الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿واعْلَمُوا أنَّما غَنِمْتُمْ مِن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ولِلرَّسُولِ ولِذِي القُرْبى واليَتامى والمَساكِينِ وابْنِ السَّبِيلِ إنْ كُنْتُمْ آمَنتُمْ بِاللَّهِ وما أنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الفُرْقانِ يَوْمَ التَقى الجَمْعانِ واللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الأنفال: ٤١].
في هذه الآيةِ: تفصيلُ الغنيمةِ، وبيانُ مُستحِقِّيها مِن المُقاتِلينَ وغيرِهم، وتقدَّمَ بيانُ أنّ اللهَ خَصَّ هذه الأمَّةَ بحِلِّ الغنيمةِ، وكانتْ أوَّلَ الأمرِ جُعِلَتْ لرسولِ اللهِ ﷺ يُقسِّمُها على ما أرادَ، ثمَّ فصَلَ اللهُ في أمرِها في هذه الآيةِ.
والمالُ المأخوذُ مِن الكفّارِ أنواعٌ، منه: الغنيمةُ والفَيْءُ والأنفالُ والسَّلَبُ والجِزْيةُ والخَراجُ، وبينَ بعضِ هذه الأسماءِ تداخُلٌ في المعنى، وبينَ بعضِها تطابُقٌ عندَ بعضِ السلفِ، والغنيمةُ هي ما أُخِذَ بإيجافِ الخَيْلِ والرِّكابِ، فتُطلَقُ على ما أُخِذَ بقتالٍ، كما في غَزْوةِ بدرٍ وأُحُدٍ وحُنَيْنٍ وغيرِها، والفَيْءُ ما أُخِذَ مِن المشركينَ بلا قتالٍ، كما كان في فتحِ مَكَّةَ، وفيه نزَلَتْ آيةُ سورةِ الحشرِ، فقد نزَلَتْ في بني النَّضِيرِ، وهي بعدَ بدرٍ.
ولا يصحُّ القولُ بأنّ آيةَ الغنيمةِ في الأنفالِ ناسخةٌ لآيةِ الفَيْءِ مِن سورةِ الحشرِ، كما يقولُه قتادةُ، لأنّ الحشرَ في غزوةِ بَني النَّضِيرِ، والأنفالَ في غزوةِ بدرٍ، وبدرٌ قبلَ بني النَّضِيرِ بالاتِّفاقِ.
وتقدَّمَ الكلامُ على الأنفالِ والسَّلَبِ، ويأتي الكلامُ على الجِزْيةِ في سورةِ التوبةِ بإذنِ اللهِ.
تخميسُ الغنيمةِ وحُكْمُهُ:
وفي هذه الآيةِ: ﴿غَنِمْتُمْ مِن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ﴾ الآيةَ: دليلٌ على وجوبِ تخميسِ القليلِ والكثيرِ، وأنّه لا يُؤخَذُ منها شيءٌ يُستأثَرُ به ولو قليلًا، وفي «المسنَدِ»، مِن حديثِ عُبادةَ مرفوعًا: (أدُّوا الخَيْطَ والمِخْيَطَ، وأَكْبَرَ مِن ذَلِكَ وأَصْغَرَ، ولا تَغُلُّوا) [[أخرجه أحمد (٥ /٣١٦).]].
وقد صحَّ عن النبيِّ ﷺ أنّه قال: (السَّهْمُ تَسْتَخْرِجُهُ مِن جَنْبِكَ، لَيْسَ أنْتَ أحَقَّ بِهِ مِن أخِيكَ المُسْلِمِ)، رواهُ البيهقيُّ، عن عبدِ اللهِ بنِ شَقِيقٍ، عن رجلٍ مِن بَلْقَيْنِ مِن الصحابةِ[[أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (٦ /٣٢٤).]].
وبوجوبِ تخميسِ الغنيمةِ يقولُ عامَّةُ السلفِ والفقهاءِ، وهو قولُ أبي حنيفةَ والشافعيِّ وأحمدَ.
ويُروى عن بعضِ السلفِ، كمالكٍ وبعضِ الأئمَّةِ الفقهاءِ، كابنِ تيميةَ: جوازُ ألاَّ يَقسِمَها الإمامُ تخميسًا، وأنّ له أنْ يجتهدَ في إعطائِها على ما يراهُ وفيما يراهُ، واستُدِلَّ بما فعَلَ النبيُّ ﷺ يومَ حُنَيْنٍ، كما في البخاريِّ، عن عبدِ اللهِ، قال: «لمّا كانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ، آثَرَ النَّبِيُّ ﷺ ناسًا، أعْطى الأَقْرَعَ مِئَةً مِنَ الإبِلِ، وأَعْطى عُيَيْنَةَ مِثْلَ ذَلِكَ، وأَعْطى ناسًا، فَقالَ رَجُلٌ: ما أُرِيدَ بِهَذِهِ القِسْمَةِ وجْهُ اللهِ، فَقُلْتُ: لَأُخْبِرَنَّ النَّبِيَّ ﷺ، قالَ: (رَحِمَ اللهُ مُوسى، قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِن هَذا فَصَبَرَ)»[[أخرجه البخاري (٤٣٣٦).]].
واختُلِفَ فيما فعَلَهُ النبيُّ ﷺ يومَ حُنَيْنٍ: هل كان عطيَّةً مِن أصلِ الغنيمةِ وأنّها لم تُخمَّسْ، أو كان ذلك بعدَ تخميسِها وكانتِ العطيَّةُ مِن خُمُسِ النبيِّ ﷺ خاصَّةً؟ على قولَيْنِ:
قال بالقولِ الأوَّلِ: جماعةٌ مِن العلماءِ، كابنِ عبدِ البَرِّ، وابنِ تيميَّةَ، وابنِ حَجَرٍ، وغيرِهم، ولا يَلزَمُ في كلِّ مَن قال بأنّ النبيَّ ﷺ لم يُخمِّسْ غنيمةَ حُنَيْنٍ: أنّه لا يَرى وجوبَ تخميسِ الغنيمةِ على الأُمراءِ، فمنهم مَن جعَلَها خاصَّةً بالنبيِّ ﷺ.
وقال بالقولِ الثاني: الشافعيُّ، وأبو عُبَيْدٍ القاسمُ بنُ سلاَّمٍ، والقاضي عِياضٌ.
قِسْمةُ غنائمِ حُنَيْنٍ:
والقولُ بأنّ النبيَّ قَسَمَ غنائمَ حُنَيْنٍ، وأنّ ما لم يَقسِمْهُ هو الخُمُسُ ـ هو الذي يُوافِقُ ظواهرَ الأدلَّةِ ويَسيرُ عليها، فإنّ النبيَّ ﷺ ما زالَ يَقسِمُ الغنائمَ منذُ نزَلَتْ عليه هذه الآيةُ، ولو كان ثَمَّةَ ما يخرُجُ عن هذا الأصلِ، لَجاءَ صريحًا، ولاعْتَبَرَهُ الصحابةُ والتابعونَ ناسخًا للأمرِ بتخميسِ الغنيمةِ، ولَعَمِلَ الخلفاءُ به بعدَ ذلك، ويدُلُّ على بقاءِ الحُكْمِ ما جاءَ في «السُّننِ»، مِن حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ[[أخرجه النسائي (٣٦٨٨).]]، وعمرِو بنِ عَبَسَةَ[[أخرجه أبو داود (٢٧٥٥).]]، أنّ الرسولَ قال يومَ حُنَيْنٍ ـ وقد أمْسَكَ وبَرَةً مِن سَنامِ بَعِيرٍ بينَ إصبعَيْهِ ـ: (إنَّهُ لَيْسَ لِي مِنَ الفَيْءِ شَيْءٌ، ولا هَذِهِ، إلاَّ الخُمُسُ، والخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ)، ورواهُ أحمدُ عن عُبادةَ[[أخرجه أحمد (٥ /٣١٩).]]، ومالكٌ عن عمرِو بنِ شُعَيْبٍ[[أخرجه مالك في «الموطأ» (٢ /٤٥٧).]].
وهو صريحٌ في بقاءِ الحُكْمِ يومَ حُنينٍ، وأنّ النبيَّ ﷺ لا يَملِكُ غيرَ الخُمُسِ.
ويعضُدُ ذلك ويُستأنَسُ بما رواهُ الشافعيُّ، قال: «أخبَرَنا بعضُ أصحابِنا، عن محمدِ بنِ إسحاقَ، عن نافعٍ، عن ابنِ عمرَ، أنّ النبيَّ ﷺ أعطى الأَقْرَعَ وأصحابَهُ مِن خُمُسِ الخُمُسِ»[[أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (٦ /٣٣٧).]].
وأمّا كثرةُ المالِ الذي أعطاهُ، فقد أعطى الأقرَعَ بنَ حابِسٍ، وعُيَيْنَةَ بنَ حِصْنٍ، وحَكِيمَ بنَ حِزامٍ، وأبا سُفْيانَ بنَ حَرْبٍ، وابنَهُ مُعاويةَ، والحارثَ بنَ هشامٍ، وسُهَيْلَ بنَ عمرٍو، وحُوَيْطِبَ بنَ عبدِ العُزّى، وصَفْوانَ بنَ أُمَيَّةَ مئةَ بَعِيرٍ، ومالكَ بنَ عَوْفٍ، والعلاءَ بنَ جارِيَةَ الثَّقَفِيَّ حَلِيفَ بَني زُهْرةَ، وغيرَهم مِئَةً مِن الإبلِ، وأَعطى غيرَهم أقَلَّ مِن المِئَةِ، وقد اختلَفَتْ كُتُبُ السِّيَرِ في عددِ مَن تألَّفَ قلْبَه مِن قريشٍ وغَطَفانَ وتميمٍ وبَني قيسٍ وثقيفٍ وغيرِهم مِن الغنيمةِ، وقد ذكَرَ ابنُ هشامٍ تسعةً وعشرينَ رجلًا، ولو جُمِعَ صحيحُ الرِّواياتِ وضَعيفُها، فإنّهم لا يَبلُغُونَ ستِّينَ رجلًا، ولم يُساوِهم جميعًا في العطاءِ، وغنائمُ حُنَيْنٍ عظيمةٌ، وقد قيل: إنّها فوقَ أربعةٍ وعشرينَ ألفًا مِن الإبلِ، ومِن الغنمِ قريبُ الضِّعْفِ مِن الإبلِ، وبضعةُ آلافٍ مِن أواقِي الفِضَّةِ والسَّبْيِ، والخُمُسُ مِن الإبلِ خاصَّةً ـ الذي يَملِكُ النبيُّ ﷺ وضْعَهُ فيما يراهُ ـ: عظيمٌ، ويَستوفي ذلك العَدَدَ ويَزيدُ.
وأمّا ما جاءَ في «الصحيحَيْنِ»، عن أنسِ بنِ مالكٍ، أنّ الرسولَ ﷺ أعطى الطُّلَقاءَ والمُهاجِرينَ، ولم يُعْطِ الأنصارَ شيئًا[[أخرجه البخاري (٤٣٣٣)، ومسلم (١٠٥٩).]]، فظاهرٌ أنّهم لم يُعطَوْا شيئًا مِن النَّفَلِ، وهو الخُمُسُ، وليس بصريحٍ أنّهم لم يُعطَوْا مِن أصلِ الغنيمةِ، فغايةُ ما فيه: أنّهم لم يُقسَمْ لهم مِن الخُمُسِ ما يُتألَّفُونَ به.
وقسمةُ الغنيمةِ يُسكَتُ عنها باعتبارِ أنّها حقٌّ لا اختيارَ لأحدٍ فيها، كما تقدَّمَ، ولمّا كان التخييرُ للنبيِّ ﷺ في الخُمُسِ هو الذي تَتشوَّفُ إليه النفوسُ وتَطمَعُ في نصيبِها منه، لأنّه لا حَقَّ لهم معلومٌ فيه، وزادَ مِن استغرابِ الأنصارِ: أنّ الذين أعطاهُم رسولُ اللهِ ﷺ أدْبَرُوا عنه ولم يُقاتِلُوا معه.
وذهَبَ بعضُهم: إلى أنّ الغنيمةَ لم تُخمَّسْ في حُنَيْنٍ، وأنّ ذلك خاصٌّ بالنبيِّ ﷺ، ولا يكونُ لغيرِه، وذلك أنّه يَملِكُ عِوضًا عن الغنيمةِ يخُصُّ به أهلَها، وهو نفسُهُ، فقُرْبُ النبيِّ ﷺ أعظَمُ مَغنَمٍ، ولذا قال: (ألا تَرْضَوْنَ أنْ يَذْهَبَ النّاسُ بِالدُّنْيا، وتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ تَحُوزُونَهُ إلى بُيُوتِكُمْ؟!)، أخرَجَهُ الشيخانِ[[أخرجه البخاري (٤٣٣٧)، ومسلم (١٠٥٩).]].
وليس لأميرٍ ولا لخليفةٍ أنْ يقولَ ذلك لجيشِهِ ولا لجُنْدِهِ، لأنّه لا يُماثِلُ النبيَّ ﷺ أحدٌ في فضلِ قُرْبِهِ وصُحْبتِه.
تركُ تقسيمِ الغنيمةِ للضرورةِ:
وإنِ اضطُرَّ الإمامُ لأخذِ الغنيمةِ أو بعضِها لِسَدِّ ثَغْرٍ فُتِحَ على المُسلِمينَ لا يُغلَقُ إلاَّ بمالِ الغنيمةِ، وليس في ذلك طمعٌ للإمامِ وهوًى له فيه أو لقَرابتِه، فإنّ ذلك يكونُ مِن بابِ الضَّرُوراتِ، كما لو صُرِفَتْ أموالُ الزكاةِ في غيرِ مَصْرفِها لضرورةٍ تَحُلُّ بالناسِ، فلا تُدفَعُ المَفْسَدةُ إلاَّ بذلك، ولا تقومُ المصلحةُ العظيمةُ إلاَّ به كذلك، جازَ، وقد يُحمَلُ ما في قسمةِ الغنيمةِ يومَ حُنَيْنٍ على ذلك، على فرضِ أنّها لم تُقسَمْ جميعُها على الجيشِ.
وأمّا ما يَستدِلُّ به بعضُ الأئمَّةِ على عدمِ وجوبِ تخميسِ الغنيمةِ، وأنّها لاجتِهادِ الإمامِ: بأنّ النبيَّ ﷺ فرَّقَ بينَها وبينَ قِسْمةِ الزكاةِ، وذلك بما رواهُ أبو داودَ، عن زيادِ بنِ الحارثِ الصُّدائِيِّ رضي الله عنه، قال: أتَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ فَبايَعْتُهُ، قالَ: فَأَتاهُ رَجُلٌ، فَقالَ: أعْطِنِي مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: (إنَّ اللهَ تَعالى لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ نَبِيٍّ ولا غَيْرِهِ فِي الصَّدَقاتِ، حَتّى حَكَمَ فِيها هُوَ، فَجَزَّأَها ثَمانِيَةَ أجْزاءٍ، فَإنْ كُنْتَ مِن تِلْكَ الأَجْزاءِ، أعْطَيْتُكَ حَقَّكَ) [[أخرجه أبو داود (١٦٣٠).]].
فهذا الحديثُ ضعيفٌ، ففي سندِه عبدُ الرحمنِ بنُ زِيادِ بنِ أنْعُمٍ، عن زيادِ بنِ نُعَيْمٍ، عن زيادٍ الصُّدائِيِّ، وابنُ أنْعُمٍ ضعيفُ الحفظِ، قال أحمدُ: مُنكَرُ الحديثِ، وضعَّفَ حديثَهُ يحيى القَطّانُ وأبو حاتمٍ وأبو زُرْعةَ وابنُ مَعِينٍ والنَّسائيُّ، وضعَّفَ هذا الحديثَ الدارقطنيُّ وغيرُه.
ثمَّ إنّ هذا الحديثَ في سياقِ الزكاةِ لا في غيرِها، ولا يَلزَمُ مِن ذلك دخولُ كلِّ مالٍ غيرِ الزكاةِ في اجتهادِ الخليفةِ، ولو كان كذلك، لَدَخَلَتِ المواريثُ، والعَدْلُ في عطيَّةِ الأولادِ والزوجاتِ، وغيرُ ذلك.
وقد تقدَّمَ في سورةِ آلِ عِمرانَ الكلامُ باختصارٍ على أنواعِ الغنيمةِ وما يجوزُ الانتفاعُ به منها بلا إذنٍ عندَ قولِهِ تعالى: ﴿وما كانَ لِنَبِيٍّ أنْ يَغُلَّ ومَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ القِيامَةِ﴾ [آل عمران: ١٦١].
تقسيمُ الغنيمةِ:
وفي هذه الآيةِ: بيانُ أنّ الغنيمةَ تُقسَمُ على أخماسٍ، وتقدَّمَ بيانُ موضعِ الأنفالِ منها في أوَّلِ تفسيرِ هذه السورةِ، وهذه الأخماسُ بيَّنَها اللهُ في هذه الآيةِ أنّها على قسمَيْنِ:
القِسمُ الأوَّلُ: خُمسٌ واحدٌ فصَّلَهُ اللهُ في قولِه: ﴿فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ولِلرَّسُولِ ولِذِي القُرْبى واليَتامى والمَساكِينِ وابْنِ السَّبِيلِ﴾.
وقد صحَّ عن ابنِ عبّاسٍ: أنّ هذا الخُمُسَ يُقسَمُ على أربعةِ أخماسٍ، فقال: كانتِ الغنيمةُ تُقسَمُ على خمسةِ أخماسٍ، فأربعةٌ منها لِمَن قاتَلَ عليها، وخُمُسٌ واحدٌ يُقسَمُ على أربعةٍ: فرُبُعٌ للهِ والرسولِ ولذي القُرْبى، يعني: قَرابةَ النبيِّ ﷺ، فما كان للهِ والرسولِ، فهو لقَرابةِ النبيِّ ﷺ، ولم يأخُذِ النبيُّ ﷺ مِن الخُمُسِ شيئًا، والرُّبُعُ الثاني لليَتامى، والرُّبُعُ الثالثُ للمساكينِ، والرُّبُعُ الرابعُ لابنِ السبيلِ.
رواهُ عليٌّ عنه، أخرَجَه ابنُ جريرٍ، وابنُ أبي حاتمٍ[[«تفسير الطبري» (١١ /١٩١)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٥ /١٧٠٥).]].
ومنهم: مَن جعَلَ الخُمُسَ كلَّه للهِ، يَفعَلُ به نبيُّه ما شاءَ، وفي حُكْمِ نبيِّه إمامُ المُسلِمينَ بالعَدْلِ، ويكونُ تصرُّفُهُ فيه بالمصلحةِ كما يتصرَّفُ في الفَيْءِ، وإنّما ذكَرَ اللهُ الأسماءَ، لبيانِ أولى أهلِ الحقوقِ كرسولِ اللهِ وقَرابتِهِ واليتامى والمساكينِ وابنِ السبيلِ، وليس هذا على سبيلِ الحصرِ.
وهذا القولُ الذي تجتمِعُ عليه أقوالُ أكثرِ السلفِ، ويُستدَلُّ بما صحَّ عندَ البيهقيِّ، عن عبدِ اللهِ بنِ شَقِيقٍ، عن رجُلٍ مِن بَلْقَيْنِ، قال: أتيتُ رسولَ اللهِ ﷺ وهُوَ بِوادِي القُرى، وهُوَ يَعْرِضُ فَرَسًا، فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ، ما تَقُولُ فِي الغَنِيمَةِ؟ قالَ: (لِلَّهِ خُمُسُها، وأَرْبَعَةُ أخْماسٍ لِلْجَيْشِ)، قُلْتُ: فَما أحَدٌ أوْلى بِهِ مِن أحَدٍ؟ قالَ: (لا، ولا السَّهْمُ تَسْتَخْرِجُهُ مِن جَنْبِكَ لَيْسَ أنْتَ أحَقَّ بِهِ مِن أخِيكَ المُسْلِمِ) [[أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (٦ /٣٢٤).]].
وهذا الصحيحُ الذي يُوافِقُ مجموعَ الأدلَّةِ في أنّ الخُمُسَ لرسولِ اللهِ ﷺ ولإمامِ المُسلِمِينَ، يُعْطِيهِ الأَحَقَّ فالأَحَقَّ، والأَحْوَجَ فالأحوَجَ، ويدُلُّ على أنّ الأمرَ فيه إلى اختيارِهِ ﷺ واختيارِ نائبِه: ما رواهُ أحمدُ، عن عُبادةَ، قال: إنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ صَلّى بِهِمْ فِي غَزْوِهِمْ إلى بَعِيرٍ مِنَ المَقْسِمِ، فَلَمّا سَلَّمَ، قامَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَتَناوَلَ وبَرَةً بَيْنَ أُنْمُلَتَيْهِ، فَقالَ: (إنَّ هَذِهِ مِن غَنائِمِكُمْ، وإنَّهُ لَيْسَ لِي فِيها إلاَّ نَصِيبِي مَعَكُمْ إلاَّ الخُمُسُ، والخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ، فَأَدُّوا الخَيْطَ والمِخْيَطَ، وأَكْبَرَ مِن ذَلِكَ وأَصْغَرَ، ولا تَغُلُّوا، فَإنَّ الغُلُولَ نارٌ وعارٌ عَلى أصْحابِهِ فِي الدُّنْيا والآْخِرَةِ) [[أخرجه أحمد (٥ /٣١٦).]].
وهو عندَ أبي داودَ بنحوِهِ، مِن حديثِ عمرِو بنِ عَبَسَةَ مُختصرًا[[أخرجه أبو داود (٢٧٥٥).]].
وقولُهُ تعالى: ﴿لِلَّهِ خُمُسَهُ﴾ يتضمَّنُ ما ذكَرُوا في هذه القِسْمةِ سِتًّا: للهِ ورسولِه وذوي القُرْبى واليتامى والمساكينِ وابنِ السبيلِ، ولا خلافَ في كلامِ السلفِ: أنّه لا يجبُ أنْ يُقسَمَ الخُمُسُ أسداسًا، فيكونَ ستةَ أقسامٍ، وقد ذكَرَ ابنُ جريرٍ أنّ الخلافَ في تخميسِ الخُمُسِ وتربيعِهِ وتَثليثِهِ وتنصيفِه[[«تفسير الطبري» (١١ /١٩١).]].
وقد اختُلِفَ في المعنى الذي ذُكِرَ لأجْلِه حقُّ اللهِ في الخُمُسِ، فقيل: ذُكِرَ اسمُ اللهِ للتبرُّكِ، وأمّا الحقوقُ فكلُّها للهِ، وهذا رواهُ الضحّاكُ عن ابنِ عبّاسٍ[[«تفسير الطبري» (١١ /١٨٨).]].
وقيل: إنّ القَسْمَ الذي يكونُ للهِ، هو للكعبةِ، وأرسَلَ هذا القولَ أبو العاليةِ إلى رسولِ اللهِ ﷺ، ثمَّ قال: قال النبيُّ: لا تَجعَلوا للهِ نصيبًا، فإنّ للهِ الدُّنيا والآخِرةَ[[«تفسير الطبري» (١١ /١٩٠).]].
وأنكَرَ ابنُ جريرٍ تقسيمَ أبي العاليةِ الخُمُسَ إلى أسداسٍ[[«تفسير الطبري» (١١ /١٩١).]]، ولا أعلَمُ مَن قال بقولِ أبي العاليةِ مِن السلفِ.
وقد صحَّ عن عطاءٍ: أنّ حقَّ اللهِ لرسولِ اللهِ ﷺ يَفْعَلُ فيه ما شاءَ[[«تفسير الطبري» (١١ /١٨٩)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٥ /١٧٠٣).]].
فجعَلَ حقَّ اللهِ وحقَّ رسولِهِ واحدًا، رُوِيَ هذا عن ابنِ عبّاسٍ والشَّعْبيِّ والنخَعيِّ والحسنِ[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٥ /١٧٠٣).]].
وأمّا قولُه تعالى: ﴿ولِلرَّسُولِ﴾، فقد صحَّ عن ابنِ عبّاسٍ: أنّ ما للهِ ولرسولِه واحدٌ[[«تفسير الطبري» (١١ /١٨٨)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٥ /١٧٠٣).]].
وبعدَ وفاةِ النبيِّ ﷺ اختلَفَ الناسُ في حقِّ النبيِّ ﷺ مِن الخُمُسِ:
فمـنـهـم مَن قال: هو للخليفةِ مِن بعدِه.
ومنهم مَن قال: هو لإعدادِ الجهادِ، وبه عَمِلَ الخلفاءُ أبو بكرٍ وعمرُ، كما رواهُ الحسينُ بنُ محمدِ بنِ عليٍّ، أخرَجَهُ ابنُ أبي حاتمٍ[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٥ /١٧٠٤).]].
ومـنـهـم مَن قال: حقُّ رسولِ اللهِ مردودٌ في الخُمُسِ، والخُمُسُ يُقسَمُ على أربعةٍ، على ما جاءَ عن ابنِ عبّاسٍ في تقسيمِ الخُمُسِ.
وكما جُعِلَ حقُّ اللهِ مع حقِّ نبيِّه، جعَلَ بعضُهُمْ كابنِ جُرَيْجٍ حقَّ النبيِّ ﷺ مع حقِّ ذوي القُربى بعدَ وفاتِه.
سهمُ قَرابةِ النبيِّ ﷺ مِن الغنيمةِ:
وأمّا قولُه تعالى: ﴿ولِذِي القُرْبى﴾، فالمرادُ بهم هم قَرابةُ النبيِّ ﷺ خاصَّةً عندَ عامَّةِ السلفِ، وهم: بنو هاشمٍ، وبنو عبدِ المُطَّلِبِ، مِن أبناءِ عبدِ مَنافٍ، ولعبدِ منافٍ أبناءٌ أربعةٌ: هاشمٌ، والمُطَّلِبُ، ونَوْفَلٌ، وعبدُ شمسٍ، والنبيُّ ﷺ مِن ولدِ هاشمٍ، فهو محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ المُطَّلِبِ شَيْبَةِ الحمدِ بنِ هاشمِ بنِ عبدِ منافٍ، وخُصَّ بنو المطَّلبِ مِن بني عبدِ منافٍ، لأنّهم ناصَرُوا النبيَّ ﷺ حينَما تواطَأتْ عليه قريشٌ في الشِّعْبِ، وكان بنو المُطَّلِبِ مع بني هاشمٍ، وكان أبناءُ نَوْفَلٍ وعبدِ شمسٍ مع قريشٍ على أبناءِ عمومتِهم، ومع أنّ كثيرًا مِن بني المُطَّلِبِ ناصَرُوا النبيَّ ﷺ حَمِيَّةً للقَرابةِ، إلاَّ أنّ ذلك قَرَّبَهُمْ، ولذا قال ﷺ: (إنَّما بَنُو هاشِمٍ وبَنُو المُطَّلِبِ شَيْءٌ واحِدٌ)، رواهُ البخاريُّ مِن حديثِ جُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ، لمّا ذهَبَ هو وعثمانُ يَشكُوانِ إلى رسولِ اللهِ ﷺ عدمَ عَطِيَّتِهم، وعثمانُ مِن بني عبدِ شمسٍ، وجُبَيْرُ بنُ مُطعِمٍ مِن بني نَوْفَلٍ، وعبدُ شمسٍ ونَوْفَلٌ وهاشمٌ والمُطَّلِبُ سواءٌ، الجميعُ بنو عبدِ مَنافٍ، وفيه قال جُبيرٌ: «ولم يَقْسِمِ النبيُّ ﷺ لبني عبدِ شمسٍ وبني نَوْفَلٍ شيئًا»[[أخرجه البخاري (٤٢٢٩).]].
ومنهم: مَن خَصَّ القَرابةَ ببني هاشمٍ فقطْ، وهم آلُ عليٍّ وآلُ جعفرٍ وآلُ عَقِيلٍ وآلُ العبّاسِ، وبنو الحارثِ بنِ عبدِ المُطَّلِبِ، وذلك لِما ثبَتَ في مسلمٍ مِن حديثِ زيدِ بنِ ثابتٍ، كما يأتي.
وصَحَّ عن الحسنِ البصريِّ وقتادةَ: أنّهم قَرابةُ الخليفةِ والوالي، وليس المقصودُ بذلك هو قَرابةَ النبيِّ ﷺ خاصَّةً[[«تفسير الطبري» (١١ /١٩٥)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٥ /١٧٠٥).]]، ومَن جعَل سَهْمَ ذوي القُربى لقَرابةِ الخليفةِ، فلا بدَّ أنْ يجعَلَ سهمَ النبيِّ ﷺ للخليفةِ، لأنّه لا يصحُّ أنْ تأخُذَ قَرابتُهُ ولا يأخُذَ هو.
والأوَّلُ أصَحُّ وأظهَرُ، وقَرابةُ النبيِّ هم المُرادونَ عندَ الإطلاقِ، فلهم مِن الخُمُسِ الخُمُسُ، كما رَوى عِكرمةُ عن ابنِ عبّاسٍ، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: (رَغِبْتُ لَكُمْ عَنْ غُسالَةِ الأَيْدِي، لأَنَّ لَكُمْ فِي خُمُسِ الخُمُسِ ما يُغْنِيكُمْ أوْ يَكْفِيكُمْ) [[«تفسير ابن أبي حاتم» (٥ /١٧٠٥).]].
حسَّنَهُ بعضُ المُحدِّثينَ، وهو مُحتمِلٌ ذلك.
أخْذُ ذَوِي القُرْبى للزَّكاةِ المفروضةِ:
لا يختلِفُ العلماءُ: أنّ بني هاشمٍ ذوو قُربى النبيِّ ﷺ، وإنّما الخلافُ في غيرِهم:
فمِن العلماءِ: مَن حصَرَهم في بني هاشمٍ، بهذا قال مالكٌ وأبو حنيفةَ.
وأمّا الشافعيُّ وأحمدُ في روايةٍ: فيَرَوْنَ أنّ الزكاةَ تحرُمُ على بني هاشمٍ وبني المُطَّلِبِ جميعًا.
وحُجَّةُ مَن خَصَّ بني هاشمٍ دونَ غيرِهم: ما ثبَتَ في مسلمٍ، مِن حديثِ زيدِ بنِ ثابتٍ، قال: قامَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَوْمًا فِينا خَطِيبًا، بِماءٍ يُدْعى خُمًّا بَيْنَ مَكَّةَ والمَدِينَةِ، فَحَمِدَ اللهَ وأَثْنى عَلَيْهِ، ووَعَظَ وذَكَّرَ، ثُمَّ قالَ: (أمّا بَعْدُ، ألا أيُّها النّاسُ، فَإنَّما أنا بَشَرٌ يُوشِكُ أنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ، وأَنا تارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ: أوَّلُهُما كِتابُ اللهِ فِيهِ الهُدى والنُّورُ، فَخُذُوا بِكِتابِ اللهِ، واسْتَمْسِكُوا بِهِ)، فَحَثَّ عَلى كِتابِ اللهِ ورَغَّبَ فِيهِ، ثُمَّ قالَ: (وأَهْلُ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أهْلِ بَيْتِي)، فَقالَ لَهُ حُصَيْنٌ: ومَن أهْلُ بَيْتِهِ يا زَيْدُ؟ ألَيْسَ نِساؤُهُ مِن أهْلِ بَيْتِهِ؟ قالَ: نِساؤُهُ مِن أهْلِ بَيْتِهِ، ولَكِنْ أهْلُ بَيْتِهِ مَن حُرِمَ الصَّدَقَةَ بَعْدَهُ، قالَ: ومَن هُمْ؟ قالَ: هُمْ آلُ عَلِيٍّ، وآلُ عَقِيلٍ، وآلُ جَعْفَرٍ، وآلُ عَبّاسٍ، قالَ: كُلُّ هَؤُلاءِ حُرِمَ الصَّدَقَةَ؟ قالَ: نَعَمْ[[أخرجه مسلم (٢٤٠٨).]].
وحُجَّةُ مَن أدخَلَ بَني المُطَّلِبِ: ما رواهُ البخاريُّ، مِن حديثِ جُبَيْرِ بنِ مُطعِمٍ: (إنَّما بَنُو هاشِمٍ وبَنُو المُطَّلِبِ شَيْءٌ واحِدٌ) [[سبق تخريجه.]].
وكلُّ مَن أدخَلَ بَني المُطَّلِبِ في ذوي القُربى، وجعَلَ لهم سهمًا مِن الخُمُسِ، فالأصلُ أنّه يَلتزِمُ بالقولِ بتحريمِ الزكاةِ عليهم تَبَعًا، لأنّ اللهَ منَعَهم وعوَّضَهم، ومِن الفقهاءِ: مَن لا يَلتزمُ بذلك، لاختلافِ أصلِ عِلَّةِ استحقاقِ الخُمُسِ عندَه، فيَرى أنّ بني المُطَّلِبِ أُعْطُوا مِن الخُمُسِ لأجلِ مُناصرتِهم النبيَّ ﷺ فقطْ، لا لأجلِ مجرَّدِ قَرابتِهم، لاستوائِهم مع غيرِهم بني نَوْفَلٍ وبني عبدِ شمسٍ، وهو جزاءٌ وإحسانٌ إليهم، وأمّا الزكاةُ، فبابٌ آخَرُ تَحِلُّ لهم كغيرِهم، وبهذا يقولُ جماعةٌ مِن أصحابِ أحمدَ.
والقولُ بهذا قد يفضِّلُ بني المُطَّلِبِ على بني هاشمٍ مِن وجهِ سَعَةِ الكسبِ، أنّهم استحَقُّوا الخُمُسَ، وحَلَّتْ لهم الزكاةُ، ولا خلافَ أنّ بني هاشمٍ أفضَلُ مِن بني المُطَّلِبِ.
وتحرُمُ على مَوالي ذوي القُربى الزكاةُ كما تحرُمُ عليهم، وقد روى أبو داودَ، عن النبيِّ ﷺ: (مَوْلى القَوْمِ مِن أنْفُسِهِمْ، وإنّا لا تَحِلُّ لَنا الصَّدَقَةُ) [[أخرجه أبو داود (١٦٥٠).]].
ويدخُلُ أزواجُ النبيِّ ﷺ في هذا الحُكْمِ، وهم أولى دخولًا مِن المَوالي فيه، لأنّهُنَّ أقرَبُ وأفضَلُ، وقد جعَلَهُنَّ اللهُ مِن آلِ بيتِه.
وإذا مُنِعَتِ القَرابةُ الخُمُسَ، فلهم أنْ يأخُذوا مِن الصَّدَقةِ، لأنّ اللهَ لم يَمْنَعْهم الصدقةَ إلاَّ وقد عوَّضَهم مِن الخُمُسِ، فإذا مُنِعُوهُ، رجَعُوا فصارُوا كغيرِهم، حتى لا تَفسُدَ دُنياهم بمنعِ المالِ عن فاقتِهم ومَسْغَبَتِهم، ولم تُرِدِ الشريعةُ الإضرارَ بهم، بل إكْرامَهم، وهذا مَقصَدٌ صحيحٌ، ولا أعظَمَ في الإضرارِ بفُقَرائِهم مِن منعِهم الخُمُسَ والزكاةَ معًا.
وأخذُ فقيرِهم مِن الزكاةِ عندَ منعِ الخُمُسِ وحاجتِه إليها جائزٌ، حكاهُ الطحاويُّ عن أبي حنيفةَ، وبه قال القاضي يعقوبُ، ومِن الحنفيَّةِ أبو يوسفَ، ومِن الشافعيَّةِ الإصْطَخْريُّ، ورجَّحَهُ ابنُ تيميَّةَ، وليستْ حُرْمةُ الصدَقةِ على ذوي القُربى كحُرْمةِ المَيْتَةِ على الناسِ، وقد أحَلَّها اللهُ لكلِّ مُضطرٍّ غيرَ باغٍ ولا عادٍ.
أخذُ ذوي القُرْبى للزكاةِ الواجبة:
ولا خلافَ عندَ العلماءِ أنّ الزكاةَ الواجِبةَ لا تَحِلُّ لآلِ بيتِ النبيِّ ﷺ، لِما ثبَتَ في «الصحيحَيْنِ»، عنه ﷺ، قال: (أما عَلِمْتَ أنَّ آلَ مُحَمَّدٍ ﷺ لا يَأْكُلُونَ الصَّدَقَةَ؟) [[أخرجه البخاري (١٤٨٥)، ومسلم (١٠٦٩).]]، والأحاديثُ بمنعِ أخذِهِمُ الزكاةَ مستفيضةٌ، جاء مِن حديثِ أبي هريرةَ وأنسٍ وأبي رافعٍ وعبدِ المُطَّلِبِ بنِ ربيعةَ، وقد حكى الإجماعَ غيرُ واحدٍ، كابنِ عبدِ البَرِّ وابنِ قُدامةَ وغيرِهما.
أخذُ ذوي القُربى لصدقةِ التطوُّعِ:
وأمّا صَدَقاتُ التطوُّعِ، فلا حرَجَ عليهم في أخذِها في قولِ جمهورِ العلماءِ، ونُسِبَ إلى مذاهبِ الأئمَّةِ الأربعةِ.
وقد حكى ابنُ مُفْلِحٍ الإجماعَ على ذلك.
وفيه نظرٌ، فالخلافُ معروفٌ، ولأحمدَ قولانِ فيها نقَلَهُما ابنُ مُفْلِحٍ، وذلك أنّ عليًّا والعبّاسَ وفاطمةَ وغيرَهم تصدَّقُوا، وأَوْقَفُوا أوقافًا على جماعةٍ مِن بني هاشمٍ وبني المُطَّلِبِ، والأصلُ أنّ الزكاةَ والصدَقةَ مِن بني هاشمٍ كالزكاةِ والصدَقةِ مِن غيرِهم، فالنهيُ لم يفرِّقْ بينَهما، وقد فرَّقَ بينَهما بعضُ العلماءِ مِن أهلِ البيتِ، وبه قال ابنُ تيميَّةَ، وقد حمَل الشافعيُّ صدَقةَ عليٍّ والعباسِ وفاطمةَ على أنّها صدَقةُ تطوُّعٍ لا فرضٍ، وهذا الظاهرُ، والشافعيُّ أعلَمُ بذلك، فهو مُطَّلِبِيٌّ.
وعلَّلَ بعضُ العلماءِ تحريمَ أخذِ ذوي القُرْبى الزكاةَ برفعِ يدِ الأَدنى عن الأَعلى، يَعني: لا تعلو يدُ غيرِ ذوي القُرْبى عليهم، وتَبَعًا لذلك أجازَ أخْذَ بني هاشمٍ الزكاةَ مِن بني هاشمٍ، وظاهرُ الحديثِ تعليلُ الزكاةِ بأوساخِ الناسِ لا لمجرَّدِ علوِّ اليدِ، وعلوُّ اليدِ قد يثبُتُ بغيرِ الزكاةِ، فلم تحرِّمْهُ الشريعةُ، كفعلِ المعروفِ وقضاءِ الحاجةِ، فإنّ النبيَّ ﷺ قال كما في «الصحيحَيْنِ»: (كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ) [[أخرجه البخاري (٦٠٢١) عن جابر، ومسلم (١٠٠٥) عن حذيفة.]]، وسمّى اللهُ بَذْلَ الحقِّ لأهلِه والعفوَ والصَّفْحَ صدقةً، قال اللهُ تعالى: ﴿فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ﴾ [المائدة: ٤٥]، وسمّى إنظارَ المُعْسِرِ والتخفيفَ عنه صدَقةً، قال تعالى: ﴿فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ وأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: ٢٨٠]، وإنّما تحرُمُ زكاةُ الأموالِ خاصَّةً، لا سائرُ الإعاناتِ والهِباتِ وقضاءِ الحاجاتِ.
والصحيحُ مِن مذهبِ الشافعيَّةِ والحنابلةِ والحنفيَّةِ: جوازُ أخذِ ذوي القُرْبى صدَقةَ التطوُّعِ مطلَقًا.
صدَقةُ التطوُّعِ للنبيِّ ﷺ:
وقد امتنَعَ النبيُّ ﷺ عن قَبُولِ صدَقةِ التطوُّعِ، لأنّ النبيَّ ﷺ يُثِيبُ على العطيَّةِ، ولو كانتْ هَدِيَّةً، لأثابَ عليها، ولكنَّها صدَقةٌ، والصدَقةُ لا يُثابُ عليها، لأنّ مُنفِقَها يبتغي بها وجهَ اللهِ خالصةً له، ويجوزُ في الهَدِيَّةِ مِن طلبِ الوُدِّ الخاصِّ والمحبَّةِ الخاصَّةِ والمكافأةِ ما لا يجوزُ في الصدَقةِ.
وعامَّةُ الفُقَهاءِ على أنّ النبيَّ ﷺ لا تَحِلُّ له صدَقةُ التطوُّعِ، كما أنّها لا تَحِلُّ له الزكاةُ المفروضةُ، ومنهم: مَن حكى الإجماعَ على ذلك كالخَطّابيِّ، وللشافعيِّ قولٌ ولأحمدَ روايةٌ في خلافِ ذلك نقَلَها المَيْمُونيُّ.
وفي فَهْمِ المنقولِ عن أحمدَ في ذلك نظرٌ، فالصريحُ عنه حكايةً تحريمُ صدقةِ التطوُّعِ مِن الأموالِ، وأمّا عمومُ المعروفِ فجائزٌ ولو جاء في النصِّ تسميتُهُ صَدَقةً، كما قال ﷺ: (كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ)، فيُبذَلُ للنبيِّ ﷺ معروفٌ مِن غيرِ الأموالِ، وهو بابٌ واسعٌ يَحِلُّ له ولآلِ بيتِه، مِن هديَّةٍ، وحَمْلِ مَتاعٍ، وقضاءِ حاجةٍ، وسائرِ الخِدْمةِ، فهي معروفٌ وصدَقةٌ.
وبعضُ الفُقَهاءِ مِن أصحابِ مالكٍ: يَجْعَلُ تَرْكَ النبيِّ ﷺ لِصَدَقةِ التطوُّعِ تنزُّهًا، وتَرْكَهُ للزَّكاةِ المفروضةِ تحريمًا.
الهديَّةُ للنبيِّ ﷺ وقَرابَتِهِ:
والهديَّةُ حلالٌ للنبيِّ ﷺ بلا خلافٍ، والهديَّةُ له ولقَرابتِهِ أفضَلُ مِن الصَّدَقةِ عليهم، وإنْ كانتِ الصدقةُ وصَلَتْ إلى غيرِ ذوي القُرْبى ثمَّ أهداها إلى واحدٍ منهم، جازَ، لأنّها تتحوَّلُ بتحوُّلِ اليدِ بها، فعن أنسٍ، أنَّ النَّبِيَّ ﷺ أُتِيَ بِلَحْمٍ تُصُدِّقَ بِهِ عَلى بَرِيرَةَ مَوْلاةِ عائشةَ رضي الله عنها، فقال: (هُوَ عَلَيْها صَدَقَةٌ، وهُوَ لَنا هَدِيَّةٌ) [[أخرجه البخاري (١٤٩٥)، ومسلم (١٠٧٤).]].
ولا خلافَ في جوازِ انتفاعِ ذوي القُربى مِن المالِ والطعامِ المباحِ، كالولائمِ والعقيقةِ وطعامِ إكرامِ الضَّيْفِ.
وقولُه: ﴿واليَتامى والمَساكِينِ وابْنِ السَّبِيلِ﴾، منهم مَن جعَلَهم يتامى قَرابةِ النبيِّ ﷺ ومساكينَهم، كما صحَّ عن المِنهالِ بنِ عمرٍو، قال: سألتُ عبدَ اللهِ بنَ محمدِ بنِ عليٍّ، وعليَّ بنَ الحُسَيْنِ، عن الخُمُسِ؟ فقالا: هو لنا، فقلتُ لعليٍّ: فإنّ اللَّهَ يقولُ: ﴿واليَتامى والمَساكِينِ وابْنِ السَّبِيلِ﴾ ؟ فقالا: يتامانا ومَساكينُنا[[«تفسير الطبري» (١١ /١٩٩).]].
القسمُ الثاني: أربعةُ أخماسٍ، وهي للمُقاتِلينَ، لأنّ اللهَ أضافَها إليهم قبلَ بيانِ الخُمُسِ الأوَّلِ بقولِه: ﴿واعْلَمُوا أنَّما غَنِمْتُمْ﴾، فجعَلَ الغنيمةَ لهم مِن جهةِ الأصلِ.
ويظُنُّ بعضُ الفُقَهاءِ مِن المالكيَّةِ وغيرِهم: أنّ الأربعةَ الأخماسِ مسكوتٌ عنها.
وهذا فيه نظرٌ، بل هي مُضافةٌ إلى أهلِها في أوَّلِ الآيةِ، فأُخِذَ منها خُمُسٌ، وبَقِيَتِ الأربعةُ الأخماسِ على مِلكِ أهلِها لها، فاللهُ أضافَها إليهم قبلَ أنْ يفصِّلَ فيها، وهذا دليلٌ على تملُّكِهم لها.
وتُقسَمُ الغنيمةُ على مَن شَهِدَ الغزوَ، كما قَسَمَها رسولُ اللهِ ﷺ: للرّاجِلِ سهمٌ، وللفارسِ ثلاثةُ أسهُمٍ، له واحدٌ ولفَرَسِهِ اثنانِ، ولم يكنِ النبيُّ ﷺ يُعطِي كلَّ راكبٍ كراكبِ الحمارِ والبعيرِ ثلاثةَ أسهُمٍ، وإنّما هو خاصٌّ بالفَرَسِ، لأنّ للفَرَسِ مؤونةً وكُلْفةً على صاحبِها ليستْ في غيرِها، وأمّا المَراكِبُ العسكريَّةُ إنْ كانتْ للدَّوْلةِ تَرْعاها صيانةً ومؤونةً، فليس لراكِبِها سهمُ الفَرَسِ.
ومَن قاتَلَ في الغزوِ، وقُتِلَ في أرضِ المعركةِ، فاختُلِفَ في الضَّرْبِ له مِن الغنيمةِ على قولَيْنِ:
ذهَبَ الشافعيُّ: إلى أنّه لا يُضرَبُ له مِن الغنيمةِ.
وذهَبَ الأوزاعيُّ وأبو حنيفةَ: إلى أنّه يُضرَبُ له.
والأوَّلُ أظهَرُ، فقد مات أقوامٌ مِن أصحابِ النبيِّ ﷺ في بَدْرٍ وحُنَيْنٍ وخَيْبَرَ وغيرِها، ولم يَثبُتْ أنّه قَسَمَ لواحدٍ منهم.
ولا حرَجَ مِن قِسْمةِ الغنيمةِ في أرضِ الغزوِ، وقبلَ الوصولِ إلى دارِ الإسلامِ، كما فعَل النبيُّ ﷺ في مواضعَ.
ومَن غَنِمَ سلاحًا واحتاجَ إليه في أرضِ المعركةِ، فإنّه يُقاتِلُ به ولا يَنتظرُ قِسْمتَهُ فيتعرَّضَ إلى الهَلَكَةِ، ويَنتصِرَ العدوُّ.
والأموالُ التي تُغنَمُ على نوعَيْنِ:
الـنـوعُ الأوَّلُ: أموالٌ منقولةٌ يَنتفِعُ منها الفردُ بنفسِهِ، كالنَّقْدَيْنِ والأنعامِ والألبِسةِ والأجهزةِ الخاصَّةِ، وليس انتفاعُها محكومًا بجماعةٍ كالسُّفُنِ والمراكبِ الكبيرةِ، فهذا النوعُ يُقسَمُ في الغنيمةِ.
النوعُ الثاني: أموالٌ ثابتةٌ غيرُ منقولةٍ، أو منقولةٌ لكنَّ النفعَ فيها لجماعةٍ لا لأفرادٍ، كالسُّفُنِ والطائراتِ والمراكبِ الكبيرةِ وآلاتِ المصانعِ، وأدواتِ الحربِ، كالمدافعِ والدبّاباتِ وقاطراتِ الجندِ ومَراكِبِهم، فضلًا عن المَزارعِ والبساتينِ، فهذه لم يكنْ يُقسَمُ مِثْلُها في زمنِ النبيِّ ﷺ ولا خلفائِه، وإنّما تكونُ لصالحِ المُسلِمينَ عامَّةً في الغزوِ وغيرِه.
{"ayah":"۞ وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّمَا غَنِمۡتُم مِّن شَیۡءࣲ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُۥ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِی ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡیَتَـٰمَىٰ وَٱلۡمَسَـٰكِینِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِیلِ إِن كُنتُمۡ ءَامَنتُم بِٱللَّهِ وَمَاۤ أَنزَلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا یَوۡمَ ٱلۡفُرۡقَانِ یَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرٌ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق