الباحث القرآني
قَوْلُهُ: عَزَّ وجَلَّ:
﴿إلا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكم شَيْئًا ولَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكم أحَدًا فَأتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهم إلى مُدَّتِهِمْ إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ﴾ ﴿فَإذا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وجَدْتُمُوهم وخُذُوهم واحْصُرُوهم واقْعُدُوا لَهم كُلَّ مَرْصَدٍ فَإنْ تابُوا وأقامُوا الصَلاةَ وآتَوُا الزَكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهم إنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
(p-٢٦٠)هَذا هو الِاسْتِثْناءُ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ في المُشْرِكِينَ الَّذِينَ بَقِيَ مِن عَهْدِهِمْ تِسْعَةُ أشْهُرٍ وكانُوا قَدْ وفَّوْا بِالعَهْدِ عَلى ما يَجِبُ، وقالَ قَتادَةُ: هم قُرَيْشٌ الَّذِينَ عُوهِدُوا زَمَنَ الحُدَيْبِيَةِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذا مَرْدُودٌ بِإسْلامِ قُرَيْشٍ في الفَتْحِ قَبْلَ الأذانِ بِهَذا كُلِّهِ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلى مُدَّتِهِمْ﴾: إلى الأرْبَعَةِ الأشْهَرِ الَّتِي في الآيَةِ، وقَرَأ الجُمْهُورُ: "يَنْقُصُوكُمْ" بِالصادِ غَيْرَ مَنقُوطَةٍ، وقَرَأ عَطاءُ بْنُ يَسارٍ، وعِكْرِمَةُ، وابْنُ السَمَيْفَعِ: "يَنْقُضُوكُمْ" بِالضادِ، مِنَ النَقْضِ، وهي مُتَمَكِّنَةٌ مَعَ العَهْدِ. ولَكِنَّها قَلِقَةٌ في تَعَدِّيها إلى الضَمِيرِ، ويُحَسِّنُ ذَلِكَ أنَّ النَقْضَ نَقْضُ وفاءٍ وحَقٌّ لِلْمَعاهَدِ، وكَذَلِكَ تَعَدّى "أتِمُّوا" بِـ "إلى" لَمّا كانَ العَهْدُ في مَعْنى ما يُؤَدّى ويُبَرَأُ بِهِ وكَأنَّهم يَقْتَضُونَ العَهْدَ، و"يُظاهِرُوا" مَعْناهُ: يُعاوِنُوا، فالظَهْرُ: المُعِينُ، وأصْلُهُ مِنَ الظَهْرِ، كَأنَّ هَذا يُسْنِدُ ظَهْرَهُ إلى الآخَرِ، والآخَرُ كَذَلِكَ، وقَوْلُهُ: ﴿إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ﴾ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ الوَفاءَ بِالعَهْدِ مِنَ التَقْوى.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإذا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ﴾ الآيَةُ، الِانْسِلاخُ: خُرُوجُ الشَيْءِ عَنِ الشَيْءِ المُتَلَبِّسِ بِهِ، كانْسِلاخِ الشاةِ عَنِ الجِلْدِ والرَجُلِ عَنِ الثِيابِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿نَسْلَخُ مِنهُ النَهارَ﴾ [يس: ٣٧]، فَشَبَّهَ انْصِرامَ الأشْهُرِ بِأسْمائِها وأحْكامِها مِنَ الزَمَنِ بِذَلِكَ، وقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ فِيمَن جَعَلَ لَهُ انْقِضاءَ الأشْهُرِ الحُرُمِ أجَلًا، وما المَعْنى بِـالأشْهُرِ الحُرُمِ بِما أغْنى عن إعادَتِهِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ﴾ أمْرٌ بِقِتالِ المُشْرِكِينَ فَخَرَجَ الأمْرُ بِذَلِكَ بِلَفْظِ "اقْتُلُوا" عَلى جِهَةِ التَشْجِيعِ وتَقْوِيَةِ النَفْسِ، أيْ: هَكَذا يَكُونُ أمْرُكم مَعَهُمْ، وهَذِهِ الآيَةُ (p-٢٦١)نَسَخَتْ كُلَّ مُوادَعَةٍ في القُرْآنِ أو مُهادَنَةٍ وما جَرى مَجْرى ذَلِكَ، وهي عَلى ما ذُكِرَ مِائَةُ آيَةٍ وأرْبَعَ عَشْرَةَ آيَةً، وقالَ الضَحّاكُ، والسُدِّيُّ، وعَطاءٌ: هَذِهِ الآيَةُ مَنسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإمّا مَنًّا بَعْدُ وإمّا فِداءً﴾ [محمد: ٤]، وقالُوا: لا يَجُوزُ قَتْلُ أسِيرٍ البَتَّةَ صَبْرًا، إمّا أنْ يُمَنَّ عَلَيْهِ وإمّا أنْ يُفادى، وقالَ قَتادَةُ، ومُجاهِدٌ، وغَيْرُهُما: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإمّا مَنًّا بَعْدُ وإمّا فِداءً﴾ [محمد: ٤] مَنسُوخٌ بِهَذِهِ الآيَةِ، وقالُوا: لا يَجُوزُ المَنُّ عَلى أسِيرٍ ولا مُفاداتُهُ، ولا شَيْءَ إلّا القَتْلُ، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُما مُحْكَمَتانِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
ولَمْ يُفَسِّرْ أكْثَرَ مِن هَذا، وقَوْلُهُ هو الصَوابُ، والآيَتانِ لا يُشْبِهُ مَعْنى واحِدَةٍ مَعْنى الأُخْرى، وذَلِكَ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ﴾، ﴿وَخُذُوهم واحْصُرُوهُمْ﴾ أفْعالٌ إنَّما تَمْتَثِلُ مَعَ المُحارِبِ المُرْسَلِ المُناضِلِ، ولَيْسَ لِلْأسِيرِ فِيها ذِكْرٌ ولا حُكْمٌ، وإذا أُخِذَ الكافِرُ خَرَجَ عن دَرَجاتِ هَذِهِ الآيَةِ وانْتَقَلَ إلى حُكْمِ الآيَةِ الأُخْرى، وتِلْكَ الآيَةُ لا مَدْخَلَ فِيها لِغَيْرِ الأسِيرِ، فَقَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ هو الصَوابُ، وقَوْلُهُ: ( خُذُوهم ) مَعْناهُ: الأسْرُ، وقَوْلُهُ: ﴿كُلَّ مَرْصَدٍ﴾ مَعْناهُ: في مَواضِعِ الغِرَّةِ حَيْثُ يُرْصَدُونَ، وقالَ النابِغَةُ:
؎ أعاذِلُ إنَّ الجَهْلَ مِن لَذَّةِ الفَتى ∗∗∗ وإنَّ المَنايا لِلنُّفُوسِ بِمَرْصَدِ
ونَصْبُ "كُلَّ" عَلى الظَرْفِ، وهو اخْتِيارُ الزَجّاجِ، أو بِإسْقاطِ الخافِضِ، التَقْدِيرُ: في كُلِّ مَرْصَدٍ، أو عَلى كُلِّ مَرْصَدٍ، وحَكى سِيبَوَيْهِ: ضُرِبَ الظَهْرَ والبَطْنَ. (p-٢٦٢)وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإنْ تابُوا﴾ يُرِيدُ: مِنَ الكُفْرِ، فَهي مُتَضَمِّنَةٌ الإيمانَ، ثُمَّ قَرَنَ بِها إقامَةَ الصَلاةِ وإيتاءَ الزَكاةِ تَنْبِيهًا عَلى مَكانِ الصَلاةِ والزَكاةِ مِنَ الشَرْعِ، وقَوْلُهُ: ﴿فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ﴾ تَأْمِينٌ.
وقالَ أنَسُ بْنُ مالِكٍ: هَذا هو دِينُ اللهِ الَّذِي جاءَتْ بِهِ الرُسُلُ، وهو مِن آخِرِ ما نَزَلَ قَبْلَ اخْتِلافِ الأهْواءِ، وفِيهِ قالَ النَبِيُّ ﷺ: « "مَن فارَقَ الدُنْيا مُخْلِصًا لِلَّهِ تَعالى مُطِيعًا لَهُ لَقِيَ اللهَ وهو عنهُ راضٍ"»، ثُمَّ وعَدَ بِالمَغْفِرَةِ في صِيغَةِ الخَبَرِ عن أوصافِهِ تَعالى.
{"ayahs_start":4,"ayahs":["إِلَّا ٱلَّذِینَ عَـٰهَدتُّم مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ ثُمَّ لَمۡ یَنقُصُوكُمۡ شَیۡـࣰٔا وَلَمۡ یُظَـٰهِرُوا۟ عَلَیۡكُمۡ أَحَدࣰا فَأَتِمُّوۤا۟ إِلَیۡهِمۡ عَهۡدَهُمۡ إِلَىٰ مُدَّتِهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلۡمُتَّقِینَ","فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلۡأَشۡهُرُ ٱلۡحُرُمُ فَٱقۡتُلُوا۟ ٱلۡمُشۡرِكِینَ حَیۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡ وَخُذُوهُمۡ وَٱحۡصُرُوهُمۡ وَٱقۡعُدُوا۟ لَهُمۡ كُلَّ مَرۡصَدࣲۚ فَإِن تَابُوا۟ وَأَقَامُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُا۟ ٱلزَّكَوٰةَ فَخَلُّوا۟ سَبِیلَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ"],"ayah":"فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلۡأَشۡهُرُ ٱلۡحُرُمُ فَٱقۡتُلُوا۟ ٱلۡمُشۡرِكِینَ حَیۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡ وَخُذُوهُمۡ وَٱحۡصُرُوهُمۡ وَٱقۡعُدُوا۟ لَهُمۡ كُلَّ مَرۡصَدࣲۚ فَإِن تَابُوا۟ وَأَقَامُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُا۟ ٱلزَّكَوٰةَ فَخَلُّوا۟ سَبِیلَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق