الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكم أنْفُسَكم لا يَضُرُّكم مَن ضَلَّ إذا اهْتَدَيْتُمْ﴾، قَدْ يَتَوَهَّمُ الجاهِلُ مِن ظاهِرِ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ عَدَمَ وُجُوبِ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ، ولَكِنَّ نَفْسَ الآيَةِ فِيها الإشارَةُ إلى أنَّ ذَلِكَ فِيما إذا بَلَغَ جَهْدَهُ فَلَمْ يَقْبَلْ مِنهُ المَأمُورُ، وذَلِكَ في قَوْلِهِ: ﴿إذا اهْتَدَيْتُمْ﴾ [المائدة: ١٠٥]؛ لِأنَّ مَن تَرَكَ الأمْرَ بِالمَعْرُوفِ لَمْ يَهْتَدِ، ومِمَّنْ قالَ بِهَذا حُذَيْفَةُ، وسَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ، كَما نَقَلَهُ عَنْهُما الألُوسِيُّ في ”تَفْسِيرِهِ“، وابْنُ جَرِيرٍ، ونَقَلَهُ القُرْطُبِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، وأبِي عُبَيْدٍ القاسِمِ بْنِ سَلّامٍ، ونَقَلَ نَحْوَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ جَماعَةٍ مِنَ الصَّحابَةِ، مِنهُمُ ابْنُ عُمَرَ، وابْنُ مَسْعُودٍ.
فَمِنَ العُلَماءِ مَن قالَ: ﴿إذا اهْتَدَيْتُمْ﴾، أيْ: أمَرْتُمْ فَلَمْ يُسْمَعْ مِنكم، ومِنهم مَن قالَ: يَدْخُلُ الأمْرُ بِالمَعْرُوفِ في المُرادِ بِالِاهْتِداءِ في الآيَةِ، وهو ظاهِرٌ جِدًّا ولا يَنْبَغِي (p-٤٦٠)العُدُولُ عَنْهُ لِمُنْصِفٍ.
وَمِمّا يَدُلُّ عَلى أنَّ تارِكَ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ غَيْرُ مُهْتَدٍ، أنَّ اللَّهَ تَعالى أقْسَمَ أنَّهُ في خُسْرٍ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والعَصْرِ﴾ ﴿إنَّ الإنْسانَ لَفي خُسْرٍ﴾ ﴿إلّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ وتَواصَوْا بِالحَقِّ وتَواصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: ١، ٢، ٣]، فالحَقُّ وُجُوبُ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ، وبَعْدَ أداءِ الواجِبِ لا يَضُرُّ الآمِرَ ضَلالُ مَن ضَلَّ، وقَدْ دَلَّتِ الآياتُ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿واتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكم خاصَّةً﴾ [الأنفال: ٢٥]، والأحادِيثُ عَلى أنَّ النّاسَ إنْ لَمْ يَأْمُرُوا بِالمَعْرُوفِ، ولَمْ يَنْهَوْا عَنِ المُنْكَرِ، عَمَّهُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِن عِنْدِهِ.
فَمِن ذَلِكَ ما خَرَّجَهُ الشَّيْخانِ في ”صَحِيحَيْهِما“ «عَنْ أُمِّ المُؤْمِنِينَ أُمِّ الحَكَمِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَخَلَ عَلَيْها فَزِعًا مَرْعُوبًا يَقُولُ: ”لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، ويْلٌ لِلْعَرَبِ مِن شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ اليَوْمَ مِن رَدْمِ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ، وحَلَّقَ بِإصْبَعَيْهِ الإبْهامِ والَّتِي تَلِيها، فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ ! أنَهْلِكُ وفِينا الصّالِحُونَ ؟، قالَ: نَعَمْ إذا كَثُرَ الخَبْثُ“» .
وَعَنِ النُّعْمانِ بْنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «مَثَلُ القائِمِ في حُدُودِ اللَّهِ، والواقِعِ فِيها، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلى سَفِينَةٍ، فَصارَ بَعْضُهم أعْلاها، وبَعْضُهم أسْفَلَها، وكانَ الَّذِينَ في أسْفَلِها إذا اسْتَقَوْا مِنَ الماءِ مَرُّوا عَلى مَن فَوْقَهم، فَقالُوا: لَوْ أنّا خَرَقْنا في نَصِيبِنا خَرْقًا، ولَمْ نُؤْذِ مَن فَوْقَنا، فَإنْ تَرَكُوهم وما أرادُوا هَلَكُوا، وهَلَكُوا جَمِيعًا، وإنْ أخَذُوا عَلى أيْدِيهِمْ نَجَوْا، ونَجَوْا جَمِيعًا»، أخْرَجَهُ البُخارِيُّ والتِّرْمِذِيُّ.
وَعَنْ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالَ: «يا أيُّها النّاسُ إنَّكم تَقْرَءُونَ هَذِهِ الآيَةَ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكم أنْفُسَكم لا يَضُرُّكم مَن ضَلَّ إذا اهْتَدَيْتُمْ﴾، وإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: ”إنْ رَأى النّاسُ الظّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلى يَدِهِ، أوْشَكَ أنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقابٍ مِنهُ“»، رَواهُ أبُو داوُدَ، والتِّرْمِذِيُّ، والنَّسائِيُّ بِأسانِيدَ صَحِيحَةٍ، وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ: «إنَّ أوَّلَ ما دَخَلَ النَّقْصُ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ، أنَّهُ كانَ الرَّجُلُ يَلْقى الرَّجُلَ فَيَقُولُ: يا هَذا اتَّقِ اللَّهَ، ودَعْ ما تَصْنَعُ، فَإنَّهُ لا يَحِلُّ لَكَ، ثُمَّ يَلْقاهُ مِنَ الغَدِ وهو عَلى حالِهِ، فَلا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أنْ يَكُونَ أكِيلَهُ وشَرِيبَهُ وقَعِيدَهُ، فَلَمّا فَعَلُوا (p-٤٦١)ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ ”، ثُمَّ قالَ: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وعِيسى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِما عَصَوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ﴾ ﴿كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ﴾ ﴿تَرى كَثِيرًا مِنهم يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهم أنْفُسُهم أنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وفي العَذابِ هم خالِدُونَ﴾ ﴿وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والنَّبِيِّ وما أُنْزِلَ إلَيْهِ ما اتَّخَذُوهم أوْلِياءَ ولَكِنَّ كَثِيرًا مِنهم فاسِقُونَ﴾ [المائدة: ٧٩، ٨٠، ٨١]، ثُمَّ قالَ:“ كَلّا واللَّهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالمَعْرُوفِ، ولَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ، ولَتَأْخُذُنَّ عَلى يَدِ الظّالِمِ، ولَتَأْطُرُنَّهُ عَلى الحَقِّ أطْرًا، ولَتَقْصُرُنَّهُ عَلى الحَقِّ قَصْرًا، أوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِكم بِبَعْضٍ، ثُمَّ لَيَلْعَنَّنَكم كَما لَعَنَهم» .
رَواهُ أبُو داوُدَ، والتِّرْمِذِيُّ وقالَ: حَسَنٌ، وهَذا لَفْظُ أبِي داوُدَ، ولَفْظُ التِّرْمِذِيِّ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ: «لَمّا وقَعَتْ بَنُو إسْرائِيلَ في المَعاصِي، نَهَتْهم عُلَماؤُهم فَلَمْ يَنْتَهُوا، فَجالَسُوهم وواكَلُوهم، وشارَبُوهم؛ فَضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، ولَعَنَهم عَلى لِسانِ داوُدَ وعِيسى ابْنِ مَرْيَمَ؛ ذَلِكَ بِما عَصَوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ ”، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وكانَ مُتَّكِئًا، فَقالَ:“ لا والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتّى يَأْطُرُوهم عَلى الحَقِّ أطْرًا» .
وَمَعْنى تَأْطُرُوهم أيْ: تَعْطِفُوهم، ومَعْنى تَقْصُرُونَهُ: تَحْبِسُونَهُ، والأحادِيثُ في البابِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وفِيها الدَّلالَةُ الواضِحَةُ عَلى أنَّ الأمْرَ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ داخِلٌ في قَوْلِهِ: ﴿إذا اهْتَدَيْتُمْ﴾، ويُؤَيِّدُهُ كَثْرَةُ الآياتِ الدّالَّةُ عَلى وُجُوبِ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ
• كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنكم أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الخَيْرِ ويَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٤]،
• وقَوْلِهِ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ﴾ [آل عمران: ١١٠] .
• وقَوْلِهِ: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وعِيسى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِما عَصَوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ﴾ ﴿كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ﴾،
• وقَوْلِهِ: ﴿وَقُلِ الحَقُّ مِن رَبِّكم فَمَن شاءَ فَلْيُؤْمِن ومَن شاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: ٢٩]،
• وقَوْلِهِ: ﴿فاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ﴾ [الحجر: ٩٤]،
• وقَوْلِهِ: ﴿أنْجَيْنا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وأخَذْنا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ﴾ [الأعراف: ١٦٥]،
• وقَوْلِهِ: ﴿واتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكم خاصَّةً﴾ [الأنفال: ٢٥] .
والتَّحْقِيقُ في مَعْناها: أنَّ المُرادَ بِتِلْكَ الفِتْنَةِ الَّتِي تَعُمُّ الظّالِمَ وغَيْرَهُ هي أنَّ النّاسَ (p-٤٦٢)إذا رَأوُا المُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ عَمَّهُمُ اللَّهُ بِالعَذابِ، صالِحُهم وطالِحُهم، وبِهِ فَسَرَّها جَماعَةٌ مِن أهْلِ العِلْمِ، والأحادِيثُ الصَّحِيحَةُ شاهِدَةٌ لِذَلِكَ، كَما قَدَّمْنا طَرَفًا مِنها.
* * *
مَسائِلُ تَتَعَلَّقُ بِالأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ
المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّ كُلًّا مِنَ الآمِرِ والمَأْمُورِ يَجِبُ عَلَيْهِ اتِّباعُ الحَقِّ المَأْمُورِ بِهِ، وقَدْ دَلَّتِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ عَلى أنَّ مَن يَأْمُرُ بِالمَعْرُوفِ ولا يَفْعَلُهُ، ويَنْهى عَنِ المُنْكَرِ ويَفْعَلُهُ، أنَّهُ حِمارٌ مِن حُمُرِ جَهَنَّمَ يَجُرُّ أمْعاءَهُ فِيها.
وَقَدْ دَلَّ القُرْآنُ العَظِيمُ عَلى أنَّ المَأْمُورَ المُعْرِضَ عَنِ التَّذْكِرَةِ حِمارٌ أيْضًا، أمّا السُّنَّةُ المَذْكُورَةُ فَقَوْلُهُ - ﷺ: «يُجاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ القِيامَةِ فَيُلْقى في النّارِ، فَتَنْدَلِقُ أقْتابُهُ، فَيَدُورُ بِها في النّارِ كَما يَدُورُ الحِمارُ بِرَحاهُ، فَيَطِيفُ بِهِ أهْلُ النّارِ فَيَقُولُونَ: أيْ فُلانُ؛ ما أصابَكَ ؟ ألَمْ تَكُنْ تَأْمُرُنا بِالمَعْرُوفِ وتَنْهانا عَنِ المُنْكَرِ ؟، فَيَقُولُ: كُنْتُ آمُرُكم بِالمَعْرُوفِ ولا آتِيهِ، وأنْهاكم عَنِ المُنْكَرِ وآتِيهِ»، أخْرَجَهُ الشَّيْخانِ في ”صَحِيحَيْهِما“ مِن حَدِيثِ أُسامَةَ بْنِ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما.
وَمَعْنى تَنْدَلِقُ أقْتابُهُ: تَتَدَلّى أمْعاؤُهُ، أعاذَنا اللَّهُ والمُسْلِمِينَ مِن كُلِّ سُوءٍ، وعَنْ أنَسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ: «رَأيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رِجالًا تُقْرَضُ شِفاهُهم بِمَقارِيضَ مِن نارٍ كُلَّما قُرِضَتْ رَجَعَتْ، فَقُلْتُ لِجِبْرِيلَ: مَن هَؤُلاءِ ؟ قالَ: هَؤُلاءِ خُطَباءٌ مِن أُمَّتِكَ، كانُوا يَأْمُرُونَ النّاسَ بِالبِرِّ ويَنْسَوْنَ أنْفُسَهم، وهم يَتْلُونَ الكِتابَ، أفَلا يَعْقِلُونَ»، أخْرَجَهُ الإمامُ أحْمَدُ، وابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، والبَزّارُ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو نُعَيْمٍ في الحِلْيَةِ، وابْنُ حَيّانَ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ، كَما نَقَلَهُ عَنْهُمُ الشَّوْكانِيُّ وغَيْرُهُ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: ”أنَّهُ جاءَهُ رَجُلٌ فَقالَ لَهُ: يا ابْنَ عَبّاسٍ إنِّي أُرِيدُ أنْ آمُرَ بِالمَعْرُوفِ، وأنْهى عَنِ المُنْكَرِ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: أوَبَلَغْتَ ذَلِكَ ؟ فَقالَ: أرْجُو، قالَ: فَإنْ لَمْ تَخْشَ أنْ تَفْتَضِحَ بِثَلاثَةِ أحْرُفٍ في كِتابِ اللَّهِ فافْعَلْ، قالَ: وما هي ؟ قالَ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أتَأْمُرُونَ النّاسَ بِالبِرِّ وتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُمْ﴾ الآيَةَ [البقرة: ٤٤]، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: ٣]، وقَوْلُهُ تَعالى عَنِ العَبْدِ الصّالِحِ شُعَيْبٍ - عَلَيْهِ وعَلى نَبِيِّنا الصَّلاةُ والسَّلامُ: ﴿وَما أُرِيدُ أنْ أُخالِفَكم إلى ما أنْهاكم عَنْهُ﴾ الآيَةَ (p-٤٦٣)[هود: ٨٨]، أخْرَجَهُ البَيْهَقِيُّ في“ شُعَبِ الإيمانِ "، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وابْنُ عَساكِرَ، كَما نَقَلَهُ عَنْهم أيْضًا الشَّوْكانِيُّ وغَيْرُهُ.
واعْلَمْ أنَّ التَّحْقِيقَ أنَّ هَذا الوَعِيدَ الشَّدِيدَ الَّذِي ذَكَرْنا مِنَ انْدِلاقِ الأمْعاءِ في النّارِ، وقَرْضِ الشِّفاهِ بِمَقارِيضِ النّارِ، لَيْسَ عَلى الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ، وإنَّما هو عَلى ارْتِكابِهِ المُنْكَرَ عالِمًا بِذَلِكَ، يَنْصَحُ النّاسَ عَنْهُ، فالحَقُّ أنَّ الأمْرَ بِالمَعْرُوفِ غَيْرُ ساقِطٍ عَنْ صالِحٍ ولا طالِحٍ، والوَعِيدُ عَلى المَعْصِيَةِ لا عَلى الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ؛ لِأنَّهُ في حَدِّ ذاتِهِ لَيْسَ فِيهِ إلّا الخَيْرُ، ولَقَدْ أجادَ مَن قالَ: [ الكامِلُ ]
؎لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وتَأْتِيَ مِثْلَهُ عارٌ عَلَيْكَ إذا فَعَلْتَ عَظِيمُ
وَقالَ الآخَرُ: [ الطَّوِيلُ ]
؎وَغَيْرُ تَقِيٍّ يَأْمُرُ النّاسَ بِالتُّقى ∗∗∗ طَبِيبٌ يُداوِي النّاسَ وهو مَرِيضُ
وَقالَ الآخَرُ: [ الطَّوِيلُ ]
؎فَإنَّكَ إذْ ما تَأْتِ ما أنْتَ آمِرٌ ∗∗∗ بِهِ تَلْفَ مَن إيّاهُ تَأْمُرُ آتِيا
وَأمّا الآيَةُ الدّالَّةُ عَلى أنَّ المُعْرِضَ عَنِ التَّذْكِيرِ كالحِمارِ أيْضًا، فَهي قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَما لَهم عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ﴾ ﴿كَأنَّهم حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ﴾ ﴿فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ﴾ [المدثر: ٤٩، ٥٠، ٥١]، والعِبْرَةُ بِعُمُومِ الألْفاظِ لا بِخُصُوصِ الأسْبابِ، فَيَجِبُ عَلى المُذَكِّرِ بِالكَسْرِ، والمُذَكَّرِ بِالفَتْحِ أنْ يَعْمَلا بِمُقْتَضى التَّذْكِرَةِ، وأنْ يَتَحَفَّظا مِن عَدَمِ المُبالاةِ بِها، لِئَلّا يَكُونا حِمارَيْنِ مِن حُمُرِ جَهَنَّمَ.
* * *
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: يُشْتَرَطُ في الآمِرِ بِالمَعْرُوفِ أنْ يَكُونَ لَهُ عِلْمٌ، يَعْلَمُ بِهِ أنَّ ما يَأْمُرُ بِهِ مَعْرُوفٌ، وأنَّ ما يَنْهى عَنْهُ مُنْكَرٌ؛ لِأنَّهُ إنْ كانَ جاهِلًا بِذَلِكَ فَقَدْ يَأْمُرُ بِما لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ، ويَنْهى عَمّا لَيْسَ بِمُنْكَرٍ، ولاسِيَّما في هَذا الزَّمَنِ الَّذِي عَمَّ فِيهِ الجَهْلُ وصارَ فِيهِ الحَقُّ مُنْكَرًا، والمُنْكَرُ مَعْرُوفًا، واللَّهُ تَعالى يَقُولُ: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أدْعُو إلى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أنا ومَنِ اتَّبَعَنِي﴾ الآيَةَ [يوسف: ١٠٨]، فَدَلَّ عَلى أنَّ الدّاعِيَ إلى اللَّهِ لا بُدَّ أنْ يَكُونَ عَلى بَصِيرَةٍ، وهي الدَّلِيلُ الواضِحُ الَّذِي لا لَبْسَ في الحَقِّ مَعَهُ، ويَنْبَغِي أنْ تَكُونَ دَعْوَتُهُ إلى اللَّهِ بِالحِكْمَةِ، وحُسْنِ الأُسْلُوبِ، واللَّطافَةِ مَعَ إيضاحِ الحَقِّ؛ لِقَوْلِهِ تَعالى: (p-٤٦٤)﴿ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ﴾ الآيَةَ [النحل: ١٢٥]، فَإنْ كانَتْ دَعْوَتُهُ إلى اللَّهِ بِقَسْوَةٍ وعُنْفٍ وخَرْقٍ، فَإنَّها تَضُرُّ أكْثَرَ مِمّا تَنْفَعُ، فَلا يَنْبَغِي أنْ يُسْنَدَ الأمْرُ بِالمَعْرُوفِ إسْنادًا مُطْلَقًا، إلّا لِمَن جَمَعَ بَيْنَ العِلْمِ، والحِكْمَةِ، والصَّبْرِ عَلى أذى النّاسِ؛ لِأنَّ الأمْرَ بِالمَعْرُوفِ وظِيفَةُ الرُّسُلِ، وأتْباعِهِمْ، وهو مُسْتَلْزِمٌ لِلْأذى مِنَ النّاسِ؛ لِأنَّهم مَجْبُولُونَ بِالطَّبْعِ عَلى مُعاداةِ مَن يَتَعَرَّضُ لَهم في أهْوائِهِمُ الفاسِدَةِ، وأغْراضِهِمُ الباطِلَةِ، ولِذا قالَ العَبْدُ الصّالِحُ لُقْمانُ الحَكِيمُ لِوَلَدِهِ، فِيما قَصَّ اللَّهُ عَنْهُ: ﴿وَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وانْهَ عَنِ المُنْكَرِ واصْبِرْ عَلى ما أصابَكَ﴾ الآيَةَ [لقمان: ١٧]، «وَلَمّا قالَ النَّبِيُّ ﷺ لِوَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ: ”أوَمُخْرِجِيَّ هم ؟“، يَعْنِي قُرَيْشًا، أخْبَرَهُ ورَقَةُ: أنَّ هَذا الدِّينَ الَّذِي جاءَ بِهِ لَمْ يَأْتِ بِهِ أحَدٌ إلّا عُودِيَ»، ورُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنَّهُ قالَ: ”ما تَرَكَ الحَقُّ لِعُمَرَ صَدِيقًا“، واعْلَمْ أنَّهُ لا يُحْكَمُ عَلى الأمْرِ بِأنَّهُ مُنْكَرٌ، إلّا إذا قامَ عَلى ذَلِكَ دَلِيلٌ مِن كِتابِ اللَّهِ تَعالى، أوْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ أوْ إجْماعِ المُسْلِمِينَ.
وَأمّا إنْ كانَ مِن مَسائِلِ الِاجْتِهادِ فِيما لا نَصَّ، فَلا يُحْكَمُ عَلى أحَدِ المُجْتَهِدِينَ المُخْتَلِفِينَ بِأنَّهُ مُرْتَكِبٌ مُنْكَرًا، فالمُصِيبُ مِنهم مَأْجُورٌ بِإصابَتِهِ، والمُخْطِئُ مِنهم مَعْذُورٌ كَما هو مَعْرُوفٌ في مَحَلِّهِ.
واعْلَمْ أنَّ الدَّعْوَةَ إلى اللَّهِ بِطَرِيقَيْنِ: طَرِيقِ لِينٍ، وطَرِيقِ قَسْوَةٍ، أمّا طَرِيقُ اللِّينِ فَهي الدَّعْوَةُ إلى اللَّهِ بِالحِكْمَةِ والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ، وإيضاحُ الأدِلَّةِ في أحْسَنِ أُسْلُوبٍ وألْطَفِهِ، فَإنْ نَجَحَتْ هَذِهِ الطَّرِيقُ فَبِها ونِعْمَتْ، وهو المَطْلُوبُ، وإنْ لَمْ تَنْجَحْ تَعَيَّنَتْ طَرِيقُ القَسْوَةِ بِالسَّيْفِ حَتّى يُعْبَدَ اللَّهُ وحْدَهُ، وتُقامَ حُدُودُهُ، وتُمْتَثَلَ أوامِرُهُ، وتُجْتَنَبَ نَواهِيهِ، وإلى هَذِهِ الإشارَةِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَقَدْ أرْسَلْنا رُسُلَنا بِالبَيِّناتِ وأنْزَلْنا مَعَهُمُ الكِتابَ والمِيزانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالقِسْطِ وأنْزَلْنا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾ الآيَةَ [الحديد: ٢٥] .
فَفِيهِ الإشارَةُ إلى أعْمالِ السَّيْفِ بَعْدَ إقامَةِ الحُجَّةِ، فَإنْ لَمْ تَنْفَعِ الكُتُبُ تَعَيَّنَتِ الكَتائِبُ، واللَّهُ تَعالى قَدْ يَزَعُ بِالسُّلْطانِ ما لا يَزَعُ بِالقُرْآنِ.
* * *
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: يُشْتَرَطُ في جَوازِ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ ألّا يُؤَدِّيَ إلى مَفْسَدَةٍ أعْظَمَ مِن ذَلِكَ المُنْكَرِ؛ لِإجْماعِ المُسْلِمِينَ عَلى ارْتِكابِ أخَفِّ الضَّرَرَيْنِ، قالَ في ”مَراقِي السُّعُودِ“: [ الرَّجَزُ ]
(p-٤٦٥)وارْتَكِبِ الأخَفَّ مِن ضُرَّيْنِ وخَيِّرَنْ لَدى اسْتِوا هَذَيْنِ
وَيُشْتَرَطُ في وُجُوبِهِ مَظِنَّةُ النَّفْعِ بِهِ، فَإنْ جَزَمَ بِعَدَمِ الفائِدَةِ فِيهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، كَما يَدُلُّ لَهُ ظاهِرُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَذَكِّرْ إنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى﴾ [الأعلى: ٩]، وقَوْلِهِ - ﷺ: «بَلِ ائْتَمِرُوا بِالمَعْرُوفِ، وتَناهَوْا عَنِ المُنْكَرِ حَتّى إذا رَأيْتَ شُحًّا مُطاعًا، وهَوًى مُتَّبَعًا، ودُنْيا مُؤْثَرَةً، وإعْجابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ بِخاصَّةِ نَفْسِكَ، ودَعْ عَنْكَ أمْرَ العَوامِّ، فَإنَّ مِن ورائِكم أيّامًا، الصّابِرُ فِيهِنَّ كالقابِضِ عَلى الجَمْرِ، لِلْعامِلِ فِيهِنَّ أجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكم ”، وفي لَفْظٍ:“ قِيلَ: يا رَسُولَ اللَّهِ أجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنّا، أوْ مِنهم ؟ قالَ: بَلْ أجْرُ خَمْسِينَ مِنكم»، أخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، والحاكِمُ، وصَحَّحاهُ، وأبُو داوُدَ، وابْنُ ماجَهْ، وابْنُ جَرِيرٍ، والبَغَوِيُّ في ”مُعْجَمِهِ“، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والطَّبَرانِيُّ، وأبُو الشَّيْخِ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ في ”الشُّعَبِ“ مِن حَدِيثِ أبِي ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقالَ الرّاوِي: هَذا الحَدِيثُ «عَنْهُ أبُو أُمَيَّةَ الشَّعْبانِيُّ، وقَدْ سَألَهُ عَنْ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿عَلَيْكم أنْفُسَكُمْ﴾، واللَّهِ لَقَدْ سَألْتُ عَنْها خَبِيرًا، سَألْتُ عَنْها رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: ”بَلِ ائْتَمِرْ“» إلى آخِرِ الحَدِيثِ.
وَهَذِهِ الصِّفاتُ المَذْكُورَةُ في الحَدِيثِ مِنَ الشُّحِّ المُطاعِ، والهَوى المُتَّبَعِ. . . إلَخْ، مَظِنَّةٌ لِعَدَمِ نَفْعِ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ؛ فَدَلَّ الحَدِيثُ عَلى أنَّهُ إنْ عُدِمَتْ فائِدَتُهُ سَقَطَ وُجُوبُهُ.
* تَنْبِيهٌ
الأمْرُ بِالمَعْرُوفِ لَهُ ثَلاثُ حِكَمٍ:
الأُولى: إقامَةُ حُجَّةِ اللَّهِ عَلى خَلْقِهِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ لِئَلّا يَكُونَ لِلنّاسِ عَلى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء: ١٦٥] .
الثّانِيَةُ: خُرُوجُ الآمِرِ مِن عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ بِالأمْرِ بِالمَعْرُوفِ، كَما قالَ تَعالى في صالِحِي القَوْمِ الَّذِينَ اعْتَدى بَعْضُهم في السَّبْتِ: ﴿قالُوا مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ﴾ الآيَةَ [الأعراف: ١٦٤]، وقالَ تَعالى: ﴿فَتَوَلَّ عَنْهم فَما أنْتَ بِمَلُومٍ﴾ [الذاريات: ٥٤]؛ فَدَلَّ عَلى أنَّهُ لَوْ لَمْ يَخْرُجْ مِنَ العُهْدَةِ، لَكانَ مَلُومًا.
الثّالِثَةُ: رَجاءُ النَّفْعِ لِلْمَأْمُورِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿مَعْذِرَةً إلى رَبِّكم ولَعَلَّهم يَتَّقُونَ﴾ (p-٤٦٦)وَقالَ تَعالى: ﴿وَذَكِّرْ فَإنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ﴾ [الذاريات: ٥٥]، وقَدْ أوْضَحْنا هَذا البَحْثَ في كِتابِنا ”دَفْعِ إيهامِ الِاضْطِرابِ عَنْ آياتِ الكِتابِ“ في سُورَةِ الأعْلى في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَذَكِّرْ إنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى﴾ [الأعلى: ٩]، ويَجِبُ عَلى الإنْسانِ أنْ يَأْمُرَ أهْلَهُ بِالمَعْرُوفِ كَزَوْجَتِهِ، وأوْلادِهِ، ونَحْوِهِمْ، ويَنْهاهم عَنِ المُنْكَرِ؛ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أنْفُسَكم وأهْلِيكم نارًا﴾ الآيَةَ [التحريم: ٦]، وقَوْلِهِ - ﷺ: «كُلُّكم راعٍ وكُلُّكم مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»، الحَدِيثَ.
* * *
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: اعْلَمْ أنَّ مِن أعْظَمِ أنْواعِ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ كَلِمَةَ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطانٍ جائِرٍ، وعَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «أفْضَلُ الجِهادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطانٍ جائِرٍ»، أخْرَجَهُ أبُو داوُدَ، والتِّرْمِذِيُّ، وقالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَعَنْ طارِقِ بْنِ شِهابٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أنَّ رَجُلًا سَألَ النَّبِيَّ ﷺ وقَدْ وضَعَ رِجْلَهُ في الغَرْزِ: أيُّ الجِهادِ أفْضَلُ ؟ قالَ: كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطانٍ جائِرٍ»، رَواهُ النَّسائِيُّ بِإسْنادٍ صَحِيحٍ.
كَما قالَهُ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: واعْلَمْ أنَّ الحَدِيثَ الصَّحِيحَ قَدْ بَيَّنَ أنَّ أحْوالَ الرَّعِيَّةِ مَعَ ارْتِكابِ السُّلْطانِ ما لا يَنْبَغِي ثَلاثٌ:
الأُولى: أنْ يَقْدِرَ عَلى نُصْحِهِ وأمْرِهِ بِالمَعْرُوفِ، ونَهْيِهِ عَنِ المُنْكَرِ، مِن غَيْرِ أنْ يَحْصُلَ مِنهُ ضَرَرٌ أكْبَرُ مِنَ الأوَّلِ، فَآمِرُهُ في هَذِهِ الحالَةِ مُجاهِدٌ سالِمٌ مِنَ الإثْمِ ولَوْ لَمْ يَنْفَعْ نُصْحُهُ، ويَجِبُ أنْ يَكُونَ نُصْحُهُ لَهُ بِالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ مَعَ اللُّطْفِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ هو مَظِنَّةُ الفائِدَةِ.
الثّانِيَةُ: ألّا يَقْدِرَ عَلى نُصْحِهِ لِبَطْشِهِ بِمَن يَأْمُرُهُ، وتَأْدِيَةِ نُصْحِهِ لِمُنْكَرٍ أعْظَمَ، وفي هَذِهِ الحالَةِ يَكُونُ الإنْكارُ عَلَيْهِ بِالقُلُوبِ، وكَراهَةِ مُنْكَرِهِ، والسَّخَطِ عَلَيْهِ، وهَذِهِ الحالَةُ هي أضْعَفُ الإيمانِ.
الثّالِثَةُ: أنْ يَكُونَ راضِيًا بِالمُنْكَرِ الَّذِي يَعْمَلُهُ السُّلْطانُ، مُتابِعًا لَهُ عَلَيْهِ، فَهَذا شَرِيكُهُ في الإثْمِ، والحَدِيثُ المَذْكُورُ هو ما قَدَّمْنا في سُورَةِ البَقَرَةِ عَنْ أُمِّ المُؤْمِنِينَ أُمِّ سَلَمَةَ هِنْدٍ بِنْتِ أبِي أُمَيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «إنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكم أُمَراءُ فَتَعْرِفُونَ وتُنْكِرُونَ، فَمَن كَرِهَ فَقَدَ بَرِئَ، ومَن أنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ، ولَكِنْ مَن رَضِيَ وتابَعَ ”، قالُوا: (p-٤٦٧)يا رَسُولَ اللَّهِ ألا نُقاتِلُهم ؟ قالَ:“ لا ما أقامُوا فِيكُمُ الصَّلاةَ»، أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ في ”صَحِيحِهِ“ .
فَقَوْلُهُ - ﷺ: ”فَمَن كَرِهَ“ يَعْنِي بِقَلْبِهِ، ولَمْ يَسْتَطِعْ إنْكارًا بِيَدٍ ولا لِسانٍ ”فَقَدَ بَرِئَ“ مِنَ الإثْمِ، وأدّى وظِيفَتَهُ، ”وَمَن أنْكَرَ“ بِحَسْبِ طاقَتِهِ ”فَقَدْ سَلِمَ“ مِن هَذِهِ المَعْصِيَةِ، ”وَمَن رَضِيَ“ بِها ”وَتابَعَ“ عَلَيْها، فَهو عاصٍ كَفاعِلِها.
وَنَظِيرُهُ حَدِيثُ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عِنْدَ مُسْلِمٍ: قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «مَن رَأى مِنكم مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسانِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وذَلِكَ أضْعَفُ الإيمانِ» وقَوْلُهُ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: ﴿عَلَيْكم أنْفُسَكُمْ﴾، صِيغَةُ إغْراءٍ، يَعْنِي: الزَمُوا حِفْظَها، كَما أشارَ لَهُ في ”الخُلاصَةِ“ بِقَوْلِهِ: [ الرَّجَزُ ]
والفِعْلُ مِن أسْمائِهِ عَلَيْكا وهَكَذا دُونَكَ مَعْ إلَيْكا
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ عَلَیۡكُمۡ أَنفُسَكُمۡۖ لَا یَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهۡتَدَیۡتُمۡۚ إِلَى ٱللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِیعࣰا فَیُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق