الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [١٠٥] ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكم أنْفُسَكم لا يَضُرُّكم مَن ضَلَّ إذا اهْتَدَيْتُمْ إلى اللَّهِ مَرْجِعُكم جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكم أنْفُسَكُمْ﴾ أيِ: الزَمُوا أنْ تُصْلِحُوها بِاتِّباعِ كِتابِ اللَّهِ وسُنَّةِ رَسُولِهِ: ﴿لا يَضُرُّكم مَن ضَلَّ﴾ أيْ: مِمَّنْ قالَ: حَسْبُنا ما وجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أوْ أخَذَ بِشُبْهَةٍ. أوْ عانَدَ في قَوْلٍ أوْ فِعْلٍ: ﴿إذا اهْتَدَيْتُمْ﴾ أيْ: إلى الإيمانِ. وكَأنَّ المُؤْمِنِينَ كانَ يَشْتَدُّ عَلَيْهِمْ بَقاءُ الكُفّارِ في كُفْرِهِمْ وضَلالِهِمْ. فَقِيلَ لَهُمْ: عَلَيْكم أنْفُسَكم وما كُلِّفْتُمْ مِن إصْلاحِها والمَشْيِ بِها في طَرِيقِ الهُدى. لا يَضُرُّكم ضَلالُ الضّالِّينَ وجَهْلُ الجاهِلِينَ، (p-٢١٩٠)إذا كُنْتُمْ مُهْتَدِينَ. كَما قالَ عَزَّ وجَلَّ لِنَبِيِّهِ ﷺ: ﴿فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ﴾ [فاطر: ٨] قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وكَذَلِكَ مَن يَتَأسَّفُ عَلى ما فِيهِ الفَسَقَةُ مِنَ الفُجُورِ والمَعاصِي ولا يَزالُ يَذْكُرُ مَعايِبَهم ومَناكِيرَهُمْ، فَهو مُخاطَبٌ بِهَذِهِ الآيَةِ: ﴿إلى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ﴾ بَعْدَ المَوْتِ: ﴿جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ﴾ أيْ: يُخْبِرُكُمْ: ﴿بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أيْ: في الدُّنْيا مِن أعْمالِ الهِدايَةِ والضَّلالِ. فَهو وعْدٌ ووَعِيدٌ لِلْفَرِيقَيْنِ. وتَنْبِيهٌ عَلى أنَّ أحَدًا لا يُؤاخَذُ بِعَمَلِ غَيْرِهِ. تَنْبِيهٌ: لا يُسْتَدَلُّ بِالآيَةِ عَلى سُقُوطِ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ؛ لِأنَّ الظّاهِرَ مِنَ الآيَةِ أنَّ ضَلالَ الغَيْرِ لا يَضُرُّ، وأنَّ المُطِيعَ لِرَبِّهِ لا يَكُونُ مُؤاخَذًا بِذُنُوبِ العاصِي. وإلّا فَمَن تَرَكَها مَعَ القُدْرَةِ عَلَيْهِما، فَلَيْسَ بِمُهْتَدٍ. وإنَّما هو بَعْضُ الضَّلالِ الَّذِي فَصَلَتِ الآيَةُ بَيْنَهم وبَيْنَهُ. قالَ الحاكِمُ: ولَوِ اسْتُدِلَّ عَلى وُجُوبِها بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿عَلَيْكم أنْفُسَكُمْ﴾ كانَ أوْلى. لِأنَّهُ يَدْخُلُ في ذَلِكَ كُلُّ ما لَزِمَ مِنَ الواجِباتِ. أيْ: كَما فَعَلَ المَهايِمِيُّ في تَفْسِيرِهِ حَيْثُ قالَ: عَلَيْكم أنْفُسَكم. أيِ: الزَمُوا أنْ تُصْلِحُوها بِاتِّباعِ الدَّلائِلِ مِن كِتابِ اللَّهِ وسُنَّةِ رَسُولِهِ. والعَقْلِيّاتِ المُؤَيَّدَةِ بِها، ودَعْوَةِ الإخْوانِ إلى ذَلِكَ. بِإقامَةِ الحُجَجِ ودَفْعِ الشُّبَهِ، وأمْرِهِمْ بِالمَعْرُوفِ ونَهْيِهِمْ عَنِ المُنْكَرِ بِما أمْكَنَ مِنَ القَوْلِ والفِعْلِ. لا تُقَصِّرُوا في ذَلِكَ؛ إذْ لا يَضُرُّكم مَن ضَلَّ إذا اهْتَدَيْتُمْ، بِدَعْوَتِهِمْ إلى ما أُنْزِلَ وإلى الرَّسُولِ وإقامَةِ الحُجَجِ لَهُمْ، ودَفْعِ الشُّبَهِ عَنْهُمْ، وأمْرِهِمْ بِالمَعْرُوفِ ونَهْيِهِمْ عَنِ المُنْكَرِ، بِما أمْكَنَ مِنَ القَوْلِ والفِعْلِ. ولا تُقَصِّرُوا في ذَلِكَ. إذْ إلى اللَّهِ مَرْجِعُكم جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، مِنَ التَّقْصِيرِ أوِ الإيفاءِ قَوْلًا وفِعْلًا، في حَقِّ أنْفُسِكم أوْ غَيْرِكم. انْتَهى. (p-٢١٩١)ونَقَلَ الرّازِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ المُبارَكِ أنَّهُ قالَ: هَذِهِ أوْكَدُ آيَةٍ في وُجُوبِ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ. فَإنَّهُ قالَ: عَلَيْكم أنْفُسَكم يَعْنِي عَلَيْكم أهْلَ دِينِكم. ولا يَضُرُّكم مَن ضَلَّ مِنَ الكُفّارِ. وهَذا كَقَوْلِهِ: فاقْتُلُوا أنْفُسَكم يَعْنِي أهْلَ دِينِكم. فَقَوْلُهُ: عَلَيْكم أنْفُسَكم يَعْنِي بِأنْ يَعِظَ بَعْضُكم بَعْضًا، ويُرَغِّبَ بَعْضُكم بَعْضًا في الخَيْراتِ ويُنَفِّرُهُ عَنِ القَبائِحِ والسَّيِّئاتِ. والَّذِي يُؤَكِّدُ ذَلِكَ ما بَيَّنّا أنَّ قَوْلَهُ: عَلَيْكم أنْفُسَكم مَعْناهُ: احْفَظُوا أنْفُسَكم مِن مُلابَسَةِ المَعاصِي والإصْرارِ عَلى الذُّنُوبِ. فَكانَ ذَلِكَ أمْرًا بِأنْ نَحْفَظَ أنْفُسَنا. فَإذا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الحِفْظُ إلّا بِالأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ، كانَ ذَلِكَ واجِبًا. انْتَهى. ورَوى الإمامُ أحْمَدُ «عَنْ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. أنَّهُ قامَ فَحَمِدَ اللَّهَ وأثْنى عَلَيْهِ ثُمَّ قالَ: أيُّها النّاسُ! إنَّكم تَقْرَءُونَ هَذِهِ الآيَةَ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكم أنْفُسَكم لا يَضُرُّكم مَن ضَلَّ إذا اهْتَدَيْتُمْ﴾ إلى آخِرِ الآيَةِ. وإنَّكم تَضَعُونَها عَلى غَيْرِ مَوْضِعِها. وإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «إنَّ النّاسَ، إذا رَأوُا المُنْكَرَ، ولا يُغَيِّرُونَهُ، يُوشِكُ أنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ بِعِقابِهِ»» . ورَواهُ أصْحابُ السُّنَنِ وابْنُ حِبّانَ في صَحِيحِهِ وغَيْرُهم. ورَوى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أبِي أُمَيَّةَ الشَّعْبانِيِّ. قالَ: «أتَيْتُ أبا ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيَّ فَقُلْتُ لَهُ: (p-٢١٩٢)كَيْفَ تَصْنَعُ بِهَذِهِ الآيَةِ؟ قالَ: أيَّةُ آيَةٍ؟ قُلْتُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكم أنْفُسَكم لا يَضُرُّكم مَن ضَلَّ إذا اهْتَدَيْتُمْ﴾ قالَ: أما واللَّهِ! لَقَدْ سَألْتَ عَنْها خَبِيرًا. سَألْتُ عَنْها رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: «بَلِ ائْتَمِرُوا بِالمَعْرُوفِ وتَناهَوْا عَنِ المُنْكَرِ. حَتّى إذا رَأيْتُ شُحًّا مُطاعًا وهَوًى مُتَّبَعًا، ودُنْيا مُؤْثَرَةً، وإعْجابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ بِخاصَّةِ نَفْسِكَ ودَعِ العَوامَّ. إنَّ مِن ورائِكم أيّامًا الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ القَبْضِ عَلى الجَمْرِ، لِلْعامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا، يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ» «قالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ المُبارَكِ: وزادَنِي غَيْرُ عُتْبَةَ: قِيلَ يا رَسُولَ اللَّهِ! أجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنّا أوْ مِنهُمْ؟ قالَ: لا، بَلْ أجْرُ خَمْسِينَ مِنكُمْ»» . قالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وكَذا رَواهُ أبُو داوُدَ وابْنُ ماجَهْ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ. ورَوى عَبْدُ الرَّزّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الحَسَنِ أنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَألَهُ رَجُلٌ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: ﴿عَلَيْكم أنْفُسَكم لا يَضُرُّكم مَن ضَلَّ إذا اهْتَدَيْتُمْ﴾ فَقالَ: إنَّ هَذا لَيْسَ بِزَمانِها. إنَّها اليَوْمَ مَقْبُولَةٌ. ولَكِنَّهُ قَدْ يُوشِكُ أنْ يَأْتِيَ زَمانُها. تَأْمُرُونَ فَيُصْنَعُ بِكم كَذا وكَذا. أوْ قالَ: فَلا يُقْبَلُ مِنكم. فَحِينَئِذٍ عَلَيْكم أنْفُسَكم لا يَضُرُّكم مَن ضَلَّ. ورَواهُ أبُو جَعْفَرٍ الرّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ عَنْ أبِي العالِيَةِ قالَ: كانُوا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ جُلُوسًا. فَكانَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ بَعْضُ ما يَكُونُ بَيْنَ النّاسِ. حَتّى قامَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما إلى صاحِبِهِ. فَقالَ رَجُلٌ مِن جُلَساءِ عَبْدِ اللَّهِ: ألا أقُومُ فَآمُرُهُما بِالمَعْرُوفِ وأنْهاهُما عَنِ المُنْكَرِ؟ فَقالَ آخَرُ إلى جَنْبِهِ: عَلَيْكَ بِنَفْسِكَ. فَإنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿عَلَيْكم أنْفُسَكُمْ﴾ الآيَةَ. قالَ فَسَمِعَها ابْنُ مَسْعُودٍ فَقالَ: مَهْ. لَمْ يَجِئْ تَأْوِيلُ هَذِهِ بَعْدُ. إنَّ القُرْآنَ أُنْزِلَ حَيْثُ أُنْزِلَ. ومِنهُ آيٌ قَدْ مَضى تَأْوِيلُهُنَّ قَبْلَ أنْ يَنْزِلْنَ. ومِنهُ آيٌ قَدْ وقَعَ تَأْوِيلُهُنَّ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. ومِنهُ آيٌ (p-٢١٩٣)قَدْ وقَعَ تَأْوِيلُهُنَّ بَعْدَ النَّبِيِّ ﷺ بِيَسِيرٍ. ومِنهُ آيٌ يَقَعُ تَأْوِيلُهُنَّ يَوْمَ الحِسابِ، ما ذُكِرَ مِنَ الحِسابِ والجَنَّةِ والنّارِ. فَما دامَتْ قُلُوبُكم واحِدَةً وأهْواؤُكم واحِدَةً ولَمْ تَلْبَسُوا شِيَعًا ولَمْ يَذُقْ بَعْضُكم بَأْسَ بَعْضٍ فَأْمُرُوا وانْهَوْا. وإذا اخْتَلَفَتِ القُلُوبُ والأهْواءُ وأُلْبِسْتُمْ شِيَعًا وذاقَ بَعْضُكم بَأْسَ بَعْضٍ فَأْمُرْ نَفْسَكَ. وعِنْدَ ذَلِكَ جاءَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الآيَةِ. أخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وأخْرُجُ أيْضًا «أنَّهُ قِيلَ لِابْنِ عُمَرَ: لَوْ جَلَسْتَ في هَذِهِ الأيّامِ فَلَمْ تَأْمُرْ ولَمْ تَنْهَ، فَإنَّ اللَّهَ قالَ: ﴿عَلَيْكم أنْفُسَكم لا يَضُرُّكم مَن ضَلَّ إذا اهْتَدَيْتُمْ﴾ فَقالَ ابْنُ عُمَرَ: إنَّها لَيْسَتْ لِي ولا لِأصْحابِي. لِأنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «ألا فَلْيُبَلِّغِ الشّاهِدُ الغائِبَ. فَكُنّا نَحْنُ الشُّهُودَ وأنْتُمُ الغُيَّبَ. ولَكِنَّ هَذِهِ الآيَةَ لِأقْوامٍ يَجِيئُونَ مِن بَعْدِنا. إنْ قالُوا لَمْ يُقْبَلْ مِنهُمْ»» . وقَدْ ضَعَّفَ الرّازِيُّ ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وابْنِ عُمَرَ مِمّا سُقْناهُ. قالَ: لِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا خِطابٌ عامٌّ، وهو أيْضًا خِطابٌ مَعَ الحاضِرِينَ. فَكَيْفَ يَخْرُجُ الحاضِرُ ويَخُصُّ الغائِبَ؟ انْتَهى. أقُولُ: لَيْسَ مُرادُ ابْنِ مَسْعُودٍ وابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، إخْراجَ الحاضِرِينَ عَنِ الخِطابِ، وأنَّهُ لَمْ يُعْنَ بِها إلّا الغُيَّبُ. وإنَّما مُرادُهُما الرَّدُّ عَلى مَن تَأوَّلَها بِتَرْكِ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ. فَأعْلَماهُ بِأنَّهُ لا يَسُوغُ الِاسْتِشْهادُ بِها في تَرْكِ ذَلِكَ. والِاسْتِرْواحُ لِظاهِرِها، إلّا في الزَّمَنِ الَّذِي بَيَّناهُ. وحاصِلُهُ: أنَّ الأمْرَ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ واجِبانِ ما قُبِلا، فَإنْ رُدّا في مِثْلِ ذَلِكَ الزَّمَنِ فَلْيَقْرَأْ: ﴿عَلَيْكم أنْفُسَكُمْ﴾ هَذا مُرادُهُما. واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب