الباحث القرآني

ولَمّا كانَ المانِعُ لَهم مِن قَبُولِ الهُدى كَوْنَ ذَلِكَ تَسْفِيهًا لِآبائِهِمْ؛ فَيَعُودُ ضَرَرًا عَلَيْهِمْ؛ يُسَبُّونَ بِهِ؛ عَلى زَعْمِهِمْ؛ أعْلَمَ اللَّهُ المُؤْمِنِينَ أنَّ مُخالَفَةَ الغَيْرِ في قَبُولِ الهُدى لا تَضُرُّهم أصْلًا؛ بِأنْ عَقَّبَ آيَةَ الإنْكارِ عَلَيْهِمْ في التَّقَيُّدِ بِآبائِهِمْ؛ لِمُتابَعَتِهِمْ لَهم في الكُفْرِ؛ بِقَوْلِهِ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا﴾؛ أيْ: عاهَدُوا رَبَّهم ورَسُولَهُ عَلى الإيمانِ؛ ﴿عَلَيْكم أنْفُسَكُمْ﴾؛ أيْ: الزَمُوا هِدايَتَها؛ (p-٣٢٤)وإصْلاحَها؛ ولَمّا كانَ كَأنَّهُ قِيلَ: إنّا نُنْسَبُ بِآبائِنا؛ ونُنْسَبُ إلَيْهِمْ؛ فَرُبَّما ضَرَّتْنا نِسْبَتُنا إلَيْهِمْ عِنْدَ اللَّهِ؛ «كَما جَوَّزَ أكْثَمُ بْنُ الجَوْنِ الخُزاعِيُّ أنْ يَضُرَّهُ شَبَهُ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ بِهِ؛ حَتّى سَألَ النَّبِيَّ ﷺ عَنْ ذَلِكَ؛ فَقالَ: ”لا؛ إنَّكَ مُؤْمِنٌ؛ وهو كافِرٌ“؛» كَما في أوائِلِ السِّيرَةِ الهِشامِيَّةِ؛ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ وكانَ ذَلِكَ رُبَّما وقَفَ بِأحَدٍ مِنهم عَنِ الإسْلامِ؛ قالَ: ﴿لا يَضُرُّكم مَن ضَلَّ﴾؛ أيْ: مِنَ المُخالِفِينَ بِكُفْرٍ؛ أوْ غَيْرِهِ؛ بِنِسْبَتِكم إلَيْهِ؛ ولا بِقَوْلِ الكُفّارِ: إنَّكم سَفَّهْتُمْ آراءَكُمْ؛ ولا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِن وُجُوهِ الضَّرَرِ؛ وحَقَّقَ هِدايَتَهُمْ؛ بِشارَةً لَهُمْ؛ بِأداةِ التَّحْقِيقِ؛ فَقالَ - مُفْهِمًا لِوُجُودِ الضَّرَرِ عِنْدَ فَقْدِ الهِدايَةِ -: ﴿إذا اهْتَدَيْتُمْ﴾؛ أيْ: بِالإقْبالِ عَلى ما أنْزَلَ اللَّهُ؛ وعَلى الرَّسُولِ؛ حَتّى تَصِيرُوا عُلَماءَ؛ وتَعْمَلُوا بِعِلْمِكُمْ؛ فَتُخالِفُوا مَن ضَلَّ؛ فَإنْ كانَ مَوْجُودًا فَبِالِاجْتِهادِ في أمْرِهِ بِالمَعْرُوفِ؛ ونَهْيِهِ عَنِ المُنْكَرِ؛ بِحَسَبِ الطّاقَةِ؛ فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ رَدَّهُ انْتَظَرَ بِهِ يَوْمَ الجَمْعِ الأكْبَرِ؛ والهَوْلِ الأعْظَمِ؛ وإنْ كانَ مَفْقُودًا فَبِمُخالَفَتِهِ في ذَلِكَ الضَّلالِ؛ وإنْ كانَ أقْرَبَ الأقْرِباءِ؛ وأوْلى الأحِبّاءِ؛ وإلّا كانَ الباقِي أسْفَهَ مِنَ الماضِي؛ وقَدْ كانَ لَعَمْرِي أحَدُهم لا يَتْبَعُ أباهُ إذا كانَ سَفِيهًا في أمْرِ دُنْياهُ؛ عاجِزًا عَنْ (p-٣٢٥)تَحْصِيلِها؛ ولا يَتَحاشى عَنْ مُخالَفَتِهِ في طَرِيقَتِهِ؛ بَلْ يُعَدُّ الكَدْحُ في تَحْصِيلِها؛ والتَّعَمُّقُ في اقْتِناصِها؛ وحُسْنُ السَّعْيِ في تَثْمِيرِها؛ ولُطْفُ الحِيلَةِ في تَوْسِيعِها؛ مِن مَعالِي الأخْلاقِ؛ وأصالَةِ الرَّأْيِ؛ وجَوْدَةِ النَّظَرِ؛ عَلى أنَّ ذَلِكَ ظِلٌّ زائِلٌ؛ وعَرَضٌ تافِهٌ؛ فَكَيْفَ لا يُخالِفُهُ فِيما بِهِ سَعادَتُهُ الأبَدِيَّةُ؛ وحَياتُهُ الباقِيَةُ؛ ويَأْخُذُ بِالحَزْمِ في ذَلِكَ؛ ويُشَمِّرُ ذَيْلَهُ في أمْرِهِ؛ ويَسْهَرُ لَيْلَهُ في إعْمالِ الفِكْرِ؛ وتَرْتِيبِ النَّظَرِ فِيما أمَرَهُ اللَّهُ بِالنَّظَرِ فِيهِ؛ حَتّى يَظْهَرَ لَهُ الحَقُّ فَيَتَّبِعَهُ؛ ويُنْهَتَكَ لَدَيْهِ الباطِلُ فَيَجْتَنِبَهُ؛ ما ذاكَ إلّا لِمُجَرَّدِ الهَوى؛ وقَدْ كانَ الحَزْمُ العَمَلَ بِالحِكْمَةِ الَّتِي كَشَفَها النَّبِيُّ ﷺ بِقَوْلِهِ؛ فِيما رَواهُ أحْمَدُ؛ والتِّرْمِذِيُّ وابْنُ ماجَةَ؛ عَنْ شَدّادِ بْنِ أوْسٍ - رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُ - «”الكَيِّسُ مَن دانَ نَفْسَهُ وعَمِلَ لِما بَعْدَ المَوْتِ؛ والعاجِزُ مَن أتْبَعَ نَفْسَهُ هَواها؛ وتَمَنّى عَلى اللَّهِ الأمانِيَّ“؛» ورَوى مُسْلِمٌ؛ والنِّسائِيُّ؛ وابْنُ ماجَةَ؛ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُ - قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «”المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وأحَبُّ إلى اللَّهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ؛ وفي كُلٍّ خَيْرٌ؛ احْرِصْ عَلى ما يَنْفَعُكَ؛ واسْتَعِنْ بِاللَّهِ؛ ولا تَعْجِزْ؛ وإنْ أصابَكَ شَيْءٌ فَلا تَقُلْ: لَوْ أنِّي فَعَلْتُ كانَ كَذا وكَذا - وقالَ ابْنُ ماجَةَ: ولا تَقُلْ: لَوْ أنِّي فَعَلْتُ كَذا وكَذا - فَإنَّ (لَوْ) تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطانِ“؛» وفي بَعْضِ طُرُقِ الحَدِيثِ: «”ولَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللَّهُ وما شاءَ فَعَلَ“؛» يَعْنِي: واللَّهِ؛ اعْمَلْ عَمَلَ الحَزَمَةِ؛ فَأوْسِعِ النَّظَرَ؛ حَتّى لا تَتْرُكَ أمْرًا يُحْتَمَلُ أنْ يَنْفَعَكَ ولا يَضُرُّكَ إلّا أخَذْتَ بِهِ؛ ولا تَدَعَ أمْرًا يُحْتَمَلُ أنْ يَضُرَّكَ (p-٣٢٦)ولا يَنْفَعُكَ إلّا تَجْتَنِبَهُ؛ فَإنَّكَ إنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ وغَلَبَكَ القَضاءُ والقَدَرُ لَمْ تَجِدْ في وُسْعِكَ أمْرًا؛ تَقُولُ: لَوْ أنِّي فَعَلْتُهُ؛ أوْ تَرَكْتُهُ؛ ولَكِنَّكَ تَقُولُ: قَدَّرَ اللَّهُ؛ وما شاءَ فَعَلَ؛ بِخِلافِ ما إذا لَمْ تُنْعِمِ النَّظَرَ؛ وعَمِلْتَ عَمَلَ العَجَزَةِ؛ فَإنَّكَ حَتْمًا تَقُولُ: لَوْ أنِّي فَعَلْتُ كَذا وكَذا؛ لَأنَّ الشَّيْطانَ يَفْتَحُ لَكَ تِلْكَ الأبْوابَ الَّتِي نَظَرَ فِيها الحازِمُ؛ فَيُكْثِرُ لَكَ مِن ”لَوْ“؛ لِأنَّها مِفْتاحُ عَمَلِهِ؛ ولَيْسَ في الآيَةِ ما يَتَعَلَّقُ بِهِ مَن يَتَهاوَنُ في الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ؛ كَما يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنَ البَطَلَةِ؛ رَوى أحْمَدُ؛ في المُسْنَدِ؛ «عَنْ أبِي عامِرٍ الأشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُ - أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ لَهُ في أمْرٍ رَآهُ: ”يا أبا عامِرٍ؛ ألا غَيَّرْتَ؟“؛ فَتَلا هَذِهِ الآيَةَ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكم أنْفُسَكم لا يَضُرُّكم مَن ضَلَّ إذا اهْتَدَيْتُمْ﴾؛ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وقالَ: ”أيْنَ ذَهَبْتُمْ؟ إنَّما هي لا يَضُرُّكم مَن ضَلَّ مِنَ الكُفّارِ إذا اهْتَدَيْتُمْ“؛» ورَوى أحْمَدُ؛ وأصْحابُ السُّنَنِ الأرْبَعَةِ؛ والحارِثُ؛ وأحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ؛ وأبُو يَعْلى؛ «أنَّ أبا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُ - قالَ: يا أيُّها النّاسُ؛ إنَّكم تَقْرَؤُونَ هَذِهِ الآيَةَ؛ وتَضَعُونَها عَلى غَيْرِ مَواضِعِها؛ وإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: ”إنَّ النّاسَ إذا رَأوْا مُنْكَرًا فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ؛ يُوشِكُ أنْ (p-٣٢٧)يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقابِهِ“؛» قالَ البَغَوِيُّ: وفي رِوايَةٍ: «”لَتَأْمُرُنَّ بِالمَعْرُوفِ؛ ولَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ؛ أوْ لَيَسْتَعْمِلَنَّ اللَّهُ عَلَيْكم شِرارَكُمْ؛ فَلَيَسُومُونَكم سُوءَ العَذابِ؛ ثُمَّ لَيَدْعُوَنَّ اللَّهَ خِيارُكم فَلا يُسْتَجابُ لَكُمْ“؛» واللَّهُ المُوَفِّقُ. ولَمّا حَكَمَ اللَّهُ (تَعالى) - وهو الحَكَمُ العَدْلُ - أنَّهُ لا ضَرَرَ عَلَيْهِمْ مِن غَيْرِهِمْ؛ بِشَرْطِ هُداهُمْ؛ وكانَ الكُفّارُ يُعَيِّرُونَهُمْ؛ قالَ - مُؤَكِّدًا لِما أخْبَرَ بِهِ؛ ومُقَرِّرًا لِمَعْناهُ -: ﴿إلى اللَّهِ﴾؛ أيْ: المَلِكِ الأعْظَمِ؛ الَّذِي لا شَرِيكَ لَهُ؛ لا إلى غَيْرِهِ؛ ﴿مَرْجِعُكُمْ﴾؛ أيْ: أنْتُمْ ومَن يُعَيِّرُكُمْ؛ ويُهَدِّدُكُمْ؛ وغَيْرُهم مِن جَمِيعِ الخَلائِقِ؛ ﴿جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ﴾؛ أيْ: يُخْبِرُكم إخْبارًا عَظِيمًا؛ مُسْتَوْفًى؛ مُسْتَقْصًى؛ ﴿بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾؛ أيْ: تَعَمُّدًا؛ جِبِلَّةً؛ وطَبْعًا؛ ويُجازِي كُلَّ أحَدٍ بِما عَمِلَ؛ عَلى حَسَبِ ما عَمِلَ؛ ولا يُؤاخِذُ أحَدًا بِما عَمِلَ غَيْرُهُ؛ ولا بِما أخْطَأ فِيهِ؛ أوْ تابَ مِنهُ؛ ولَيْسَ المَرْجِعُ ولا شَيْءٌ مِنهُ إلى الكُفّارِ؛ ولا مَعْبُوداتِهِمْ؛ ولا غَيْرِهِمْ؛ حَتّى تَخْشَوْا شَيْئًا مِن غائِلَتِهِمْ في شَيْءٍ مِنَ الضَّرَرِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب