يُبَيِّنُ تَعَالَى تَفْصِيلَ مَا شَرَعَهُ مُخَصَّصًا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الشَّرِيفَةِ، مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ، مِنْ إِحْلَالِ الْمَغَانِمِ. وَ"الْغَنِيمَةُ": هِيَ الْمَالُ الْمَأْخُوذُ مِنَ الْكُفَّارِ بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ. وَ"الْفَيْءُ": مَا أُخِذَ مِنْهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ، كَالْأَمْوَالِ الَّتِي يُصَالَحُونَ عَلَيْهَا، أَوْ يُتَوَفَّوْنَ عَنْهَا وَلَا وَارِثَ لَهُمْ، وَالْجِزْيَةُ وَالْخَرَاجُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. هَذَا مَذْهَبُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ فِي طَائِفَةٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ [[في أ: "علماء من السلف".]] وَالْخَلَفِ.
وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يُطْلِقُ الْفَيْءَ عَلَى مَا تُطْلَقُ [[في م: "ما يطلق".]] عَلَيْهِ الْغَنِيمَةُ، وَالْغَنِيمَةُ عَلَى الْفَيْءِ أَيْضًا؛ وَلِهَذَا ذَهَبَ قَتَادَةُ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِآيَةِ "الْحَشْرِ": ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ﴾ الْآيَةَ [الْحَشْرِ: ٧] ، قَالَ: فَنَسَخَتْ آيَةُ "الْأَنْفَالِ" تِلْكَ، وَجَعَلَتِ الْغَنَائِمَ: أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهَا [[في د: "الأربعة الأخماس"، وفي ك: "أربعة أخماس".]] لِلْمُجَاهِدِينَ، وَخُمُسًا مِنْهَا لِهَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ بَعِيدٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْر، وَتِلْكَ نَزَلَتْ فِي بَنِي النَّضِير، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ عُلَمَاءِ السِّيَرِ وَالْمَغَازِي قَاطِبَةً أَنَّ بَنِي النَّضِيرِ بَعْدَ بَدْرٍ، هَذَا أَمْرٌ لَا يُشَكُّ فِيهِ وَلَا يُرْتَابُ، فَمَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ مَعْنَى الْفَيْءَ وَالْغَنِيمَةِ يَقُولُ: تِلْكَ نَزَلَتْ فِي أَمْوَالِ الْفَيْءِ وَهَذِهِ فِي الْمَغَانِمِ. وَمَنْ يَجْعَلُ أَمْرَ الْمَغَانِمِ وَالْفَيْءِ رَاجِعًا [[في ك: "راجع".]] إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ يَقُولُ: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ آيَةِ الْحَشْرِ وَبَيْنَ التَّخْمِيسِ إِذَا رَآهُ الْإِمَامُ، واللَّهُ أَعْلَمُ.
* * *
وَقَوْلُهُ [[في ك: "ويقول"، وفي م: "فقوله".]] تَعَالَى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ﴾ تَوْكِيدٌ لِتَخْمِيسِ كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ حَتَّى الْخَيْطِ [[في ك، م: "الخياط".]] وَالْمَخِيطِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ١٦١] .
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ﴾ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ هَاهُنَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لِلَّهِ نَصِيبٌ مِنَ الْخُمُسِ يُجْعَلُ فِي الْكَعْبَةِ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الرِّيَاحي قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُؤْتَى بِالْغَنِيمَةِ فَيُقَسِّمُهَا عَلَى خَمْسَةٍ، تَكُونُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ لِمَنْ شَهِدَهَا، ثُمَّ يَأْخُذُ الْخُمُسَ فَيَضْرِبُ بِيَدِهِ فِيهِ، فَيَأْخُذُ مِنْهُ الَّذِي قَبَضَ كَفُّهُ، فَيَجْعَلُهُ لِلْكَعْبَةِ [[في د: "في الكعبة".]] وَهُوَ سَهْمُ اللَّهِ. ثُمَّ يُقَسِّمُ مَا بَقِيَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، فَيَكُونُ سَهْمٌ لِلرَّسُولِ، وَسَهْمٌ لِذَوِي الْقُرْبَى، وَسَهْمٌ لِلْيَتَامَى، وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ، وَسَهْمٌ لِابْنِ السَّبِيلِ [[رواه الطبري في تفسيره (١٣/٥٥٠) .]]
وَقَالَ آخَرُونَ: ذِكْرُ اللَّهِ هَاهُنَا اسْتِفْتَاحُ كلام للتبرك، وسهم [[في م: "وسهمه".]] لرسوله عليه السلام [[في أ: "صلى الله عليه وسلم".]] قَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّة فَغَنِمُوا، خَمَّس الْغَنِيمَةَ، فَضَرَبَ ذَلِكَ الْخُمُسَ فِي خَمْسَةٍ. ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ﴾ [قَالَ: وَقَوْلُهُ] [[زيادة من تفسير الطبري.]] ﴿فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ﴾ مفتاح كلام، لله ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ، فَجَعَلَ سَهْمَ اللَّهِ وَسَهْمَ الرَّسُولِ وَاحِدًا.
وَهَكَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعي، وَالْحَسَنُ بن محمد ابن الْحَنَفِيَّةِ. وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وعَطاء بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ [[في ك، م، أ: "عبد الله بن أبي بريدة".]] وقَتَادَةُ، وَمُغِيرَةُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ: أَنَّ سَهْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاحِدٌ.
وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بُلْقِينَ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وَهُوَ بِوَادِي القُرى، وَهُوَ يَعْرِضُ فَرَسًا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا تَقُولُ فِي الْغَنِيمَةِ؟ فَقَالَ: "لِلَّهِ خُمُسُهَا، وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ لِلْجَيْشِ". قُلْتُ: فَمَا أَحَدٌ أَوْلَى بِهِ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَ: " لَا وَلَا السَّهْمُ تَسْتَخْرِجُهُ مِنْ جَنْبِكَ، لَيْسَ أَنْتَ أَحَقَّ بِهِ مِنْ أَخِيكَ الْمُسْلِمِ" [[السنن الكبرى (٦/٣٢٤) .]]
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا أَبَانٌ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: أَوْصَى أَبُو بَكْرٍ بِالْخُمُسِ [[في جميع النسخ: "أوصى الحسن بالخمس" والمثبت من الطبري.]] مِنْ مَالِهِ، وَقَالَ: أَلَا أَرْضَى مِنْ مَالِي بِمَا رَضِيَ اللَّهُ لِنَفْسِهِ [[تفسير الطبري (١٣/٥٥٠) .]]
ثُمَّ اخْتَلَفَ قَائِلُو هَذَا الْقَوْلِ، فَرَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتِ الْغَنِيمَةُ تُقَسَّمُ [[في د: "تخمس".]] عَلَى خَمْسَةِ أَخْمَاسٍ، فَأَرْبَعَةٌ مِنْهَا بَيْنَ مَنْ قَاتَلَ عَلَيْهَا، وَخُمُسٌ وَاحِدٌ يُقَسَّمُ عَلَى أَرْبَعَةٍ [[في د، ك، م، أ: "أربعة أخماس".]] فَرُبُعٌ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى -يَعْنِي: قُرَابَةَ النَّبِيِّ ﷺ. فَمَا كَانَ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ فَهُوَ لِقَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَلَمْ يَأْخُذِ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الْخُمُسِ شَيْئًا، [وَالرُّبُعُ الثَّانِي لِلْيَتَامَى، وَالرُّبْعُ الثَّالِثُ لِلْمَسَاكِينِ، وَالرُّبُعُ الرَّابِعُ لِابْنِ السَّبِيلِ] . [[ما بين المعقوفين عن تفسير الطبري.]]
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَر المِنْقَرِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَة فِي قَوْلِهِ: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ﴾ قَالَ: الَّذِي لِلَّهِ فَلِنَبِيِّهِ، وَالَّذِي لِلرَّسُولِ لِأَزْوَاجِهِ.
وَقَالَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَطَاءٍ بن أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: خُمُسُ اللَّهِ وَالرَّسُولِ [[في د: "خمس الله وخمس الرسول".]] وَاحِدٌ، يَحْمِلُ مِنْهُ وَيَصْنَعُ فِيهِ مَا شَاءَ -يَعْنِي: النبي صلى الله عليه وسلم.
وَهَذَا أَعَمُّ وَأَشْمَلُ، وَهُوَ أَنَّ الرَّسُولَ [[في د: "وهو أنه".]] ﷺ [[في أ: "صلوات الله وسلامه عليه".]] يَتَصَرَّفُ فِي الْخُمُسِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُ بِمَا شَاءَ، وَيَرُدُّهُ فِي أُمَّتِهِ كَيْفَ شَاءَ -وَيَشْهَدُ لِهَذَا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَيْثُ قَالَ:
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ أَبِي سَلَّامٍ الْأَعْرَجِ، عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ معد يكرب الْكِنْدِيِّ: أَنَّهُ جَلَسَ مَعَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَالْحَارِثِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْكِنْدِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَتَذَاكَرُوا حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لِعُبَادَةَ: يَا عُبَادَةُ، كَلِمَاتُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا فِي شَأْنِ الْأَخْمَاسِ؟ فَقَالَ عُبَادَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ صَلَّى بِهِمْ فِي غَزْوَةٍ إِلَى بَعِيرٍ مِنَ الْمَغْنَمِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ [[في أ: "قال".]] رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَتَنَاوَلَ وَبَرة بَيْنَ أُنْمُلَتَيْهِ فَقَالَ: "إِنَّ هَذِهِ مِنْ غَنَائِمِكُمْ، وَإِنَّهُ لَيْسَ لِي فِيهَا إِلَّا نَصِيبِي مَعَكُمْ إِلَّا الْخُمُسُ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ، فَأَدُّوا الْخَيْطَ وَالْمَخِيطَ، وَأَكْبَرَ [[في أ: "وأكثر".]] مِنْ ذَلِكَ وَأَصْغَرَ، وَلَا تَغُلُّوا، فَإِنَّ الْغُلُولَ نَارٌ وَعَارٌ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَجَاهِدُوا النَّاسَ فِي اللَّهِ [[في م: "في سبيل الله".]] الْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ، وَلَا تُبَالُوا فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَأَقِيمُوا حُدُودَ اللَّهِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، وَجَاهِدُوا فِي [سَبِيلِ] [[زيادة من ك، م، أ، ومسند أحمد.]] اللَّهِ، فَإِنَّ الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ [عَظِيمٌ] [[زيادة من ك، م، أ، ومسند أحمد.]] يُنَجِّي بِهِ اللَّهُ مِنَ الْهَمِّ وَالْغَمِّ" [[المسند (٥/٣١٦) .]]
هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ عَظِيمٌ، وَلَمْ أَرَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ السِّتَّةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَلَكِنْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جده عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ [[في أ: "أن".]] رَسُولِ اللَّهِ ﷺ نَحْوَهُ فِي قِصَّةِ الْخُمُسِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْغُلُولِ [[المسند (٢/١٨٤) وسنن أبي داود برقم (٢٦٩٤) .]]
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسة أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ صَلَّى بِهِمْ إِلَى بَعِيرٍ مِنَ الْمَغْنَمِ، فَلَمَّا سَلَّمَ أَخَذَ وَبَرَةً [[في د: "أخذ منه وبرة".]] مِنْ ذَلِكَ الْبَعِيرِ ثُمَّ قَالَ: "وَلَا يَحِلُّ لِي مِنْ غَنَائِمِكُمْ مِثْلَ هَذِهِ، إِلَّا الْخُمُسُ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ [[سنن أبي داود برقم (٢٧٥٥) .]]
وَقَدْ كَانَ لِلنَّبِيِّ ﷺ مِنَ الْمَغَانِمِ [[في د، ك، م: "الغنيمة".]] شَيْءٌ يَصْطَفِيهِ لِنَفْسِهِ عَبْدًا أَوْ أَمَةً أَوْ فَرَسًا أَوْ سَيْفًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَعَامِرٌ الشَّعْبِيُّ، وَتَبِعَهُمَا عَلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ -وَحَسَّنَهُ -عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم تنفل سيفه ذا [[في أ: "ذو".]] الفَقَار يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُوَ الَّذِي رَأَى فِيهِ الرُّؤْيَا يَوْمَ أُحُدٍ [[المسند (١/٢٧١) وسنن الترمذي برقم (١٥٦١) .]]
وَعَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَتْ صَفِيَّةُ مِنَ الصَّفِيِّ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ [[سنن أبي داود برقم (٢٩٩٤) .]]
وَرَوَى أَيْضًا بِإِسْنَادِهِ، وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا بالمِرْبَد إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ مَعَهُ قِطْعَةُ أَدِيمٍ، فَقَرَأْنَاهَا فَإِذَا فِيهَا: "مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى بَنِي زُهَيْرِ بْنِ أُقَيْشٍ، إِنَّكُمْ إِنْ شَهِدْتُمْ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ، وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ، وَأَدَّيْتُمُ الْخُمُسَ مِنَ الْمَغْنَمِ، وَسَهْمَ النَّبِيِّ وَسَهْمَ الصَّفِيِّ، أَنْتُمْ آمِنُونَ بِأَمَانِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ". فَقُلْنَا: مَنْ كَتَبَ لَكَ هَذَا؟ فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ ﷺ [[سنن أبي داود برقم (٢٩٩٤) .]]
فَهَذِهِ أَحَادِيثُ جَيِّدَةٌ تَدُلُّ عَلَى تَقَرُّرِ هَذَا وَثُبُوتِهِ؛ وَلِهَذَا جَعَلَ ذَلِكَ كَثِيرُونَ مِنَ الْخَصَائِصِ لَهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ الْخُمُسَ يَتَصَرَّفُ فِيهِ الْإِمَامُ بِالْمَصْلَحَةِ لِلْمُسْلِمِينَ، كَمَا يَتَصَرَّفُ فِي مَالِ الْفَيْءِ.
وَقَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَكْثَرُ السَّلَفِ، وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ.
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَعُلِمَ، فَقَدِ اخْتُلِفَ أَيْضًا فِي الَّذِي كَانَ يَنَالُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ [[في أ: "صلى الله عليه وسلم".]] مِنَ الْخُمُسِ، مَاذَا يُصنع بِهِ مَنْ بَعْدَهُ؟ فَقَالَ قَائِلُونَ: يَكُونُ لِمَنْ يَلِي الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ. رُوِيَ هذا عن أبي بكر وعلي وقتادة جماعة، وَجَاءَ فِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ [[رواه البيهقي في السنن الكبرى (٦/٣٠٣) من طريق الوليد بن جميع عن أبي الطفيل: لما سألت فاطمة أبا بكر عن الخمس فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: "إذا أطعم الله نبيا طعمة ثم قبضه كانت للذي يلي بعده" فلما وليت رأيت أن أرده على المسلمين.]]
وَقَالَ آخَرُونَ: يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ مَرْدُودٌ عَلَى بَقِيَّةِ الْأَصْنَافِ: ذَوِي الْقُرْبَى، وَالْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ سَهْمُ النَّبِيِّ ﷺ وَسَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى مَرْدُودَانِ عَلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَذَلِكَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْخُمُسَ جَمِيعُهُ لِذَوِي الْقُرْبَى كَمَا رَوَاهُ ابْنُ جرير.
حَدَّثَنَا الْحَارِثُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْغَفَّارِ، حَدَّثَنَا المِنْهَال بْنُ عَمْرٍو، وَسَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَعَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ، عَنِ الْخُمُسِ فَقَالَا هُوَ لَنَا. فَقُلْتُ لِعَلِيٍّ: فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ﴾ فَقَالَا يَتَامَانَا وَمَسَاكِينُنَا.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو نُعَيْم، وَأَبُو أُسَامَةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مسلم: سألت الحسن بن محمد ابن الْحَنَفِيَّةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، عَنْ قَوْلِ اللَّهِ [[في د: "عن قوله".]] تَعَالَى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ﴾ قَالَ [[في د: "فقال".]] هَذَا مِفْتَاحُ كَلَامٍ، لِلَّهِ [[في ك: "كلام الله".]] الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَيْنَ السَّهْمَيْنِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ قَائِلُونَ: سَهْمُ النَّبِيِّ ﷺ تَسْلِيمًا لِلْخَلِيفَةِ مِنْ بَعْدِهِ. وَقَالَ قَائِلُونَ: لِقَرَابَةِ النَّبِيِّ ﷺ. وَقَالَ قَائِلُونَ: سَهْمُ الْقَرَابَةِ لِقَرَابَةِ الْخَلِيفَةِ. فَاجْتَمَعَ قَوْلُهُمْ [[في ك، م: "رأيهم".]] عَلَى أَنْ يَجْعَلُوا هَذَيْنِ السَّهْمَيْنِ فِي الْخَيْلِ والعُدة فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَكَانَا عَلَى ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا [[في ك: "رضي الله عنهما وأرضاهما".]]
قَالَ [[في م: "وقال".]] الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ [[في م: "إبراهيم قال".]] كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ يَجْعَلَانِ سَهْمَ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ، فَقُلْتُ لِإِبْرَاهِيمَ: مَا كَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ فِيهِ؟ قَالَ: كَانَ [عَلِيٌّ] [[زيادة من الطبري.]] أَشَدَّهُمْ فِيهِ.
وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَأَمَّا سَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى فَإِنَّهُ يُصْرَفُ إِلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ؛ لِأَنَّ بَنِي الْمُطَّلِبِ وَازَرُوا بَنِي هَاشِمٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ [وَفِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ] [[زيادة من د، ك، م.]] وَدَخَلُوا مَعَهُمْ فِي الشِّعْبِ غَضَبًا لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَحِمَايَةً لَهُ: مُسْلِمُهُمْ طَاعَةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَكَافِرُهُمْ حَمِيَّة لِلْعَشِيرَةِ وَأَنَفَةً وَطَاعَةً لِأَبِي طَالِبٍ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ. وَأَمَّا بَنُو عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنُو نَوْفَلٍ -وَإِنْ كَانُوا أَبْنَاءَ عَمِّهِمْ -فَلَمْ يُوَافِقُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ حَارَبُوهُمْ وَنَابَذُوهُمْ، وَمَالَئُوا بُطُونَ قُرَيْشٍ عَلَى حَرْبِ الرَّسُولِ؛ وَلِهَذَا كَانَ ذَمُّ أَبِي طَالِبٍ لَهُمْ فِي قَصِيدَتِهِ اللَّامِيَّةِ أَشَدَّ مِنْ غَيْرِهِمْ، لِشِدَّةِ قُرْبِهِمْ. وَلِهَذَا يَقُولُ فِي أَثْنَاءِ قَصِيدَتِهِ [[في ك: "قصيدته اللامية".]] جَزَى الله عَنَّا عبدَ شمس ونَوفلاعُقُوبة شرٍّ عَاجِلٍ غَيْرَ آجلِ
بِمِيزَانِ قسْط لَا يَخيس شَعِيرةلهُ شَاهدٌ مِنْ نَفْسه غَيْرُ عائلِ
لَقَدْ سَفُهت أحلامُ قوم تَبَدَّلوابني خَلَف قَيْضا بِنَا والغَيَاطِلِ
ونحنُ الصَّميم مِنْ ذؤابة هاشموآل قُصَى في الخُطُوب الأوائلِ [[الأبيات في السيرة النبوية لابن هشام (١/٢٧٧) .]] وَقَالَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمِ بْنِ عَدِيِّ [بْنِ نَوْفَلٍ] [[زيادة من د، ك، م.]] مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ -يَعْنِي ابْنَ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ -إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطَيْتَ بَنِي الْمُطَّلِبِ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ وَتَرَكْتَنَا، وَنَحْنُ وَهُم مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَالَ: "إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ".
رَوَاهُ مُسْلِمٌ [[لم أجده في صحيح مسلم ولا عزاه المزي له في تحفة الأشراف، ولم أجزم بوهم الحافظ هنا؛ لأن الزيلعي عزاه للصحيحين في تخريج الكشاف (٢/٣٠) ، ورواه البخاري في صحيحه برقم (٣١٤٠) من طريق سعيد بن المسيب عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بنحوه.]] وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ هَذَا الْحَدِيثِ: "إِنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونَا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ" [[الرواية في سنن النسائي (٧/١٣٠) .]]
وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَالَ آخَرُونَ: هُمْ بَنُو هَاشِمٍ. ثُمَّ رَوَى عَنْ خُصَيْف، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ فِي بَنِي هَاشِمٍ فَقُرَاءَ، فَجَعَلَ لَهُمُ الْخُمُسَ مَكَانَ الصَّدَقَةِ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ قَالَ: هُمْ قَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الَّذِينَ لَا تَحِلُّ لَهُمُ الصَّدَقَةُ.
ثُمَّ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ نَحْوُ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُمْ قُرَيْشٌ كُلُّهَا.
حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ أَبِي مَعْشَر، عَنْ سَعِيدٍ المقْبُرِي قَالَ: كَتَبَ نَجْدَة إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ عَنْ "ذِي الْقُرْبَى"، فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُنَّا نَقُولُ: إِنَّا هُمْ فَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْنَا قَوْمُنَا، وَقَالُوا: قُرَيْشٌ كُلُّهَا ذَوُو قُرْبَى [[في أ: "قرابة".]] [[تفسير الطبري (١٣/٥٥٥) .]]
وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هرمُز أَنَّ نَجْدَةَ كَتَبَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَوِي الْقُرْبَى فَذَكَرَهُ إِلَى قَوْلِهِ: "فَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْنَا قَوْمُنَا" [[صحيح مسلم برقم (١٨١٢) وسنن أبي داود برقم (٢٩٨٢) وسنن الترمذي برقم (١٥٥٦) وسنن النسائي (٧/١٢٨) ، وهو عند أبي داود والنسائي من حديث الزهري عن يزيد.]] وَالزِّيَادَةُ مِنْ أَفْرَادِ أَبِي مَعْشَرٍ نَجِيح بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَدَنِيِّ، وَفِيهِ ضَعْفٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَهْدِيٍّ الْمِصِّيصِيُّ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ حَنَش، عَنْ عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "رَغِبْتُ لَكُمْ عَنْ غُسَالة الْأَيْدِي؛ لِأَنَّ لَكُمْ مِنْ خُمْس الْخُمُسِ مَا يُغْنِيكُمْ أَوْ يَكْفِيكُمْ".
هَذَا حَدِيثٌ حَسَنُ الْإِسْنَادِ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مَهْدِيٍّ هَذَا وَثَّقه أَبُو حَاتِمٍ، وَقَالَ يحيى بن معين [[في د: "سعيد".]] يَأْتِي بِمَنَاكِيرَ [[انظر: ميزان الاعتدال للذهبي (١/٦٨) .]] واللَّهُ أَعْلَمُ.
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿وَالْيَتَامَى﴾ أَيْ: يَتَامَى الْمُسْلِمِينَ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يَخْتَصُّ بِالْأَيْتَامِ الْفُقَرَاءِ، أَوْ يَعُمُّ الْأَغْنِيَاءَ وَالْفُقَرَاءَ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ.
وَ ﴿الْمَسَاكِينِ﴾ هُمُ الْمَحَاوِيجُ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يَسُدُّ خَلَّتَهُمْ وَمَسْكَنَتَهُمْ.
﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ هُوَ الْمُسَافِرُ، أَوِ الْمُرِيدُ لِلسَّفَرِ، إِلَى مَسَافَةٍ تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ، وَلَيْسَ لَهُ مَا يُنْفِقُهُ فِي سَفَرِهِ ذَلِكَ. وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُ ذَلِكَ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ مِنْ سُورَةِ "بَرَاءَةَ"، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِهِ الثِّقَةُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾ أَي: امْتَثِلُوا مَا شَرَعْنَا لَكُمْ مِنَ الْخُمُسِ فِي الْغَنَائِمِ، إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، فِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ: أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لَهُمْ: "وَآمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ ثُمَّ قَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ؟ شهادةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَأَنْ تُؤَدُّوا الْخُمُسَ مِنَ الْمَغْنَمِ. ." الْحَدِيثَ بِطُولِهِ [[صحيح البخاري برقم (٥٣) وصحيح مسلم برقم (١٧) .]] فَجَعَلَ أَدَاءَ الْخُمُسِ مِنْ جُمْلَةِ الْإِيمَانِ، وَقَدْ بوَّب الْبُخَارِيُّ عَلَى ذَلِكَ فِي "كِتَابِ الْإِيمَانِ" مِنْ صَحِيحِهِ فَقَالَ: (بَابُ أَدَاءِ الْخُمُسِ مِنَ الْإِيمَانِ) ، ثُمَّ أَوْرَدَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا، وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي "شَرْحِ الْبُخَارِيِّ" وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ [[وانظر كلام الحافظ ابن حجر في: فتح الباري (١/١٢٩ - ١٣٥) .]]
وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: ﴿وَمَا أَنزلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ﴾ أَيْ: فِي الْقِسْمَةِ، وَقَوْلُهُ: ﴿يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ يُنَبِّهُ تَعَالَى عَلَى نِعْمَتِهِ [[في أ: "نعمه".]] وَإِحْسَانِهِ إِلَى خَلْقِهِ بِمَا فَرَق بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ بِبَدْرٍ وَيُسَمَّى "الْفُرْقَانَ"؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْلَى فِيهِ كَلِمَةَ الْإِيمَانِ عَلَى كَلِمَةِ الْبَاطِلِ، وَأَظْهَرَ دِينَهُ وَنَصَرَ نَبِيَّهُ وَحِزْبَهُ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ والعَوْفِي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿يَوْمَ الْفُرْقَانِ﴾ يَوْمُ بَدْرٍ، فَرَق اللَّهُ فِيهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. رَوَاهُ الْحَاكِمُ.
وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، ومِقْسَم وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَالضَّحَّاكُ، وقَتَادَةُ، ومُقَاتل بْنُ حَيَّانَ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ: أَنَّهُ يَوْمُ بَدْرٍ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَة بْنِ الزُّبَيْرِ فِي قَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ الْفُرْقَانِ﴾ يوم فَرَقَ اللَّهُ [فِيهِ] [[زيادة من د، ك.]] بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَهُوَ يَوْمُ بَدْرٍ، وَهُوَ أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ. وَكَانَ رَأْسُ الْمُشْرِكِينَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، فَالْتَقَوْا يَوْمَ الْجُمُعَةِ لتسعَ عشرةَ -أَوْ: سَبْعَ عَشْرَةَ -مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَوْمَئِذٍ ثَلَثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا وَالْمُشْرِكُونَ مَا بَيْنَ الْأَلِفِ وَالتِّسْعِمِائَةِ.
فَهَزَمَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ زِيَادَةٌ عَلَى السَّبْعِينَ، وَأُسِرَ مِنْهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ.
وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ: تَحَرَّوْهَا لِإِحْدَى عَشْرَةَ يَبْقَيْنَ [[في ك: "بقين".]] فَإِنَّ صَبِيحَتَهَا [[في ك: "فإن في صبيحتها".]] يَوْمُ بَدْرٍ. وَقَالَ: عَلَى شَرْطِهِمَا [[المستدرك (٣/٢٠) .]]
وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَيْضًا، مِنْ حَدِيثِ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَان، عَنْ رَجُلٍ، عَنْهُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَعْقُوبَ أَبُو طَالِبٍ، عَنِ ابْنِ عَوْن مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ [[في جميع النسخ: "عن ابن عون، عن محمد بن عبد الله الثقفي"، والمثبت من الطبري.]] عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ: كَانَتْ لَيْلَةُ "الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ" لِسَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ [[تفسير الطبري (١٣/٥٦٢) .]] إِسْنَادٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ.
وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدُوَيه، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَبِيبٍ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: كَانَتْ لَيْلَةُ الْفُرْقَانِ، لَيْلَةُ الْتَقَى الْجَمْعَانِ، فِي صَبِيحَتِهَا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لسبع عشر مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ.
وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَغَازِي وَالسَّيْرِ.
وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ إِمَامُ أَهْلِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي زَمَانِهِ: كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَى هَذَا، وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ، واللَّهُ أَعْلَمُ.
{"ayah":"۞ وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّمَا غَنِمۡتُم مِّن شَیۡءࣲ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُۥ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِی ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡیَتَـٰمَىٰ وَٱلۡمَسَـٰكِینِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِیلِ إِن كُنتُمۡ ءَامَنتُم بِٱللَّهِ وَمَاۤ أَنزَلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا یَوۡمَ ٱلۡفُرۡقَانِ یَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرٌ"}