قَوْلِهِ: ؎خَلِّ السَّبِيلَ لِمَن يَبْنِي المَنارَ بِهِ ∗∗∗ وابْرُزْ بِبَرْزَةَ حَيْثُ اضْطَرَّكَ القَدَرُ ثُمَّ يُرادُ مِنها في كُلِّ مَقامٍ ما يَلِيقُ بِهِ، ونُقِلَ عَنِ الشّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أنَّهُ اسْتَدَلَّ بِالآيَةِ عَلى قَتْلِ تارِكِ الصَّلاةِ وقِتالِ مانِعِ الزَّكاةِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ تَعالى أباحَ دِماءَ الكُفّارِ بِجَمِيعِ الطُّرُقِ والأحْوالِ ثُمَّ حَرَّمَها عِنْدَ التَّوْبَةِ عَنِ الكُفْرِ وإقامِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ فَما لَمْ يُوجَدْ هَذا المَجْمُوعُ تَبْقى إباحَةُ الدَّمِ عَلى الأصْلِ، ولَعَلَّ أبا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ اسْتَدَلَّ بِها عَلى قِتالِ مانِعِي الزَّكاةِ، وفي الحَواشِي الشِّهابِيَّةِ أنَّ المُزَنِيَّ مِن جِلَّةِ الشّافِعِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم أوْرَدَ عَلى قَتْلِ تارِكِ الصَّلاةِ تَشْكِيكًا تَحَيَّرُوا في دَفْعِهِ كَما قالَهُ السُّبْكِيُّ في طَبَقاتِهِ، فَقالَ: إنَّهُ لا يُتَصَوَّرُ لِأنَّهُ إمّا أنْ يَكُونَ عَلى تَرْكِ صَلاةٍ قَدْ مَضَتْ أوْ لَمْ تَأْتِ، والأوَّلُ باطِلٌ لِأنَّ المَقْضِيَّةَ لا يُقْتَلُ بِتَرْكِها، والثّانِي كَذَلِكَ لِأنَّهُ ما لَمْ يَخْرُجِ الوَقْتُ فَلَهُ التَّأْخِيرُ فَعَلامَ يُقْتَلُ؟ وسَلَكُوا في الجَوابِ مَسالِكَ. الأوَّلُ: أنَّ هَذا وارِدٌ أيْضًا عَلى القَوْلِ بِالتَّعْزِيرِ والضَّرْبِ والحَبْسِ كَما هو مَذْهَبُ الحَنَفِيَّةِ، فالجَوابُ –الجَوابُ- وهو جَدَلِيٌّ، يا رَسُولَ اللَّهِ. والثّانِي: أنَّهُ عَلى الماضِيَةِ لِأنَّهُ تَرَكَها بِلا عُذْرٍ، ورُدَّ بِأنَّ القَضاءَ لا يَجِبُ عَلى الفَوْرِ وبِأنَّ الشّافِعِيَّ (p-52)رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ قَدْ نَصَّ عَلى أنَّهُ لا يُقْتَلُ بِالمَقْضِيَّةِ مُطْلَقًا، والثّالِثُ: أنَّهُ يُقْتَلُ لِلْمُؤَدّاةِ في آخِرِ وقْتِها، ويَلْزَمُهُ أنَّ المُبادَرَةَ إلى قَتْلِ تارِكِ الصَّلاةِ تَكُونُ أحَقَّ مِنها إلى المُرْتَدِّ إذْ هو يُسْتَتابُ وهَذا لا يُسْتَتابُ ولا يُمْهَلُ، إذْ لَوْ أُمْهِلَ صارَتْ مَقْضِيَّةً وهو مَحَلُّ كَلامٍ، فَلا حاجَةَ إلى أنْ يُجابَ مِن طَرَفِ أبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ كَما قِيلَ: بِأنَّ اسْتِدْلالَ الشّافِعِيَّةِ مَبْنِيٌّ عَلى القَوْلِ بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ وهو لا يُعَوَّلُ بِهِ، ولَوْ سَلَّمَهُ فالتَّخْلِيَةُ الِاطِّلاقُ عَنْ جَمِيعِ ما مَرَّ، وحِينَئِذٍ يُقالُ: تارِكُ الصَّلاةِ لا يُخَلّى ويَكْفِي لِعَدَمِ التَّخْلِيَةِ أنْ يُحْبَسَ، عَلى أنَّ ذَلِكَ مَنقُوضٌ بِمانِعِ الزَّكاةِ عِنْدَهُ، وأيْضًا يَجُوزُ أنْ يُرادَ بِإقامَتِهِما التِزامُهُما وإذا لَمْ يَلْتَزِمْهُما كانَ كافِرًا إلّا أنَّهُ خِلافُ المُتَبادَرِ وإنْ قالَهُ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ. وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ مَذْهَبَ الشّافِعِيَّةِ أنَّ مَن تَرَكَ صَلاةً واحِدَةً كَسَلًا بِشَرْطِ إخْراجِها عَنْ وقْتِ الضَّرُورَةِ بِأنْ لا يُصَلِّيَ الظُّهْرَ مَثَلًا حَتّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ قُتِلَ حَدّا، واسْتَدَلَّ بَعْضُ أجِلَّةِ مُتَأخِّرِيهِمْ بِهَذِهِ الآيَةِ وقَوْلِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «أُمِرْتُ أنْ أُقاتِلَ النّاسَ» الحَدِيثَ، وبَيْنَ ذَلِكَ بِأنَّهُما شَرْطًا في الكَفِّ عَنِ القَتْلِ والمُقاتَلَةِ الإسْلامُ وإقامَةُ الصَّلاةِ وإيتاءُ الزَّكاةِ، لَكِنَّ الزَّكاةَ يُمْكِنُ الإمامَ أخْذُها ولَوْ بِالمُقاتَلَةِ مِمَّنِ امْتَنَعُوا مِنها وقاتَلُونا فَكانَتْ فِيها عَلى حَقِيقَتِها بِخِلافِها في الصَّلاةِ فَإنَّهُ لا يُمْكِنُ فِعْلُها بِالمُقاتَلَةِ فَكانَتْ فِيها بِمَعْنى القَتْلِ، ثُمَّ قالَ: فَعُلِمَ وُضُوحُ الفَرْقِ بَيْنَ الصَّلاةِ والزَّكاةِ وكَذا الصَّوْمُ فَإنَّهُ إذا عُلِمَ أنَّهُ يُحْبَسُ طُولَ النَّهارِ نَواهُ فَأجْدى الحَبْسُ فِيهِ ولا كَذَلِكَ الصَّلاةُ فَتَعَيَّنَ القَتْلُ في حَدِّها ولا يَخْفى أنَّ ظاهِرَ هَذا قَوْلٌ بِالجَمْعِ بَيْنَ الحَقِيقَةِ والمَجازِ في الآيَةِ، والحَدِيثُ لِأنَّ الصَّلاةَ والزَّكاةَ في كُلٍّ مِنهُما، وفي الآيَةِ القَتْلُ وحَقِيقَتُهُ لا تَجْرِي في مانِعِ الزَّكاةِ وفي الحَدِيثِ المُقاتَلَةُ وحَقِيقَتُها لا تَجْرِي في تارِكِ الصَّلاةِ، فَلا بُدَّ أنْ يُرادَ مَعَ القَتْلِ المُقاتَلَةُ في الآيَةِ ومَعَ المُقاتَلَةِ القَتْلُ في الحَدِيثِ لِيَتَأتّى جَرَيانُ ذَلِكَ في تارِكِ الصَّلاةِ ومانِعِ الزَّكاةِ، والجَمْعُ بَيْنَ الحَقِيقَةِ والمَجازِ لا يَجُوزُ عِنْدَنا، عَلى أنَّ حَمْلَ الآيَةِ والحَدِيثِ عَلى ذَلِكَ مِمّا لا يَكادُ يَتَبادَرُ إلى الذِّهْنِ فالنَّقْضُ بِمانِعِ الزَّكاةِ في غايَةِ القُوَّةِ. وأشارَ إلى ما نُقِلَ عَنِ المُزَنِيِّ مَعَ جَوابِهِ بِقَوْلِهِ: لا يُقالُ: لا قَتْلَ بِالحاضِرَةِ لِأنَّهُ لَمْ يُخْرِجْها عَنْ وقْتِها ولا بِالخارِجَةِ عَنْهُ لِأنَّهُ لا قَتْلَ بِالقَضاءِ وإنْ وجَبَ فَوْرًا لِأنّا نَقُولُ: بَلْ يُقْتَلُ بِالحاضِرَةِ إذا أُمِرَ بِها مِن جِهَةِ الإمامِ أوْ نائِبِهِ دُونَ غَيْرِهِما فِيما يَظْهَرُ في الوَقْتِ عِنْدَ ضِيقِهِ وتَوَعَّدَ عَلى إخْراجِها عَنْهُ فامْتَنَعَ حَتّى خَرَجَ وقْتُها لِأنَّهُ حِينَئِذٍ مُعانِدٌ لِلشَّرْعِ عِنادًا يَقْتَضِي مِثْلُهُ القَتْلَ فَهو لَيْسَ لِحاضِرَةٍ فَقَطْ ولا لِفائِتَةٍ فَقَطْ بَلْ لِمَجْمُوعِ الأمْرَيْنِ الأمْرِ والإخْراجِ مَعَ التَّصْمِيمِ ثُمَّ إنَّهم قالُوا: يُسْتَتابُ تارِكُ الصَّلاةِ فَوْرًا نَدْبًا، وفارِقُ الوُجُوبِ في المُرْتَدِّ بِأنَّ تُرْكَ اسْتِتابَتِهِ تُوجِبُ تَخْلِيدَهُ في النّارِ إجْماعًا بِخِلافِ هَذا، ولا يُضَمَّنُ عِنْدَهم مَن قَتَلَهُ قَبْلَ التَّوْبَةِ مُطْلَقًا لَكِنَّهُ يَأْثَمُ مِن جِهَةِ الِافْتِياتِ عَلى الإمامِ، وتَمامُ الكَلامِ في ذَلِكَ يُطْلَبُ مِن مَحَلِّهِ. واسْتَدَلَّ بِالآيَةِ أيْضًا -كَما قالَ الجَلالُ السُّيُوطِيُّ- مَن ذَهَبَ إلى كُفْرِ تارِكِ الصَّلاةِ ومانِعِ الزَّكاةِ، ولَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ والصَّحِيحُ أنَّهُما مُؤْمِنانِ عاصِيانِ، وما يُشْعِرُ بِالكُفْرِ خارِجٌ مَخْرَجَ التَّغْلِيظِ ﴿إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ يَغْفِرُ لَهم ما قَدْ سَلَفَ مِنهم ويُثِيبُهم بِإيمانِهِمْ وطاعَتِهِمْ وهو تَعْلِيلٌ لِلْأمْرِ بِتَخْلِيَةِ السَّبِيلِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب