الباحث القرآني

القول في تأويل قوله: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) ﴾ قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ﴿فإذا انسلخ الأشهر الحرم﴾ ، فإذا انقضى ومضى وخرج. * * * يقال منه: سلخنا شهر كذا نسلَخه سَلْخًا وسُلُوخًا، بمعنى: خرجنا منه. ومنه قولهم: "شاة مسلوخة"، بمعنى: المنزوعة من جلدها، المخرجة منه. [[انظر تفسير " الانسلاخ " فيما سلف ١٣: ٢٦٠.]] * * * ويعني بـ "الأشهر الحرم"، ذا القعدة، وذا الحجة، والمحرم. [[انظر تفسير " الأشهر الحرم " فيما سلف ٣: ٥٧٥ - ٥٧٩ / ٩: ٤٥٦، ٤٦٦ / ١١: ٩١، ٩٤.]] وإنما أريد في هذا الموضع انسلاخ المحرم وحده، لأن الأذان كان ببراءة يوم الحج الأكبر. فمعلوم أنهم لم يكونوا أجَّلوا الأشهرَ الحرم كلَّها = وقد دللنا على صحة ذلك فيما مضى = ولكنه لما كان متصلا بالشهرين الآخرين قبله الحرامين، وكان هو لهما ثالثًا، وهي كلها متصل بعضها ببعض، قيل: "فإذا انسلخ الأشهر الحرم"، ومعنى الكلام: فإذا انقضت الأشهر الحرم الثلاثة عن الذين لا عهد لهم، أو عن الذين كان لهم عهد فنقضوا عهدهم بمظاهرتهم الأعداءَ على رسول الله وعلى أصحابه، أو كان عهدهم إلى أجل غيره معلوم. * * * = ﴿فاقتلوا المشركين﴾ ، يقول: فاقتلوهم = ﴿حيث وجدتموهم﴾ ، يقول: حيث لقيتموهم من الأرض، في الحرم، وغير الحرم في الأشهر الحرم وغير الأشهر الحرم = ﴿وخذوهم﴾ يقول: وأسروهم = ﴿واحصروهم﴾ ، يقول: وامنعوهم من التصرف في بلاد الإسلام ودخول مكة = ﴿واقعدوا لهم كل مرصد﴾ ، يقول: واقعدوا لهم بالطلب لقتلهم أو أسرهم = "كل مرصد"، يعني: كل طريق ومرقَب. * * * وهو "مفعل"، من قول القائل: "رصدت فلانًا أرصُده رَصْدًا"، بمعنى: رقبته. * * * ﴿فإن تابوا﴾ ، يقول: فإن رجعوا عما نهاهم عليه من الشرك بالله وجحود نبوة نبيه محمد ﷺ، [[انظر تفسير " التوبة " فيما سلف من فهارس اللغة (تاب) .]] إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأنداد، والإقرار بنبوة محمد ﷺ = ﴿وأقاموا الصلاة﴾ ، يقول: وأدّوا ما فرض الله عليهم من الصلاة بحدودها = وأعطوا الزكاة التي أوجبها الله عليهم في أموالهم أهلها [[انظر تفسير " إقامة الصلاة "، و " إيتاء الزكاة " فيما سلف منم فهارس اللغة (قوم) ، (أتى) .]] = ﴿فخلوا سبيلهم﴾ ، يقول: فدعوهم يتصرفون في أمصاركم، ويدخلون البيت الحرام = ﴿إن الله غفور رحيم﴾ ، لمن تاب من عباده = فأناب إلى طاعته، بعد الذي كان عليه من معصيته، ساتر على ذنبه، رحيم به، أن يعاقبه على ذنوبه السالفة قبل توبته، بعد التوبة. [[انظر تفسير " غفور " و"رحيم" فيما سلف من فهارس اللغة (غفر) ، (رحم) .]] * * * وقد ذكرنا اختلاف المختلفين في الذين أجِّلوا إلى انسلاخ الأشهر الحرم. * * * وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: ١٦٤٧٥- حدثنا عبد الأعلى بن واصل الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، أخبرنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع، عن أنس قال، قال رسول الله ﷺ: من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده، وعبادته لا يشرك له شيئًا، فارقها والله عنه راضٍ = قال: وقال أنس: هو دين الله الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن ربهم، قبل هَرْج الأحاديث، [["هرج الأحاديث"، الإكثار فيها، واختلاف المختلفين، واختلاط أصواتهم.]] واختلاف الأهواء. وتصديق ذلك في كتاب الله في آخر ما أنزل الله، قال الله: ﴿فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم﴾ ، قال: توبتهم، خلع الأوثان، وعبادة ربهم، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ثم قال في آية أخرى: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) ، [سورة التوبة: ١١] . [[الأثر: ١٦٤٧٥ - " عبد الأعلى بن واصل بن عبد الأعلى بن هلال الأسدي "، شيخ الطبري، ثقة، مضى برقم: ١١١٢٥. و" عبيد الله بن موسى بن أبي المختار العبسي "، روى له الجماعة، سلف مرارا، آخرها: ١٣١٧٧. وسائر رجال السند، ثقات، مضوا جميعا، إلا أبا جعفر الرازي، فقد تكلموا فيه، وهو ثقة إن شاء الله وهذا الخبر رواه ابن ماجه في سننه: ٢٧، رقم: ٧٠، من طريقتين: من طريق نصر بن علي الجهضمي، عن أبي أحمد، عن أبي جعفر الرازي، ثم من طريق أبي حاتم، عن عبيد الله بن موسى العبسي، عن أبي جعفر، بمثله. ورواه الحاكم في المستدرك ٢: ٣٣١، ٣٣٢ عن طريق إسحاق بن سليمان الرازي، عن أبي جعفر الرازي، ولم يقل فيه: " قال أنس: وهو دين الله. . .، بل ساقه مدرجا في الحديث، ثم قال: " وهذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه "، وافقه الذهبي، إلا أنه استدرك عليه فقال: " صدر الخبر مرفوع، وسائره مدرج فيما أرى "، وصدق الذهبي.]] ١٦٤٧٦- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ﴿فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم﴾ ، حتى ختم آخر الآية. وكان قتادة يقول: خلوا سبيل من أمركم الله أن تخلوا سبيله، فإنما الناس ثلاثة: رَهْط مسلم عليه الزكاة، ومشرك عليه الجزية، وصاحب حرب يأمن بتجارته في المسلمين إذا أعطى عُشُور ماله. ١٦٤٧٧- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ﴿فإذا انسلخ الأشهر الحرم﴾ ، وهي الأربعة التي عددت لك = يعني: عشرين من ذي الحجة، والمحرم، وصفر، وربيعًا الأول، وعشرًا من شهر ربيع الآخر. * * * وقال قائلو هذه المقالة: قيل لهذه: "الأشهر الحرم"، لأن الله عز وجل حرّم على المؤمنين فيها دماءَ المشركين، والعَرْضَ لهم إلا بسبيلِ خيرٍ. [[في المطبوعة والمخطوطة: " والعرض لهم "، وهو بمعنى " التعرض ".]] * ذكر من قال ذلك: ١٦٤٧٨- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن إبراهيم بن أبي بكر: أنه أخبره عن مجاهد وعمرو بن شعيب في قوله: ﴿فإذا انسلخ الأشهر الحرم﴾ ، أنها الأربعة التي قال الله: ﴿فسيحوا في الأرض﴾ ، قال: هي "الحُرم"، من أجل أنهم أومنوا فيها حتى يسيحوها. [[الأثر: ١٦٤٧٨ - " إبراهيم بن أبي بكر الأخنسي "، ثقة، مضى برقم: ١٠٧٥٨.]] ١٦٤٧٩- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ﴿براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر﴾ ، قال: ضُرِب لهم أجلُ أربعة أشهر، وتبرأ من كل مشرك. ثم أمر إذا انسلخت تلك الأشهر الحرم = ﴿فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد﴾ ، لا تتركوهم يضربون في البلاد، ولا يخرجوا لتجارة، [[في المطبوعة: " ولا يخرجون للتجارة "، وأثبت ما في المخطوطة.]] ضَيِّقوا عليهم بعدها. ثم أمر بالعفو [[في المخطوطة: " بعد ما أمر بالعفو "، وفي المطبوعة: " بعدها أمر بالعفو "، وصواب السياق يقتضي ما أثبت، وزيادة " ثم ".]] ﴿فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم﴾ ،. ١٦٤٨٠- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: ﴿فإذا انسلخ الأشهر الحرم﴾ ، يعني: الأربعة التي ضربَ الله لهم أجلا = لأهل العهد العامّ من المشركين = ﴿فاقتلوهم حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد﴾ ، الآية. [[الأثر: ١٦٤٨٠ - سيرة ابن هشام ٣: ١٨٩، وهو تابع الأثر السالف رقم: ١٦٤٧٢، قوله: " لأهل العهد العام من المشركين "، من كلام أبي جعفر، استظهارا مما سلف قبله في السيرة، وفي رقم: ١٦٣٥٦.]]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب