الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكم أنْفُسَكم لا يَضُرُّكم مَن ضَلَّ إذا اهْتَدَيْتُمْ﴾ . فِي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: لَمّا بَيَّنَ أنْواعَ التَّكالِيفِ والشَّرائِعِ والأحْكامِ ثُمَّ قالَ: ﴿ما عَلى الرَّسُولِ إلّا البَلاغُ واللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وما تَكْتُمُونَ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿وإذا قِيلَ لَهم تَعالَوْا إلى ما أنْزَلَ اللَّهُ وإلى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا﴾ فَكَأنَّهُ تَعالى قالَ: إنَّ هَؤُلاءِ الجُهّالَ مَعَ ما تَقَدَّمَ مِن أنْواعِ المُبالَغَةِ في الإعْذارِ والإنْذارِ والتَّرْغِيبِ والتَّرْهِيبِ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِشَيْءٍ مِنهُ بَلْ بَقُوا مُصِرِّينَ عَلى جَهْلِهِمْ مُجِدِّينَ عَلى جَهالاتِهِمْ وضَلالَتِهِمْ، فَلا تُبالُوا أيُّها المُؤْمِنُونَ بِجَهالَتِهِمْ وضَلالَتِهِمْ، بَلْ كُونُوا مُنْقادِينَ لِتَكالِيفِ اللَّهِ مُطِيعِينَ لِأوامِرِهِ ونَواهِيهِ، فَلا يَضُرُّكم ضَلالَتُهم (p-٩٣)وجَهالَتُهم، فَلِهَذا قالَ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكم أنْفُسَكم لا يَضُرُّكم مَن ضَلَّ إذا اهْتَدَيْتُمْ﴾ . المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿عَلَيْكم أنْفُسَكُمْ﴾ أيِ احْفَظُوا أنْفُسَكم مِن مُلابَسَةِ المَعاصِي والإصْرارِ عَلى الذُّنُوبِ، قالَ النَّحْوِيُّونَ: عَلَيْكَ وعِنْدَكَ ودُونَكَ، مِن جُمْلَةِ أسْماءِ الأفْعالِ؛ تَقُولُ العَرَبُ: عَلَيْكَ وعِنْدَكَ ودُونَكَ، فَيُعَدُّونَها إلى المَفْعُولِ ويُقِيمُونَها مُقامَ الفِعْلِ، ويَنْصِبُونَ بِها، فَيُقالُ: عَلَيْكَ زَيْدًا، كَأنَّهُ قِيلَ: خُذْ زَيْدًا فَقَدْ عَلاكَ، أيْ أشْرَفَ عَلَيْكَ، وعِنْدَكَ زَيْدًا، أيْ حَضَرَكَ فَخُذْهُ، ودُونَكَ؛ أيْ قَرُبَ مِنكَ فَخُذْهُ، فَهَذِهِ الأحْرُفُ الثَّلاثَةُ لا اخْتِلافَ بَيْنَ النَّحْوِيِّينَ في إجازَةِ النَّصْبِ بِها، ونَقَلَ صاحِبُ الكَشّافِ (عَلَيْكم أنْفُسُكم) بِالرَّفْعِ عَنْ نافِعٍ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: ذَكَرُوا في سَبَبِ النُّزُولِ وُجُوهًا: أحَدُها: ما رَوى الكَلْبِيُّ عَنْ أبِي صالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمّا قَبِلَ مِن أهْلِ الكِتابِ الجِزْيَةَ ولَمْ يَقْبَلْ مِنَ العَرَبِ إلّا الإسْلامَ أوِ السَّيْفَ، عَيَّرَ المُنافِقُونَ المُؤْمِنِينَ بِقَبُولِ الجِزْيَةِ مِن بَعْضِ الكُفّارِ دُونَ البَعْضِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ أيْ ﴿لا يَضُرُّكُمْ﴾ مَلامَةُ اللّائِمِينَ إذا كُنْتُمْ عَلى الهُدى» . وثانِيها: أنَّ المُؤْمِنِينَ كانَ يَشْتَدُّ عَلَيْهِمْ بَقاءُ الكُفّارِ في كُفْرِهِمْ وضَلالَتِهِمْ، فَقِيلَ لَهم: عَلَيْكم أنْفُسَكم، وما كُلِّفْتُمْ مِن إصْلاحِها والمَشْيِ بِها في طَرِيقِ الهُدى ﴿لا يَضُرُّكُمْ﴾ ضَلالُ الضّالِّينَ ولا جَهْلُ الجاهِلِينَ. وثالِثُها: أنَّهم كانُوا يَغْتَمُّونَ لِعَشائِرِهِمْ لَمّا ماتُوا عَلى الكُفْرِ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ، والأقْرَبُ عِنْدِي أنَّهُ لَمّا حَكى عَنْ بَعْضِهِمْ أنَّهُ إذا قِيلَ لَهم: ﴿تَعالَوْا إلى ما أنْزَلَ اللَّهُ وإلى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا﴾ ذَكَرَ تَعالى هَذِهِ الآيَةَ، والمَقْصُودُ مِنها بَيانُ أنَّهُ لا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِينَ أنْ يَتَشَبَّهُوا بِهِمْ في هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الفاسِدَةِ، بَلْ يَنْبَغِي أنْ يَكُونُوا مُصِرِّينَ عَلى دِينِهِمْ، وأنْ يَعْلَمُوا أنَّهُ لا يَضُرُّهم جَهْلُ أُولَئِكَ الجاهِلِينَ إذا كانُوا راسِخِينَ في دِينِهِمْ ثابِتِينَ فِيهِ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: فَإنْ قِيلَ: ظاهِرُ هَذِهِ الآيَةِ يُوهِمُ أنَّ الأمْرَ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ غَيْرُ واجِبٍ. قُلْنا: الجَوابُ عَنْهُ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ وهو الَّذِي عَلَيْهِ أكْثَرُ النّاسِ، أنَّ الآيَةَ لا تَدُلُّ عَلى ذَلِكَ بَلْ تُوجِبُ أنَّ المُطِيعَ لِرَبِّهِ لا يَكُونُ مُؤاخَذًا بِذُنُوبِ العاصِي، فَأمّا وُجُوبُ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ فَثابِتٌ بِالدَّلائِلِ، «خَطَبَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقالَ: إنَّكم تَقْرَءُونَ هَذِهِ الآيَةَ ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكم أنْفُسَكُمْ﴾ وتَضَعُونَها غَيْرَ مَوْضِعِها وإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: ”إنَّ النّاسَ إذا رَأوُا المُنْكَرَ فَلَمْ يُنْكِرُوهُ يُوشِكُ أنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقابٍ» “ . والوَجْهُ الثّانِي في تَأْوِيلِ الآيَةِ: ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وابْنِ عُمَرَ أنَّهُما قالا: قَوْلُهُ: ﴿عَلَيْكم أنْفُسَكُمْ﴾ يَكُونُ هَذا في آخِرِ الزَّمانِ، قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ لَمّا قُرِئَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةُ: لَيْسَ هَذا بِزَمانِها، ما دامَتْ قُلُوبُكم واحِدَةً، ولَمْ تُلْبَسُوا شِيَعًا ولَمْ يَذُقْ بَعْضُكم بَأْسَ بَعْضٍ، فَأْمُرُوا وانْهَوْا، فَإذا اخْتَلَفَتِ القُلُوبُ والأهْواءُ وأُلْبِسْتُمْ شِيَعًا ووُكِّلَ كُلُّ امْرِئٍ ونَفْسَهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ جاءَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الآيَةِ، وهَذا القَوْلُ عِنْدِي ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا﴾ خِطابٌ عامٌّ، وهو أيْضًا خِطابٌ مَعَ الحاضِرِينَ فَكَيْفَ يُخْرِجُ الحاضِرَ ويَخُصُّ الغائِبَ. والوَجْهُ الثّالِثُ في تَأْوِيلِ الآيَةِ: ما ذَهَبَ إلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ المُبارَكِ فَقالَ: هَذِهِ أوْكَدُ آيَةٍ في وُجُوبِ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ؛ فَإنَّهُ قالَ: ﴿عَلَيْكم أنْفُسَكُمْ﴾ يَعْنِي عَلَيْكم أهْلَ دِينِكم ولا يَضُرُّكم مَن ضَلَّ مِنَ الكُفّارِ، وهَذا كَقَوْلِهِ: ﴿فاقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ﴾ [البَقَرَةِ: ٥٤] يَعْنِي أهْلَ دِينِكم فَقَوْلُهُ: ﴿عَلَيْكم أنْفُسَكُمْ﴾ يَعْنِي بِأنْ يَعِظَ (p-٩٤)بَعْضُكم بَعْضًا ويُرَغِّبُ بَعْضُكم بَعْضًا في الخَيْراتِ، ويُنَفِّرُهُ عَنِ القَبائِحِ والسَّيِّئاتِ، والَّذِي يُؤَكِّدُ ذَلِكَ ما بَيَّنّا أنَّ قَوْلَهُ: ﴿عَلَيْكم أنْفُسَكُمْ﴾ مَعْناهُ احْفَظُوا أنْفُسَكم، فَكانَ ذَلِكَ أمْرًا بِأنْ نَحْفَظَ أنْفُسَنا، فَإنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الحِفْظُ إلّا بِالأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ كانَ ذَلِكَ واجِبًا. والوَجْهُ الرّابِعُ: أنَّ الآيَةَ مَخْصُوصَةٌ بِالكُفّارِ الَّذِينَ عُلِمَ أنَّهُ لا يَنْفَعُهُمُ الوَعْظُ، ولا يَتْرُكُونَ الكُفْرَ بِسَبَبِ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ، فَهاهُنا لا يَجِبُ عَلى الإنْسانِ أنْ يَأْمُرَهم بِالمَعْرُوفِ، والَّذِي يُؤَكِّدُ هَذا القَوْلَ ما ذَكَرْنا في سَبَبِ النُّزُولِ أنَّ الآيَةَ نازِلَةٌ في المُنافِقِينَ، حَيْثُ عَيَّرُوا المُسْلِمِينَ بِأخْذِ الجِزْيَةِ مِن أهْلِ الكِتابِ دُونَ المُشْرِكِينَ. الوَجْهُ الخامِسُ: أنَّ الآيَةَ مَخْصُوصَةٌ بِما إذا خافَ الإنْسانُ عِنْدَ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ عَلى نَفْسِهِ أوْ عَلى عِرْضِهِ أوْ عَلى مالِهِ، فَهاهُنا عَلَيْهِ نَفْسُهُ لا تَضُرُّهُ ضَلالَةُ مَن ضَلَّ ولا جَهالَةُ مَن جَهِلَ، وكانَ ابْنُ شُبْرُمَةَ يَقُولُ: مَن فَرَّ مِنِ اثْنَيْنِ فَقَدْ فَرَّ، ومَن فَرَّ مِن ثَلاثَةٍ فَلَمْ يَفِرَّ. الوَجْهُ السّادِسُ: لا يَضُرُّكم - إذا اهْتَدَيْتُمْ فَأمَرْتُمْ بِالمَعْرُوفِ ونَهَيْتُمْ عَنِ المُنْكَرِ - ضَلالُ مَن ضَلَّ فَلَمْ يَقْبَلْ ذَلِكَ. الوَجْهُ السّابِعُ: ﴿عَلَيْكم أنْفُسَكُمْ﴾ مِن أداءِ الواجِباتِ الَّتِي مِن جُمْلَتِها الأمْرُ بِالمَعْرُوفِ عِنْدَ القُدْرَةِ، فَإنْ لَمْ يَقْبَلُوا ذَلِكَ فَلا يَنْبَغِي أنْ تَسْتَوْحِشُوا مِن ذَلِكَ فَإنَّكم خَرَجْتُمْ عَنْ عُهْدَةِ تَكْلِيفِكم فَلا يَضُرُّكم ضَلالُ غَيْرِكم. والوَجْهُ الثّامِنُ: أنَّهُ تَعالى قالَ لِرَسُولِهِ: ﴿فَقاتِلْ في سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إلّا نَفْسَكَ﴾ [النِّساءِ: ٨٤] وذَلِكَ لا يَدُلُّ عَلى سُقُوطِ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ عَنِ الرَّسُولِ، فَكَذا هاهُنا. المَسْألَةُ الخامِسَةُ: قُرِئَ (لا يَضُرَّكُمْ) بِفَتْحِ الرّاءِ مَجْزُومًا عَلى جَوابِ قَوْلِهِ: ﴿عَلَيْكم أنْفُسَكُمْ﴾ وقُرِئَ بِضَمِّ الرّاءِ، وفِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: عَلى وجْهِ الخَبَرِ؛ أيْ لَيْسَ يَضُرُّكم مَن ضَلَّ. والثّانِي: أنَّ حَقَّها الفَتْحُ عَلى الجَوابِ، ولَكِنْ ضُمَّتِ الرّاءُ إتْباعًا لِضَمَّةِ الضّادِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إلى اللَّهِ مَرْجِعُكم جَمِيعًا﴾ يُرِيدُ مَصِيرَكم ومَصِيرَ مَن خالَفَكم ﴿فَيُنَبِّئُكم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ يَعْنِي يُجازِيكم بِأعْمالِكم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب