﴿۞ وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّمَا غَنِمۡتُم مِّن شَیۡءࣲ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُۥ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِی ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡیَتَـٰمَىٰ وَٱلۡمَسَـٰكِینِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِیلِ إِن كُنتُمۡ ءَامَنتُم بِٱللَّهِ وَمَاۤ أَنزَلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا یَوۡمَ ٱلۡفُرۡقَانِ یَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرٌ﴾ [الأنفال ٤١]
قَوْلُهُ تَعالى:
﴿واعْلَمُوا أنَّما غَنِمْتُمْ مِن شَيْءٍ فَأنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ولِلرَّسُولِ ولِذِي القُرْبى واليَتامى والمَساكِينِ وابْنِ السَّبِيلِ﴾ .
ظاهِرُ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ أنَّ كُلَّ شَيْءٍ حَواهُ المُسْلِمُونَ مِن أمْوالِ الكُفّارِ فَإنَّهُ يُخَمَّسُ حَسْبَما نُصَّ عَلَيْهِ في الآيَةِ، سَواءً أوْجَفُوا عَلَيْهِ الخَيْلَ والرِّكابَ أوْ لا، ولَكِنَّهُ تَعالى بَيَّنَ في سُورَةِ ”الحَشْرِ“ أنَّ ما أفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِن غَيْرِ إيجافِ المُسْلِمِينَ عَلَيْهِ الخَيْلَ والرِّكابَ، أنَّهُ لا يُخَمَّسُ ومَصارِفُهُ الَّتِي بَيَّنَ أنَّهُ يُصْرَفُ فِيها كَمَصارِفِ خُمُسِ الغَنِيمَةِ المَذْكُورَةِ هُنا، وذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى: في فَيْءِ بَنِي النَّضِيرِ
﴿وَما أفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنهم فَما أوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِن خَيْلٍ ولا رِكابٍ﴾ الآيَةَ [ ٦ ]، ثُمَّ بَيَّنَ شُمُولَ الحُكْمِ لِكُلِّ ما أفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِن جَمِيعِ القُرى بِقَوْلِهِ:
﴿ما أفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِن أهْلِ القُرى فَلِلَّهِ ولِلرَّسُولِ﴾ الآيَةَ [ ٧ ] .
اعْلَمْ أوَّلًا أنَّ أكْثَرَ العُلَماءِ: فَرَّقُوا بَيْنَ الفَيْءِ والغَنِيمَةِ فَقالُوا: الفَيْءُ: هو ما يَسَّرَهُ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ مِن أمْوالِ الكُفّارِ مِن غَيْرِ انْتِزاعِهِ مِنهم بِالقَهْرِ، كَفَيْءِ بَنِي النَّضِيرِ الَّذِينَ نَزَلُوا عَلى حُكْمِ النَّبِيِّ ﷺ، ومَكَّنُوهُ مِن أنْفُسِهِمْ وأمْوالِهِمْ يَفْعَلُ فِيها ما يَشاءُ لِشِدَّةِ الرُّعْبِ الَّذِي ألْقاهُ اللَّهُ في قُلُوبِهِمْ، ورَضِيَ لَهم ﷺ أنْ يَرْتَحِلُوا بِما يَحْمِلُونَ عَلى الإبِلِ غَيْرَ السِّلاحِ، وأمّا الغَنِيمَةُ: فَهي ما انْتَزَعَهُ المُسْلِمُونَ مِنَ الكَفّارِ بِالغَلَبَةِ والقَهْرِ، وهَذا التَّفْرِيقُ يُفْهَمُ مِن قَوْلِهِ:
﴿واعْلَمُوا أنَّما غَنِمْتُمْ﴾ الآيَةَ، مَعَ قَوْلِهِ:
﴿فَما أوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِن خَيْلٍ ولا رِكابٍ﴾، فَإنَّ قَوْلَهُ تَعالى:
﴿فَما أوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ﴾ الآيَةَ، ظاهِرٌ في أنَّهُ يُرادُ بِهِ بَيانُ الفَرْقِ بَيْنَ ما أوْجَفُوا عَلَيْهِ وما لَمْ يُوجِفُوا عَلَيْهِ كَما تَرى، والفَرْقُ المَذْكُورُ بَيْنَ الغَنِيمَةِ والفَيْءِ عَقَدَهُ الشَّيْخُ أحْمَدُ البَدَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ في نَظْمِهِ لِلْمَغازِي بِقَوْلِهِ في غَزْوَةِ بَنِيَ النَّضِيرِ: [ الرَّجَزُ ]
وَفَيْئُهم والفَيْءُ في الأنْفالِ ما لَمْ يَكُنْ أُخِذَ عَنْ قِتالِ
أمّا الغَنِيمَةُ فَعَنْ زِحافٍ ∗∗∗ والأخْذُ عَنْوَةً لَدى الزِّحافِ
لِخَيْرِ مُرْسَلٍ إلَخْ.
وَقَوْلُهُ: وفَيْئُهم مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ لِخَيْرِ مُرْسَلٍ، وقَوْلُهُ: والفَيْءُ في الأنْفالِ. . . إلَخْ، كَلامٌ اعْتِراضِيٌّ بَيْنَ المُبْتَدَأِ والخَبَرِ بَيَّنَ بِهِ الفَرْقَ بَيْنَ الغَنِيمَةِ والفَيْءِ، وعَلى هَذا القَوْلِ فَلا إشْكالَ في الآياتِ؛ لِأنَّ آيَةَ:
﴿واعْلَمُوا أنَّما غَنِمْتُمْ﴾، ذُكِرَ فِيها حُكْمُ الغَنِيمَةِ، وآيَةَ:
﴿ما أفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ﴾ ذُكِرَ فِيها حُكْمُ الفَيْءِ وأُشِيرَ لِوَجْهِ الفَرْقِ بَيْنَ المَسْألَتَيْنِ بِقَوْلِهِ:
﴿فَما أوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِن خَيْلٍ ولا رِكابٍ﴾ أيْ فَكَيْفَ يَكُونُ غَنِيمَةً لَكم، وأنْتُمْ لَمْ تَتْعَبُوا فِيهِ ولَمْ تَنْتَزِعُوهُ بِالقُوَّةِ مِن مالِكِيهِ.
وَقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: إنَّ الغَنِيمَةَ والفَيْءَ واحِدٌ، فَجَمِيعُ ما أُخِذَ مِنَ الكُفّارِ عَلى أيِّ وجْهٍ كانَ غَنِيمَةً وفَيْئًا، وهَذا قَوْلُ قَتادَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وهو المَعْرُوفُ في اللُّغَةِ، فالعَرَبُ تُطْلِقُ اسْمَ الفَيْءِ عَلى الغَنِيمَةِ، ومِنهُ قَوْلُ مُهَلْهِلِ بْنِ رَبِيعَةَ التَّغْلِبِيِّ: [ الوافِرُ ]
فَلا وأبِي جَلِيلَةَ ما أفَأْنا ∗∗∗ مِنَ النَّعَمِ المُؤَبَّلِ مِن بَعِيرِ
وَلَكِنّا نَهَكْنا القَوْمَ ضَرْبًا ∗∗∗ عَلى الأثْباجِ مِنهم والنُّحُورِ
يَعْنِي أنَّهم لَمْ يَشْتَغِلُوا بِسَوْقِ الغَنائِمِ ولَكِنْ بِقَتْلِ الرِّجالِ فَقَوْلُهُ:
أفَأْنا: يَعْنِي غَنِمْنا، ويَدُلُّ لِهَذا الوَجْهِ قَوْلُهُ تَعالى:
﴿وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمّا أفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ﴾ [الأحزاب: ٥٠]؛ لِأنَّ ظاهِرَ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ شُمُولُ ذَلِكَ لِجَمِيعِ المَسْبِيّاتِ ولَوْ كُنَّ مُنْتَزَعاتٍ قَهْرًا، ولَكِنَّ الِاصْطِلاحَ المَشْهُورَ عِنْدَ العُلَماءِ هو ما قَدَّمْنا مِنَ الفَرْقِ بَيْنَهُما، وتَدُلُّ لَهُ آيَةُ الحَشْرِ المُتَقَدِّمَةُ، وعَلى قَوْلِ قَتادَةَ فَآيَةُ الحَشْرِ مُشْكِلَةٌ مَعَ آيَةِ الأنْفالِ هَذِهِ، ولِأجْلِ ذَلِكَ الإشْكالِ قالَ قَتادَةُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى -: إنَّ آيَةَ
﴿واعْلَمُوا أنَّما غَنِمْتُمْ﴾ الآيَةَ، ناسِخَةٌ لِآيَةِ
﴿وَما أفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ﴾ الآيَةَ، وهَذا القَوْلُ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ رَحِمَهُ اللَّهُ باطِلٌ بِلا شَكٍّ، ولَمْ يُلْجِئْ قَتادَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إلى هَذا القَوْلِ إلّا دَعْواهُ اتِّحادَ الفَيْءِ والغَنِيمَةِ، فَلَوْ فَرَّقَ بَيْنَهُما كَما فَعَلَ غَيْرُهُ لَعُلِمَ أنَّ آيَةَ الأنْفالِ في الغَنِيمَةِ، وآيَةَ الحَشْرِ في الفَيْءِ، ولا إشْكالَ. ووَجْهُ بُطْلانِ القَوْلِ المَذْكُورِ: أنَّ آيَةَ
﴿واعْلَمُوا أنَّما غَنِمْتُمْ مِن شَيْءٍ﴾ الآيَةَ، نَزَلَتْ بَعْدَ وقْعَةِ بَدْرٍ، قَبْلَ قَسْمِ غَنِيمَةِ بَدْرٍ بِدَلِيلِ حَدِيثِ عَلِيٍّ الثّابِتِ في ”صَحِيحِ مُسْلِمٍ“، الدّالِّ عَلى أنَّ غَنائِمَ بَدْرٍ خُمِّسَتْ، وآيَةُ التَّخْمِيسِ الَّتِي شَرَعَهُ اللَّهُ بِها هي هَذِهِ، وأمّا آيَةُ الحَشْرِ فَهي نازِلَةٌ في غَزْوَةِ بَنِيَ النَّضِيرِ بِإطْباقِ العُلَماءِ، وغَزْوَةُ بَنِي النَّضِيرِ بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ بِإجْماعِ المُسْلِمِينَ، ولا مُنازَعَةَ فِيهِ البَتَّةَ، فَظَهَرَ مِن هَذا عَدَمُ صِحَّةِ قَوْلِ قَتادَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى، وقَدْ ظَهَرَ لَكَ أنَّهُ عَلى القَوْلِ بِالفَرْقِ بَيْنَ الغَنِيمَةِ والفَيْءِ لا إشْكالَ في الآياتِ، وكَذَلِكَ عَلى قَوْلِ مَن يَرى أمْرَ الغَنائِمِ والفَيْءِ راجِعًا إلى نَظَرِ الإمامِ، فَلا مُنافاةَ عَلى قَوْلِهِ بَيْنَ آيَةِ ”الحَشْرِ“، وآيَةِ التَّخْمِيسِ إذا رَآهُ الإمامُ، واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *مَسائِلُ مِن أحْكامِ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ
المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّ جَماهِيرَ عُلَماءِ المُسْلِمِينَ عَلى أنَّ أرْبَعَةَ أخْماسِ الغَنِيمَةِ لِلْغُزاةِ الَّذِينَ غَنِمُوها، ولَيْسَ لِلْإمامِ أنْ يَجْعَلَ تِلْكَ الغَنِيمَةَ لِغَيْرِهِمْ، ويَدُلُّ لِهَذا قَوْلُهُ تَعالى: غَنِمْتُمْ فَهو يَدُلُّ عَلى أنَّها غَنِيمَةٌ لَهم فَلَمّا قالَ:
﴿فَأنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ﴾، عَلِمْنا أنَّ الأخْماسَ الأرْبَعَةَ الباقِيَةَ لَهم لا لِغَيْرِهِمْ، ونَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى:
﴿فَإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ولَدٌ ووَرِثَهُ أبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾، أيْ: ولِأبِيهِ الثُّلْثانِ الباقِيانِ إجْماعًا، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:
﴿فَأنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ﴾، أيْ: ولِلْغانِمِينَ ما بَقِيَ، وهَذا القَوْلُ هو الحَقُّ الَّذِي لا شَكَّ فِيهِ، وحَكى الإجْماعَ عَلَيْهِ غَيْرُ واحِدٍ مِنَ العُلَماءِ ومِمَّنْ حَكى إجْماعَ المُسْلِمِينَ عَلَيْهِ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ عَبْدِ البَرِّ، والدّاوُدِيُّ، والمازِرِيُّ، والقاضِي عِياضٌ، وابْنُ العَرَبِيِّ، والأخْبارُ بِهَذا المَعْنى مُتَظاهِرَةٌ، وخالَفَ في ذَلِكَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ، وهو قَوْلُ كَثِيرٍ مِنَ المالِكِيَّةِ، ونَقَلَهُ عَنْهُمُ المازِرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أيْضًا، قالُوا: لِلْإمامِ أنْ يَصْرِفَ الغَنِيمَةَ فِيما يَشاءُ مِن مَصالِحِ المُسْلِمِينَ، ويَمْنَعَ مِنها الغُزاةَ الغانِمِينَ.
واحْتَجُّوا لِذَلِكَ بِأدِلَّةٍ مِنها قَوْلُهُ تَعالى:
﴿يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قُلِ الأنْفالُ لِلَّهِ والرَّسُولِ﴾ الآيَةَ
[الكهف: ١] قالُوا: الأنْفالُ: الغَنائِمُ كُلُّها، والآيَةُ مُحْكَمَةٌ لا مَنسُوخَةٌ، واحْتَجُّوا لِذَلِكَ أيْضًا بِما وقَعَ في فَتْحِ مَكَّةَ، وقِصَّةِ حُنَيْنٍ قالُوا: إنَّهُ ﷺ فَتَحَ مَكَّةَ عَنْوَةً بِعَشَرَةِ آلافِ مُقاتِلٍ، ومَنَّ عَلى أهْلِها فَرَدَّها عَلَيْهِمْ، ولَمْ يَجْعَلْها غَنِيمَةً ولَمْ يُقَسِّمْها عَلى الجَيْشِ، فَلَوْ كانَ قَسْمُ الأخْماسِ الأرْبَعَةِ عَلى الجَيْشِ واجِبًا لَفَعْلَهُ ﷺ لَمّا فَتَحَ مَكَّةَ، قالُوا: وكَذَلِكَ غَنائِمُ هَوازِنَ في غَزْوَةِ حُنَيْنٍ، أعْطى مِنها عَطايا عَظِيمَةً جِدًّا، ولَمْ يُعْطِ الأنْصارَ مِنها مَعَ أنَّهم مِن خِيارِ المُجاهِدِينَ الغازِينَ مَعَهُ ﷺ، وقَدْ أشارَ لِعَطاياهُ مِن غَنائِمِ هَوازِنَ في وقْعَةِ حُنَيْنٍ الشَّيْخُ أحْمَدُ البَدَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ في نَظْمِهِ لِلْمَغازِي في غَزْوَةِ حُنَيْنٍ بِقَوْلِهِ: [ الرَّجَزُ ]
أعْطى عَطايا شَهِدَتْ بِالكَرَمِ يَوْمَئِذٍ لَهُ ولَمْ تُجَمْجَمِ
أعْطى عَطايا أخْجَلَتْ دَلْحَ الدِّيَمْ ∗∗∗ إذْ مَلَأتْ رَحْبَ الغَضا مِنَ النَّعَمْ
زُهاءَ ألْفَيْ ناقَةٍ مِنها وما ∗∗∗ مَلَأ بَيْنَ جَبَلَيْنِ غَنَما
لِرَجُلٍ وبَلِهٍ ما لِحَلْقِهِ ∗∗∗ مِنها ومِن رَقِيقِهِ ووَرْقِهِ
إلَخْ. . .
قالُوا: لَوْ كانَ يَجِبُ قَسْمُ الأخْماسِ الأرْبَعَةِ عَلى الجَيْشِ الَّذِي غَنِمَها، لَما أعْطى ﷺ ألْفَيْ ناقَةٍ مِن غَنائِمِ هَوازِنَ لِغَيْرِ الغُزاةِ، ولَما أعْطى ما مَلَأ بَيْنَ جَبَلَيْنِ مِنَ الغَنَمِ لِصَفْوانَ بْنِ أُمَيَّةَ، وفي ذَلِكَ اليَوْمِ أعْطى الأقْرَعَ بْنَ حابِسٍ التَّمِيمِيَّ مِائَةً مِنَ الإبِلِ، وكَذَلِكَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الفَزارِيُّ، حَتّى غارَ مِن ذَلِكَ العَبّاسُ بْنُ مِرْداسٍ السُّلَمِيُّ، وقالَ في ذَلِكَ شِعْرَهُ المَشْهُورَ: [ المُتَقارِبُ ]
أتَجْعَلُ نَهْبِي ونَهْبَ العَبِيدِ ∗∗∗ بَيْنَ عُيَيْنَةَ والأقْرَعِ
فَما كانَ حِصْنٌ ولا حابِسٌ ∗∗∗ يَفُوقانِ مِرْداسَ في مَجْمَعِ
وَما كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنهُما ∗∗∗ ومَن تَضَعِ اليَوْمَ لا يُرْفَعِ
وَقَدْ كُنْتُ في الحَرْبِ ذا تُدْرَإٍ ∗∗∗ فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا ولَمْ أُمْنَعِ
إلّا أباعِيرَ أُعْطِيتُها ∗∗∗ عَدِيدَ قَوائِمِهِ الأرْبَعِ
وَكانَتْ نِهابًا تَلافَيْتُها ∗∗∗ بِكَرِّي عَلى المُهْرِ في الأجْرَعِ
وَإيقاظِيَ القَوْمَ إنْ يَرْقُدُوا ∗∗∗ إذا هَجَعَ النّاسُ لَمْ أهْجَعِ
قالُوا: فَلَوْ كانَ قَسْمُ الأخْماسِ الأرْبَعَةِ عَلى الجَيْشِ الغانِمِينَ واجِبًا، لَما فُضِّلَ الأقْرَعُ وعُيَيْنَةُ في العَطاءِ مِنَ الغَنِيمَةِ عَلى العَبّاسِ بْنِ مِرْداسٍ في أوَّلِ الأمْرِ قَبْلَ أنْ يَقُولَ شِعْرَهُ المَذْكُورَ، وأُجِيبَ مِن جِهَةِ الجُمْهُورِ عَنْ هَذِهِ الِاحْتِجاجاتِ: فالجَوابُ عَنْ آيَةِ
﴿يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ﴾ هو ما قَدَّمْنا مِن أنَّها مَنسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعالى:
﴿واعْلَمُوا أنَّما غَنِمْتُمْ مِن شَيْءٍ﴾ الآيَةَ
[الأنفال: ٤١]، ونَسَبَهُ القُرْطُبِيُّ لِجُمْهُورِ العُلَماءِ، والجَوابُ عَمّا وقَعَ في فَتْحِ مَكَّةَ مِن أوْجُهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ بَعْضَ العُلَماءِ زَعَمُوا أنَّ مَكَّةَ لَمْ تُفْتَحْ عَنْوَةً، ولَكِنَّ أهْلَها أخَذُوا الأمانَ مِنهُ ﷺ، ومِمَّنْ قالَ بِهَذا الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
واسْتَدَلَّ قائِلُوا هَذا القَوْلِ بِقَوْلِهِ ﷺ:
«مَن دَخَلَ دارَ أبِي سُفْيانَ فَهو آمِنٌ»، وهو ثابِتٌ في الصَّحِيحِ، وهَذا الخِلافُ في مَكَّةَ هَلْ أخَذَها النَّبِيُّ ﷺ عَنْوَةً ؟ وهو قَوْلُ الجُمْهُورِ، أوْ أخَذَ لَها الأمانَ؛ والأمانُ شِبْهُ الصُّلْحِ، عَقَدَهُ الشَّيْخُ أحْمَدُ البَدَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ في مَغازِيهِ بِقَوْلِهِ: في غَزْوَةِ الفَتْحِ يَعْنِي مَكَّةَ: [ الرَّجَزُ ]
واخْتَلَفُوا فِيها فَقِيلَ أمِنَتْ وقِيلَ عَنْوَةً وكَرْهًا أُخِذَتْ والحَقُّ أنَّها فُتِحَتْ عَنْوَةً كَما سَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ إنْ شاءَ اللَّهُ، ومِن أظْهَرِ الأجْوِبَةِ عَمّا وقَعَ في فَتْحِ مَكَّةَ، أنَّ مَكَّةَ لَيْسَتْ كَغَيْرِها مِنَ البِلادِ؛ لِأنَّها حَرامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ مِن يَوْمِ خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، وإنَّما أُحِلَّتْ لَهُ ﷺ ساعَةً مِن نَهارٍ، ولَمْ تَحِلَّ لِأحَدٍ قَبْلَهُ ولا بَعْدَهُ، وما كانَ بِهَذِهِ المَثابَةِ، فَلَيْسَ كَغَيْرِهِ مِنَ البِلادِ الَّتِي لَيْسَتْ لَها هَذِهِ الحُرْمَةُ العَظِيمَةُ.
وَأمّا ما وقَعَ في قِصَّةِ حُنَيْنٍ فالجَوابُ عَنْهُ ظاهِرٌ، وهو أنَّ النَّبِيَّ ﷺ اسْتَطابَ نُفُوسَ الغُزاةِ عَنِ الغَنِيمَةِ؛ لِيُؤَلِّفَ بِها قُلُوبَ المُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهم لِأجْلِ المَصْلَحَةِ العامَّةِ لِلْإسْلامِ والمُسْلِمِينَ، ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ أنَّهُ ﷺ لَمّا سَمِعَ أنَّ بَعْضَ الأنْصارِ قالَ: يَمْنَعُنا ويُعْطِي قُرَيْشًا، وسُيُوفُنا تَقْطُرُ مِن دِمائِهِمْ، جَمَعَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ، وكَلَّمَهم كَلامَهُ المَشْهُورَ البالِغَ في الحُسْنِ، ومِن جُمْلَتِهِ أنَّهُ قالَ لَهم:
«ألا تَرْضَوْنَ يا مَعْشَرَ الأنْصارِ أنْ يَذْهَبَ النّاسُ بِالشّاءِ والبَعِيرِ وتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ إلى رِحالِكم»، إلى آخِرِ كَلامِهِ، فَرَضِيَ القَوْمُ، وطابَتْ نُفُوسُهم، وقالُوا: رَضِينا بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ قِسْمًا وحَظًّا، وهَذا ثابِتٌ في الصَّحِيحِ، ونَوَّهَ الشَّيْخُ أحْمَدُ البَدَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ في مَغازِيهِ بِحُسْنِ هَذا الكَلامِ الَّذِي خاطَبَهم بِهِ ﷺ بِقَوْلِهِ: في غَزْوَةِ حُنَيْنٍ: [ الرَّجَزُ ]
وَوَكَّلَ الأنْصارَ خَيْرَ العالَمِينَ ∗∗∗ لِدِينِهِمْ إذْ ألَّفَ المُؤَلَّفِينَ
فَوَجَدُوا عَلَيْهِ أنْ مَنَعَهم ∗∗∗ فَأرْسَلَ النَّبِيُّ مَن جَمَعَهُمْ
وَقالَ قَوْلًا كالفَرِيدِ المُؤْنَقِ ∗∗∗ عَنْ نَظْمِهِ ضَعُفَ سِلْكُ مَنطِقِي
فالحاصِلُ أنَّ أرْبَعَةَ أخْماسِ الغَنِيمَةِ الَّتِي أوْجَفَ الجَيْشُ عَلَيْها الخَيْلَ والرِّكابَ لِلْغُزاةِ الغانِمِينَ عَلى التَّحْقِيقِ، الَّذِي لا شَكَّ فِيهِ، وهو قَوْلُ الجُمْهُورِ.
وَقَدْ عَلِمْتَ الجَوابَ عَنْ حُجَجِ المُخالِفِينَ في ذَلِكَ؛ ومِنَ العُلَماءِ مَن يَقُولُ: لا يَجُوزُ لِلْإمامِ أنْ يُنْفِّلَ أحَدًا شَيْئًا مِن هَذِهِ الأخْماسِ الأرْبَعَةِ؛ لِأنَّها مِلْكٌ لِلْغانِمِينَ، وهو قَوْلُ مالِكٍ.
وَذَهَبَ بَعْضُ العُلَماءِ إلى أنَّ لِلْإمامِ أنْ يُنْفِّلَ مِنها بَعْضَ الشَّيْءِ بِاجْتِهادِهِ، وهو أظْهَرُ دَلِيلًا، وسَيَأْتِي لَهُ زِيادَةُ إيضاحٍ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى.
* * *المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: هي تَحْقِيقُ المَقامِ في مَصارِفِ الخُمُسِ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنَ الغَنِيمَةِ قَبْلَ القِسْمَةِ؛ فَظاهِرُ الآيَةِ الكَرِيمَةِ أنَّهُ يُجْعَلُ سِتَّةَ أنْصِباءَ: نُصِيبٍ لِلَّهِ جَلَّ وعَلا، ونَصِيبٍ لِلرَّسُولِ ﷺ، ونَصِيبٍ لِذِي القُرْبى، ونَصِيبٍ لِلْيَتامى، ونَصِيبٍ لِلْمَساكِينِ، ونَصِيبٍ لِابْنِ السَّبِيلِ.
وَبِهَذا قالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ: قالَ أبُو جَعْفَرٍ الرّازِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أبِي العالِيَةِ الرِّياحِيِّ، قالَ: "
«كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُؤْتى بِالغَنِيمَةِ فَيُخَمِّسُها عَلى خَمْسَةٍ تَكُونُ أرْبَعَةُ أخْماسٍ مِنها لِمَن شَهِدَها، ثُمَّ يُؤْخَذُ الخُمُسُ فَيَضْرِبُ بِيَدِهِ فِيهِ، فَيَأْخُذُ الَّذِي قَبَضَ كَفَّهُ، فَيَجْعَلُهُ لِلْكَعْبَةِ وهو سَهْمُ اللَّهِ، ثُمَّ يُقَسِّمُ ما بَقِيَ عَلى خَمْسَةِ أسْهُمٍ، فَيَكُونُ سَهْمٌ لِلرَّسُولِ ﷺ، وسَهْمٌ لِذِي القُرْبى، وسَهْمٌ لِلْيَتامى، وسَهْمٌ لِلْمَساكِينِ، وسَهْمٌ لِابْنِ السَّبِيلِ» .
وَعَلى هَذا القَوْلِ فَنَصِيبُ اللَّهِ جَلَّ وعَلا يُجْعَلُ لِلْكَعْبَةِ، ولا يَخْفى ضَعْفُ هَذا القَوْلِ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ.
وَقالَ بَعْضُ مَن قالَ بِهَذا القَوْلِ: إنَّ نَصِيبَ اللَّهِ جَلَّ وعَلا يُرَدُّ عَلى ذَوِي الحاجَةِ.
والتَّحْقِيقُ أنَّ نَصِيبَ اللَّهِ جَلَّ وعَلا، ونَصِيبَ الرَّسُولِ ﷺ واحِدٌ، وذِكْرُ اسْمِهِ جَلَّ وعَلا اسْتِفْتاحُ كَلامٍ لِلتَّعْظِيمِ، ومِمَّنْ قالَ بِهَذا القَوْلِ ابْنُ عَبّاسٍ، كَما نَقَلَهُ عَنْهُ الضَّحّاكُ. وهو قَوْلُ إبْراهِيمَ النَّخَعِيِّ، والحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الحَنَفِيَّةِ، والحَسَنِ البَصْرِيِّ، والشَّعْبِيِّ، وعَطاءِ بْنِ أبِي رَباحٍ، وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، وقَتادَةَ، ومُغِيرَةَ وغَيْرِ واحِدٍ كَما نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ.
والدَّلِيلُ عَلى صِحَّةِ هَذا القَوْلِ ما رَواهُ البَيْهَقِيُّ بِإسْنادٍ صَحِيحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ رَجُلٍ، قالَ:
«أتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ وهو بِوادِي القُرى، وهو يَعْرِضُ فَرَسًا، فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ ما تَقُولُ في الغَنِيمَةِ ؟ فَقالَ: ”لِلَّهِ خُمُسُها، وأرْبَعَةُ أخْماسِها لِلْجَيْشِ“، قُلْتُ: فَما أحَدٌ أوْلى بِهِ مِن أحَدٍ ؟ قالَ: ”لا ولا السَّهْمُ تَسْتَخْرِجُهُ مِن جَيْبِكَ لَسْتَ أحَقَّ بِهِ مِن أخِيكَ المُسْلِمِ»“، وهَذا دَلِيلٌ واضِحٌ عَلى ما ذَكَرْنا.
وَيُؤَيِّدُهُ أيْضًا ما رَواهُ الإمامُ أحْمَدُ عَنِ المِقْدامِ بْنِ مَعْدِيكَرِبَ الكِنْدِيِّ، أنَّهُ جَلَسَ مَعَ عُبادَةَ بْنِ الصّامِتِ، وأبِي الدَّرْداءِ، والحارِثِ بْنِ مُعاوِيَةَ الكِنْدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم، فَتَذاكَرُوا حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقالَ أبُو الدَّرْداءِ لِعُبادَةَ: يا عُبادَةُ:
«يا عُبادَةُ كَلِماتُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في غَزْوَةِ كَذا وكَذا في شَأْنِ الأخْماسِ، فَقالَ عُبادَةُ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ صَلّى بِهِمْ في غَزْوَةٍ إلى بَعِيرٍ مِنَ المَغْنَمِ؛ فَلَمّا سَلَّمَ قامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَتَناوَلَ وبَرَةً بَيْنَ أُنْمُلَتَيْهِ، فَقالَ: ”إنَّ هَذِي مِن غَنائِمِكم، وإنَّهُ لَيْسَ لِي فِيها إلّا نَصِيبِي مَعَكُمُ الخُمُسُ، والخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكم، فَأدُّوا الخَيْطَ والمَخِيطَ وأكْبَرَ مِن ذَلِكَ وأصْغَرَ، ولا تَغُلُّوا فَإنَّ الغُلُولَ عارٌ ونارٌ عَلى أصْحابِهِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، وجاهِدُوا النّاسَ في اللَّهِ القَرِيبَ والبَعِيدَ، ولا تُبالُوا في اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ، وأقِيمُوا حُدُودَ اللَّهِ في السَّفَرِ والحَضَرِ، وجاهِدُوا في اللَّهِ، فَإنَّ الجِهادَ بابٌ مِن أبْوابِ الجَنَّةِ عَظِيمٌ يُنْجِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الهَمِّ والغَمِّ»“ .
قالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ أنْ ساقَ حَدِيثَ أحْمَدَ هَذا عَنْ عُبادَةَ بْنِ الصّامِتِ: هَذا حَدِيثٌ حَسَنٌ عَظِيمٌ، ولَمْ أرَهُ في شَيْءٍ مِنَ الكُتُبِ السِّتَّةِ مِن هَذا الوَجْهِ، ولَكِنْ رَوى الإمامُ أحْمَدُ أيْضًا، وأبُو داوُدَ، والنَّسائِيُّ مِن حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ نَحْوَهُ في قِصَّةِ الخُمُسِ، والنَّهْيِ عَنِ الغُلُولِ.
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ:
«أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ صَلّى بِهِمْ إلى بَعِيرٍ مِنَ المَغْنَمِ، فَلَمّا سَلَّمَ أخَذَ وبَرَةً مِن هَذا البَعِيرِ، ثُمَّ قالَ: ”وَلا يَحِلُّ لِي مِن غَنائِمِكم مِثْلُ هَذِهِ إلّا الخُمُسُ، والخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكم»“ رَواهُ أبُو داوُدَ، والنَّسائِيُّ.
فَإذا عَرَفْتَ أنَّ التَّحْقِيقَ أنَّ الخُمُسَ في حَياةِ النَّبِيِّ ﷺ، يُقَسَّمُ خَمْسَةَ أسْهُمٍ؛ لِأنَّ اسْمَ اللَّهِ ذُكِرَ لِلتَّعْظِيمِ وافْتِتاحِ الكَلامِ بِهِ، مَعَ أنَّ كُلَّ شَيْءٍ مَمْلُوكٌ لَهُ جَلَّ وعَلا، فاعْلَمْ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كانَ يَصْرِفُ نَصِيبَهُ، الَّذِي هو خُمُسُ الخُمُسِ، في مَصالِحِ المُسْلِمِينَ. بِدَلِيلِ قَوْلِهِ في الأحادِيثِ الَّتِي ذَكَرْناها آنِفًا:
«والخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكم»، وهو الحَقُّ.
وَيَدُلُّ لَهُ ما ثَبَتَ في الصَّحِيحِ: مِن أنَّهُ كانَ يَأْخُذُ قُوتَ سَنَتِهِ مِن فَيْءِ بَنِيَ النَّضِيرِ، كَما سَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى.
وَأمّا بَعْدَ وفاتِهِ، وانْتِقالِهِ إلى الرَّفِيقِ الأعْلى صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِ؛ فَإنَّ بَعْضَ العُلَماءِ يَقُولُ بِسُقُوطِ نَصِيبِهِ بِوَفاتِهِ.
وَمِمَّنْ قالَ بِذَلِكَ: أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، واخْتارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَزادَ أبُو حَنِيفَةَ سُقُوطَ سَهْمِ ذَوِي القُرْبى أيْضًا بِوَفاتِهِ ﷺ .
والصَّحِيحُ أنَّ نَصِيبَهُ ﷺ باقٍ، وأنَّ إمامَ المُسْلِمِينَ يَصْرِفُهُ فِيما كانَ يَصْرِفُهُ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِن مَصالِحِ المُسْلِمِينَ.
وَقالَ بَعْضُ العُلَماءِ يَكُونُ نَصِيبُهُ ﷺ لِمَن يَلِي الأمْرَ بَعْدَهُ، ورُوِيَ عَنْ أبِي بَكْرٍ، وعَلِيٍّ، وقَتادَةَ، وجَماعَةٍ، قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وجاءَ فِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: والظّاهِرُ أنَّ هَذا القَوْلَ راجِعٌ في المَعْنى إلى ما ذَكَرْنا أنَّهُ الصَّحِيحُ، وأنَّ مَعْنى كَوْنِهِ لِمَن يَلِي الأمْرَ بَعْدَهُ، أنَّهُ يَصْرِفُهُ فِيما كانَ يَصْرِفُهُ فِيهِ ﷺ، والنَّبِيُّ قالَ:
«الخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكم» وهو واضِحٌ كَما تَرى.
وَلا يَخْفى أنَّ كُلَّ الأقْوالِ في نَصِيبِ النَّبِيِّ ﷺ بَعْدَ وفاتِهِ راجِعَةٌ إلى شَيْءٍ واحِدٍ؛ وهو صَرْفُهُ في مَصالِحِ المُسْلِمِينَ.
وَقَدْ كانَ الخُلَفاءُ الرّاشِدُونَ المَهْدِيُّونَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - يَصْرِفُونَهُ فِيما كانَ يَصْرِفُهُ فِيهِ ﷺ .
وَكانَ أبُو بَكْرٍ، وعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما يَصْرِفانِهِ في الكُراعِ والسِّلاحِ.
وَجُمْهُورُ العُلَماءِ عَلى أنَّ نَصِيبَ ذَوِي القُرْبى باقٍ، ولَمْ يَسْقُطْ بِمَوْتِهِ ﷺ .
واخْتَلَفَ العُلَماءُ فِيهِ مِن ثَلاثِ جِهاتٍ:
الأُولى: هَلْ يَسْقُطُ بِوَفاتِهِ أوْ لا ؟
وَقَدْ ذَكَرْنا أنَّ الصَّحِيحَ عَدَمُ السُّقُوطِ، خِلافًا لِأبِي حَنِيفَةَ.
الثّانِيَةُ: في المُرادِ بِذِي القُرْبى.
الثّالِثَةُ: هَلْ يُفَضَّلُ ذَكَرُهم عَلى أُنْثاهم أوْ لا ؟
أمّا ذَوُو القُرْبى: فَهم بَنُو هاشِمٍ، وبَنُو المُطَّلِبِ؛ عَلى أظْهَرِ الأقْوالِ دَلِيلًا، وإلَيْهِ ذَهَبُ الشّافِعِيُّ، وأحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وأبُو ثَوْرٍ، ومُجاهِدٌ، وقَتادَةُ، وابْنُ جُرَيْجٍ، ومُسْلِمُ بْنُ خالِدٍ.
قالَ البُخارِيُّ في صَحِيحِهِ، في كِتابِ ”فَرْضِ الخُمُسِ“ .
حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهابٍ، عَنِ ابْنِ المُسَيَّبِ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، قالَ:
«مَشَيْتُ أنا وعُثْمانُ بْنُ عَفّانَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقُلْنا: يا رَسُولَ اللَّهِ أعْطَيْتَ بَنِي المُطَّلِبِ وتَرَكْتَنا، ونَحْنُ وهَمَ مِنكَ بِمَنزِلَةٍ واحِدَةٍ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”إنَّما بَنُو المُطَّلِبِ، وبَنُو هاشِمٍ شَيْءٌ واحِدٌ»“ .
قالَ اللَّيْثَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ وزادَ قالَ جُبَيْرٌ: ولَمْ يُقَسِّمِ النَّبِيُّ ﷺ لِبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، ولا لِبَنِي نَوْفَلٍ. اهـ.
وَقالَ البُخارِيُّ أيْضًا في المَغازِي: حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنا اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، أنَّ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ أخْبَرَهُ، قالَ:
«مَشَيْتُ أنا وعُثْمانُ بْنُ عَفّانَ إلى النَّبِيِّ ﷺ، فَقُلْنا: أعْطَيْتَ بَنِي المُطَّلِبِ مِن خُمُسِ خَيْبَرَ، وتَرَكْتَنا، ونَحْنُ بِمَنزِلَةٍ واحِدَةٍ مِنكَ، فَقالَ: ”إنَّما بَنُو هاشِمٍ، وبَنُو المُطَّلِبِ شَيْءٌ واحِدٌ“، قالَ جُبَيْرٌ: لَمْ يُقَسِّمِ النَّبِيُّ ﷺ لِبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، وبَنِي نَوْفَلٍ شَيْئًا» اهـ.
وَإيضاحُ كَوْنِهِمْ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ بِمَنزِلَةٍ واحِدَةٍ: أنَّ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنافٍ، وعُثْمانَ بْنَ عَفّانَ بْنِ أبِي العاصِ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنافٍ.
فَأوْلادُ عَبْدِ مَنافِ بْنِ قُصَيٍّ أرْبَعَةٌ:
هاشِمٌ، والمُطَّلِبُ، وعَبْدُ شَمْسٍ.
وَهم: أشِقّاءُ أُمِّهِمْ: عاتِكَةَ، بِنْتِ مُرَّةَ بْنِ هِلالٍ السُّلَمِيَّةَ، إحْدى عَواتِكِ سُلَيْمٍ؛ اللّاتِي هُنَّ جَدّاتُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وهُنَّ ثَلاثٌ:
هَذِهِ الَّتِي ذَكَرْنا.
والثّانِيَةُ: عَمَّتُها؛ وهي: عاتِكَةُ بِنْتُ هِلالٍ الَّتِي هي أُمُّ عَبْدِ مَنافٍ.
والثّالِثَةُ: بِنْتُ أخِي الأُولى؛ وهي عاتِكَةُ بِنْتُ الأوْقَصِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ هِلالٍ، وهي أُمُّ وهْبٍ، والِدِ آمِنَةَ، أُمِّ النَّبِيِّ ﷺ .
وَرابِعُ أوْلادِ عَبْدِ مَنافٍ: نَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ مَنافٍ، وأُمُّهُ: واقِدَةُ بِنْتُ أبِي عَدِيٍّ، واسْمُهُ نَوْفَلُ بْنُ عُبادَةَ بْنِ مازِنِ بْنِ صَعْصَعَةَ.
قالَ الشَّيْخُ أحْمَدُ البَدَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ في نَظْمِهِ عَمُودِ النَّسَبِ: [ الرَّجَزُ ]
عَبْدُ مَنافٍ قَمَرُ البَطْحاءِ ∗∗∗ أرْبَعَةٌ بَنُوهُ هَؤُلاءِ ∗∗∗ مُطَّلِبٌ، وهاشِمٌ، ونَوْفَلُ ∗∗∗ وَعَبْدُ شَمْسٍ، هاشِمٌ لا يُجْهَلُ
وَقالَ في بَيانِ عَواتِكِ سُلَيْمٍ اللّاتِي هُنَّ جَدّاتٌ لَهُ ﷺ: [ الرَّجَزُ ]
عَواتِكُ النَّبِيِّ: أُمُّ وهْبِ ∗∗∗ وَأُمُّ هاشِمٍ، وأُمُّ النَّدْبِ ∗∗∗ عَبْدِ مَنافٍ، وذِهِ الأخِيرِهْ ∗∗∗ عَمَّةُ عَمَّةِ الأُولى الصَّغِيرَهْ
وَهُنَّ بِالتَّرْتِيبِ ذا لِذِي الرِّجالِ ∗∗∗ الأوْقَصِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ هِلالِ
فَبِهَذا الَّذِي بَيَّنّا يَتَّضِحُ أنَّ الصَّحِيحَ أنَّ المُرادَ بِذِي القُرْبى في الآيَةِ: بَنُو هاشِمٍ، وبَنُو المُطَّلِبِ دُونَ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، وبَنِي نَوْفَلٍ.
وَوَجْهُهُ أنَّ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، وبَنِي نَوْفَلٍ عادَوُا الهاشِمِيِّينَ، وظاهَرُوا عَلَيْهِمْ قُرَيْشًا، فَصارُوا كالأباعِدِ مِنهم؛ لِلْعَداوَةِ، وعَدَمِ النُّصْرَةِ.
وَلِذا قالَ فِيهِمْ أبُو طالِبٍ؛ في لامِيَّتِهِ المَشْهُورَةِ: [ الطَّوِيلُ ]
جَزى اللَّهُ عَنّا عَبَدَ شَمْسٍ، ونَوْفَلًا ∗∗∗ عُقُوبَةَ شَرٍّ، عاجِلٍ، غَيْرِ آجِلِ ∗∗∗ بِمِيزانِ قِسْطٍ لا يَخِيسُ شَعِيرَةً ∗∗∗ لَهُ شاهِدٌ مِن نَفْسِهِ، غَيْرُ عائِلِ ∗∗∗ لَقَدْ سَفِهَتْ أحْلامُ قَوْمٍ تَبَدَّلُوا ∗∗∗ بَنِي خَلَفٍ قَيْضًا بِنا، والغَياطِلِ ∗∗∗ وَنَحْنُ الصَّمِيمُ مِن ذُؤابَةِ هاشِمٍ ∗∗∗ وَآلِ قُصَيٍّ في الخُطُوبِ الأوائِلِ
بِهَذا الحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي ذَكَرْنا: يَتَّضِحُ عَدَمُ صِحَّةِ قَوْلِ مَن قالَ: بِأنَّهم بَنُو هاشِمٍ فَقَطْ، وقَوْلِ مَن قالَ: إنَّهم قُرَيْشٌ كُلُّهم.
وَمِمَّنْ قالَ بِأنَّهم بَنُو هاشِمٍ فَقَطْ: عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ، وزَيْدُ بْنُ أرْقَمَ، ومالِكٌ، والثَّوْرِيُّ، ومُجاهِدٌ، وعَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ، والأوْزاعِيُّ، وغَيْرُهم.
وَقَدْ أخْرَجَ الشّافِعِيُّ، وعَبْدُ الرَّزّاقِ، وابْنُ أبِي شَيْبَةَ، ومُسْلِمٌ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ: عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّ نَجْدَةَ الحَرُورِيَّ كَتَبَ إلَيْهِ: يَسْألُهُ عَنْ ذَوِي القُرْبى الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهُ، فَكَتَبَ إلَيْهِ: إنّا كُنّا نَرى أنّا هم، فَأبى ذَلِكَ عَلَيْنا قَوْمُنا، وقالُوا: قُرَيْشٌ كُلُّها ذَوُو قُرْبى.
وَزِيادَةُ قَوْلِهِ: وقالُوا: ”قُرَيْشٌ كُلُّها“ تَفَرَّدَ بِها أبُو مَعْشَرٍ، وفِيهِ ضَعْفٌ.
وَما قَدَّمْنا مِن قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ، وفِعْلِهِ الثّابِتِ في الصَّحِيحِ: يُعَيِّنُ أنَّهم بَنُو هاشِمٍ، والمُطَّلِبِ، وهو قَوْلُ الشّافِعِيِّ وأحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وكَثِيرٍ مِن أهْلِ العِلْمِ.
فَإذا عَرَفْتَ أنَّهُ ﷺ قَضى بِخُمُسِ الخُمُسِ مِن غَنائِمِ خَيْبَرَ لِبَنِي هاشِمٍ والمُطَّلِبِ، وأنَّهم هم ذَوُو القُرْبى المَذْكُورُونَ في الآيَةِ.
فاعْلَمْ أنَّ العُلَماءَ اخْتَلَفُوا: هَلْ يُفَضَّلُ ذَكَرُهم عَلى أُنْثاهم، أوْ يُقَسَّمُ عَلَيْهِمْ بِالسَّوِيَّةِ ؟
فَذَهَبَ بَعْضُ العُلَماءِ إلى أنَّهُ كالمِيراثِ، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ؛ وهَذا هو مَذْهَبُ أحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ في أصَحِّ الرِّوايَتَيْنِ.
قالَ صاحِبُ ”الإنْصافِ“: هَذا المَذْهَبُ جَزَمَ بِهِ الخِرَقِيُّ، وصاحِبُ ”الهِدايَةِ“، و ”المُذْهَبِ“، و ”مَسْبُوكِ الذَّهَبِ“، و ”العُمْدَةِ“، و ”الوَجِيزِ“، وغَيْرِهِمْ؛ وقَدَّمَهُ في ”الرِّعايَتَيْنِ“، و ”الحاوِيَيْنِ“، وغَيْرِهِمْ، وصَحَّحَهُ في ”البُلْغَةِ“، و ”النَّظْمِ“، وغَيْرِهِما.
وَعَنْهُ: الذَّكَرُ والأُنْثى؛ سَواءٌ. قَدَّمَهُ ابْنُ رُزَيْنٍ في شَرْحِهِ؛ وأطْلَقَهُما في ”المُغْنِي“، و ”الشَّرْحِ“، و ”المُحَرَّرِ“، و ”الفُرُوعِ“، اهـ مِن ”الإنْصافِ“ .
وَتَفْضِيلُ ذَكَرِهِمْ عَلى أُنْثاهُمُ الَّذِي هو مَذْهَبُ الإمامِ أحْمَدَ: هو مَذْهَبُ الشّافِعِيِّ أيْضًا.
وَحُجَّةُ مَن قالَ بِهَذا القَوْلِ: أنَّهُ سَهْمٌ اسْتُحِقَّ بِقَرابَةِ الأبِ شَرْعًا؛ بِدَلِيلِ أنَّ أوْلادَ عَمّاتِهِ ﷺ، كالزُّبَيْرِ بْنِ العَوّامِ، وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي أُمَيَّةَ؛ لَمْ يَقْسِمْ لَهم في خُمُسِ الخُمُسِ، وكَوْنُهُ مُسْتَحِقًّا بِقَرابَةِ الأبِ خاصَّةً يَجْعَلُهُ كالمِيراثِ؛ فَيُفَضَّلُ فِيهِ الذَّكَرُ عَلى الأُنْثى.
وَقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: ذَكَرُهم وأُنْثاهم سَواءٌ.
وَمِمَّنْ قالَ بِهِ المُزَنِيُّ: وأبُو ثَوْرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: وهَذا القَوْلُ أظْهَرُ عِنْدِي؛ لِأنَّ تَفْضِيلَ الذَّكَرِ عَلى الأُنْثى يَحْتاجُ إلى دَلِيلٍ، ولَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ في هَذِهِ المَسْألَةِ دَلِيلٌ، ولَمْ يَنْقُلْ أحَدٌ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، أنَّهُ فَضَّلَ ذَكَرَهم عَلى أُنْثاهم في خُمُسِ الخُمُسِ.
والدَّلِيلُ عَلى أنَّهُ لَيْسَ كالمِيراثِ: أنَّ الِابْنَ مِنهم يَأْخُذُ نَصِيبَهُ مَعَ وُجُودِ أبِيهِ، وجَدِّهِ اهـ.
وَصَغِيرُهم، وكَبِيرُهم سَواءٌ؛ وجُمْهُورُ العُلَماءِ القائِلِينَ بِنَصِيبِ القَرابَةِ عَلى أنَّهُ يُقَسَّمُ عَلى جَمِيعِهِمْ؛ ولَمْ يُتْرَكْ مِنهم أحَدٌ خِلافًا لِقَوْمٍ.
والظّاهِرُ شُمُولُ غَنِيِّهِمْ، خِلافًا لِمَن خَصَّصَ بِهِ فُقَراءَهم؛ لِأنَّهُ ﷺ لَمْ يُخَصِّصْ بِهِ فُقَراءَهم، بِخِلافِ نَصِيبِ اليَتامى، والمَساكِينِ، وابْنِ السَّبِيلِ.
فالظّاهِرُ أنَّهُ يُخَصَّصُ بِهِ فُقَراؤُهم، ولا شَيْءَ لِأغْنِيائِهِمْ، فَقَدْ بانَ لَكَ مِمّا تَقَدَّمَ أنَّ مَذْهَبَ الشّافِعِيِّ، وأحْمَدَ رَحِمَهُما اللَّهُ في هَذِهِ المَسْألَةِ: أنَّ سَهْمَ اللَّهِ، وسَهْمَ رَسُولِهِ ﷺ واحِدٌ؛ وأنَّهُ بَعْدَ وفاتِهِ يُصْرَفُ في مَصالِحِ المُسْلِمِينَ؛ وأنَّ سَهْمَ القَرابَةِ لِبَنِي هاشِمٍ، وبَنِي المُطَّلِبِ؛ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ، وأنَّهُ لِجَمِيعِهِمْ: غَنِيِّهِمْ وفَقِيرِهِمْ، قاتَلُوا أمْ لَمْ يُقاتِلُوا، وأنَّ لِلذَّكَرِ مِنهم مِثْلَ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ، وأنَّ الأنْصِباءَ الثَّلاثَةَ الباقِيَةَ لِخُصُوصِ الفُقَراءِ مِنَ اليَتامى، والمَساكِينِ، وابْنِ السَّبِيلِ.
وَمَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ: سُقُوطُ سَهْمِ الرَّسُولِ ﷺ، وسَهْمِ قَرابَتِهِ بِمَوْتِهِ، وأنَّ الخُمُسَ يُقَسَّمُ عَلى الثَّلاثَةِ الباقِيَةِ: الَّتِي هي اليَتامى، والمَساكِينُ، وابْنُ السَّبِيلِ.
قالَ: ويَبْدَأُ مِنَ الخُمُسِ بِإصْلاحِ القَناطِرِ، وبِناءِ المَساجِدِ، وأرْزاقِ القُضاةِ، والجُنْدِ، ورُوِيَ نَحْوُ هَذا عَنِ الشّافِعِيِّ أيْضًا.
وَمَذْهَبُ الإمامِ مالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أنَّ أمْرَ خُمُسِ الغَنِيمَةِ مَوْكُولٌ إلى نَظَرِ الإمامِ واجْتِهادِهِ؛ فِيما يَراهُ مَصْلَحَةً، فَيَأْخُذُ مِنهُ مِن غَيْرِ تَقْدِيرٍ، ويُعْطِي القَرابَةَ بِاجْتِهادِهِ، ويَصْرِفُ الباقِي في مَصالِحِ المُسْلِمِينَ.
قالَ القُرْطُبِيُّ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِها: وبِقَوْلِ مالِكٍ هَذا: قالَ الخُلَفاءُ الأرْبَعَةُ، وبِهِ عَمِلُوا، وعَلَيْهِ يَدُلُّ قَوْلُهُ ﷺ:
«مالِي مِمّا أفاءَ اللَّهُ عَلَيْكم إلّا الخُمُسَ، والخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكم»، فَإنَّهُ لَمْ يُقَسِّمْهُ أخْماسًا، ولا أثْلاثًا، وإنَّما ذَكَرَ في الآيَةِ مَن ذَكَرَ عَلى وجْهِ التَّنْبِيهِ عَلَيْهِمْ؛ لِأنَّهم مِن أهَمِّ مَن يُدْفَعُ إلَيْهِ.
قالَ الزَّجّاجُ: مُحْتَجًّا لِمالِكٍ، قالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ:
﴿يَسْألُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أنْفَقْتُمْ مِن خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ واليَتامى والمَساكِينِ وابْنِ السَّبِيلِ﴾ [البقرة: ٢١٥] .
وَلِلرَّجُلِ جائِزٌ بِإجْماعِ العُلَماءِ أنَّ يُنْفِقَ في غَيْرِ هَذِهِ الأصْنافِ، إذا رَأى ذَلِكَ، وذَكَرَ النَّسائِيُّ عَنْ عَطاءٍ، قالَ:
«خُمُسُ اللَّهِ، وخُمُسُ رَسُولِهِ واحِدٌ، كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَحْمِلُ مِنهُ، ويُعْطِي مِنهُ، ويَضَعُهُ حَيْثُ شاءَ» اهـ مِنَ القُرْطُبِيِّ.
وَقالَ ابْنُ كَثِيرٍ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ ما نَصُّهُ: " وقالَ آخَرُونَ: إنَّ الخُمُسَ يَتَصَرَّفُ فِيهِ الإمامُ بِالمَصْلَحَةِ لِلْمُسْلِمِينَ، كَما يَتَصَرَّفُ في مالِ الفَيْءِ.
وَقالَ شَيْخُنا العَلّامَةُ ابْنُ تَيْمِيَةَ: رَحِمَهُ اللَّهُ وهَذا قَوْلُ مالِكٍ، وأكْثَرُ السَّلَفِ، وهو أصَحُّ الأقْوالِ اهـ مِنِ ابْنِ كَثِيرٍ.
وَهَذا القَوْلُ هو رَأْيُ البُخارِيِّ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: بابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعالى:
﴿فَأنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ولِلرَّسُولِ﴾، يَعْنِي لِلرَّسُولِ قَسْمُ ذَلِكَ.
وَقالَ رَسُولُ اللَّهِ:
«إنَّما أنا قاسِمٌ، وخازِنٌ، واللَّهُ يُعْطِي»، ثُمَّ ساقَ البُخارِيُّ أحادِيثَ البابِ، في كَوْنِهِ ﷺ قاسِمًا بِأمْرِ اللَّهِ تَعالى.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: وهَذا القَوْلُ قَوِيٌّ، وسَتَأْتِي لَهُ أدِلَّةٌ إنْ شاءَ اللَّهُ في المَسْألَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذا، ولَكِنَّ أقْرَبَ الأقْوالِ لِلسَّلامَةِ هو العَمَلُ بِظاهِرِ الآيَةِ، كَما قالَ الشّافِعِيُّ، وأحْمَدُ رَحِمَهُما اللَّهُ؛ لِأنَّ اللَّهَ أمَرَنا أنْ نَعْلَمَ أنَّ خُمُسَ ما غَنِمْنا لِهَذِهِ المَصارِفِ المَذْكُورَةِ، ثُمَّ أتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:
﴿إنْ كُنْتُمْ آمَنتُمْ بِاللَّهِ﴾، وهو واضِحٌ جِدًّا، كَما تَرى.
وَأمّا قَوْلُ بَعْضِ أهْلِ البَيْتِ؛ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وعَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: بِأنَّ الخُمُسَ كُلَّهُ لَهم دُونَ غَيْرِهِمْ، وأنَّ المُرادَ بِاليَتامى، والمَساكِينِ: يَتاماهم، ومَساكِينُهم، وقَوْلُ مَن زَعَمَ أنَّهُ بَعْدَ النَّبِيِّ ﷺ، يَكُونُ لِقَرابَةِ الخَلِيفَةِ الَّذِي يُوَلِّيهِ المُسْلِمُونَ، فَلا يَخْفى ضَعْفُهُما، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
* * *المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: أجْمَعَ العُلَماءُ عَلى أنَّ الذَّهَبَ، والفِضَّةَ، وسائِرَ الأمْتِعَةِ؛ كُلُّ ذَلِكَ داخِلٌ في حُكْمِ الآيَةِ: يُخَمَّسُ، ويُقْسَّمُ الباقِي عَلى الغانِمِينَ، كَما ذَكَرْنا.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: أمّا أرْضُهُمُ المَأْخُوذَةُ عَنْوَةً، فَقَدِ اخْتَلَفَ العُلَماءُ فِيها، فَقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: يُخَيَّرُ الإمامُ بَيْنَ قِسْمَتِها، كَما يُفْعَلُ بِالذَّهَبِ، والفِضَّةِ، ولا خَراجَ عَلَيْها، بَلْ هي أرْضُ عُشْرٍ مَمْلُوكَةٌ لِلْغانِمِينَ، وبَيْنَ وقْفِها لِلْمُسْلِمِينَ بِصِيغَةٍ.
وَقِيلَ: بِغَيْرِ صِيغَةٍ، ويَدْخُلُ في ذَلِكَ تَرْكُها لِلْمُسْلِمِينَ بِخَراجٍ مُسْتَمِرٍّ يُؤْخَذُ مِمَّنْ تَقَرُّ بِيَدِهِ، وهَذا التَّخْيِيرُ هو مَذْهَبُ الإمامِ أحْمَدَ.
وَعَلى هَذا القَوْلِ: إذا قَسَّمَها الإمامُ، فَقِيلَ: تُخَمَّسُ، وهو أظْهَرُ، وقِيلَ: لا، واخْتارَهُ بَعْضُ أجِلّاءِ العُلَماءِ قائِلًا: إنَّ أرْضَ خَيْبَرَ لَمْ يُخَمَّسْ ما قُسِّمَ مِنها.
والظّاهِرُ أنَّ أرْضَ خَيْبَرَ خُمِّسَتْ، كَما جَزَمَ بِهِ غَيْرُ واحِدٍ، ورَواهُ أبُو داوُدَ بِإسْنادٍ صَحِيحٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ.
وَهَذا التَّخْيِيرُ بَيْنَ القَسْمِ، وإبْقائِها لِلْمُسْلِمِينَ، الَّذِي ذَكَرْنا أنَّهُ مَذْهَبُ الإمامِ أحْمَدَ - هو أيْضًا مَذْهَبُ الإمامِ أبِي حَنِيفَةَ، والثَّوْرِيِّ.
وَأمّا مالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فَذَهَبَ إلى أنَّها تَصِيرُ وقْفًا لِلْمُسْلِمِينَ، بِمُجَرَّدِ الِاسْتِيلاءِ عَلَيْها.
وَأمّا الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَذَهَبَ إلى أنَّها غَنِيمَةٌ يَجِبُ قَسْمُها عَلى المُجاهِدِينَ، بَعْدَ إخْراجِ الخُمُسِ، وسَنَذْكُرُ إنْ شاءَ اللَّهُ حُجَجَ الجَمِيعِ، وما يَظْهَرُ لَنا رُجْحانُهُ بِالدَّلِيلِ.
أمّا حُجَّةُ الإمامِ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَهي بِكِتابٍ وسُنَّةٍ.
أمّا الكِتابُ، فَقَوْلُهُ تَعالى:
﴿واعْلَمُوا أنَّما غَنِمْتُمْ مِن شَيْءٍ﴾ الآيَةَ، فَهو يَقْتَضِي بِعُمُومِهِ شُمُولَ الأرْضِ المَغْنُومَةِ.
وَأمّا السُّنَّةُ: فَما ثَبَتَ أنَّهُ ﷺ، قَسَّمَ أرْضَ قُرَيْظَةَ، بَعْدَ أنْ خَمَّسَها، وبَنِي النَّضِيرِ، ونَصَّفَ أرْضَ خَيْبَرَ بَيْنَ الغانِمِينَ.
قالَ: فَلَوْ جازَ أنْ يَدَّعِيَ إخْراجَ الأرْضِ، جازَ أنْ يَدَّعِيَ إخْراجَ غَيْرِها، فَيَبْطُلُ حُكْمُ الآيَةِ.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ، الِاسْتِدْلالُ بِالآيَةِ: ظاهِرٌ، وبِالسُّنَّةِ غَيْرُ ظاهِرٍ؛ لِأنَّهُ لا حُجَّةَ فِيهِ عَلى مَن يَقُولُ بِالتَّخْيِيرِ؛ لِأنَّهُ يَقُولُ: كانَ مُخَيَّرًا فاخْتارَ القَسْمَ، فَلَيْسَ القَسْمُ واجِبًا، وهو واضِحٌ كَما تَرى.
وَحُجَّةُ مَن قالَ بِالتَّخْيِيرِ: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ، قَسَمَ نِصْفَ أرْضِ خَيْبَرَ، وتَرَكَ نِصْفَها، وقَسَمَ أرْضَ قُرَيْظَةَ، وتَرَكَ قَسْمَ مَكَّةَ، فَدَلَّ قَسَمُهُ تارَةً، وتَرْكُهُ القَسْمَ أُخْرى، عَلى التَّخْيِيرِ.
فَفِي ”السُّنَنِ“ و ”المُسْتَدْرَكِ“:
«أنَّ النَّبِيَّ ﷺ، لَمّا ظَهَرَ عَلى خَيْبَرَ قَسَمَها عَلى سِتَّةٍ وثَلاثِينَ سَهْمًا، جَمْعُ كُلِّ سَهْمٍ مِائَةُ سَهْمٍ، فَكانَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ولِلْمُسْلِمِينَ النِّصْفُ مِن ذَلِكَ، وعَزَلَ النِّصْفَ الباقِيَ لِمَن يَنْزِلُ بِهِ مِنَ الوُفُودِ، والأُمُورِ، ونَوائِبِ النّاسِ»، هَذا لَفْظُ أبِي داوُدَ.
وَفِي لَفْظٍ:
«عَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثَمانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وهو الشَّطْرُ لِنَوائِبِهِ، وما يَنْزِلُ بِهِ مِن أمْرِ المُسْلِمِينَ، فَكانَ ذَلِكَ: الوَطِيحَ، والكُتَيْبَةَ، والسُّلالِمَ، وتَوابِعَها» .
وَفِي لَفْظٍ أيْضًا:
«عَزَلَ نِصْفَها لِنَوائِبِهِ، وما يَنْزِلُ بِهِ؛ الوَطِيحَةَ، والكُتَيْبَةَ، وما أُحِيزَ مَعَهُما، وعَزَلَ النِّصْفَ الآخَرَ: فَقَسَّمَهُ بَيْنَ المُسْلِمِينَ، الشَّقَّ، والنَّطاةَ، وما أُحِيزَ مَعَهُما، وكانَ سَهْمُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِيما أُحِيزَ مَعَهُما» .
وَرَدَّ المُخالِفُ هَذا الِاحْتِجاجَ، بِأنَّ النِّصْفَ المَقْسُومَ مِن خَيْبَرَ: مَأْخُوذٌ عَنْوَةً، والنِّصْفَ الَّذِي لَمْ يُقَسَّمْ مِنها: مَأْخُوذٌ صُلْحًا، وجَزَمَ بِهَذا ابْنُ حَجَرٍ في ”فَتْحِ البارِيِّ“ .
وَقالَ النَّوَوِيُّ في ”شَرْحِ مُسْلِمٍ“ في الكَلامِ عَلى قَوْلِ أنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: وأصَبْناها عَنْوَةً، ما نَصُّهُ قالَ القاضِي: قالَ المازِرِيُّ: ظاهِرُ هَذا أنَّها كُلَّها فُتِحَتْ عَنْوَةً، وقَدْ رَوى مالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهابٍ، أنَّ بَعْضَها فُتِحَ عَنْوَةً، وبَعْضُها صُلْحًا، قالَ: وقَدْ يَشْكُلُ ما رُوِيَ في سُنَنِ أبِي داوُدَ، أنَّهُ قَسَمَها نِصْفَيْنِ: نِصْفًا لِنَوائِبِهِ، وحاجَتِهِ، ونِصْفًا لِلْمُسْلِمِينَ، قالَ: وجَوابُهُ، ما قالَ بَعْضُهم: إنَّهُ كانَ حَوْلَها ضِياعٌ وقُرًى أُجْلِيَ عَنْها أهْلُها، فَكانَتْ خالِصَةً لِلنَّبِيِّ ﷺ، وما سِواها لِلْغانِمِينَ، فَكانَ قَدْرُ الَّذِي جَلَوْا عَنْهُ النِّصْفَ، فَلِهَذا قُسِمَ نِصْفَيْنِ. اهـ مِنهُ بِلَفْظِهِ.
وَقالَ أبُو داوُدَ في ”سُنَنِهِ“: حَدَّثَنا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ العِجْلِيُّ، ثَنا يَحْيى - يَعْنِي ابْنَ آدَمَ - ثَنا ابْنُ أبِي زائِدَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي بَكْرٍ، وبَعْضِ ولَدِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، قالُوا:
«بَقِيَتْ بَقِيَّةٌ مِن أهْلِ خَيْبَرَ تَحَصَّنُوا، فَسَألُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: أنْ يَحْقِنَ دِماءَهم، ويُسَيِّرَهم، فَفَعَلَ، فَسَمِعَ بِذَلِكَ أهْلُ فَدَكَ، فَنَزَلُوا عَلى مِثْلِ ذَلِكَ، فَكانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ خاصَّةً؛ لِأنَّها لَمْ يُوجَفْ عَلَيْها بِخَيْلٍ ولا رِكابٍ» .
حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى بْنِ فارِسٍ، ثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ جُوَيْرِيَةَ، عَنْ مالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أنَّ سَعِيدَ بْنَ المُسَيَّبِ أخْبَرَهُ:
«أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، افْتَتَحَ بَعْضَ خَيْبَرَ عَنْوَةً» .
قالَ أبُو داوُدَ: وقُرِئَ عَلى الحارِثِ بْنِ مِسْكِينٍ، وأنا شاهِدٌ، أخْبَرَهُمُ ابْنُ وهْبٍ، قالَ: حَدَّثَنِي مالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهابٍ: أنَّ خَيْبَرَ كانَ بَعْضُها عَنْوَةً، وبَعْضُها صُلْحًا، والكُتَيْبَةُ أكْثَرُها عَنْوَةً، وفِيها صُلْحٌ؛ قُلْتُ لِمالِكٍ: وما الكُتَيْبَةُ ؟ قالَ: أرْضُ خَيْبَرَ، وهي أرْبَعُونَ ألْفَ عَذْقٍ.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: وهَذا الَّذِي ذَكَرْنا: يَقْدَحُ في الِاحْتِجاجِ لِتَخْيِيرِ الإمامِ في القَسْمِ، والوَقْفِيَّةُ بِقَضِيَّةِ خَيْبَرَ كَما تَرى وحُجَّةُ قَوْلِ مالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ومَن وافَقَهُ في أنَّ أرْضَ العَدُوِّ المَفْتُوحَةَ عَنْوَةً تَكُونُ وقْفًا لِلْمُسْلِمِينَ، بِمُجَرَّدِ الِاسْتِيلاءِ عَلَيْها - أُمُورٌ:
مِنها: قَوْلُهُ ﷺ الثّابِتُ في ”صَحِيحِ مُسْلِمٍ“ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
«مُنِعَتِ العِراقُ دِرْهَمَها وقَفِيزَها، ومُنِعَتِ الشّامُ مُدْيَها ودِينارَها، ومُنِعَتْ مِصْرُ إرْدَبَّها ودِينارَها، وعُدْتُمْ مِن حَيْثُ بَدَأْتُمْ، وعُدْتُمْ مِن حَيْثُ بَدَأْتُمْ، وعُدْتُمْ مِن حَيْثُ بَدَأْتُمْ، شَهِدَ عَلى ذَلِكَ، لَحْمُ أبِي هُرَيْرَةَ ودَمُهُ» .
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلالِ عِنْدَهم بِالحَدِيثِ: أنَّ: ”مُنِعَتِ العِراقُ. . . إلَخْ“ بِمَعْنى سَتُمْنَعُ؛ وعَبَّرَ بِالماضِي إيذانًا بِتَحَقُّقِ الوُقُوعِ، كَقَوْلِهِ تَعالى:
﴿وَنُفِخَ في الصُّورِ﴾ الآيَةَ
[الكهف: ٩٩] و
[يس: ٥١] و [الزمر:، ٦٨ ] [ ٥٠ \ ٢٠]، وقَوْلِهِ:
﴿أتى أمْرُ اللَّهِ﴾ الآيَةَ
[النحل: ١] .
قالُوا: فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّها لا تَكُونُ لِلْغانِمِينَ؛ لِأنَّ ما مَلَكَهُ الغانِمُونَ لا يَكُونُ فِيهِ قَفِيزٌ ولا دِرْهَمٌ، ولِحَدِيثِ مُسْلِمٍ هَذا شاهِدٌ مِن حَدِيثِ جابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ أيْضًا، ومِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ أيْضًا عِنْدَ البُخارِيِّ.
وَقالَ ابْنُ حَجَرٍ في ”فَتْحِ البارِيِّ“ في كِتابِ ”فَرْضِ الخُمُسِ“ ما نَصُّهُ: وذَكَرَ ابْنُ حَزْمٍ: أنَّ بَعْضَ المالِكِيَّةِ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ في حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ: ”مُنِعَتِ العِراقُ دِرْهَمَها“ الحَدِيثَ عَلى أنَّ الأرْضَ المَغْنُومَةَ: لا تُباعُ، ولا تُقَسَّمُ، وأنَّ المُرادَ بِالمَنعِ: مَنعُ الخَراجِ، ورَدُّهُ بِأنَّ الحَدِيثَ ورَدَ في الإنْذارِ بِما يَكُونُ مِن سُوءِ العاقِبَةِ، وأنَّ المُسْلِمِينَ سَيُمْنَعُونَ حُقُوقَهم في آخِرِ الأمْرِ، وكَذَلِكَ وقَعَ.
واحْتَجُّوا أيْضًا بِما ثَبَتَ في الصَّحِيحِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: ”لَوْلا آخِرُ المُسْلِمِينَ ما فُتِحَتْ قَرْيَةٌ إلّا قَسَمْتُها بَيْنَ أهْلِها، كَما قَسَّمَ النَّبِيُّ ﷺ خَيْبَرَ“ .
وَفِي لَفْظٍ في الصَّحِيحِ عَنْ عُمَرَ: ”أما والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلا أنْ أتْرُكَ آخِرَ النّاسِ بَبّانًا لَيْسَ لَهم شَيْءٌ ما فُتِحَتْ عَلَيَّ قَرْيَةٌ إلّا قَسَمْتُها، كَما قَسَمَ النَّبِيُّ ﷺ خَيْبَرَ، ولَكِنِّي أتْرُكُها خِزانَةً لَهم يَقْتَسِمُونَها“ .
واحْتَجَّ أهْلُ هَذا القَوْلِ أيْضًا: بِأنَّ الأرْضَ المَغْنُومَةَ لَوْ كانَتْ تُقَسَّمُ، لَمْ يَبْقَ لِمَن جاءَ بَعْدَ الغانِمِينَ شَيْءٌ، واللَّهُ أثْبَتَ لِمَن جاءَ بَعْدَهم شَرِكَةً بِقَوْلِهِ:
﴿والَّذِينَ جاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا اغْفِرْ لَنا﴾ الآيَةَ
[الحشر: ١٠]، فَإنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ:
﴿لِلْفُقَراءِ المُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا﴾ [الحشر: ٨]، وقَوْلِهِ:
﴿والَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدّارَ والإيمانَ﴾ [الحشر: ٩]، وقَوْلُ مَن قالَ: إنَّ قَوْلَهُ تَعالى:
﴿والَّذِينَ جاءُوا مِن بَعْدِهِمْ﴾، مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ: يَقُولُونَ، غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأنَّهُ يَقْتَضِي أنَّهُ تَعالى أخْبَرَ بِأنَّ كُلَّ مَن يَأْتِي بَعْدَهم يَقُولُ:
﴿رَبَّنا اغْفِرْ لَنا ولِإخْوانِنا﴾ الآيَةَ.
والواقِعُ خِلافُهُ؛ لِأنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ جاءَ بَعْدَهم يَسُبُّونَ الصَّحابَةَ ويَلْعَنُونَهم، والحَقُّ أنَّ قَوْلَهُ:
﴿والَّذِينَ جاءُوا﴾، مَعْطُوفٌ عَلى ما قَبْلَهُ، وجُمْلَةَ يَقُولُونَ، حالٌ كَما تَقَدَّمَ في ”آلِ عِمْرانَ“، وهي قَيْدٌ لِعامِلِها وصْفٌ لِصاحِبِها.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: هَذِهِ الأدِلَّةُ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِها المالِكِيَّةُ، لا تَنْهَضُ فِيما يَظْهَرُ؛ لِأنَّ الأحادِيثَ المَذْكُورَةَ لا يَتَعَيَّنُ وجْهُ الدَّلالَةِ فِيها؛ لِأنَّهُ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الإمامُ مُخَيَّرًا، فاخْتارَ إبْقاءَها لِلْمُسْلِمِينَ، ولَمْ يَكُنْ واجِبًا في أوَّلِ الأمْرِ، كَما قَدَّمْنا.
والِاسْتِدْلالُ بِآيَةِ الحَشْرِ المَذْكُورَةِ واضِحُ السُّقُوطِ؛ لِأنَّها في الفَيْءِ، والكَلامُ في الغَنِيمَةِ، والفَرْقُ بَيْنَهُما مَعْلُومٌ كَما قَدَّمْنا.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: أظْهَرُ الأقْوالِ دَلِيلًا أنَّ الإمامَ مُخَيَّرٌ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ كَلامُ عُمَرَ في الأثَرِ المارِّ آنِفًا، وبِهِ تَنْتَظِمُ الأدِلَّةُ، ولَمْ يَكُنْ بَيْنَها تَعارُضٌ، والجَمْعُ واجِبٌ مَتى ما أمْكَنَ.
وَغايَةُ ما في البابِ: أنْ تَكُونَ السُّنَّةُ دَلَّتْ عَلى تَخْصِيصٍ واقِعٍ في عُمُومِ قَوْلِهِ تَعالى:
﴿واعْلَمُوا أنَّما غَنِمْتُمْ مِن شَيْءٍ﴾ الآيَةَ.
وَتَخْصِيصُ الكِتابِ بِالسُّنَّةِ كَثِيرٌ.
قالَ القُرْطُبِيُّ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِها، بَعْدَ أنْ ذَكَرَ القَوْلَ بِالتَّخْيِيرِ، ما نَصُّهُ: " قالَ شَيْخُنا أبُو العَبّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وكَأنَّ هَذا جَمْعٌ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ، ووَسَطٌ بَيْنَ المَذْهَبَيْنِ، وهو الَّذِي فَهِمَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَطْعًا.
وَلِذَلِكَ قالَ: ”لَوْلا آخِرُ النّاسِ“، فَلَمْ يُخْبِرْ بِنَسْخِ فِعْلِ النَّبِيِّ ﷺ؛ ولا بِتَخْصِيصِهِ بِهِمْ.
فَإنْ قِيلَ: لا تَعارُضَ بَيْنَ الأدِلَّةِ عَلى مَذْهَبِ الشّافِعِيِّ؛ لِأنَّ ما وقَعَ فِيهِ القَسْمُ مِن خَيْبَرَ مَأْخُوذٌ عَنْوَةً، وما لَمْ يُقَسَّمْ مِنها مَأْخُوذٌ صُلْحًا، والنَّضِيرُ فَيْءٌ، وقُرَيْظَةُ قُسِّمَتْ.
وَلَوْ قالَ قائِلٌ: إنَّها فَيْءٌ أيْضًا؛ لِنُزُولِهِمْ عَلى حُكْمِ النَّبِيِّ ﷺ، قَبْلَ أنْ يُحَكِّمَ فِيهِمْ سَعْدًا، لَكانَ غَيْرَ بَعِيدٍ، ولَكِنْ يَرُدُّهُ: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَمَّسَها، كَما قالَهُ مالِكٌ، وغَيْرُهُ.
وَمَكَّةُ مَأْخُوذَةٌ صُلْحًا؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ ﷺ:
«مَن دَخَلَ دارَ أبِي سُفْيانَ فَهو آمِنٌ، ومَن ألْقى السِّلاحَ فَهو آمِنٌ، ومَن أغْلَقَ بابَهُ فَهو آمِنٌ» .
هَذا ثابِتٌ في صَحِيحِ مُسْلِمٍ.
فالجَوابُ: أنَّ التَّحْقِيقَ أنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً، ولِذَلِكَ أدِلَّةٌ واضِحَةٌ.
مِنها: أنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ أحَدٌ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ صالَحَ أهْلَها زَمَنَ الفَتْحِ، ولا جاءَهُ أحَدٌ مِنهم فَصالَحَهُ عَلى البَلَدِ، وإنَّما جاءَهُ أبُو سُفْيانَ فَأعْطاهُ الأمانَ لِمَن دَخَلَ دارَهُ، أوْ أغْلَقَ بابَهُ، أوْ دَخَلَ المَسْجِدَ، أوْ ألْقى سِلاحَهُ.
وَلَوْ كانَتْ قَدْ فُتِحَتْ صُلْحًا لَمْ يَقُلْ:
«مَن دَخَلَ دارَهُ، أوْ أغْلَقَ بابَهُ، أوْ دَخَلَ المَسْجِدَ - فَهو آمِنٌ»، فَإنَّ الصُّلْحَ يَقْتَضِي الأمانَ العامَّ.
وَمِنها: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ:
«إنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الفِيلَ، وسَلَّطَ عَلَيْها رَسُولَهُ والمُؤْمِنِينَ، وإنَّهُ أذِنَ لِي فِيها ساعَةً مِن نَهارٍ» .
وَفِي لَفْظِ:
«إنَّها لَمْ تَحِلَّ لِأحَدٍ قَبْلِي، ولا تَحِلُّ لِأحَدٍ بَعْدِي، وإنَّما أُحِلَّتْ لِي ساعَةً مِن نَهارٍ» .
وَفِي لَفْظٍ:
«فَإنْ أحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتالِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقُولُوا: إنَّ اللَّهَ أذِنَ لِرَسُولِهِ، ولَمْ يَأْذَنْ لَكم، وإنَّما أذِنَ لِي ساعَةً مِن نَهارٍ، وقَدْ عادَتْ حُرْمَتُها اليَوْمَ كَحُرْمَتِها بِالأمْسِ»، وهَذا صَرِيحٌ في أنَّها فُتِحْتَ عَنْوَةً.
وَمِنها: أنَّهُ ثَبَتَ في الصَّحِيحِ،
«أنَّهُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ جَعَلَ خالِدَ بْنَ الوَلِيدِ عَلى المُجَنِّبَةِ اليُمْنى، وجَعَلَ الزُّبَيْرَ عَلى المُجَنِّبَةِ اليُسْرى، وجَعَلَ أبا عُبَيْدَةَ عَلى الحُسَّرِ، فَأخَذُوا بَطْنَ الوادِي، ثُمَّ قالَ: ”يا أبا هُرَيْرَةَ اهْتِفْ لِي بِالأنْصارِ“، فَجاءُوا يُهَرْوِلُونَ، فَقالَ: ”يا مَعْشَرَ الأنْصارِ، هَلْ تَرَوْنَ إلى أوْباشِ قُرَيْشٍ ؟“ قالُوا: نَعَمْ، قالَ: ”انْظُرُوا إذا لَقِيتُوهم غَدًا أنْ تَحْصِدُوهم حَصْدًا“، وأخْفى بِيَدِهِ، ووَضَعَ يَمِينَهُ عَلى شِمالِهِ، وقالَ: ”مَوْعِدُكُمُ الصَّفا“، وجاءَتِ الأنْصارُ، فَأطافُوا بِالصَّفا، قالَ: فَما أشْرَفَ يَوْمَئِذٍ لَهم أحَدٌ إلّا أنامُوهُ، وصَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الصَّفا، وجاءَتِ الأنْصارُ، فَأطافُوا بِالصَّفا، فَجاءَ أبُو سُفْيانَ، فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ أُبِيدَتْ خَضْراءُ قُرَيْشٍ، لا قُرَيْشَ بَعْدَ اليَوْمِ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: " مَن دَخَلَ دارَ أبِي سُفْيانَ فَهو آمِنٌ، ومَن ألْقى السِّلاحَ فَهو آمِنٌ، ومَن أغْلَقَ بابَهُ فَهو آمِنٌ» .
أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ في ”صَحِيحِهِ“ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ.
وَذَكَرَ أهْلُ المَغازِي تَفْصِيلَ ما أُجْمِلَ في حَدِيثِ مُسْلِمٍ هَذا، فَبَيَّنُوا أنَّهُ قُتِلَ مِنَ الكُفّارِ اثْنا عَشَرَ، وقِيلَ: قُتِلَ مِن قُرَيْشٍ أرْبَعَةٌ وعِشْرُونَ، ومِن هُذَيْلٍ أرْبَعَةٌ، وقُتِلَ يَوْمَئِذٍ مِنَ المُسْلِمِينَ ثَلاثَةٌ، وهم سَلَمَةُ بْنُ المُيَلاءِ الجُهَنِيُّ، وكُرْزُ بْنُ جابِرٍ المُحارِبِيُّ نِسْبَةً إلى مُحارِبِ بْنِ فِهْرٍ، وخُنَيْسُ بْنُ خالِدٍ الخُزاعِيُّ، أخُو أُمِّ مَعْبَدٍ، وقالَ كُرْزٌ قَبْلَ أنْ يُقْتَلَ في دِفاعِهِ عَنْ خُنَيْسٍ: [ الرَّجَزُ ]
قَدْ عَلِمَتْ بَيْضاءُ مِن بَنِي فِهْرِ ∗∗∗ نَقِيَّةُ اللَّوْنِ نَقِيَّةُ الصَّدْرِ ∗∗∗ لَأضْرِبَنَّ اليَوْمَ عَنْ أبِي صَخْرِ
وَفِيهِ نَقْلُ الحَرَكَةِ في الوَقْفِ، ورَجَزُ حَماسِ بْنِ قَيْسٍ المَشْهُورِ يَدُلُّ عَلى القِتالِ يَوْمَ الفَتْحِ، وذَكَرَهُ الشِّنْقِيطِيُّ في مَغازِيهِ بِقَوْلِهِ: [ الرَّجَزُ ]
وَزَعَمَ ابْنُ قَيْسٍ أنْ سَيَحْفِدا ∗∗∗ نِساءَهم خِلْتَهُ وأنْشَدا ∗∗∗ إنْ يُقْبِلُوا اليَوْمَ فَمالِيَ عِلَّهْ ∗∗∗ هَذا سِلاحٌ كامِلٌ وألَّهْ ∗∗∗ وَذُو غِرارَيْنِ سَرِيعُ السَّلَّهْ ∗∗∗ وَشَهِدَ المَأْزَقَ فِيهِ حُطَما ∗∗∗ مُرَبَّبٌ مِن قَوْمِهِ فانْهَزَما ∗∗∗ وَجاءَ فاسْتَغْلَقَ بابَها البَتُولْ ∗∗∗ فاسْتَفْهَمَتْهُ أيْنَما كُنْتَ تَقُولْ ∗∗∗ فَقالَ والفَزَعُ زَعْفَرَ دَمَهْ ∗∗∗ إنَّكَ لَوْ شَهِدْتَ يَوْمَ الخَنْدَمَهْ ∗∗∗ إذْ فَرَّ صَفْوانُ وفَرَّ عِكْرِمَهْ ∗∗∗ وَبُو يَزِيدَ قائِمٌ كالمُؤْتَمَهْ ∗∗∗ واسْتَقْبَلَتْنا بِالسُّيُوفِ المُسْلِمَهْ ∗∗∗ لَهم نَهِيتٌ خَلْفَنا وهَمْهَمَهْ ∗∗∗ يَقْطَعْنَ كُلَّ ساعِدٍ وجُمْجُمَهْ ∗∗∗ ضَرْبًا فَلا تَسْمَعُ إلّا غَمْغَمَهْ ∗∗∗ لَمْ تَنْطِقِي بِاللَّوْمِ أدْنى كَلِمَهْ
وَهَذا الرَّجَزُ صَرِيحٌ في وُقُوعِ القِتالِ والقَتْلِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، ومِصْداقُهُ في الصَّحِيحِ كَما تَقَدَّمَ.
وَمِنها أيْضًا: أنَّ أُمَّ هانِئٍ، بِنْتَ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أجارَتْ رَجُلًا، فَأرادَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَتْلَهُ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«قَدْ أجَرْنا مَن أجَرْتِ يا أُمَّ هانِئٍ»، وفي لَفْظٍ عَنْها:
«لَمّا كانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ، أجَرْتُ رَجُلَيْنِ مِن أحْمائِي، فَأدْخَلْتُهُما بَيْتًا، وأغْلَقْتُ عَلَيْهِما بابًا، فَجاءَ ابْنُ أُمِّي عَلَيَّ، فَتَفَلْتُ عَلَيْهِما بِالسَّيْفِ» فَذَكَرْتُ حَدِيثَ الأمانِ وقَوْلَ النَّبِيِّ ﷺ:
«قَدْ أجَرْنا مَن أجَرْتِ يا أُمَّ هانِئٍ»، وذَلِكَ ضُحًى بِبَطْنِ مَكَّةَ بَعْدَ الفَتْحِ، وقِصَّتُها ثابِتَةٌ في الصَّحِيحِ.
فَإجارَتُها لَهُ، وإرادَةُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَتْلَهُ، وإمْضاءُ النَّبِيِّ ﷺ إجارَتَها - صَرِيحٌ في أنَّها فُتِحْتَ عَنْوَةً.
وَمِنها: أنَّهُ ﷺ، أمَرَ بِقَتْلِ مِقْيَسِ بْنِ صُبابَةَ، وابْنِ خَطَلٍ، وجارِيَتَيْنِ.
وَلَوْ كانَتْ فُتِحَتْ صُلْحًا، لَمْ يُؤْمَرْ بِقَتْلِ أحَدٍ مِن أهْلِها، ولَكانَ ذِكْرُ هَؤُلاءِ مُسْتَثْنًى مِن عَقْدِ الصُّلْحِ.
وَأمْرُهُ ﷺ بِقَتْلِ مَن ذَكَرَ، ثابِتٌ عَنْهُ ﷺ . \ ٥ وفي السُّنَنِ بِإسْنادٍ صَحِيحٍ:
«أنَّ النَّبِيَّ ﷺ، لَمّا كانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ، قالَ: أمِّنُوا النّاسَ إلّا امْرَأتَيْنِ وأرْبَعَةَ نَفَرٍ؛ اقْتُلُوهم وإنْ وجَدْتُمُوهم مُتَعَلِّقِينَ بِأسْتارِ الكَعْبَةِ»، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأدِلَّةِ.
فَهَذِهِ أدِلَّةٌ واضِحَةٌ عَلى أنَّ مَكَّةَ - حَرَسَها اللَّهُ - فُتِحَتْ عَنْوَةً.
وَكَوْنُها فُتِحَتْ عَنْوَةً: يَقْدَحُ فِيما ذَهَبَ إلَيْهِ الشّافِعِيُّ مِن وُجُوبِ قَسْمِ الأرْضِ المَغْنُومَةِ عَنْوَةً.
فالَّذِي يَتَّفِقُ عَلَيْهِ جَمِيعُ الأدِلَّةِ، ولا يَكُونُ بَيْنَها أيُّ تَعارُضٍ: هو ما قَدَّمْنا مِنَ القَوْلِ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ قَسْمِ الأرْضِ، وإبْقائِها لِلْمُسْلِمِينَ، مَعَ ما قَدَّمْنا مِنَ الحُجَجِ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
وَإذا عَرَفْتَ أنَّ التَّحْقِيقَ أنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً، فاعْلَمْ أنَّ العُلَماءَ اخْتَلَفُوا في رِباعِ مَكَّةَ: هَلْ يَجُوزُ تَمَلُّكُها، وبَيْعُها، وإيجارُها ؟ عَلى ثَلاثَةِ أقْوالٍ:
أحَدُها: أنَّهُ لا يَجُوزُ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ، وبِهِ قالَ أبُو حَنِيفَةَ، والأوْزاعِيُّ، والثَّوْرِيُّ، ومُجاهِدٌ، وعَطاءٌ، وطاوُسٌ، وإبْراهِيمُ، والحَسَنُ، وإسْحاقُ. وغَيْرُهم.
وَكَرِهَهُ مالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَأجازَ جَمِيعَ ذَلِكَ الشّافِعِيُّ، وأبُو يُوسُفَ.
وَبِهِ قالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وجَماعَةٌ مِنَ الصَّحابَةِ ومَن بَعْدَهم.
وَتَوَسَّطَ الإمامُ أحْمَدُ، فَقالَ: تُمَلَّكُ، وتُوَرَّثُ، ولا تُؤَجَّرُ، ولا تُباعُ، عَلى إحْدى الرِّوايَتَيْنِ، جَمْعًا بَيْنَ الأدِلَّةِ، والرِّوايَةُ الثّانِيَةِ كَمَذْهَبِ الشّافِعِيِّ.
* * *وَهَذِهِ المَسْألَةُ: تَناظَرَ فِيها الإمامُ الشّافِعِيُّ، وإسْحاقُ بْنُ راهَوَيْهِ في مَسْجِدِ الخَيْفِ، والإمامُ أحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ حاضِرٌ، فَأسْكَتَ الشّافِعِيُّ إسْحاقَ بِالأدِلَّةِ، بَعْدَ أنْ قالَ لَهُ: ما أحْوَجَنِي أنْ يَكُونَ غَيْرُكَ في مَوْضِعِكَ، فَكُنْتُ آمُرُ بِفَرْكِ أُذُنَيْهِ، أنا أقُولُ لَكَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وأنْتَ تَقُولُ: قالَ طاوُسٌ، والحَسَنُ، وإبْراهِيمُ، وهَلْ لِأحَدٍ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ حُجَّةٌ ؟ في كَلامٍ طَوِيلٍ.
وَنَحْنُ نَذْكُرُ إنْ شاءَ اللَّهُ أدِلَّةَ الجَمِيعِ، وما يَقْتَضِي الدَّلِيلُ رُجْحانَهُ مِنها.
فَحُجَّةُ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ومَن وافَقَهُ بِأُمُورٍ:
الأوَّلُ: حَدِيثُ أُسامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ لَمّا سَألَهُ:
«أيْنَ تَنْزِلُ غَدًا ؟ فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: ”وَهَلْ تَرَكَ لَنا عَقِيلٌ مِن رِباعٍ أوْ دُورٍ ؟»“، وفي بَعْضِ الرِّواياتِ ”مِن مَنزِلٍ“، وفي بَعْضِها ”مَنزِلًا“، أخْرَجَ هَذا الحَدِيثَ البُخارِيُّ في كِتابِ ”الحَجِّ“ في بابِ ”تَوْرِيثِ دُورِ مَكَّةَ، وشِرائِها“ إلَخْ، وفي كِتابِ ”المَغازِي“ في غَزْوَةِ الفَتْحِ في رَمَضانَ في بابِ: ”أيْنَ رَكَزَ النَّبِيُّ ﷺ الرّايَةَ يَوْمَ الفَتْحِ“، وفي كِتابِ ”الجِهادِ“ في بابِ: ”إذا أسْلَمَ قَوْمٌ في دارِ الحَرْبِ، ولَهم مالٌ وأرْضُونَ فَهي لَهم“، وأخْرَجَهُ مُسْلِمٌ في كِتابِ ”الحَجِّ“ في بابِ: ”النُّزُولِ بِمَكَّةَ لِلْحاجِّ وتَوْرِيثِ دُورِها“، بِثَلاثِ رِواياتٍ هي مِثْلُ رِواياتِ البُخارِيِّ.
فَقَوْلُهُ ﷺ في هَذا الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيْهِ:
«وَهَلْ تَرَكَ لَنا عَقِيلٌ مِن رِباعٍ»، صَرِيحٌ في إمْضائِهِ ﷺ بَيْعَ عَقِيلِ بْنِ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تِلْكَ الرِّباعَ.
وَلَوْ كانَ بَيْعُها، وتَمَلُّكُها لا يَصِحُّ لَما أقَرَّهُ النَّبِيُّ ﷺ؛ لِأنَّهُ لا يُقِرُّ عَلى باطِلٍ بِإجْماعِ المُسْلِمِينَ.
الثّانِي: أنَّ اللَّهَ تَبارَكَ وتَعالى أضافَ لِلْمُهاجِرِينَ مِن مَكَّةَ دِيارَهم، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّها مِلْكُهم في قَوْلِهِ:
﴿لِلْفُقَراءِ المُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ﴾ [الحشر: ٨] .
قالَ النَّوَوِيُّ في ”شَرْحِ المُهَذَّبِ“: فَإنْ قِيلَ: قَدْ تَكُونُ الإضافَةُ لِلْيَدِ والسُّكْنى، لِقَوْلِهِ تَعالى:
﴿وَقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ﴾ [الأحزاب: ٣٣] .
فالجَوابُ: أنَّ حَقِيقَةَ الإضافَةِ تَقْتَضِي المِلْكَ، ولِذَلِكَ لَوْ قالَ: هَذِهِ الدّارُ لِزَيْدٍ حَكَمَ بِمِلْكِها لِزَيْدٍ، ولَوْ قالَ: أرَدْتُ بِهِ السُّكْنى واليَدَ، لَمْ يُقْبَلْ.
وَنَظِيرُ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: ما احْتُجَّ بِهِ أيْضًا مِنَ الإضافَةِ في قَوْلِهِ:
«مَن دَخَلَ دارَ أبِي سُفْيانَ فَهو آمِنٌ» الحَدِيثَ. وقَدْ قَدَّمْنا أنَّهُ في ”صَحِيحِ مُسْلِمٍ“ .
الثّالِثُ: الأثَرُ المَشْهُورُ في سُنَنِ البَيْهَقِيِّ وغَيْرِهِ: ”أنَّ نافِعَ بْنَ الحارِثِ، اشْتَرى مِن صَفْوانَ بْنِ أُمَيَّةَ، دارَ السِّجْنِ لِعُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بِأرْبَعِمِائَةٍ“، وفي رِوايَةٍ: ”بِأرْبَعَةِ آلافٍ“، ولَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ أحَدٌ مِنَ الصَّحابَةِ.
وَرَوى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكّارٍ والبَيْهَقِيُّ: أنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، باعَ دارَ النَّدْوَةِ بِمَكَّةَ مِن مُعاوِيَةَ بْنِ أبِي سُفْيانَ بِمِائَةِ ألْفٍ، فَقالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: يا أبا خالِدٍ بِعْتَ مَأْثَرَةَ قُرَيْشٍ وكَرِيمَتَها، فَقالَ: هَيْهاتَ ذَهَبَتِ المَكارِمُ فَلا مَكْرُمَةَ اليَوْمَ إلّا الإسْلامُ، فَقالَ: اشْهَدُوا أنَّها في سَبِيلِ اللَّهِ تَعالى؛ يَعْنِي الدَّراهِمَ الَّتِي باعَها بِها.
وَعَقَدَهُ الشَّيْخُ أحْمَدُ البَدَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ في نَظْمِهِ عَمُودِ النَّسَبِ بِقَوْلِهِ يَعْنِي قُصَيًّا: [ الرَّجَزُ ]
واتَّخَذَ النَّدْوَةَ لا يُخْتَرَعُ ∗∗∗ فِي غَيْرِها أمْرٌ ولا تُدَّرَعُ ∗∗∗ جارِيَةٌ أوْ يُعْذَرُ الغُلامُ ∗∗∗ إلّا بِأمْرِهِ بِها يُرامُ ∗∗∗ وَباعَها بَعْدُ حَكِيمُ بْنُ حِزامْ ∗∗∗ وَأنَّبُوهُ وتَصَدَّقَ الهُمامْ ∗∗∗ سَيِّدُ نادِيهِ بِكُلِّ الثَّمَنِ ∗∗∗ إذِ العُلى بِالدِّينِ لا بِالدِّمَنِ
الرّابِعُ: أنَّها فُتِحَتْ صُلْحًا، فَبَقِيَتْ عَلى مِلْكِ أهْلِها، وقَدْ قَدَّمْنا ضَعْفَ هَذا الوَجْهِ.
الخامِسُ: القِياسُ؛ لِأنَّ أرْضَ مَكَّةَ أرْضٌ حَيَّةٌ لَيْسَتْ مَوْقُوفَةً، فَيَجُوزُ بَيْعُها قِياسًا عَلى غَيْرِها مِنَ الأرْضِ.
واحْتَجَّ مَن قالَ: بِأنَّ رِباعَ مَكَّةَ لا تُمَلَّكُ ولا تُباعُ بِأدِلَّةٍ:
مِنها قَوْلُهُ تَعالى:
﴿والمَسْجِدِ الحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنّاسِ سَواءً العاكِفُ فِيهِ والبادِي﴾ [الحج: ٢٥]، قالُوا: والمُرادُ بِالمَسْجِدِ: جَمِيعُ الحَرَمِ كُلِّهِ لِكَثْرَةِ إطْلاقِهِ عَلَيْهِ في النُّصُوصِ،
• كَقَوْلِهِ:
﴿سُبْحانَ الَّذِي أسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ الآيَةَ
[الإسراء: ١]،
• وقَوْلِهِ:
﴿إلّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ الآيَةَ
[التوبة: ٧]،
• وقَوْلِهِ:
﴿هَدْيًا بالِغَ الكَعْبَةِ﴾ [المائدة: ٩٥]،
مَعَ أنَّ المَنحَرَ الأكْبَرَ مِنَ الحَرَمِ ”مِنًى“ .
وَمِنها قَوْلُهُ تَعالى:
﴿إنَّما أُمِرْتُ أنْ أعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ البَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها﴾ [النمل: ٩١] قالُوا: والمُحَرَّمُ لا يَجُوزُ بَيْعُهُ.
وَمِنها: ما أخْرَجَهُ البَيْهَقِيُّ مِن طَرِيقِ إسْماعِيلَ بْنِ إبْراهِيمَ بْنِ مُهاجِرٍ، عَنْ أبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ باباهُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«مَكَّةُ مُناخٌ لا تُباعُ رِباعُها، ولا تُؤاجَرُ بُيُوتُها» .
وَمِنها: ما رَواهُ أبُو حَنِيفَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي زِيادٍ، عَنْ أبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قالَ: قالَ النَّبِيُّ ﷺ:
«مَكَّةُ حَرامٌ، وحَرامٌ بَيْعُ رِباعِها، وحَرامٌ أجْرُ بُيُوتِها» .
وَمِنها ما رُوِيَ عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أنَّها قالَتْ: قُلْتُ:
«يا رَسُولَ اللَّهِ ألا نَبْنِي لَكَ بَيْتًا أوْ بِناءً يُظِلُّكَ مِنَ الشَّمْسِ ؟ قالَ: ”لا، إنَّما هو مُناخُ مَن سَبَقَ إلَيْهِ»“، أخْرَجَهُ أبُو داوُدَ.
وَمِنها: ما رَواهُ البَيْهَقِيُّ، وابْنُ ماجَهْ، عَنْ عُثْمانَ بْنِ أبِي سُلَيْمانَ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ نَضْلَةَ الكِنانِيِّ، قالَ:
«كانَتْ بُيُوتُ مَكَّةَ تُدْعى السَّوائِبَ، لَمْ تُبَعْ رِباعُها في زَمانِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ولا أبِي بَكْرٍ، ولا عُمَرَ، مَنِ احْتاجَ سَكَنَ، ومَنِ اسْتَغْنى أسْكَنَ» .
وَمِنها: ما رُوِيَ عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ، قالَ:
«مِنًى مُناخٌ لِمَن سَبَقَ» .
قالَ النَّوَوِيُّ في ”شَرْحِ المُهَذَّبِ“ في الجَنائِزِ، في ”بابِ الدَّفْنِ“ في هَذا الحَدِيثِ، رَواهُ أبُو مُحَمَّدٍ الدّارِمِيُّ، وأبُو داوُدَ، والتِّرْمِذِيُّ، وابْنُ ماجَهْ، وغَيْرُهم، بِأسانِيدَ جَيِّدَةٍ مِن رِوايَةِ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها.
قالَ التِّرْمِذِيُّ: هو حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَذَكَرَ في البُيُوعِ، في الكَلامِ عَلى بَيْعِ دُورِ مَكَّةَ، وغَيْرِها مِن أرْضِ الحَرَمِ: أنَّ هَذا الحَدِيثَ صَحِيحٌ.
وَمِنها: ما رَواهُ عَبْدُ الرَّزّاقِ بْنُ مُجاهِدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قالَ: كانَ عَطاءٌ يَنْهى عَنِ الكِراءِ في الحَرَمِ، وأخْبَرَنِي أنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ، كانَ يَنْهى عَنْ تَبْوِيبِ دُورِ مَكَّةَ لِأنْ يَنْزِلَ الحاجُّ في عَرَصاتِها، فَكانَ أوَّلَ مَن بَوَّبَ دارَهُ، سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، فَأرْسَلَ إلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ في ذَلِكَ، فَقالَ: أنْظِرْنِي يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ إنِّي كُنْتُ امْرَءًا تاجِرًا، فَأرَدْتُ أنْ أتَّخِذَ بابَيْنِ يَحْبِسانِ لِي ظَهْرِي، فَقالَ: ذَلِكَ لَكَ إذَنْ.
وَقالَ عَبْدُ الرَّزّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ مَنصُورٍ، عَنْ مُجاهِدٍ: أنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ، قالَ: يا أهْلَ مَكَّةَ لا تَتَّخِذُوا لِدُورِكم أبْوابًا، لِيَنْزِلِ البادِي حَيْثُ يَشاءُ. اهـ، قالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ: إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأدِلَّةِ.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: أقْوى الأقْوالِ دَلِيلًا فِيما يَظْهَرُ قَوْلُ الشّافِعِيِّ ومَن وافَقَهُ، لِحَدِيثِ أُسامَةَ بْنِ زَيْدٍ المُتَّفَقِ عَلَيْهِ، كَما قَدَّمْنا، ولِلْأدِلَّةِ الَّتِي قَدَّمْنا غَيْرُهُ، ولِأنَّ جَمِيعَ أهْلِ مَكَّةَ بَقِيَتْ لَهم دِيارُهم بَعْدَ الفَتْحِ يَفْعَلُونَ بِها ما شاءُوا مِن بَيْعٍ، وإجارَةٍ، وغَيْرِ ذَلِكَ.
وَأجابَ أهْلُ هَذا القَوْلِ الصَّحِيحِ عَنْ أدِلَّةِ المُخالِفِينَ؛ فَأجابُوا عَنْ قَوْلِهِ:
﴿سَواءً العاكِفُ فِيهِ والبادِي﴾ [الحج: ٢٥]، بِأنَّ المُرادَ خُصُوصُ المَسْجِدِ دُونَ غَيْرِهِ مِن أرْضِ الحَرَمِ، بِدَلِيلِ التَّصْرِيحِ بِنَفْسِ المَسْجِدِ في قَوْلِهِ:
﴿والمَسْجِدِ الحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنّاسِ سَواءً﴾ الآيَةَ
[الحج: ٢٥]، وعَنْ قَوْلِهِ تَعالى:
﴿هَذِهِ البَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها﴾ [النمل: ٩١]، بِأنَّ المُرادَ: حَرَّمَ صَيْدَها، وشَجَرَها، وخَلاها، والقِتالَ فِيها، كَما بَيَّنَهُ ﷺ في الأحادِيثِ الصَّحِيحَةِ، ولَمْ يَذْكُرْ في شَيْءٍ مِنها مَعَ كَثْرَتِها النَّهْيَ عَنْ بَيْعِ دُورِها، وعَنْ حَدِيثِ إسْماعِيلَ بْنِ إبْراهِيمَ بْنِ مُهاجِرٍ عَنْ أبِيهِ: بِأنَّهُ ضَعِيفٌ، قالَ النَّوَوِيُّ في ”شَرْحِ المُهَذَّبِ“: هو ضَعِيفٌ بِاتِّفاقِ المُحَدِّثِينَ، واتَّفَقُوا عَلى تَضْعِيفِ إسْماعِيلَ، وأبِيهِ إبْراهِيمَ. اهـ.
وَقالَ البَيْهَقِيُّ في السُّنَنِ الكُبْرى: إسْماعِيلُ بْنُ إبْراهِيمَ بْنِ مُهاجِرٍ ضَعِيفٌ، وأبُوهُ غَيْرُ قَوِيٍّ، واخْتُلِفَ عَلَيْهِ فَرُوِيَ عَنْهُ هَكَذا، ورُوِيَ عَنْهُ عَنْ أبِيهِ، عَنْ مُجاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا بِبَعْضِ مَعْناهُ، وعَنْ حَدِيثِ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، بِأنَّهُ مَحْمُولٌ عَلى المَواتِ مِنَ الحَرَمِ.
قالَ النَّوَوِيُّ: وهو ظاهِرُ الحَدِيثِ.
وَعَنْ حَدِيثِ أبِي حَنِيفَةَ: بِأنَّهُ ضَعِيفٌ مِن وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: تَضْعِيفُ إسْنادِهِ بِابْنِ أبِي زِيادٍ المَذْكُورِ فِيهِ.
والثّانِي: أنَّ الصَّوابَ فِيهِ عِنْدَ الحُفّاظِ أنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وقالُوا: رَفْعُهُ وهْمٌ، قالَهُ: الدّارَقُطْنِيُّ، وأبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، والبَيْهَقِيُّ.
وَعَنْ حَدِيثِ عُثْمانَ بْنِ أبِي سُلَيْمانَ بِجَوابَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّهُ مُنْقَطِعٌ، كَما قالَهُ البَيْهَقِيُّ.
الثّانِي: ما قالَ البَيْهَقِيُّ أيْضًا، وجَماعَةٌ مِنَ الشّافِعِيَّةِ، وغَيْرُهم: أنَّ المُرادَ في الحَدِيثِ: الإخْبارُ عَنْ عادَتِهِمُ الكَرِيمَةِ في إسْكانِهِمْ ما اسْتَغْنَوْا عَنْهُ مِن بُيُوتِهِمْ بِالإعارَةِ تَبَرُّعًا، وجُودًا.
وَقَدْ أخْبَرَ مَن كانَ أعْلَمَ بِشَأْنِ مَكَّةَ مِنهُ عَنْ جَرَيانِ الإرْثِ، والبَيْعِ فِيها.
وَعَنْ حَدِيثِ
«مِنًى مُناخُ مَن سَبَقَ»، بِأنَّهُ مَحْمُولٌ عَلى مَواتِها، ومَواضِعِ نُزُولِ الحَجِيجِ مِنها، قالَهُ النَّوَوِيُّ اهـ.
واعْلَمْ أنَّ تَضْعِيفَ البَيْهَقِيِّ لِحَدِيثِ إسْماعِيلَ بْنِ إبْراهِيمَ بْنِ مُهاجِرٍ، وحَدِيثِ عُثْمانَ بْنِ أبِي سُلَيْمانَ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ نَضْلَةَ تَعَقَّبَهُ عَلَيْهِ مُحَشِّيهِ صاحِبُ ”الجَوْهَرِ النَّقِيِّ“، بِما نَصُّهُ: ”ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثًا في سَنَدِهِ إسْماعِيلُ بْنُ إبْراهِيمَ بْنِ مُهاجِرٍ، فَضَعَّفَ إسْماعِيلَ، وقالَ عَنْ أبِيهِ غَيْرُ قَوِيٍّ، ثُمَّ أسْنَدَهُ مِن وجْهٍ آخَرَ، ثُمَّ قالَ: رَفْعُهُ وهْمٌ، والصَّحِيحُ مَوْقُوفٌ، قُلْتُ: أخْرَجَ الحاكِمُ في“ المُسْتَدْرَكِ " هَذا الحَدِيثَ مِنَ الوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُما البَيْهَقِيُّ، ثُمَّ صَحَّحَ الأوَّلَ، وجَعَلَ الثّانِيَ شاهِدًا عَلَيْهِ، ثُمَّ ذَكَرَ البَيْهَقِيُّ في آخِرِهِ حَدِيثًا عَنْ عُثْمانَ بْنِ أبِي سُلَيْمانَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ نَضْلَةَ، ثُمَّ قالَ: هَذا مُنْقَطِعٌ.
قُلْتُ: هَذا الحَدِيثُ أخْرَجَهُ ابْنُ ماجَهْ بِسَنَدٍ عَلى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وأخْرَجَهُ الدّارَقُطْنِيُّ وغَيْرُهُ، وعَلْقَمَةُ هَذا صَحابِيٌّ، كَذا ذَكَرَهُ عُلَماءُ هَذا الشَّأْنِ، وإذا قالَ الصَّحابِيُّ مِثْلَ هَذا الكَلامِ، كانَ مَرْفُوعًا عَلى ما عُرِفَ بِهِ، وفِيهِ تَصْرِيحُ عُثْمانَ بِالسَّماعِ عَنْ عَلْقَمَةَ، فَمِن أيْنَ الِانْقِطاعُ ؟ اهـ كَلامُ صاحِبِ ”الجَوْهَرِ النَّقِيِّ“ .
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: لا يَخْفى سُقُوطُ اعْتِراضِ ابْنِ التُّرْكُمانِيِّ هَذا عَلى الحافِظِ البَيْهَقِيِّ، في تَضْعِيفِهِ الحَدِيثَيْنِ المَذْكُورَيْنِ.
أمّا في الأوَّلِ: فَلِأنَّ تَصْحِيحَ الحاكِمِ رَحِمَهُ اللَّهُ لِحَدِيثٍ ضَعِيفٍ لا يُصَيِّرُهُ صَحِيحًا.
وَكَمْ مِن حَدِيثٍ ضَعِيفٍ صَحَّحَهُ الحاكِمُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وتَساهُلُهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في التَّصْحِيحِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ عُلَماءِ الحَدِيثِ، وإبْراهِيمُ بْنُ مُهاجِرِ بْنِ جابِرٍ البَجَلِيُّ قَدْ يَكُونُ لِلْمُناقَشَةِ في تَضْعِيفِ الحَدِيثِ بِهِ وجْهٌ؛ لِأنَّ بَعْضَ العُلَماءِ بِالرِّجالِ وثَّقَهُ وهو مِن رِجالِ مُسْلِمٍ.
وَقالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ، في ”التَّقْرِيبِ“: ”صَدُوقٌ لَيِّنُ الحِفْظِ“، أمّا ابْنُهُ إسْماعِيلُ فَلَمْ يُخْتَلَفْ في أنَّهُ ضَعِيفٌ، وتَضْعِيفُ الحَدِيثِ بِهِ ظاهِرٌ لا مَطْعَنَ فِيهِ.
وَقالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ في ”التَّقْرِيبِ“: ضَعِيفٌ، فَتَصْحِيحُ هَذا الحَدِيثِ لا وجْهَ لَهُ.
وَأمّا قَوْلُهُ في اعْتِراضِهِ تَضْعِيفَ البَيْهَقِيِّ لِحَدِيثِ الثّانِي، فَمِن أيْنَ الِانْقِطاعُ - فَجَوابُهُ: أنَّ الِانْقِطاعَ مِن حَيْثُ إنَّ عَلْقَمَةَ بْنَ نَضْلَةَ تابِعِيٌّ صَغِيرٌ، وزَعْمُ الشَّيْخِ ابْنِ التُّرْكُمانِيِّ، أنَّهُ صَحابِيٌّ غَيْرُ صَحِيحٍ، وقَدْ قالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ في ”التَّقْرِيبِ“: عَلْقَمَةُ بْنُ نَضْلَةَ - بِفَتْحِ النُّونِ وسُكُونِ المُعْجَمَةِ - المَكِّيُّ كِنانِيٌّ.
وَقِيلَ: كِنْدِيٌّ تابِعِيٌّ صَغِيرٌ مَقْبُولٌ، أخْطَأ مَن عَدَّهُ في الصَّحابَةِ، وإذَنْ فَوَجْهُ انْقِطاعِهِ ظاهِرٌ، فَظَهَرَ أنَّ الصَّوابَ مَعَ الحافِظِ البَيْهَقِيِّ، والنَّوَوِيِّ وغَيْرِهِما في تَضْعِيفِ الحَدِيثَيْنِ المَذْكُورَيْنِ.
وَلا شَكَّ أنَّ مَن تَوَرَّعَ عَنْ بَيْعِ رِباعِ مَكَّةَ، وإيجارِها خُرُوجًا مِنَ الخِلافِ، أنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ؛ لِأنَّ مَنِ اتَّقى الشُّبَهاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأ لِدِينِهِ وعِرْضِهِ.
* * *
* تَنْبِيهٌأجْمَعَ جَمِيعُ المُسْلِمِينَ عَلى أنَّ مَواضِعَ النُّسُكِ مِنَ الحَرَمِ كَمَوْضِعِ السَّعْيِ، ومَوْضِعِ رَمْيِ الجِمارِ حُكْمُها حُكْمُ المَساجِدِ، والمُسْلِمُونَ كُلُّهم سَواءٌ فِيها.
والظّاهِرُ أنَّ ما يَحْتاجُ إلَيْهِ الحَجِيجُ مِن مِنًى، ومُزْدَلِفَةَ كَذَلِكَ، فَلا يَجُوزُ لِأحَدٍ أنْ يُضَيِّقَهُما بِالبِناءِ المَمْلُوكِ حَتّى تَضِيقا بِالحَجِيجِ، ويَبْقى بَعْضُهم لَمْ يَجِدْ مَنزِلًا؛ لِأنَّ المَبِيتَ بِمُزْدَلِفَةَ لَيْلَةَ النَّحْرِ، وبِمِنًى لَيالِيَ أيّامِ التَّشْرِيقِ، مِن مَناسِكِ الحَجِّ.
فَلا يَجُوزُ لِأحَدٍ أنْ يُضَيِّقَ مَحَلِّ المَناسِكِ عَلى المُسْلِمِينَ، حَتّى لا يَبْقى ما يَسَعُ الحَجِيجَ كُلَّهُ، ويَدُلُّ لَهُ حَدِيثُ:
«مِنًى مُناخٌ لِمَن سَبَقَ» كَما تَقَدَّمَ.
* * *المَسْألَةُ الخامِسَةُ: في تَحْقِيقِ المَقامِ فِيما لِلْإمامِ أنْ يَنْفُلَهُ مِنَ الغَنِيمَةِ، وسَنَذْكُرُ أقْوالَ العُلَماءِ في ذَلِكَ، وأدِلَّتَهم، وما يَقْتَضِي الدَّلِيلُ رُجْحانَهُ.
اعْلَمْ أنَّ العُلَماءَ اخْتَلَفُوا في هَذِهِ المَسْألَةِ، كَما أشَرْنا لَهُ في أوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الكَرِيمَةِ، ووَعَدْنا بِإيضاحِهِ هُنا، فَذَهَبَ الإمامُ مالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى أنَّ الإمامَ لا يَجُوزُ لَهُ أنْ يُنَفِّلَ أحَدًا شَيْئًا إلّا مِنَ الخُمُسِ، وهو قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ؛ لِأنَّ الأخْماسَ الأرْبَعَةَ مِلْكٌ لِلْغانِمِينَ المُوجِفِينَ عَلَيْها بِالخَيْلِ والرِّكابِ، هَذا مَشْهُورُ مَذْهَبِهِ، وعَنْهُ قَوْلٌ آخَرُ: أنَّها مِن خُمُسِ الخُمُسِ.
وَوَجْهُ هَذا القَوْلِ: أنَّ أخْماسَ الخُمُسِ الأرْبَعَةِ، غَيْرُ خُمُسِ الرَّسُولِ ﷺ لِمَصارِفَ مُعَيَّنَةٍ في قَوْلِهِ:
﴿وَلِذِي القُرْبى واليَتامى والمَساكِينِ وابْنِ السَّبِيلِ﴾، وأرْبَعَةَ الأخْماسِ الباقِيَةِ مِلْكٌ لِلْغانِمِينَ.
وَأصَحُّ الأقْوالِ عَنِ الشّافِعِيِّ: أنَّ الإمامَ لا يُنَفِّلُ إلّا مِن خُمُسِ الخُمُسِ، ودَلِيلُهُ: ما ذَكَرْنا آنِفًا.
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ أنَّهُ قالَ: لا نَفْلَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، قالَ ابْنُ قُدامَةَ في ”المُغْنِي“: ولَعَلَّهُ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعالى:
﴿يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قُلِ الأنْفالُ لِلَّهِ والرَّسُولِ﴾ وَذَهَبَ الإمامُ أحْمَدُ في طائِفَةٍ مِن أهْلِ العِلْمِ: إلى أنَّ لِلْإمامِ أنْ يُنَفِّلَ الرُّبُعَ بَعْدَ الخُمُسِ في بَدْأتِهِ، والثُّلُثَ بَعْدَ الخُمُسِ في رَجْعَتِهِ.
وَمَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ. أنَّ لِلْإمامِ قَبْلَ إحْرازِ الغَنِيمَةِ أنْ يُنَفِّلَ الرُّبُعَ، أوِ الثُّلُثَ، أوْ أكْثَرَ، أوْ أقَلَّ بَعْدَ الخُمُسِ، وبَعْدَ إحْرازِ الغَنِيمَةِ لا يَجُوزُ لَهُ التَّنْفِيلُ إلّا مِنَ الخُمُسِ.
وَقَدْ قَدَّمْنا جُمْلَةَ الخِلافِ في هَذِهِ المَسْألَةِ في أوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الكَرِيمَةِ، ونَحْنُ الآنُ نَذْكُرُ إنْ شاءَ اللَّهُ ما يَقْتَضِي الدَّلِيلُ رُجْحانَهُ.
اعْلَمْ أوَّلًا: أنَّ التَّنْفِيلَ الَّذِي اقْتَضى الدَّلِيلُ جَوازَهُ أقْسامٌ:
الأوَّلُ: أنْ يَقُولَ الإمامُ لِطائِفَةٍ مِنَ الجَيْشِ: إنْ غَنِمْتُمْ مِنَ الكُفّارِ شَيْئًا، فَلَكم مِنهُ كَذا بَعْدَ إخْراجِ خُمُسِهِ، فَهَذا جائِزٌ، ولَهُ أنْ يُنَفِّلَهم في حالَةِ إقْبالِ جَيْشِ المُسْلِمِينَ إلى الكُفّارِ الرُّبُعَ، وفي حالَةِ رُجُوعِ جَيْشِ المُسْلِمِينَ إلى أوْطانِهِمُ الثُّلُثَ بَعْدَ إخْراجِ الخُمُسِ.
وَمالِكٌ وأصْحابُهُ يَقُولُونَ: إنَّ هَذا لا يَجُوزُ؛ لِأنَّهُ تَسَبَّبَ في إفْسادِ نِيّاتِ المُجاهِدِينَ؛ لِأنَّهم يَصِيرُونَ مُقاتِلِينَ مِن أجْلِ المالِ الَّذِي وعَدَهُمُ الإمامُ تَنْفِيلَهُ.
والدَّلِيلُ عَلى جَوازٍ ذَلِكَ: ما رَواهُ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ مالِكٍ القُرَشِيُّ الفِهْرِيُّ:
«أنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَفَّلَ الرُّبُعَ بَعْدَ الخُمُسِ في بَدْأتِهِ، ونَفَّلَ الثُّلُثَ بَعْدَ الخُمُسِ في رَجْعَتِهِ»، أخْرَجَهُ الإمامُ أحْمَدُ، وأبُو داوُدَ، وابْنُ ماجَهْ، وصَحَّحَهُ ابْنُ حِبّانَ، والحاكِمُ، وابْنُ الجارُودِ.
واعْلَمْ أنَّ التَّحْقِيقَ في حَبِيبٍ المَذْكُورِ: أنَّهُ صَحابِيٌّ، وقالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ في ”التَّقْرِيبِ“: مُخْتَلَفٌ في صُحْبَتِهِ، والرّاجِحُ ثُبُوتُها لَكِنَّهُ كانَ صَغِيرًا، ولَهُ ذِكْرٌ في ”الصَّحِيحِ“، في حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَعَ مُعاوِيَةَ اهـ.
وَقَدْ رَوى عَنْهُ أبُو داوُدَ هَذا الحَدِيثَ مِن ثَلاثَةِ أوْجُهٍ:
مِنها: عَنْ مَكْحُولِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الشّامِيِّ، قالَ: كُنْتُ عَبْدًا بِمِصْرَ لِامْرَأةٍ مِن بَنِي هُذَيْلٍ، فَأعْتَقَتْنِي فَما خَرَجْتُ مِن مِصْرَ وبِها عِلْمٌ إلّا حَوَيْتُ عَلَيْهِ، فِيما أرى، ثُمَّ أتَيْتُ الحِجازَ، فَما خَرَجْتُ مِنها وبِها عِلْمٌ إلّا حَوَيْتُ عَلَيْهِ فِيما أرى، ثُمَّ أتَيْتُ العِراقَ فَما خَرَجْتُ مِنها وبِها عِلْمٌ إلّا حَوَيْتُ عَلَيْهِ فِيما أرى، ثُمَّ أتَيْتُ الشّامَ فَغَرْبَلْتُها، كُلُّ ذَلِكَ: أسْألُ عَنِ النَّفْلِ فَلَمْ أجِدْ أحَدًا يُخْبِرُنِي فِيهِ بِشَيْءٍ، حَتّى لَقِيتُ شَيْخًا يُقالُ لَهُ: زِيادُ بْنُ جارِيَةَ التَّمِيمِيُّ، فَقُلْتُ لَهُ: هَلْ سَمِعْتَ في النَّفْلِ شَيْئًا ؟ قالَ: نَعَمْ، سَمِعْتُ حَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ الفِهْرِيَّ يَقُولُ: شَهِدْتُ النَّبِيَّ ﷺ نَفَّلَ الرُّبُعَ في البَدْأةِ، والثُّلُثَ في الرَّجْعَةِ اهـ.
وَقَدْ عَلِمْتُ أنَّ الصَّحِيحَ أنَّهُ صَحابِيٌّ، وقَدْ صَرَّحَ في هَذِهِ الرِّوايَةِ بِأنَّهُ شَهِدَ النَّبِيَّ ﷺ نَفَّلَ الرُّبُعَ إلى آخِرِ الحَدِيثِ.
وَمِمّا يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ أيْضًا: ما رَواهُ عُبادَةُ بْنُ الصّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
«أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كانَ يُنَفِّلُ في البَدْأةِ الرُّبُعَ، وفي الرَّجْعَةِ الثُّلُثَ» " أخْرَجَهُ الإمامُ أحْمَدُ، والتِّرْمِذِيُّ، وابْنُ ماجَهْ، وصَحَّحَهُ ابْنُ حِبّانَ.
وَفِي رِوايَةٍ عِنْدَ الإمامِ أحْمَدَ:
«كانَ إذا غابَ في أرْضِ العَدُوِّ نَفَّلَ الرُّبُعَ، وإذا أقْبَلَ راجِعًا وكُلَّ النّاسِ نَفَّلَ الثُّلُثَ، وكانَ يَكْرَهُ الأنْفالَ، ويَقُولُ: لِيَرُدَّ قَوِيُّ المُؤْمِنِينَ عَلى ضَعِيفِهِمْ» .
وَهَذِهِ النُّصُوصُ تَدُلُّ عَلى ثُبُوتِ التَّنْفِيلِ مِن غَيْرِ الخُمُسِ.
وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أيْضًا: ما رَواهُ الإمامُ أحْمَدُ، وأبُو داوُدَ، عَنْ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ، قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ:
«لا نَفْلَ إلّا بَعْدَ الخُمُسِ»، قالَ الشَّوْكانِيُّ: في ”نَيْلِ الأوْطارِ“: هَذا الحَدِيثُ صَحَّحَهُ الطَّحاوِيُّ اهـ.
والفَرْقُ بَيْنَ البَدْأةِ والرَّجْعَةِ: أنَّ المُسْلِمِينَ في البَدْأةِ: مُتَوَجِّهُونَ إلى بِلادِ العَدُوِّ، والعَدُوُّ في غَفْلَةٍ، وأمّا في الرَّجْعَةِ: فالمُسْلِمُونَ راجِعُونَ إلى أوْطانِهِمْ مِن أرْضِ العَدُوِّ، والعَدُوُّ في حَذَرٍ ويَقَظَةٍ، وبَيْنَ الأمْرَيْنِ فَرْقٌ ظاهِرٌ.
والأحادِيثُ المَذْكُورَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ السَّرِيَّةَ مِنَ العَسْكَرِ إذا خَرَجَتْ، فَغَنِمَتْ، أنَّ سائِرَ الجَيْشِ شُرَكاؤُهم، ولا خِلافَ في ذَلِكَ بَيْنَ العُلَماءِ، كَما قالَهُ القُرْطُبِيُّ.
الثّانِي: مِنَ الأقْسامِ الَّتِي اقْتَضى الدَّلِيلُ جَوازَها: تَنْفِيلُ بَعْضِ الجَيْشِ، لِشِدَّةِ بَأْسِهِ، وعَنائِهِ، وتَحَمُّلِهِ ما لَمْ يَتَحَمَّلْهُ غَيْرُهُ، والدَّلِيلُ عَلى ذَلِكَ ما ثَبَتَ في ”صَحِيحِ مُسْلِمٍ“، ورَواهُ الإمامُ أحْمَدُ، وأبُو داوُدَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، في قِصَّةِ إغارَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الفَزارِيِّ، عَلى سَرْحِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، واسْتِنْقاذِهِ مِنهُ، قالَ سَلَمَةُ:
«فَلَمّا أصْبَحْنا قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”خَيْرُ فُرْسانِنا اليَوْمَ، أبُو قَتادَةَ، وخَيْرُ رَجّالَتِنا سَلَمَةُ“، قالَ: ثُمَّ أعْطانِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سَهْمَيْنِ: سَهْمَ الفارِسِ، وسَهْمَ الرّاجِلِ فَجَمَعَهُما لِيَ جَمِيعًا»، الحَدِيثَ. هَذا لَفْظُ مُسْلِمٍ في صَحِيحِهِ مِن حَدِيثٍ طَوِيلٍ.
وَقَدْ قَدَّمْنا أنَّ هَذِهِ غَزْوَةُ ”ذِي قَرَدٍ“ في سُورَةِ ”النِّساءِ“، ويَدُلُّ لِهَذا أيْضًا: حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أبِي وقّاصٍ المُتَقَدِّمُ في أوَّلِ السُّورَةِ، فَإنَّ فِيهِ: أنَّ سَعْدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: لَعَلَّهُ يُعْطِي هَذا السَّيْفَ لِرَجُلٍ لَمْ يُبْلِ بَلائِي، ثُمَّ أعْطاهُ النَّبِيُّ ﷺ لِسَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِحُسْنِ بَلائِهِ وقَتْلِهِ صاحِبَ السَّيْفِ كَما تَقَدَّمَ.
الثّالِثُ: مِن أقْسامِ التَّنْفِيلِ الَّتِي اقْتَضى الدَّلِيلُ جَوازَها: أنْ يَقُولَ الإمامُ:
«مَن قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» .
وَمِنَ الأدِلَّةِ عَلى ذَلِكَ: ما رَواهُ الشَّيْخانِ في صَحِيحَيْهِما، عَنْ أبِي قَتادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: ”
«خَرَجْنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَلَمّا التَقَيْنا كانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ، قالَ: فَرَأيْتُ رَجُلًا مِنَ المُشْرِكِينَ قَدْ عَلا رَجُلًا مِنَ المُسْلِمِينَ، فاسْتَدَرْتُ إلَيْهِ حَتّى أتَيْتُهُ مِن ورائِهِ فَضَرَبْتُهُ عَلى حَبْلِ عاتِقِهِ، وأقْبَلَ عَلَيَّ فَضَمَّنِي ضَمَّةً وجَدْتُ مِنها رِيحَ المَوْتِ، ثُمَّ أدْرَكَهُ المَوْتُ فَأرْسَلَنِي، فَلَحِقْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ، فَقالَ: ما لِلنّاسِ ؟ فَقُلْتُ: أمْرُ اللَّهِ، ثُمَّ إنَّ النّاسَ رَجَعُوا، وجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقالَ:“ مَن قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ ”، قالَ: فَقُمْتُ، ثُمَّ قُلْتُ: مَن يَشْهَدُ لِي ؟ ثُمَّ جَلَسْتُ، ثُمَّ قالَ مِثْلَ ذَلِكَ، قالَ: فَقُمْتُ، فَقُلْتُ: مَن يَشْهَدُ لِي ؟، ثُمَّ جَلَسْتُ، ثُمَّ قالَ ذَلِكَ الثّالِثَةَ، فَقُمْتُ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:“ ما لَكَ يا أبا قَتادَةَ ؟ ”فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ القِصَّةَ، فَقالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ، صَدَقَ يا رَسُولَ اللَّهِ سَلَبُ ذَلِكَ القَتِيلِ عِنْدِي؛ فَأرْضِهِ مِن حَقِّهِ، فَقالَ أبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لا ها اللَّهِ إذَنْ لا يَعْمِدُ إلى أسَدٍ مِن أُسُدِ اللَّهِ يُقاتِلُ عَنِ اللَّهِ وعَنْ رَسُولِهِ، فَيُعْطِيكَ سَلَبَهُ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:“ صَدَقَ فَأعْطِهِ إيّاهُ "، فَأعْطانِي، قالَ: فَبِعْتُ الدِّرْعَ فابْتَعْتُ بِها مَخْرَفًا في بَنِي سَلِمَةَ، فَإنَّهُ لَأوَّلُ مالٍ تَأثَّلْتُهُ في الإسْلامِ» . والأحادِيثُ بِذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَرَوى أبُو داوُدَ، وأحْمَدُ، عَنْ أنَسٍ: أنَّ أبا طَلْحَةَ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَتَلَ عِشْرِينَ رَجُلًا، وأخَذَ أسَلابَهم، وفي رِوايَةٍ عَنْهُ عِنْدَ أحْمَدَ، أحَدًا وعِشْرِينَ، وذَكَرَ أصْحابُ المَغازِي: أنَّ أبا طَلْحَةَ قالَ في قَتْلِهِ مَن ذَكَرَ: [ الرَّجَزُ ]
أنا أبُو طَلْحَةَ واسْمِي زَيْدُ ∗∗∗ وَكُلُّ يَوْمٍ في سِلاحِيَ صَيْدُ
والحَقُّ أنَّهُ لا يُشْتَرَطُ في ذَلِكَ أنْ يَكُونَ في مُبارَزَةٍ، ولا أنْ يَكُونَ الكافِرُ المَقْتُولُ مُقْبِلًا.
أمّا الدَّلِيلُ عَلى عَدَمِ اشْتِراطِ المُبارَزَةِ: فَحَدِيثُ أبِي قَتادَةَ هَذا المُتَّفَقُ عَلَيْهِ.
وَأمّا الدَّلِيلُ عَلى عَدَمِ اشْتِراطِ كَوْنِهِ قَتَلَهُ مُقْبِلًا إلَيْهِ: فَحَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ، قالَ:
«غَزَوْنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ هَوازِنَ، فَبَيْنا نَحْنُ نَتَضَحّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، إذْ جاءَ رَجُلٌ عَلى جَمَلٍ أحْمَرَ فَأناخَهُ، ثُمَّ انْتَزَعَ طَلَقًا مِن حَقْوِهِ فَقَيَّدَ بِهِ الجَمَلَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ يَتَغَدّى مَعَ القَوْمِ، وجَعَلَ يَنْظُرُ، وفِينا ضَعَفَةٌ ورِقَّةٌ في الظَّهْرِ، وبَعْضُنا مُشاةٌ إذْ خَرَجَ يَشْتَدُّ فَأتى جَمَلَهُ، فَأطْلَقَ قَيْدَهُ ثُمَّ أناخَهُ، وقَعَدَ عَلَيْهِ فَأثارَهُ فاشْتَدَّ بِهِ الجَمَلُ، فاتَّبَعَهُ رَجُلٌ عَلى ناقَةٍ ورْقاءَ، قالَ سَلَمَةُ: وخَرَجْتُ أشْتَدُّ فَكُنْتُ عِنْدَ ورِكِ النّاقَةِ، ثُمَّ تَقَدَّمْتُ حَتّى كُنْتُ عِنْدَ ورِكِ الجَمَلِ، ثُمَّ تَقَدَّمَتْ حَتّى أخَذْتُ بِخِطامِ الجَمَلِ فَأنَخْتُهُ، فَلَمّا وضَعَ رُكْبَتَهُ في الأرْضِ اخْتَرَطْتُ سَيْفِي، فَضَرَبْتُ بِهِ رَأْسَ الرَّجُلِ فَنَدَرَ، ثُمَّ جِئْتُ بِالجَمَلِ أقُودُهُ وعَلَيْهِ رَحْلُهُ وسِلاحُهُ، فاسْتَقْبَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، والنّاسُ مَعَهُ، فَقالَ: ”مَن قَتَلَ الرَّجُلَ ؟“، قالُوا: ابْنُ الأكْوَعِ، قالَ: ”لَهُ سَلَبُهُ أجْمَعُ“»، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، واللَّفْظُ المَذْكُورُ لِمُسْلِمٍ في ”كِتابِ الجِهادِ والسِّيَرِ“ في بابِ: ”اسْتِحْقاقِ القاتِلِ سَلَبَ القَتِيلِ“، وأخْرَجَهُ البُخارِيُّ بِمَعْناهُ ”في كِتابِ الجِهادِ“ في بابِ: ”الحَرْبِيِّ إذا دَخَلَ دارَ الإسْلامِ بِغَيْرِ أمانٍ“ وهو صَرِيحٌ في عَدَمِ اشْتِراطِ المُبارَزَةِ، وعَدَمِ اشْتِراطِ قَتْلِهِ مُقْبِلًا لا مُدْبِرًا كَما تَرى.
وَلا يَسْتَحِقُّ القاتِلُ سَلَبَ المَقْتُولِ، إلّا أنْ يَكُونَ المَقْتُولُ مِنَ المُقاتِلَةِ الَّذِينَ يَجُوزُ قِتالُهم.
فَأمّا إنْ قَتَلَ امْرَأةً، أوْ صَبِيًّا، أوْ شَيْخًا فانِيًا، أوْ ضَعِيفًا مَهِينًا، أوْ مُثْخَنًا بِالجِراحِ لَمْ تَبْقَ فِيهِ مَنفَعَةٌ، فَلَيْسَ لَهُ سَلَبُهُ.
وَلا خِلافَ بَيْنَ العُلَماءِ: في أنَّ مَن قَتَلَ صَبِيًّا، أوِ امْرَأةً، أوْ شَيْخًا فانِيًا، لا يَسْتَحِقُّ سَلَبَهم، إلّا قَوْلًا ضَعِيفًا جِدًّا يُرْوى عَنْ أبِي ثَوْرٍ، وابْنِ المُنْذِرِ: في اسْتِحْقاقِ سَلَبِ المَرْأةِ.
والدَّلِيلُ عَلى أنَّ مَن قَتَلَ مُثْخَنًا بِالجِراحِ لا يَسْتَحِقُّ سَلَبَهُ، أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، هو الَّذِي ذَفَّفَ عَلى أبِي جَهْلِ يَوْمَ بَدْرٍ، وحَزَّ رَأْسَهُ، وقَدْ قَضى النَّبِيُّ ﷺ بِسَلَبِهِ لِمُعاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الجَمُوحِ الَّذِي أثْبَتَهُ، ولَمْ يُعْطِ ابْنَ مَسْعُودٍ شَيْئًا.
وَهَذا هو الحَقُّ الَّذِي جاءَ بِهِ الحَدِيثُ المُتَّفَقُ عَلَيْهِ، فَلا يُعارَضُ بِما رَواهُ الإمامُ أحْمَدُ، وأبُو داوُدَ
«عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: ”أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَفَّلَهُ سَيْفَ أبِي جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ“»؛ لِأنَّهُ مِن رِوايَةِ ابْنِهِ أبِي عُبَيْدَةَ، ولَمْ يَسْمَعْ مِنهُ، وكَذَلِكَ المُقْدِمُ لِلْقَتْلِ صَبْرًا لا يَسْتَحِقُّ قاتِلُهُ سَلَبَهُ؛ لِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ، أمَرَ بِقَتْلِ النَّضْرِ بْنِ الحارِثِ العَبْدَرِيِّ، وعُقْبَةَ بْنِ أبِي مَعِيطٍ الأُمَوِيِّ صَبْرًا يَوْمَ بَدْرٍ ولَمْ يُعْطِ مَن قَتَلَهُما شَيْئًا مِن سَلَبِهِما.
واخْتَلَفُوا فِيمَن أسَرَ أسِيرًا: هَلْ يَسْتَحِقُّ سَلَبَهُ إلْحاقًا لِلْأسْرِ بِالقَتْلِ أوْ لا ؟ والظّاهِرُ أنَّهُ لا يَسْتَحِقُّهُ، لِعَدَمِ الدَّلِيلِ، فَيَجِبُ اسْتِصْحابُ عُمُومِ
﴿واعْلَمُوا أنَّما غَنِمْتُمْ﴾ الآيَةَ، حَتّى يَرِدَ مُخَصِّصٌ مِن كِتابٍ أوْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ، وقَدْ أسَرَ النَّبِيُّ ﷺ والمُسْلِمُونَ، أُسارى بَدْرٍ، وقُتِلَ بَعْضُهم صَبْرًا كَما ذَكَرْنا، ولَمْ يُعْطِ أحَدًا مِنَ الَّذِينَ أسَرُوهم شَيْئًا مِن أسْلابِهِمْ، ولا مِن فِدائِهِمْ بَلْ جَعَلَ فَداءَهم غَنِيمَةً.
أمّا إذا قاتَلَتِ المَرْأةُ أوِ الصَّبِيُّ المُسْلِمِينَ: فالظّاهِرُ أنَّ لِمَن قَتَلَ أحَدَهُما سَلَبَهُ؛ لِأنَّهُ حِينَئِذٍ مِمَّنْ يَجُوزُ قَتْلُهُ، فَيَدْخُلُ في عُمُومِ ”مَن قَتَلَ قَتِيلًا“ الحَدِيثَ، وبِهَذا جَزَمَ غَيْرُ واحِدٍ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
واعْلَمْ أنَّ العُلَماءَ اخْتَلَفُوا في اسْتِحْقاقِ القاتِلِ السَّلَبَ، هَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ قَوْلُ الإمامِ: ”مَن قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ“ أوْ يَسْتَحِقُّهُ مُطْلَقًا، قالَ الإمامُ ذَلِكَ أوْ لَمْ يَقُلْهُ ؟
وَمِمَّنْ قالَ بِهَذا الأخِيرِ: الإمامُ أحْمَدُ، والشّافِعِيُّ، والأوْزاعِيُّ، واللَّيْثُ، وإسْحاقُ، وأبُو عُبَيْدٍ، وأبُو ثَوْرٍ، والطَّبَرِيُّ، وابْنُ المُنْذِرِ.
وَمِمَّنْ قالَ بِالأوَّلِ: الَّذِي هو أنَّهُ لا يَسْتَحِقُّهُ إلّا بِقَوْلِ الإمامِ: ”مَن قَتَلَ قَتِيلًا“ إلَخْ، الإمامُ أبُو حَنِيفَةَ، ومالُكٌ، والثَّوْرِيُّ.
وَقَدْ قَدَّمْنا عَنْ مالِكٍ وأصْحابِهِ: أنَّ قَوْلَ الإمامِ ذَلِكَ: لا يَجُوزُ قَبْلَ القِتالِ، لِئَلّا يُؤَدِّيَ إلى فَسادِ النِّيَّةِ، ولَكِنْ بَعْدَ وُقُوعِ الواقِعِ، يَقُولُ الإمامُ: مَن قَتَلَ قَتِيلًا. . . إلَخْ.
واحْتَجَّ مَن قالَ: بِاسْتِحْقاقِ القاتِلِ سَلَبَ المَقْتُولِ مُطْلَقًا بِعُمُومِ الأدِلَّةِ؛ لِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَرَّحَ بِأنَّ مَن قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ، ولَمْ يُخَصَّصْ بِشَيْءٍ، والعِبْرَةُ بِعُمُومِ الألْفاظِ لا بِخُصُوصِ الأسْبابِ، كَما عُلِمَ في الأُصُولِ.
واحْتَجَّ مالِكٌ، وأبُو حَنِيفَةَ، ومَن وافَقَهُما بِأدِلَّةٍ:
مِنها: قَوْلُهُ ﷺ في حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ، المُتَّفَقِ عَلَيْهِ السّابِقِ ذِكْرُهُ، لَهُ سَلَبُهُ أجْمَعُ، قالُوا: فَلَوْ كانَ السَّلَبُ مُسْتَحَقًّا لَهُ بِمُجَرَّدِ قَتْلِهِ لَما احْتاجَ إلى تَكْرِيرِ هَذا القَوْلِ.
وَمِنها: حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، المُتَّفَقُ عَلَيْهِ في قِصَّةِ قَتْلِ مُعاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الجَمُوحِ، ومُعاذِ بْنِ عَفْراءَ الأنْصارِيَّيْنِ لِأبِي جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ، فَإنَّ فِيهِ: ”
«ثُمَّ انْصَرَفا إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَأخْبَراهُ، فَقالَ:“ أيُّكُما قَتَلَهُ ؟ ! ”، فَقالَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما: أنا قَتَلْتُهُ، فَقالَ:“ هَلْ مَسَحْتُما سَيْفَيْكُما ؟ ”قالا: لا، فَنَظَرَ في السَّيْفَيْنِ، فَقالَ:“ كِلاكُما قَتَلَهُ "، وقَضى بِسَلَبِهِ لِمُعاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الجَمُوحِ» اهـ.
قالُوا: فَتَصْرِيحُهُ ﷺ في هَذا الحَدِيثِ، المُتَّفَقِ عَلَيْهِ، بِأنَّ كِلَيْهِما قَتَلَهُ، ثُمَّ تَخْصِيصُ أحَدِهِما بِسَلَبِهِ، دُونَ الآخَرِ، صَرِيحٌ في أنَّ القاتِلَ لا يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ، إلّا بِقَوْلِ الإمامِ: إنَّهُ لَهُ، إذْ لَوْ كانَ اسْتِحْقاقُهُ لَهُ بِمُجَرَّدِ القَتْلِ لَما كانَ لِمَنعِ مُعاذِ بْنِ عَفْراءَ وجْهٌ، مَعَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَرَّحَ بِأنَّهُ قَتَلَهُ مَعَ مُعاذِ بْنِ عَمْرٍو، ولَجَعَلَهُ بَيْنَهُما.
وَمِنها: ما رَواهُ الإمامُ أحْمَدُ، ومُسْلِمٌ، وأبُو داوُدَ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مالِكٍ قالَ:
«قَتَلَ رَجُلٌ مِن حِمْيَرَ، رَجُلًا مِنَ العَدُوِّ، فَأرادَ سَلَبَهُ، فَمَنَعَهُ خالِدُ بْنُ الوَلِيدِ، وكانَ والِيًا عَلَيْهِمْ، فَأتى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، عَوْفُ بْنُ مالِكٍ فَأخْبَرَهُ. فَقالَ لِخالِدٍ: ”ما مَنَعَكَ أنْ تُعْطِيَهُ سَلَبَهُ ؟“، قالَ: اسْتَكْثَرْتُهُ يا رَسُولَ اللَّهِ، قالَ: ”ادْفَعْهُ إلَيْهِ“، فَمَرَّ خالِدٌ بِعَوْفٍ فَجَرَّ بِرِدائِهِ، ثُمَّ قالَ: هَلْ أنْجَزْتَ ما ذَكَرْتُ لَكَ مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ؟ فاسْتُغْضِبَ، فَقالَ: لا تُعْطِهِ يا خالِدُ، لا تُعْطِهِ يا خالِدُ، هَلْ أنْتُمْ تارِكُونَ لِي أُمَرائِي، إنَّما مَثَلُكم ومَثَلُهم، كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَرْعى إبِلًا، أوْ غَنَمًا فَرَعاها، ثُمَّ تَحَيَّنَ سَقْيَها فَأوْرَدَها حَوْضًا فَشَرَعَتْ فِيهِ، فَشَرِبَتْ صَفْوَهُ، وتَرَكَتْ كَدَرَهُ، فَصَفْوُهُ لَكم وكَدَرُهُ عَلَيْهِمْ» .
وَفِي رِوايَةٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ أيْضًا: عَنْ عَوْفِ بْنِ مالِكٍ الأشْجَعِيِّ، قالَ: خَرَجْتُ مَعَ مَن خَرَجَ مَعَ زَيْدِ بْنِ حارِثَةَ، في غَزْوَةِ مُؤْتَةَ، ورافَقَنِي مَدَدِيٌّ مِنَ اليَمَنِ، وساقَ الحَدِيثَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ بِنَحْوِهِ، غَيْرَ أنَّهُ قالَ في الحَدِيثِ: قالَ عَوْفُ بْنُ مالِكٍ: فَقُلْتُ:
«يا خالِدُ، أما عَلِمْتَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَضى بِالسَّلَبِ لِلْقاتِلِ، قالَ بَلى، ولَكِنِّي اسْتَكْثَرْتُهُ»، هَذا لَفْظُ مُسْلِمٍ في صَحِيحِهِ.
وَفِي رِوايَةٍ عَنْ عَوْفٍ أيْضًا، عِنْدَ الإمامِ أحْمَدَ وأبِي داوُدَ قالَ
«خَرَجْتُ مَعَ زَيْدِ بْنِ حارِثَةَ في غَزْوَةِ مُؤْتَةَ، ورافَقَنِي مَدَدِيٌّ مِن أهْلِ اليَمَنِ»، ومَضَيْنا فَلَقِينا جُمُوعَ الرُّومِ، وفِيهِمْ رَجُلٌ عَلى فَرَسٍ لَهُ، أشْقَرَ، عَلَيْهِ سَرْجٌ مُذَهَّبٌ، وسِلاحٌ مُذَهَّبٌ، فَجَعَلَ الرُّومِيُّ يَفْرِي في المُسْلِمِينَ، فَقَعَدَ لَهُ المَدَدِيُّ خَلْفَ صَخْرَةٍ فَمَرَّ بِهِ الرُّومِيُّ فَعَرْقَبَ فَرَسَهُ، فَخَرَّ وعَلاهُ فَقَتَلَهُ. وحازَ فَرَسَهُ وسِلاحَهُ، فَلَمّا فَتَحَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ لِلْمُسْلِمِينَ بَعَثَ إلَيْهِ خالِدُ بْنُ الوَلِيدِ، فَأخَذَ السَّلَبَ، قالَ عَوْفٌ: فَأتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: يا خالِدُ، أما عَلِمْتَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَضى بِالسَّلَبِ لِلْقاتِلِ، قالَ: بَلى، ولَكِنِ اسْتَكْثَرْتُهُ، قُلْتُ: لَتَرُدَّنَّهُ إلَيْهِ، أوْ لَأُعَرِّفَنَّكَها عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَأبى أنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ، قالَ عَوْفٌ: فاجْتَمَعْنا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ قِصَّةَ المَدَدِيِّ، وما فَعَلَ خالِدٌ، وذَكَرَ بَقِيَّةَ الحَدِيثِ بِمَعْنى ما تَقَدَّمَ اهـ.
فَقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ في هَذا الحَدِيثِ الصَّحِيحِ:
«لا تُعْطِهِ يا خالِدُ» دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ السَّلَبَ بِمُجَرَّدِ القَتْلِ، إذْ لَوِ اسْتَحَقَّهُ بِهِ، لَما مَنَعَهُ مِنهُ النَّبِيُّ ﷺ .
وَمِنها: ما ذَكَرَهُ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، قالَ: حَدَّثَنا أبُو الأحْوَصِ، عَنِ الأسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عَلْقَمَةَ، قالَ: بارَزْتُ رَجُلًا يَوْمَ القادِسِيَّةِ، فَقَتَلْتُهُ، وأخَذْتُ سَلَبَهُ، فَأتَيْتُ سَعْدًا، فَخَطَبَ سَعْدٌ أصْحابَهُ، ثُمَّ قالَ: هَذا سَلَبُ بِشْرِ بْنِ عَلْقَمَةَ فَهو خَيْرٌ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ ألْفَ دِرْهَمٍ، وإنّا قَدْ نَفَّلَناهُ إيّاهُ.
فَلَوْ كانَ السَّلَبُ لِلْقاتِلِ قَضاءً مِنَ النَّبِيِّ ﷺ، لَما أضافَ الأُمَراءُ ذَلِكَ التَّنْفِيلَ إلى أنْفُسِهِمْ بِاجْتِهادِهِمْ، ولَأخَذَهُ القاتِلُ دُونَ أمْرِهِمْ، قالَهُ القُرْطُبِيُّ.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: أظْهَرُ القَوْلَيْنِ عِنْدِي دَلِيلًا، أنَّ القاتِلَ لا يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ إلّا بِإعْطاءِ الإمامِ؛ لِهَذِهِ الأدِلَّةِ الصَّحِيحَةِ، الَّتِي ذَكَرْنا فَإنْ قِيلَ: هي شاهِدَةٌ لِقَوْلِ إسْحاقَ: إنْ كانَ السَّلَبُ يَسِيرًا فَهو لِلْقاتِلِ، وإنْ كانَ كَثِيرًا خُمِّسَ.
فالجَوابُ: أنَّ ظاهِرَها العُمُومُ مَعَ أنَّ سَلَبَ أبِي جَهْلٍ لَمْ يَكُنْ فِيهِ كَثْرَةٌ زائِدَةٌ، وقَدْ مَنَعَ مِنهُ النَّبِيُّ ﷺ مُعاذَ بْنَ عَفْراءَ.
(١)
(١) اختُصِرَ كلام المؤلف لشدة طوله