الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإذا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ﴾، الآيَةَ. وفِيهِ سُؤالٌ: وهو أنَّ النِّداءَ إنَّما كانَ يَوْمَ الحَجِّ الأكْبَرِ، والأشْهُرُ الحُرُمُ: ذُو القِعْدَةِ، وذُو الحِجَّةِ، والمُحَرَّمُ، وهَذِهِ الثَّلاثَةُ سَرْدٌ ورَجَبٌ فَرْدٌ، فَإذا ثَبَتَ ذَلِكَ، فَكَيْفَ يَقُولُ: ﴿فَإذا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ﴾، وما بَقِيَ إلّا أيّامٌ قَلائِلُ؟ وأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ مِن وُجُوهٍ: مِنها: أنَّهُ لَمّا كانَ آخِرُ الأشْهُرِ الحُرُمِ المُحَرَّمَ، وكانَ بِانْقِضائِهِ تَنْقَضِي الأرْبَعَةُ أشْهُرٍ، جازَ أنْ يُعَلِّقَ قِتالَ الكُفّارِ بِهِ. (p-١٧٥)والوَجْهُ الثّانِي: أنَّ المُرادَ بِالأشْهُرِ الحُرُمِ: الأرْبَعَةُ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ تَعالى فِيها قِتالَهُمْ، وأمَّنَهم فِيها، وهي: مِن يَوْمِ النَّحْرِ إلى العاشِرِ مِن رَبِيعٍ الآخِرِ. فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿الأشْهُرُ الحُرُمُ﴾ هي الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ تَعالى فِيها القَتْلَ فَقَطْ، ولَمْ يَعْنِ بِالحُرُمِ الثَّلاثَةَ السَّرْدَ والواحِدَ الفَرْدَ، وإنَّما أرادَ الأرْبَعَةَ المُتَوالِيَةَ مِن وقْتِ العَهْدِ إلى العاشِرِ مِن رَبِيعٍ الآخِرِ، وهو قَوْلُ الحَسَنِ. وفِيهِ شَيْءٌ، وهو أنَّ اسْمَ الأشْهُرِ الحُرُمِ لا يُتَعارَفُ مِنهُ غَيْرُ المَعْهُودِ، ولا يَصِيرُ بِسَبَبِ العَهْدِ الأشْهَرُ مُسَمّاةً بِالحُرُمِ، فَلا جَرَمَ، اخْتارَ كَثِيرٌ مِنَ العُلَماءِ القَوْلَ الأوَّلَ. وقالَ الأصَمُّ: أُرِيدَ بِالآيَةِ مَن لا عَهْدَ لَهُ مِنَ المُشْرِكِينَ، فَأوْجَبَ أنْ يُمْسَكَ عَنْ قِتالِهِمْ حَتّى يَنْسَلِخَ المُحَرَّمُ، وهو مُدَّةُ خَمْسِينَ يَوْمًا عَلى ما ذَكَرَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. * * * قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وجَدْتُمُوهم وخُذُوهم واحْصُرُوهم واقْعُدُوا لَهم كُلَّ مَرْصَدٍ﴾ يَدُلُّ عَلى جَوازِ الأسْرِ بَدَلَ القَتْلِ والتَّخْيِيرِ بَيْنَهُما، ويَدُلُّ عَلى جَوازِ قَتْلِهِمْ، أوْ أسْرِهِمْ، عَلى وجْهِ المَكِيدَةِ، لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿واقْعُدُوا لَهم كُلَّ مَرْصَدٍ﴾ . وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ﴾ [الغاشية: ٢٢] و﴿وما أنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبّارٍ﴾ [ق: ٤٥] وقَوْلُهُ: ﴿فاعْفُ عَنْهم واصْفَحْ﴾ [المائدة: ١٣] (p-١٧٦)وقَوْلُهُ: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أيّامَ اللَّهِ﴾ [الجاثية: ١٤]، قالَ: نُسِخَ هَذا كُلُّهُ بِآيَةِ السَّيْفِ، وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وجَدْتُمُوهُمْ﴾، الآيَةَ، وقَوْلُهُ: ﴿قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ولا بِاليَوْمِ الآخِرِ﴾ [التوبة: ٢٩]، الآيَةَ. وقالَ مُوسى بْنُ غَفَلَةَ: كانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قَبْلَ ذَلِكَ يَكُفُّ عَمَّنْ لا يُقاتِلُهُ، لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وألْقَوْا إلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكم عَلَيْهِمْ سَبِيلا﴾ [النساء: ٩٠]، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ﴾ [التوبة: ١] - إلى قَوْلِهِ -: ﴿فَإذا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ﴾، الآيَةَ. وعُمُومُ ذَلِكَ يُوجِبُ قَتْلَ كافَّةِ المُشْرِكِينَ مِن أهْلِ الكِتابِ وغَيْرِهِمْ، فَإنَّهُ جَعَلَ المَرَدَّ: ﴿فَإنْ تابُوا وأقامُوا الصَّلاةَ﴾، إلّا أنَّ الأخْبارَ ورَدَتْ في أخْذِ الجِزْيَةِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ لَفْظُ المُشْرِكِينَ لا يَتَناوَلُ أهْلَ الكِتابَيْنِ، ويَقْتَضِي ذَلِكَ مَنعَ أخْذِ الجِزْيَةِ مِن عَبَدَةِ الأوْثانِ وغَيْرِهِمْ. واعْلَمْ أنَّ مُطْلَقَ قَوْلِهِ: ﴿فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ﴾ يَقْتَضِي جَوازَ قَتْلِهِمْ بِأيِّ وجْهٍ كانَ، إلّا أنَّ الأخْبارَ ورَدَتْ في النَّهْيِ عَنِ المُثْلَةِ، ومَعَ هَذا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَمّا قَتَلَ أهْلَ الرِّدَّةِ بِالإحْراقِ بِالنّارِ، والحِجارَةِ، والرَّمْيِ مِن رُؤُوسِ الجِبالِ، والتَّنْكِيسِ في الآبارِ، تَعَلَّقَ في ذَلِكَ بِعُمُومِ الآيَةِ. (p-١٧٧)وكَذَلِكَ إحْراقُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْمًا مِن أهْلِ الرِّدَّةِ بِالإحْراقِ بِالنّارِ، يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَيْلًا إلى هَذا المَذْهَبِ واعْتِمادًا عَلى عُمُومِ اللَّفْظِ. * * * قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإنْ تابُوا وأقامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ﴾: هَذِهِ الآيَةُ فِيها تَأْمُّلٌ، فَإنَّ اللَّهَ تَعالى عَلَّقَ القَتْلَ عَلى الشِّرْكِ، ثُمَّ قالَ: ﴿فَإنْ تابُوا﴾، والأصْلُ أنَّ القَتْلَ مَتى كانَ الشِّرْكُ يَزُولُ بِزَوالِهِ، وذَلِكَ يَقْتَضِي زَوالَ القَتْلِ بِمُجَرَّدِ التَّوْبَةِ، مِن غَيْرِ اعْتِبارِ إقامَةِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ، ولِذَلِكَ سَقَطَ القَتْلُ بِمُجَرَّدِ التَّوْبَةِ قَبْلَ وقْتِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ، فَهَذا بَيِّنٌ. غَيْرَ أنَّ اللَّهَ تَعالى ذَكَرَ التَّوْبَةَ وذَكَرَ مَعَها شَرْطَيْنِ آخَرَيْنِ، فَلا سَبِيلَ إلى إلْغائِهِما، وصَحَّ أنَّ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قاتَلَ مانِعِي الزَّكاةِ، لا مَن جَحَدَ وُجُوبَ الزَّكاةِ فَقَطْ، بَلْ مَن قالَ: لا أُؤَدِّيها إلَيْكَ. فَقالَ أبُو بَكْرٍ: ”لا واللَّهِ، حَتّى آخُذَها كَما أخَذَها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ“. وإنَّما فِعْلُ ذَلِكَ، فَهِمَ العُلَماءُ مِنهُ قِتالَ مانِعِي الزَّكاةِ، لِأنَّ اللَّهَ تَعالى شَرَطَ أُمُورًا ثَلاثَةً في تَرْكِ القِتالِ، فَلا بُدَّ مِن وُجُودِها جَمِيعًا، ودَلَّ قَوْلُهُ تَعالى (p-١٧٨)فِي مَوْضِعِ: ﴿فَإنْ تابُوا وأقامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ﴾، وقالَ في مَوْضِعٍ آخَرَ: ﴿فَإنْ تابُوا وأقامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكاةَ فَإخْوانُكم في الدِّينِ﴾ [التوبة: ١١] . عَلى أنَّ لِإقامَةِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ مَدْخَلًا في تَخْلِيَةِ سَبِيلِهِمْ، كَما أنَّ لِلتَّوْبَةِ مَدْخَلًا في ذَلِكَ، وبِذَلِكَ احْتَجَّ أبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في أنَّ التَّوْبَةَ لا تَكْفِي في تَخْلِيَةِ سَبِيلِهِمْ، والكَفِّ عَنْ قَتْلِهِمْ، حَتّى يَنْضافَ إلَيْها فِعْلُ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ، وقالَ: إنَّهُ ﷺ قالَ: ” «فَإذا قالُوها عَصَمُوا مِنِّي دِماءَهم وأمْوالَهم إلّا بِحَقِّها“» . فَلْمْ تَثْبُتِ العِصْمَةُ بِمُجَرَّدِ الإسْلامِ، وذُكِرَ أنَّ الزَّكاةَ مِن حَقِّها. وتَعَلَّقَ عَلِيٌّ بِذَلِكَ في قِتالِ الفِئَةِ الباغِيَةِ، وذَهَبَ إلى أنَّ المُشْرِكِينَ إذا أسْلَمُوا، ولَمْ يُقِيمُوا الصَّلاةَ، ولَمْ يُؤْتُوا الزَّكاةَ، حَلَّ قِتالُهم وقَتْلُهم. وقالَ بَعْضُهم: إنَّما أرادَ بِذَلِكَ الِاعْتِرافَ بِالصَّلاةِ والزَّكاةِ لا فِعْلَهُما، فَمَن جَحَدَ أحَدَهُما فَقَتْلُهُ مُباحٌ، وهَذا يَسْتَأْصِلُ وجْهَ التَّخْصِيصِ. فَإنْ قِيلَ: فَإذا تابَ قَبْلَ وقْتِ الصَّلاةِ والزَّكاةِ فَلا قَتْلَ عَلَيْهِ، ولَمْ يُقِمِ الصَّلاةَ ولا الزَّكاةَ جَمِيعًا. الجَوابُ: أنَّ التَّوْبَةَ إنْ كَفَتْ عَلى هَذا الرَّأْيِ، فَذِكْرُ الصَّلاةِ والزَّكاةِ لَغْوٌ، وهو بِمَثابَةِ مَن يَقُولُ: فَإنْ تابُوا ودَخَلُوا الدّارَ ولَبِسُوا الثَّوْبَ. (p-١٧٩)نَعَمْ، فَهَمُّنا مَن جَعَلَهُما شَرْطا خُرُوجِ ما قَبْلَ حالَةِ الوُجُوبِ، لِأنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يَجْعَلَهُما شَرْطًا، ولِما وجَبا ولَزِما. فالظّاهِرُ ما قالَهُ الصِّدِّيقُ، وهو جَوازُ مُحارَبَتِهِمْ إذا امْتَنَعُوا مِنَ القِيامِ بِهِما. وقَدْ كانَ كَثِيرٌ مِنَ النّاسِ يَعْتَرِفُونَ بِوُجُوبِ الزَّكاةِ، لَكِنَّهم كانُوا يَمْتَنِعُونَ مِن دَفْعِها إلَيْهِ، وأمَرَ مَعَ ذَلِكَ بِمُحارَبَتِهِمْ وقالَ: لَوْ مَنَعُونِي عِقالًا مِمّا أعْطَوْا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَقاتَلْتُهم عَلَيْهِ. فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أنَّ الزَّكاةَ لِلْإمامِ فِيها حَقُّ الأخْذِ، فَمَتى امْتَنَعُوا وانْحازُوا إلى فِئَةٍ حَلَّ قِتالُهم وقَتْلُهم ما دامُوا مُصِرِّينَ عَلى الِامْتِناعِ، وكَذَلِكَ إذا امْتَنَعُوا مِنَ الصَّلاةِ، وفَعْلِها عَلى وجْهٍ يَظْهَرُ. فَإنْ قِيلَ: فَقَدْ خَصَّ اللَّهُ تَعالى هَذا بِالمُشْرِكِينَ وقِتالِهِمْ، فَمِن أيْنَ أنَّ هَذا جائِزٌ في حَقِّ المُؤْمِنِينَ؟ والجَوابُ: أنَّهُ إذا ثَبَتَ أنَّ التَّوْبَةَ تُسْقِطُ القَتْلَ، وإقامَ الصَّلاةِ وإيتاءَ الزَّكاةِ تُسْقِطُ القَتْلَ، فَمُقْتَضاهُ: أنَّ المُشْرِكَ إذا تابَ ولَمْ يُصَلِّ ولَمْ يُزَكِّ وجَبَ عَلَيْهِ القَتْلُ، وهَذا ما نَقُولُهُ. يَبْقى أنْ يُقالَ: إنَّ الآيَةَ أوْجَبَتِ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ مَنعِ الصَّلاةِ ومَنعِ الزَّكاةِ، والشّافِعِيُّ يُخَصِّصُ بِالصَّلاةِ. والجَوابُ: أنَّ عِنْدَ الشّافِعِيِّ لا فَرْقَ بَيْنَ البابَيْنِ، إلّا أنَّ في الزَّكاةِ أخْذَها مُمْكِنٌ قَهْرًا، وفي الصِّيامِ يُمْكِنُ أنْ يُحْبَسَ في مَوْضِعٍ فَيُجْعَلَ مُمْسِكًا، والرُّكْنُ الأعْظَمُ في الصَّوْمِ الإمْساكُ، فَأمّا الصَّلاةُ، فاسْتِيفاؤُها مِنهُ غَيْرُ (p-١٨٠)مُمْكِنٍ، فَكانَ قَتْلُ تارِكِ الصَّلاةِ مِن حَيْثُ تَعَذَّرَ اسْتِيفاؤُها مِنهُ، بِمَثابَةِ قَتْلِ تارِكِ الزَّكاةِ إذا انْحازَ إلى فِئَةٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب