الباحث القرآني

﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكم أنْفُسَكُمْ﴾ أيِ الزَمُوا أنْفُسَكم واحْفَظُوها مِن مُلابَسَةِ المَعاصِي والإصْرارِ عَلى الذُّنُوبِ، فَـ (عَلَيْكُمُ) اسْمُ فِعْلِ أمْرٍ نُقِلَ إلى ذَلِكَ مَجْمُوعُ الجارِّ والمَجْرُورِ لا الجارُّ وحْدَهُ كَما قِيلَ. وهو مُتَعَدٍّ إلى المَفْعُولِ بِهِ بَعْدَهُ وقَدْ يَكُونُ لازِمًا والمُرادُ بِهِ الأمْرُ بِالتَّمَسُّكِ كَما في قَوْلِهِ ﷺ: «عَلَيْكَ بِذاتِ الدِّينِ» وذَكَرَ أبُو البَقاءِ بِأنَّ الكافَ والمِيمَ في مَوْضِعِ جَرٍّ لِأنَّ اسْمَ الفِعْلِ هو المَجْمُوعُ وعَلى وحْدَها لَمْ تُسْتَعْمَلِ اسْمًا لِلْفِعْلِ بِخِلافِ رُوَيْدَكم فَإنَّ الكافَ والمِيمَ هُناكَ لِلْخِطابِ فَقَطْ ولا مَوْضِعَ لَها لِأنَّ رُوَيْدًا قَدِ اسْتُعْمِلَ اسْمًا لِأمْرِ المُواجِهِ مِن غَيْرِ كافِ الخِطابِ وإلى ذَلِكَ ذَهَبَ سِيبَوَيْهِ وهو الصَّحِيحُ ونَقَلَ الطَّبَرْسِيُّ أنَّ اسْتِعْمالَ عَلى مَعَ الضَّمِيرِ اسْمُ فِعْلٍ خاصٍّ فِيما إذا كانَ الضَّمِيرُ لِلْخِطابِ فَلَوْ قُلْتَ عَلَيْهِ زَيْدًا لَمْ يَجُزْ وفِيهِ خِلافٌ وقَرَأ نافِعٌ في الشَّواذِّ (أنْفُسُكُمْ) بِالرَّفْعِ والكَلامُ حِينَئِذٍ مُبْتَدَأٌ وخَبَرٌ أيْ لازِمَةٌ عَلَيْكم أنْفُسُكم أوْ حِفْظُ أنْفُسِكم لازَمٌ عَلَيْكم بِتَقْدِيرِ مُضافٍ في المُبْتَدَإ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا يَضُرُّكم مَن ضَلَّ إذا اهْتَدَيْتُمْ﴾ يَحْتَمِلُ الرَّفْعَ عَلى أنَّهُ كَلامٌ مُسْتَأْنَفٌ في مَوْضِعِ التَّعْلِيلِ لِما قَبْلَهُ ويَنْصُرُهُ قِراءَةُ أبِي حَيْوَةَ (لا يُضِيرُكُمْ)، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَجْزُومًا جَوابًا لِلْأمْرِ، والمَعْنى إنْ لَزِمْتُمْ أنْفُسَكم لا يَضُرُّكم. وإنَّما ضُمَّتِ الرّاءُ اتِّباعًا لِضَمَّةِ الضّادِ المَنقُولَةِ إلَيْها مِنَ الرّاءِ المُدْغَمَةِ والأصْلُ لا يَضْرُرُكُمْ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ نَهْيًا مُؤَكِّدًا لِلْأمْرِ السّابِقِ والكَلامُ عَلى حَدِّ ”لا أُرِيَنَّكَ هَهُناهُ“ ويَنْصُرُ احْتِمالَ الجَزْمِ قِراءَةُ مَن قَرَأ (يَضُرَّكُمْ) بِالفَتْحِ ولا يَضِرُّكم بِكَسْرِ الضّادِ وضَمِّها مِن ضارَهُ يَضِيرُهُ ويَضُورُهُ بِمَعْنى ضَرَّهُ كَذَمَّهُ وذامَهُ، وتُوُهِّمَ مِن ظاهِرِ الآيَةِ الرُّخْصَةُ في تَرْكِ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ وأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِوُجُوهٍ الأوَّلُ أنَّ الِاهْتِداءَ لا يَتِمُّ إلّا بِالأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ فَإنَّ تَرْكَ ذَلِكَ مَعَ القُدْرَةِ عَلَيْهِ ضَلالٌ فَقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أبِي حازِمٍ قالَ: «صَعِدَ أبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ مِنبَرَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَحَمِدَ اللَّهَ تَعالى وأثْنى عَلَيْهِ ثُمَّ قالَ: أيُّها النّاسُ إنَّكم لَتَتْلُونَ آيَةً مِن كِتابِ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعُدُّونَها رُخْصَةً واللَّهِ ما أنْزَلَ اللَّهُ تَعالى في كِتابِهِ أشَدَّ مِنها ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكم أنْفُسَكُمْ﴾ الآيَةَ، واللَّهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالمَعْرُوفِ ولَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ أوْ لَيَعُمَّنَّكُمُ اللَّهُ تَعالى مِنهُ بِعِقابٍ، وفي رِوايَةٍ: يا أيُّها النّاسُ إنَّكم تَقْرَءُونَ هَذِهِ الآيَةَ وإنَّكم تَضَعُونَها عَلى غَيْرِ مَوْضِعِها وإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: ”إنَّ النّاسَ إذا رَأوُا المُنْكَرَ ولَمْ يُغَيِّرُوهُ أوْشَكَ أنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ تَعالى بِعِقابٍ“» وفِي رِوايَةِ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ قالَ: «خَطَبَ أبُو بَكْرٍ الصَّدِيقُ النّاسَ فَكانَ في خُطْبَتِهِ قالَ (p-46)رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”يا أيُّها النّاسُ لا تَتَّكِلُوا عَلى هَذِهِ الآيَةِ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكم أنْفُسَكُمْ﴾ إلَخْ إنَّ الدّاعِرَ لِيَكُونُ في الحَيِّ فَلا يَمْنَعُونَهُ فَيَعُمَّهُمُ اللَّهُ تَعالى بِعِقابٍ“». ومِنَ النّاسِ مَن فَسَّرَ الِاهْتِداءَ هُنا بِالأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ. ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ حُذَيْفَةَ وسَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، والثّانِي أنَّ الآيَةَ تَسْلِيَةٌ لِمَن يَأْمُرُ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهى عَنِ المُنْكَرِ ولا يُقْبَلُ مِنهُ عِنْدَ غَلَبَةِ الفِسْقِ وبَعْدَ عَهْدِ الوَحْيِ، فَقَدْ أخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وأبُو الشَّيْخِ والطَّبَرانِيُّ وغَيْرُهم عَنِ الحَسَنِ أنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ سَألَهُ رَجُلٌ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ فَقالَ: أيُّها النّاسُ إنَّهُ لَيْسَ بِزَمانِها ولَكِنَّهُ قَدْ أوْشَكَ أنْ يَأْتِيَ زَمانٌ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ فَيُصْنَعُ بِكم كَذا وكَذا أوْ قالَ: فَلا يُقْبَلُ مِنكم فَحِينَئِذٍ عَلَيْكم أنْفُسَكم لا يَضُرُّكم مَن ضَلَّ إذا اهْتَدَيْتُمْ وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ «عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّهُ قِيلَ لَهُ: لَوْ جَلَسْتَ في هَذِهِ الأيّامِ فَلَمْ تَأْمُرْ ولَمْ تَنْهَ فَإنَّ اللَّهَ تَعالى يَقُولُ: عَلَيْكم أنْفُسَكم فَقالَ: إنَّها لَيْسَتْ لِي ولا لِأصْحابِي لِأنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: ”ألا فَلْيُبْلِغِ الشّاهِدُ الغائِبَ فَكُنّا نَحْنُ الشُّهُودُ وأنْتُمُ الغَيْبُ ولَكِنَّ هَذِهِ الآيَةَ لِأقْوامٍ يَجِيئُونَ مِن بَعْدِنا إنْ قالُوا لَمْ يُقْبَلْ مِنهُمْ“،» وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ «عَنْ مُعاذِ بْنِ جَبَلٍ أنَّهُ قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ أخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكم أنْفُسَكم لا يَضُرُّكم مَن ضَلَّ إذا اهْتَدَيْتُمْ﴾، فَقالَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "يا مُعاذُ مُرُوا بِالمَعْرُوفِ وتَناهَوْا عَنِ المُنْكَرِ فَإذا رَأيْتُمْ شُحًّا مُطاعًا وهَوًى مُتَّبَعًا وإعْجابَ كُلِّ امْرِئٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكم أنْفُسَكم لا يَضُرُّكم ضَلالَةُ غَيْرِكم فَإنَّ مِن ورائِكم أيّامَ صَبْرٍ المُتَمَسِّكُ فِيها بِدِينِهِ مِثْلُ القابِضِ عَلى الجَمْرِ فَلِلْعامِلِ مِنهم يَوْمَئِذٍ مِثْلُ عَمَلِ أحَدِكُمُ اليَوْمَ كَأجْرِ خَمْسِينَ مِنكم قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ خَمْسِينَ مِنهم قالَ: بَلْ خَمْسِينَ مِنكم أنْتُمْ» والثّالِثُ أنَّها لِلْمَنعِ عَنْ هَلاكِ النَّفْسِ حَسْرَةً وأسَفًا عَلى ما فِيهِ الكَفَرَةُ والفَسَقَةُ مِنَ الضَّلالِ فَقَدْ كانَ المُؤْمِنُونَ يَتَحَسَّرُونَ عَلى الكَفَرَةِ ويَتَمَنَّوْنَ إيمانَهم فَنَزَلَتْ والرّابِعُ أنَّها لِلرُّخْصَةِ في تَرْكِ الأمْرِ والنَّهْيِ إذا كانَ فِيهِما مَفْسَدَةٌ والخامِسُ أنَّها لِلْأمْرِ بِالثَّباتِ عَلى الإيمانِ مِن غَيْرِ مُبالاةٍ بِنِسْبَةِ الآباءِ إلى السَّفَهِ فَقَدْ قِيلَ: كانَ الرَّجُلُ إذا أسْلَمَ قالُوا لَهُ سَفَّهْتَ أباكَ فَنَزَلَتْ وقِيلَ: مَعْنى الآيَةِ: يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا الزَمُوا أهْلَ دِينِكم واحْفَظُوهم وانْصُرُوهم لا يَضُرُّكم مَن ضَلَّ مِنَ الكُفّارِ إذا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ، والتَّعْبِيرُ عَنْ أهْلِ الدِّينِ بِالأنْفُسِ عَلى حَدِّ قَوْلِهِ تَعالى: (لا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ) ونَحْوُهُ والتَّعْبِيرُ عَنْ ذَلِكَ الفِعْلِ بِالِاهْتِداءِ لِلتَّرْغِيبِ فِيهِ، ولا يَخْفى ما فِيهِ ﴿إلى اللَّهِ﴾ لا إلى أحَدٍ سِواهُ ﴿مَرْجِعُكُمْ﴾ رُجُوعُكم يَوْمَ القِيامَةِ ﴿جَمِيعًا﴾ بِحَيْثُ لا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ أحَدٌ مِنَ المُهْتَدِينَ وغَيْرِهِمْ ﴿فَيُنَبِّئُكُمْ﴾ بِالثَّوابِ والعِقابِ ﴿بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ 501 - في الدُّنْيا مِن أعْمالِ الهِدايَةِ والضَّلالِ فالكَلامُ وعْدٌ ووَعِيدٌ لِلْفَرِيقَيْنِ وفِيهِ كَما قِيلَ دَلِيلٌ عَلى أنْ أحَدًا لا يُؤاخَذُ بِعَمَلِ غَيْرِهِ، وكَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ يُثابُ بِذَلِكَ وسَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى تَحْقِيقُ ذَلِكَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب