الباحث القرآني

﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكم أنْفُسَكُمْ﴾؛ أيِ: الزَمُوا أمْرَ أنْفُسِكم وإصْلاحِها. وقُرِئَ بِالرَّفْعِ عَلى الِابْتِداءِ؛ أيْ: واجِبَةٌ عَلَيْكم أنْفُسُكم. وَقَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿لا يَضُرُّكم مَن ضَلَّ إذا اهْتَدَيْتُمْ﴾ إمّا مَجْزُومٌ عَلى أنَّهُ جَوابٌ لِلْأمْرِ، أوْ نَهْيٌ مُؤَكِّدٌ لَهُ، وإنَّما ضُمَّتِ الرّاءُ اتِّباعًا لِضَمَّةِ الضّادِ المَنقُولَةِ إلَيْها مِنَ الرّاءِ المُدْغَمَةِ؛ إذِ الأصْلُ: لا يَضْرُرْكم، ويُؤَيِّدُهُ القِراءَةُ بِفَتْحِ الرّاءِ، وقِراءَةُ مَن قَرَأ: ( لا يَضِرْكم ) بِكَسْرِ الضّادِ وضَمِّها، مِن ضارَ يَضِيرُهُ ويَضُورُهُ، وإمّا مَرْفُوعٌ عَلى أنَّهُ كَلامٌ (p-88)مُسْتَأْنَفٌ في مَوْقِعِ التَّعْلِيلِ لِما قَبْلَهُ، ويَعْضُدُهُ قِراءَةُ مَن قَرَأ: ( لا يَضِيرُكم )؛ أيْ: لا يَضِرْكم ضَلالُ مَن ضَلَّ إذا كُنْتُمْ مُهْتَدِينَ. وَلا يُتَوَهَّمَنَّ أنَّ فِيهِ رُخْصَةً في تَرْكِ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ، والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ مَعَ اسْتِطاعَتِهِما، كَيْفَ لا ومِن جُمْلَةِ الِاهْتِداءِ أنْ يُنْكَرَ عَلى المُنْكَرِ حَسْبَما تَفِي بِهِ الطّاقَةُ، قالَ ﷺ: " «مَن رَأى مِنكم مُنْكَرًا فاسْتَطاعَ أنْ يُغَيِّرَهُ فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسانِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ» " . وَقَدْ «رُوِيَ أنَّ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ قالَ يَوْمًا عَلى المِنبَرِ: يَأيُّها النّاسُ إنَّكم تَقْرَءُونَ هَذِهِ الآيَةَ، وتَضَعُونَها غَيْرَ مَوْضِعِها، ولا تَدْرُونَ ما هي، وإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: " إنَّ النّاسَ إذا رَأوْا مُنْكَرًا فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ عَمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقابٍ، فَأْمُرُوا بِالمَعْرُوفِ وانْهَوْا عَنِ المُنْكَرِ، ولا تَغْتَرُّوا بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ: " يَأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا " ... إلَخْ، فَيَقُولُ أحَدُكم: عَلَيَّ نَفْسِي، واللَّهِ لِتَأْمُرُنَّ بِالمَعْرُوفِ وتَنْهُنَّ عَنِ المُنْكَرِ، أوْ لَيَسْتَعْمِلَنَّ اللَّهُ عَلَيْكم شِرارَكم، فَيَسُومُونَكم سُوءَ العَذابِ، ثُمَّ لَيَدْعُوَنَّ خِيارُكم فَلا يُسْتَجابُ لَهم» " . وَعَنْهُ ﷺ: " «ما مِن قَوْمٍ عُمِلَ فِيهِمْ مُنْكَرٌ، أوْ سُنَّ فِيهِمْ قَبِيحٌ، فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ ولَمْ يُنْكِرُوهُ، إلّا وحَقٌّ عَلى اللَّهِ تَعالى أنْ يَعُمَّهم بِالعُقُوبَةِ جَمِيعًا، ثُمَّ لا يُسْتَجابُ لَهم» " . والآيَةُ نَزَلَتْ لَمّا كانَ المُؤْمِنُونَ يَتَحَسَّرُونَ عَلى الكَفَرَةِ، وكانُوا يَتَمَنَّوْنَ إيمانَهم، وهم مِنَ الضَّلالِ بِحَيْثُ لا يَكادُونَ يَرْعَوُونَ عَنْهُ بِالأمْرِ والنَّهْيِ. وَقِيلَ: كانَ الرَّجُلُ إذا أسْلَمَ لامُوهُ، وقالُوا لَهُ: سَفَّهْتَ آباءَكَ وضَلَّلْتَهم؛ أيْ: نَسَبْتَهم إلى السَّفاهَةِ والضَّلالِ، فَنَزَلَتْ تَسْلِيَةً لَهُ بِأنَّ ضَلالَ آبائِهِ لا يَضُرُّهُ ولا يَشِينُهُ. ﴿إلى اللَّهِ﴾ لا إلى أحَدٍ سِواهُ. ﴿مَرْجِعُكُمْ﴾ رُجُوعُكم يَوْمَ القِيامَةِ. ﴿جَمِيعًا﴾ بِحَيْثُ لا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ أحَدٌ مِنَ المُهْتَدِينَ وغَيْرِهِمْ. ﴿فَيُنَبِّئُكم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ في الدُّنْيا مِن أعْمالِ الهِدايَةِ والضَّلالِ، فَهو وعْدٌ ووَعِيدٌ لِلْفَرِيقَيْنِ، وتَنْبِيهٌ عَلى أنَّ أحَدًا لا يُؤاخَذُ بِعَمَلِ غَيْرِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب