الباحث القرآني

أيِ الزَمُوا أنْفُسَكم أوِ احْفَظُوها كَما تَقُولُ: عَلَيْكَ زَيْدًا؛ أيِ: الزَمْهُ، قُرِئَ لا يَضُرُّكم بِالجَزْمِ عَلى أنَّهُ جَوابُ الأمْرِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ اسْمُ الفِعْلِ. وقَرَأ نافِعٌ وغَيْرُهُ بِالرَّفْعِ عَلى أنَّهُ مُسْتَأْنَفٌ، كَقَوْلِ الشّاعِرِ: ؎فَقالَ رائِدُهم أرْسُوا نُزاوِلُها أوْ عَلى أنَّ ضَمَّ الرّاءِ لِلِاتِّباعِ، وقُرِئَ ( لا يَضِرُّكم ) بِكَسْرِ الضّادِ، وقُرِئَ لا يَضِيرُكم والمَعْنى: لا يَضُرُّكم ضَلالُ مَن ضَلَّ مِنَ النّاسِ إذا اهْتَدَيْتُمْ لِلْحَقِّ أنْتُمْ في أنْفُسِكم، ولَيْسَ في الآيَةِ ما يَدُلُّ عَلى سُقُوطِ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ، فَإنَّ مَن تَرَكَهُ مَعَ كَوْنِهِ مِن أعْظَمِ الفُرُوضِ الدِّينِيَّةِ فَلَيْسَ بِمُهْتَدٍ. وقَدْ قالَ اللَّهُ سُبْحانَهُ: ﴿إذا اهْتَدَيْتُمْ﴾ وقَدْ دَلَّتِ الآياتُ القُرْآنِيَّةُ، والأحادِيثُ المُتَكاثِرَةُ عَلى وُجُوبِ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ وُجُوبًا مُضَيَّقًا مُتَحَتِّمًا، فَتُحْمَلُ هَذِهِ الآيَةُ عَلى مَن لا يَقْدِرُ عَلى القِيامِ بِواجِبِ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ، أوْ لا يُظَنُّ التَّأْثِيرُ بِحالٍ مِنَ الأحْوالِ، أوْ يَخْشى عَلى نَفْسِهِ أنْ يَحِلَّ بِهِ ما يَضُرُّهُ ضَرَرًا يَسُوغُ لَهُ مَعَهُ التَّرْكُ إلى اللَّهِ مَرْجِعُكم يَوْمَ القِيامَةِ فَيُنَبِّئُكم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدُّنْيا فَيُجازِي المُحْسِنَ بِإحْسانِهِ والمُسِيءَ بِإساءَتِهِ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وأحْمَدُ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وأبُو داوُدَ والتِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ، والنَّسائِيُّ وابْنُ ماجَهْ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وابْنُ حِبّانَ والدّارَقُطْنِيُّ والضِّياءُ في المُخْتارَةِ وغَيْرُهم، عَنْ قَيْسِ بْنِ أبِي حازِمٍ قالَ: قامَ أبُو بَكْرٍ فَحَمِدَ اللَّهَ وأثْنى عَلَيْهِ وقالَ: يا أيُّها النّاسُ إنَّكم تَقْرَءُونَ هَذِهِ الآيَةَ ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكم أنْفُسَكم لا يَضُرُّكم مَن ضَلَّ إذا اهْتَدَيْتُمْ﴾ وإنَّكم تَضَعُونَها عَلى غَيْرِ مَواضِعِها، وإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: «إنَّ النّاسَ إذا رَأوُا المُنْكَرَ ولَمْ يُغَيِّرُوهُ أوْشَكَ أنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقابٍ» . وفي لَفْظٍ لِابْنِ جَرِيرٍ عَنْهُ: واللَّهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالمَعْرُوفِ ولَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ أوْ لَيَعُمُّنَّكُمُ اللَّهُ مِنهُ بِعِقابٍ. وأخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ، وابْنُ ماجَهْ وابْنُ جَرِيرٍ والبَغَوِيُّ في مُعْجَمِهِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ والطَّبَرانِيُّ وأبُو الشَّيْخِ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ والبَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ عَنْ أبِي أُمَيَّةَ الشَّعْثانِيِّ قالَ: ( أتَيْتُ أبا ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيَّ فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ تَصْنَعُ في هَذِهِ الآيَةِ ؟ قالَ: أيَّةُ آيَةٍ ؟ قُلْتُ: قَوْلُهُ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكم أنْفُسَكم لا يَضُرُّكم مَن ضَلَّ إذا اهْتَدَيْتُمْ﴾ قالَ: أما واللَّهِ لَقَدْ سَألْتَ عَنْها خَبِيرًا، سَألْتُ عَنْها رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قالَ: «بَلِ ائْتَمِرُوا بِالمَعْرُوفِ وتَناهَوْا عَنِ المُنْكَرِ حَتّى إذا رَأيْتَ شُحًّا مُطاعًا وهَوًى مُتَّبَعًا ودُنْيا مُؤْثَرَةً وإعْجابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ بِخاصَّةِ نَفْسِكَ ودَعْ عَنْكَ أمْرَ العَوامِّ، فَإنَّ مِن ورائِكم أيّامًا الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ القَبْضِ عَلى الجَمْرِ، لِلْعامِلِ فِيهِنَّ أجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكم. وفي لَفْظٍ قِيلَ: يا رَسُولَ اللَّهِ أجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنّا أوْ مِنهم ؟ قالَ: بَلْ أجْرُ خَمْسِينَ مِنكم» . وأخْرَجَ أحْمَدُ وابْنُ أبِي حاتِمٍ والطَّبَرانِيُّ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ ( «عَنْ عامِرٍ الأشْعَرِيِّ أنَّهُ كانَ فِيهِمْ أعْمى، فاحْتَبَسَ عَلى رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ ثُمَّ أتاهُ فَقالَ: ما حَبَسَكَ ؟ قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ قَرَأْتُ هَذِهِ الآيَةَ ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكم أنْفُسَكم لا يَضُرُّكم مَن ضَلَّ إذا اهْتَدَيْتُمْ﴾ قالَ: فَقالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: أيْنَ ذَهَبْتُمْ ؟ إنَّما هي ﴿لا يَضُرُّكم مَن ضَلَّ إذا اهْتَدَيْتُمْ﴾ )» . وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وسَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ والطَّبَرانِيُّ وأبُو الشَّيْخِ عَنِ الحَسَنِ: أنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ سَألَهُ رَجُلٌ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿عَلَيْكم أنْفُسَكُمْ﴾ فَقالَ: يا أيُّها النّاسُ إنَّهُ لَيْسَ بِزَمانِها إنَّها اليَوْمَ مَقْبُولَةٌ، ولَكِنَّهُ قَدْ أوْشَكَ أنْ يَأْتِيَ زَمانٌ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ فَيُصْنَعُ بِكم كَذا وكَذا، أوْ قالَ: فَلا يُقْبَلُ مِنكم، فَحِينَئِذٍ عَلَيْكم أنْفُسَكم لا يَضُرُّكم مَن ضَلَّ إذا اهْتَدَيْتُمْ. وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ في الآيَةِ قالَ: ( مُرُوا بِالمَعْرُوفِ وانْهَوْا عَنِ المُنْكَرِ ما لَمْ يَكُنْ مِن دُونِ ذَلِكَ السَّوْطِ والسَّيْفِ، فَإذا كانَ كَذَلِكَ فَعَلَيْكم أنْفُسَكم ) . وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أنَّهُ قالَ في هَذِهِ الآيَةِ: إنَّها لِأقْوامٍ يَجِيئُونَ مِن بَعْدِنا إنْ قالُوا لَمْ يُقْبَلْ مِنهم. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وابْنُ جَرِيرٍ عَنْ رَجُلٍ قالَ: كُنْتُ في خِلافَةِ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ بِالمَدِينَةِ في حَلْقَةٍ فِيهِمْ أصْحابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ، فَإذا فِيهِمْ شَيْخٌ حَسِبْتُ أنَّهُ قالَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، فَقَرَأ ﴿عَلَيْكم أنْفُسَكُمْ﴾ فَقالَ: إنَّما تَأْوِيلُها في آخِرِ الزَّمانِ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنْ أبِي مازِنٍ قالَ: انْطَلَقْتُ عَلى عَهْدِ عُثْمانَ إلى المَدِينَةِ فَإذا قَوْمٌ جُلُوسٌ فَقَرَأ أحَدُهم ﴿عَلَيْكم أنْفُسَكم﴾ فَقالَ أكْثَرُهم: لَمْ يَجِئْ تَأْوِيلُ هَذِهِ الآيَةِ اليَوْمَ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قالَ: كُنْتُ في حَلْقَةٍ فِيها أصْحابُ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ وإنِّي لَأصْغَرُ القَوْمِ، فَتَذاكَرُوا الأمْرَ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ، فَقُلْتُ: ألَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: ﴿عَلَيْكم أنْفُسَكُمْ﴾ ؟ فَأقْبَلُوا عَلَيَّ بِلِسانٍ واحِدٍ فَقالُوا: تَنْزِعُ آيَةً مِنَ القُرْآنِ لا نَعْرِفُها ولا نَدْرِي ما تَأْوِيلُها ؟ حَتّى تَمَنَّيْتُ أنِّي لَمْ أكُنْ تَكَلَّمْتُ، ثُمَّ أقْبَلُوا يَتَحَدَّثُونَ، فَلَمّا حَضَرَ قِيامُهم قالُوا: إنَّكَ غُلامٌ حَدَثُ السِّنِّ، وإنَّكَ نَزَعْتَ آيَةً لا نَدْرِي ما هي ؟ وعَسى أنْ تُدْرِكَ ذَلِكَ (p-٤٠٠)الزَّمانَ: إذا رَأيْتَ شُحًّا مُطاعًا وهَوًى مُتَّبَعًا وإعْجابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ بِنَفْسِكَ لا يَضُرُّكَ مَن ضَلَّ إذا اهْتَدَيْتَ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ مُعاذِ بْنِ جَبَلٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ بِنَحْوِ حَدِيثِ أبِي ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيِّ المُتَقَدِّمِ، وفي آخِرِهِ: كَأجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنكم. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ قالَ: «ذَكَرْتُ هَذِهِ الآيَةَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ فَقالَ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: لَمْ يَجِئْ تَأْوِيلُها، لا يَجِيءُ تَأْوِيلُها حَتّى يَهْبِطَ عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ» . والرِّواياتُ في هَذا البابِ كَثِيرَةٌ، وفِيما ذَكَرْناهُ كِفايَةٌ، فَفِيهِ ما يُرْشِدُ إلى ما قَدَّمْناهُ مِنَ الجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الآيَةِ وبَيْنَ الآياتِ والأحادِيثِ الوارِدَةِ في الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب