الباحث القرآني

القول في تأويل قوله: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ألم تر إذ قال إبراهيم: ربِّ أرني. وإنما صلح أن يعطف بقوله: ﴿وإذ قال إبراهيم﴾ على قوله: ﴿أو كالذي مرّ على قرية﴾ ، وقوله: ﴿ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربه﴾ لأن قوله: ﴿ألم تر﴾ ليس معناه: ألم تر بعينيك، وإنما معناه: ألم تر بقلبك، فمعناه: ألم تعلم فتذكر، [[انظر معنى"الرؤية" فيما سلف من هذا الجزء ٥: ٤٢٩، والتعليق عليه رقم: ٢.]] . فهو وإن كان لفظه لفظ"الرؤية" فيعطف عليه أحيانًا بما يوافق لفظه من الكلام، وأحيانًا بما يوافق معناه. * * * واختلف أهل التأويل في سبب مسألة إبراهيم ربَّه أن يريه كيف يحيي الموتى. فقال بعضهم: كانت مسألته ذلك ربَّه، أنه رأى دابة قد تقسَّمتها السباعُ والطيرُ، فسأل ربه أن يريه كيفية إحيائه إياها، مع تفرق لحومها في بطون طير الهواء وسباع الأرض ليرى ذلك عيانًا، فيزداد يقينًا برؤيته ذلك عيانًا إلى علمه به خبرًا، فأراه الله ذلك مثلا بما أخبر أنه أمره به. * ذكر من قال ذلك: ٥٩٦٣ - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ﴿وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى﴾ ذكر لنا أنّ خليل الله إبراهيم ﷺ أتى على دابة توزعتها الدوابّ والسباع، فقال: ﴿رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي﴾ . ٥٩٦٤ - حدثنا عن الحسن، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ﴿رب أرني كيف تحيي الموتى﴾ قال: مر إبراهيم على دابة ميت قد بَلي وتقسَّمته الرياح والسباعُ، فقام ينظر، فقال: [[في المخطوطة: "فقدم ينظر"، والصواب ما في المطبوعة.]] . سبحان الله! كيف يحيي الله هذا؟ وقد علم أن الله قادرٌ على ذلك: فذلك قوله: ﴿رب أرني كيف تحيي الموتى﴾ . ٥٩٦٥- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج: بلغني أن إبراهيم بينا هو يسير على الطريق، إذا هو بجيفة حمار عليها السباع والطير قد تمزَّعت لحمها، [[تمزع القوم الشيء: تقاسموا وفرقوه بينهم،. من التمزيع: وهو التقطيع والتفريق.]] . وبقي عظامها. فلما ذهبت السِّباع، وطارت الطير على الجبال والآكام، فوقف وتعجب، [[في المخطوطة والمطبوعة: "فوقف" بالفاء، والأجود حذفها.]] . ثم قال: ربّ قد علمتُ لتجمعنَّها من بطون هذه السباع والطير! ربّ أرني كيف تحيي الموتى! قال: أولم تؤمن، قال: بلى! ولكن ليس الخبر كالمعاينة. ٥٩٦٦ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: مر إبراهيم بحوت نصفه في البرّ، ونصفه في البحر، فما كان منه في البحر فدواب البحر تأكله، وما كان منه في البرِّ فالسباع ودواب البر تأكله، فقال له الخبيث: [[الخبيث، يعنى إبليس لعنه الله.]] . يا إبراهيم، متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء؟ فقال: يا رب، أرني كيف تحيي الموتى! قال: أولم تؤمن؟ قال: بلى! ولكن ليطمئن قلبي! * * * وقال آخرون: بل كان سبب مسألته ربَّه ذلك، المناظرةُ والمحاجَّة التي جرت بينه وبين نمرود في ذلك. * ذكر من قال ذلك: ٥٩٦٧ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: لما جرى بين إبراهيم وبين قومه ما جرى مما قصَّه الله في"سورة الأنبياء"، قال نمروذ، فيما يذكرون، لإبراهيم: أرأيت إلهك هذا الذي تعبد وتدعو إلى عبادته، وتذكُر من قدرته التي تعظِّمه بها على غيره، ما هو؟ قال له إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت! قال نمروذ: أنا أحيي وأميت! فقال له إبراهيم: كيف تحيي وتميت؟ = ثم ذكر ما قصّ الله من محاجته إياه = قال: فقال إبراهيم عند ذلك: رب أرني كيف تحيي الموتى، قال: أولم تؤمن؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي = من غير شكّ في الله تعالى ذكره ولا في قدرته، ولكنه أحبَّ أن يعلم ذلك وتاق إليه قلبه فقال:"ليطمئن قلبي"، أي: ما تاق إليه إذا هو علمه. * * * قال أبو جعفر: وهذان القولان -أعني الأول وهذا الآخر- متقاربا المعنى في أن مسألة إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، كانت ليرى عيانًا ما كان عنده من علم ذلك خبرًا. * * * وقال آخرون: بل كانت مسألته ذلك ربَّه عند البشارة التي أتته من الله بأنه اتخذه خليلا فسأل ربه أن يريه عاجلا من العلامة له على ذلك، ليطمئن قلبه بأنه قد اصطفاه لنفسه خليلا ويكون ذلك لما عنده من اليقين مؤيِّدًا. * ذكر من قال ذلك: ٥٩٦٨ - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: لما اتخذ الله إبراهيم خليلا سأل ملك الموت ربَّه أن يأذن له أن يبشر إبراهيم بذلك، فأذن له، فأتى إبراهيم وليس في البيت، فدخل داره = وكان إبراهيم أغيرَ الناس، إن خرج أغلق الباب = فلما جاء ووجد في داره رجلا ثار إليه ليأخذه، [[في المطبوعة: "فلما جاء وجد في داره رجلا، فثار إليه ليأخذه قال"، وأثبت ما في المخطوطة.]] . قال: من أذن لك أن تدخل داري؟ قال ملك الموت: أذن لي رب هذه الدار، قال إبراهيم: صدقت! وعرف أنه ملك الموت. قال: من أنت؟ قال: أنا ملك الموت جئتك أبشِّرك بأن الله قد اتخذك خليلا! فحمد الله وقال: يا ملك الموت، أرني الصورة التي تقبض فيها أنفاسَ الكفار. قال: يا إبراهيم لا تطيق ذلك. قال: بلى. قال: فأعرِضْ! فأعرضَ إبراهيم ثم نظر إليه، فإذا هو برجل أسود تنال رأسه السماء يخرج من فيه لهب النار، ليس من شعرة في جسده إلا في صورة رجل أسود يخرج من فيه ومسامعه لهبُ النار. فغشي على إبراهيم، ثم أفاقَ وقد تحول ملك الموت في الصورة الأولى، فقال: يا ملك الموت، لو لم يلقَ الكافر عند الموت من البلاء والحزن إلا صورتَك لكفاه، فأرني كيف تقبض أنفاس المؤمنين؟ قال: فأعرض! فأعرض إبراهيم، ثم التفت، فإذا هو برجل شابّ أحسنِ الناس وجهًا وأطيبه ريحًا، [[من العربي المعرق، عود الضمير على الجمع مذكرًا مفردًا، كما جاء في الخبر، وكما جاء في خبر عمار بن ياسر (ابن سعد ٣ /١ /١٨٣) : " كان عمار بن ياسر من أطول الناس سكوتًا وأقله كلامًا" وكما في الحديث: "خبر النساء صوالح قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده"، وكقول ذي الرمة. وَمَيَّةُ أَحْسَنُ الثَّقَلَيْنِ جِيدًا ... وَسَالِفَةً، وَأَحْسَنُهُ قَذَالاَ.]] . في ثياب بيض، فقال: يا ملك الموت، لو لم يكن للمؤمن عند ربّه من قرَّة العين والكرامة إلا صورتك هذه، لكان يكفيه. فانطلق ملك الموت، وقام إبراهيم يدعو ربه يقول: رب أرني كيف تحيي الموتى حتى أعلم أني خليلك! قال: أولم تؤمن بأني خليلك؟ = يقول: تصدق = قال: بلى! ولكن ليطمئن قلبي بِخُلولتك. [[الخلة (بضم وفتح اللام المشددة) والخلالة (بفتح الخاء وكسرها) والخلولة والخلالة (بضم الخاء) : الصداقة.]] . ٥٩٦٩ - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا عمرو بن ثابت، عن أبيه، عن سعيد بن جبير: ﴿ولكن ليطمئن قلبي﴾ قال: بالخُلَّة. [[الأثر: ٥٩٦٩ -"عمرو بن ثابت بن هرمز البكري" ويقال له: عمرو بن أبي المقدام روى عن أبيه، وأبي إسحاق السبيعي، والأعمش وغيرهم، روى عنه أبو داود الطيالسي، وسهل بن حماد، ويحيى بن آدم وغيرهم. قال ابن المبارك: "لا تحدثوا عن عمرو بن ثابت، فإنه كان يسب السلف"، وضعفه أبو زرعة وابن معين والبخاري. وقال أبو داود في السنن: " رافضي خبيث وكان رجل سوء". مات سنة ١٧٢، مترجم في التهذيب. وأبو: ثابت بن هرمز أبو المقدام. روى عن سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وغيرها. وروى عنه ابنه والثوري وشعبة وغيرهم. كان شيخًا عاليًا صاحب سنة. مترجم في التهذيب.]] . * * * وقال آخرون: قال ذلك لربه لأنه شك في قدرة الله على إحياء الموتى. * ذكر من قال ذلك: ٥٩٧٠ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب في قوله: ﴿ولكن ليطمئن قلبي﴾ قال: قال ابن عباس: ما في القرآن آية أرْجَى عندي منها. [[الأثر: ٥٩٧٠ -أخرجه السيوطي في الدر المنثور ١: ٣٣٥ ونسبه لعبد الرزاق وابن جرير. وقوله: "أرجي" أفعل تفضيل من"الرجاء"، وهو الأمل نقيض اليأس.]] . ٥٩٧١ - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، قال: سمعت زيد بن علي يحدث عن رجل، عن سعيد بن المسيب، قال: اتَّعد عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو أن يجتمعا. قال: ونحن يومئذ شَبَبَة، فقال أحدهما لصاحبه: أي آية في كتاب الله أرجى لهذه الأمة؟ فقال عبد الله بن عمرو: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ [[زدت في أول الآية: "قل" على سنن القراءة.]] . [الزمر: ٥٣] حتى ختم الآية. فقال ابن عباس: أمَّا إن كنت تقول: إنها، وإن أرجى منها لهذه الأمة قول إبراهيم ﷺ: ﴿رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي﴾ . [[الأثر: ٥٩٧١ -خرجه السيوطي في الدر المنثور ١: ٣٣٥، ونسبه لعبد بن حميد، وابن المنذر وابن جرير، والحاكم قال: "وصححه". وهو في المستدرك بغير هذا اللفظ ١: ٦٠ من طريق"بشر بن حجر السامي، حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، عن محمد بن المنكدر قال: التقى ابن عباس وابن عمرو، فقال له ابن عباس ... " ثم قال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، وتعقبه الذهبي فقال: "فيه انقطاع". وكأن علة انقطاعه أن عبد العزيز بن أبي سلمة لم يدرك محمد بن المنكدر، فإنه مات سنة ١٣٠. هذا: ومعنى قوله: "أما إن كنت تقول إنها"، فإن في الجملة حذوفًا جارية على لغة العرب في الاجتزاء، ومعناه: "أما إن كنت تقول ذلك، إنها لمن أرجى الآيات، وأرجى منها قول إبراهيم. وحذف خبر"إن" كثير في العربية، من ذلك ما جاء في حديث النبي ﷺ: "أن المهاجرين قالوا: يا رسول الله، إن الأنصار قد فضلونا، إنهما آوونا، وفعلوا بنا وفعلوا، فقال: ألستم تعرفون ذلك لهم؟ قالوا: بلى! قال: فإن ذلك". فقوله"فإن ذلك"، معناه: فإن ذلك مكافأة منكم لهم، أي معرفتكم بصنيعهم وإحسانهم، مكافأة لهم. قال أبو عبيد: "وهذا اختصار من كلام العرب، يكتفي منه بالضمير، لأنه قد علم ما أراد به قائله"، انظر أمالي ابن الشجري ١: ٣٢٢، وغيره.]] . ٥٩٧٢ - حدثنا القاسم، قال: حدثني الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء بن أبي رباح، عن قوله: ﴿وإذ قال إبراهيم رب أرني كلف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي﴾ قال: دخل قلبَ إبراهيم بعضُ ما يدخل قلوبَ الناس، فقال: ﴿رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى﴾ ، قال: ﴿فخذ أربعةً من الطير﴾ ، ليريه. ٥٩٧٣ - حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري، قالا حدثنا سعيد بن تليد، قال: حدثنا عبد الرحمن بن القاسم، قال: حدثني بكر بن مضر، عن عمرو بن الحارث، عن يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب، عن أبي هريرة: أن رسول الله ﷺ قال:"نحنُ أحق بالشك من إبراهيم، قال: رب أرني كيف تحيي الموتى، قال أولم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي". [[الأثر: ٥٩٧٣ -"زكريا بن يحيى بن أبان المصري"، لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من الكتب. و"سعيد بن تليد"، هو: "سعيد بن عيسى بن تليد الرعيني" نسب إلى جده. روى عنه البخاري وروى له النسائي بواسطة عبد الرحمن بن عبد الله بن الحكم المصري. كان ثقة ثبتا في الحديث. وعبد الرحمن بن القاسم بن خالد العتقي المصري". روى عن مالك الحديث والمسائل، وعن بكر بن مضر، ونافع بن أبي نعيم القاري. قال ابن يونس: "ذكر أحمد بن شعيب النسوي ونحن عنده، عبد الرحمن بن القاسم، فأحسن الثناء عليه وأطنب" وذكره ابن حبان في الثقات وقال: "كان خيرًا فاضلًا ممن تفقه على مالك، وفرع على أصوله، وذب عنها، ونصر من انتحلها". مترجم في التهذيب. و"عمرو ابن الحارث بن يعقوب الأنصاري المصري". روى عن أبيه وسالم بن أبي النضر، والزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري، وعبد الرحمن بن القاسم، ويونس بن يزيد الأيلى وهو من أقرانه. روى عنه مجاهد ابن جبر وصالح بن كيسان، وهما أكبر منه، وقتادة وبكير بن الأشج، وهما من شيوخه، ورشدين ابن سعد، وبكر بن مضر وغيرهم. وهو ثقة. قال أبو حاتم: "كان أحفظ أهل زمانه، ولم يكن له نظير في الحفظ" وقال سعيد بن عفير: "كان أخطب الناس وأرواهم". مترجم في التهذيب. وانظر بقية تخريجه في الأثر التالي.]] . ٥٩٧٤ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب وسعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، أن رسول الله ﷺ قال: فذكر نحوه. [[الأثر: ٥٩٧٤ -هذا الحديث رواه البخاري في صحيحه، قال: "حدثنا أحمد بن صالح، حدثني ابن وهب" كمثل إسناد الطبري. وبمثل لفظه في الإسناد السابق. انظر الفتح ٨: ١٥٠، ١٥١، واستوفى الكلام فيه الحافظ في الفتح أيضًا في شرح" كتاب أحاديث الأنبياء"، من البخاري (الفتح ٦: ٢٩٣، ٢٩٤) ، وأشار إلى إسناد ابن جرير السالف. وانظر كلام الحافظ في إسناده.]] . * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية، ما صحَّ به الخبر عن رسول الله صلى أنه قال، وهو قوله:"نحن أحق بالشك من إبراهيم، قال: رب أرني كيف تحيي الموتى؟ قال أولم تؤمن؟ " = وأن تكون مسألته ربَّه ما سأله أن يُريه من إحياء الموتى لعارض من الشيطان عرضَ في قلبه، كالذي ذكرنا عن ابن زيد آنفًا: [[يعنى الأثر رقم: ٥٩٦٦، والذي قاله الطبري من تمام الأثر فيما أرجح.]] . من أن إبراهيم لما رأى الحوت الذي بعضه في البر وبعضه في البحر، قد تعاوره دواب البر ودواب البحر وطير الهواء، ألقى الشيطان في نفسه فقال: متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء؟ فسأل إبراهيم حينئذ ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، ليعاين ذلك عيانًا، فلا يقدر بعد ذلك الشيطان أن يلقي في قلبه مثل الذي ألقي فيه عند رؤيته ما رأى من ذلك. فقال له ربه: ﴿أولم تؤمن﴾ ؟ يقول: أولم تصدق يا إبراهيم بأني على ذلك قادر؟ قال: بلى يا رب! لكن سألتك أن تريني ذلك ليطمئن قلبي، فلا يقدر الشيطان أن يلقي في قلبي مثل الذي فعل عند رُؤيتي هذا الحوت. ٥٩٧٥ - حدثني بذلك يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، عن ابن زيد. [[الأثر: ٥٩٧٥ - هو من تمام الأثر الذي أشرت إليه رقم: ٥٩٦٦.]] . * * * ومعنى قوله: ﴿ليطمئن قلبي﴾ ليسكن ويهدأ باليقين الذي يستيقنه. * * * وهذا التأويل الذي. قلناه في ذلك هو تأويل الذين وجَّهوا معنى قوله: ﴿ليطمئن قلبي﴾ إلى أنه: ليزداد إيمانًا = أو إلى أنه: ليوقن. [[في المخطوطة والمطبوعة: "ليوفق"، في هذه المواضع الثلاثة، وهو خطأ لا معنى له، وصوابها ما أثبت، من تفسير القرطبي ٣: ٣٠٠.]] . * ذكر من قال ذلك: ليوقن = أو ليزداد يقينًا أو إيمانًا. [[في المخطوطة والمطبوعة: "ليوفق"، في هذه المواضع الثلاثة، وهو خطأ لا معنى له، وصوابها ما أثبت، من تفسير القرطبي ٣: ٣٠٠.]] . ٥٩٧٦ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو نعيم، عن سفيان، عن قيس بن مسلم، عن سعيد بن جبير: ﴿ليطمئن قلبي﴾ قال: ليوقن. [[في المخطوطة والمطبوعة: "ليوفق"، في هذه المواضع الثلاثة، وهو خطأ لا معنى له، وصوابها ما أثبت، من تفسير القرطبي ٣: ٣٠٠.]] . ٥٩٧٧ - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان. وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن أبي الهيثم، عن سعيد بن جبير: ﴿ليطمئن قلبي﴾ قال: ليزداد يقيني. ٥٩٧٨ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: ﴿ولكن ليطمئن قلبي﴾ يقول: ليزداد يقينًا. ٥٩٧٩ - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: ﴿ولكن ليطمئن قلبي﴾ قال: وأراد نبي الله إبراهيم ليزداد يقينًا إلى يقينه. ٥٩٨٠ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: قال معمر وقال قتادة: ليزداد يقينًا. ٥٩٨١ - حدثنا عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: ﴿ولكن ليطمئن قلبي﴾ قال: أراد إبراهيم أن يزداد يقينًا. ٥٩٨٢ - حدثني المثنى، قال: حدثنا محمد بن كثير البصري، قال: حدثنا إسرائيل، قال: حدثنا أبو الهيثم، عن سعيد بن جبير: ﴿ليطمئن قلبي﴾ قال: ليزداد يقيني. ٥٩٨٣ - حدثني المثنى، قال: حدثنا الفضل بن دكين، قال: حدثنا سفيان، عن أبي الهيثم، عن سعيد بن جبير: ﴿ولكن ليطمئن قلبي﴾ قال: ليزداد يقينًا. ٥٩٨٤ - حدثنا صالح بن مسمار، قال: حدثنا زيد بن الحباب، قال: حدثنا خلف بن خليفة، قال: حدثنا ليث بن أبي سليم، عن مجاهد وإبراهيم في قوله: ﴿ليطمئن قلبي﴾ قال: لأزداد إيمانًا مع إيماني. ٥٩٨٥ - حدثنا صالح، قال: حدثنا زيد، قال: أخبرنا زياد، عن عبد الله العامري، قال: حدثنا ليث، عن أبي الهيثم، عن سعيد بن جبير في قول الله: ﴿ليطمئن قلبي﴾ قال: لأزداد إيمانًا مع إيماني. * * * وقد ذكرنا فيما مضى قولَ من قال: معنى قوله: ﴿ليطمئن قلبي﴾ بأني خليلك. [[الأثران رقم: ٥٩٦٨، ٥٩٦٩.]] . * * * وقال آخرون: معنى قوله: ﴿ليطمئن قلبي﴾ لأعلم أنك تجيبني إذا دعوتك، وتعطيني إذا سألتك. * ذكر من قال ذلك: ٥٩٨٦ - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ﴿ليطمئن قلبي﴾ قال: أعلم أنك تجيبني إذا دعوتك، وتعطيني إذا سألتك. * * * وأما تأويل قوله: ﴿قال أولم تؤمن﴾ ، فإنه: أولم تصدق؟ [[انظر فهارس اللغة فيما سلف"الإيمان" بمعنى التصديق.]] . كما:- ٥٩٨٧ - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي. ٥٩٨٨ - وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن سعيد بن جبير قوله: ﴿أولم تؤمن﴾ قال: أولم توقن بأني خليلك؟ ٥٩٨٩ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: ﴿أولم تؤمن﴾ قال: أولم توقن. * * * القول في تأويل قوله: ﴿قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ﴾ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: قال الله له: ﴿فخذ أربعة من الطير﴾ ، فذكر أن الأربعة من الطير: الديكُ، والطاوُوس، والغرابُ، والحمام. * ذكر من قال ذلك: ٥٩٩٠ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم: أن أهل الكتاب الأول يذكرون أنه أخذ طاووسا، وديكًا، وغرابًا، وحمامًا. ٥٩٩١ - حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: الأربعة من الطير: الديك، والطاووس، والغراب، والحمام. ٥٩٩٢ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج: ﴿قال فخذ أربعة من الطير﴾ قال ابن جريج: زعموا أنه ديك، وغراب، وطاووس، وحمامة. ٥٩٩٣ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: ﴿قال فخذ أربعة من الطير﴾ قال: فأخذ طاووسًا، وحمامًا، وغرابًا، وديكًا؛ مخالِفةٌ أجناسُها وألوانُها. * * * القول في تأويل قوله: ﴿فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ﴾ قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرأة أهل المدينة والحجاز والبصرة: ﴿فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ﴾ بضم الصاد من قول القائل:"صُرْت إلى هذا الأمر" [[في المخطوطة والمطبوعة: "صرت هذا الأمر" بإسقاط"إلى"، والصواب ما أثبت.]] . إذا ملت إليه ="أصُورُ صَوَرًا"، ويقال:"إني إليكم لأصْوَر" أي: مشتاق مائل، ومنه قول الشاعر: [[غير معروف قائله، وأنشده الفراء.]] . اللهُ يَعْلَمُ أنَّا فِي تَلَفُّتِنَا ... يَوْمَ الفِرَاقِ إلَى أَحْبَابِنَا صُورُ [[اللسان (صور) والخزانة ١: ٥٨، وشرح شواهد المغني: ٢٦٦ وغيرها كثير، وكان في المطبوعة هنا: "إلى أحبابنا"، وأثبت ما في المخطوطة. وبعد البيت بيت من الشواهد المستفيضة: وَأَنَّنِي حَوْثُمَا يَثْنِي الهَوَى بَصَرِي ... مِنْ حَوْثُمَا سَلَكُوا أَدْنُو فَأَنْظُورُ .]] وهو جمع"أصْور، وصَوْراء، وصُور، مثل أسود وسوداء" ومنه قول الطرماح: عَفَائِفُ إِلا ذَاكَ أَوْ أَنْ يَصُورَهَا ... هَوًى، والْهَوَى للعَاشِقِينَ صَرُوعُ [[ديوانه: ١٥٢، وهو من أبيات جياد، قبله: إِذَا ذُكِرَتْ سَلْمَى لَهُ، فَكَأَنَّمَا ... تَغَلْغَلَ طِفْلٌ فِي الفُؤَادِ وَجِيعُ وَإِذْ دَهْرُنَا فِيهِ اغْتِرَارٌ، وَطَيْرُنَا ... سَوَاكِنٌ فِي أَوْكَارِهِنَّ وُقُوعُ قَضَتْ مِنْ عِيَافٍ وَالطَّرِيدَةِ حَاجَةً ... فَهُنَّ إلى لَهْوِ الحَدِيثِ خُضُوعُ عَفَائِفُ إلاّ ذَاكَ. . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فَآلَيْتُ أَلْحَى عَاشِقًا مَا سَرَى القَطَا ... وَأَجْدَرَ من وادِي نَطَاةَ وَلِيعُ قوله: "طفل"، أي من هم الهوى والحب، ينمو منذ كانوا أطفالا. وعياف، والطريدة، لعبتان من لعب صبيان الأعراب، فيقول: إن سلمى وأترابها، قد أدركن وكبرن، فترفعن عن لعب الصغار والأحداث، وحبب إليهن الحديث والغزل. فهن يخضعن له ويملن، ولكنهن عفيفات مسلمات، ليس لهن من نزوات الصبا إلا الأحاديث والغزل، وإلا أن يعطف قلوبهن الهوى والعشق، والهوى صروع قتال، يصرع من يلم به. فلما رأى ذلك منهز ومن نفسه، أقسم أن لا يلوم محبًّا على فرط عشقه. وقوله: "أجدر" أي أخرج الشجر ثمره كالحمص. والوليع: طلع النخل. ووادي نطاة: بخبير، وهو كثير النخل.]] يعني بقوله:"أو أن يصورها هوى"، يميلها. * * * فمعنى قوله: ﴿فصُرْهن إليك﴾ اضممهن إليك ووجِّههن نحوك، كما يقال:"صُرْ وجهك إليّ"، أي أقبل به إليّ. ومن وَجَّه قوله: ﴿فصرهن إليك﴾ إلى هذا التأويل، كان في الكلام عنده متروك قد ترك ذكرُه استغناءً بدلالة الظاهر عليه. ويكون معناه حينئذ عنده: قال: ﴿فخذ أربعةً من الطير فصرهن إليك﴾ ، ثم قطعهن، ﴿ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا﴾ . * * * وقد يحتمل أن يكون معنى ذلك إذا قرئ كذلك بضم"الصاد": قطِّعهن، كما قال توبة بن الحميِّر: فَلَمَّا جَذَبْتُ الحَبْلَ أَطَّتْ نُسُوعُهُ ... بِأَطْرَافِ عِيدَانٍ شَدِيدٍ أُسُورُهَا ... فَأَدْنَتْ لِيَ الأسْبَابَ حَتَّى بَلَغْتُهَا ... بِنَهْضِي وَقَدْ كَادَ ارْتِقَائِي يَصُورُهَا [[هذان البيتان من قصيدة طويلة عندي في شعر توبة بن الحير. والبيت الأول هنا ينبغي أن يؤخر، لأن المعنى لا يستقيم على رواية أبي جعفر: وترتيبها في رواية شعره، مع اختلاف الرواية: فَنَادَيْتُ لَيْلَى، والحُمُولُ كَأَنَّهَا ... مَوَاقِيرُ نَخْلٍ زَعْزَعَتْهَا دُبُورَها فَقَالَتْ: أَرَى أَنْ لا تُفِيدَكَ صُحْبَتِى ... لِهَيْبَةِ أعْدَاءٍ تَلَظَّى صُدُورُهَا فَمَدَّتْ لِيَ الأَسْبَابَ حتَّى بَلَغْتُهَا ... بِرِفْقِي، وَقَدْ كَادَ ارْتِقَائِي يَصُورُهَا فَلَمَّا دَخَلْتُ الخِدْرَ أَطَلَّتْ نُسُوعُهُ ... وَأَطْرَافُ عِيْدَانٍ شَدِيدٍ أُسُورُهَا ورواية الطبري"فلما جذبت الحبل" و"بأطراف عبدان"، ليست جيدة، والأسباب جمع سبب: وهي الحبال، حتى يصعد إليها في خدرها. وقوله"نهضي" في روايته، أي نهوضي وحركتي من حيث كنت مختفيًا. وأط الرحل يئط: سمع صوت عيدانه وصريرها. والنسوع جمع نسع: وهو سير مضفور تشديد به الرحال. كانت الحبال جديدة فأطت وسمع صوتها. والأسور جمع أسر: وهو عقد الخلق وقوته. أي أن العيدان جديدة شديدة القوى. متينة. فذلك أشد لأطيطها.]] يعني: يقطعها. وإذا كان ذلك تأويل قوله: ﴿فصرهن﴾ ، كان في الكلام تقديم وتأخير، ويكون معناه: فخذ أربعة من الطير إليك فصِرهن = ويكون"إليك" من صلة"خذ". * * * وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة:"فَصِرْهُنَّ إِلَيْكَ" بالكسر، بمعنى قطعهن. وقد زعم جماعة من نحويي الكوفة أنهم لا يعرفون:"فصُرهن" ولا"فصرهن" بمعنى قطعهن، في كلام العرب -وأنهم لا يعرفون كسر"الصاد" وضمها في ذلك إلا بمعنى واحد، = وأنهما جميعًا لغتان بمعنى"الإمالة" = وأن كسر"الصاد" منها لغة في هذيل وسليم؛ وأنشدوا لبعض بني سليم: [[لا أعرف قائله.]] . وَفَرْعٍ يَصِيرُ الجِيدَ وَحْفٍ كَأَنَّهُ ... عَلَى الِّليتِ قِنْوَانُ الكُرُوم الدَّوَالِح [[معاني القرآن للفراء ١: ١٧٤. اللسان (صير) الفرع الشعر التام الحثل، وحف أسود حسن كثير عزيز، الليت صحفة العنق. وهما الليتان، قنوان: جمع قنو (بكسر فسكون) وهو عذق النحل وما فيه من الرطب. والدوالح جمع دالح: وهو المثقل بالحمل هنا. وأصله فيما يمشي، يقال بعير دالح: إذا مشى بحمله الثقيل مشيًا غير منبسط. وكذلك السحاب دالح، أي مثقل بطيء المر. وهي استعارة جيدة محكمة.]] يعني بقوله:"يصير"، يميل = وأنّ أهل هذه اللغة يقولون:"صاروه وهو يصيره صَيرًا"،"وصِرْ وَجهك إليّ"، أي أمله، كما تقول:"صُره". [[انظر ما سلف في معاني القرآن للفراء ١: ١٧٤.]] . * * * وزعم بعض نحويي الكوفة أنه لا يعرف لقوله: ﴿فصُرهن﴾ ولا لقراءة من قرأ:"فصرهن" بضم"الصاد" وكسرها، وجهًا في التقطيع، [[أي: بمعنى التقطيع.]] . إلا أن يكون"فصِرْ هن إليك"! في قراءة من قرأه بكسر"الصاد" من المقلوب، وذلك أن تكون"لام" فعله جعلت مكان عينه، وعينه مكان لامه، فيكون من"صَرَى يصري صَرْيًا"، فإن العرب تقول:"بات يَصْرِي في حوضه": إذا استقى، ثم قطع واستقى، [[هذا بيان جيد، لا تجده في كتب اللغة.]] . ومن ذلك قول الشاعر: [[لم أعرف قائله.]] . صَرَتْ نَطْرَةً لَوْ صَادَفَتْ جَوْزَ دَارِعٍ ... غَدَا وَالْعَوَاصِي مِنْ دَمِ الجَوْفِ تَنْعَرُ [[اللسان (نعر) (عصا) ، ومعاني القرآن ١: ١٧٤ -جوز كل شيء: وسطه، والدراع: لابس الدرع. والعواصى جمع عاص، يقال: "عرق عاص" وهو الذي لا يرقأ ولا ينقطع دمه، كأنه يعصى في الانقطاع الذي يبغي منه ولا يطيع، وأشد ما يكون ذلك في عروق الجوف. ونعر العرق بالدم: إذا فار فورانًا لا يرقأ، كأن له صوتًا من شدة خروج الدم منه. فهو نعار ونعور.]] "صَرَت"، قطعتْ نظرة، ومنه قول الآخر: [[لم أعرف قائلهما.]] . يَقُولُونَ: إنّ الشَّأَمَ يَقْتُلُ أَهْلَهُ ... فَمَنْ لِي إِذَا لَمْ آتِهِ بِخُلُودِ ... تَعَرَّبَ آبَائِي، فَهَلا صَرَاهُمُ ... مِنَ المَوْتِ أَنْ لَمْ يَذْهَبُوا وَجُدُودِي! ؟ [[معاني القرآن للفراء ١: ١٧٤، معجم ما استعجم: ٧٧٣، اللسان (عرب) (شأم) . وتعرب القوم: أقاموا بالبادية، ولم يحضروا القرى. يقول سكن آبائي وجدودي البوادي وأقاموا فيها ولم يحضروا القرى، فلم يك ذلك نجاة لهم من المنايا. وقوله: "وجدودي، عطف على"آبائي"، ورواية البيت في اللسان أجود: تَعَرَّبَ آبائِي، فَهَلاَّ صَرَاهُمُ ... مِنَ المَوْتِ رَمْلاَ عَالِجٍ وزَرُودِ وهما موضعان مصحان من أرض العرب.]] يعني: قطعهم، ثم نقلت ياؤها التي هي لام الفعل فجعلت عينا للفعل، وحوّلت عينها فجعلت لامها، فقيل:"صار يصير"، كما قيل:"عَثِي يَعْثَى عَثًا"، ثم حولت لامها، فجعلت عينها، فقيل:"عاث يعيث. [[انظر ما سلف من ذلك في ٢: ١٢٣، ١٢٤.]] . * * * فأما نحويو البصرة فإنهم قالوا: ﴿فصرهن إليك﴾ سواء معناه إذا قرئ بالضم من الصاد وبالكسر في أنه معنيٌّ به في هذا الموضع التقطيع. قالوا: وهما لغتان: إحداهما:"صار يصور"، والأخرى:"صَار يصير"، واستشهدوا على ذلك ببيت توبة بن الحمير الذي ذكرنا قبل، وببيت المعلَّى بن جَمَّال العبدي [[في المطبوعة والمخطوطة: "بن حماد"، وهو تصحيف، فإن المراجع كلها اتفقت على أنه"ابن جمال" بالجيم أو"بني حمال" بالحاء. وهو ينسب لأوس بن حجر التميمي، ولآخر غيره يقال له: أوس بن حجر كما ترى في المراجع المذكورة بعد.]] . وَجَاءَت خُلْعَةٌ دُهْسٌ صَفَايَا ... يَصُورُ عُنُوقَهَا أَحْوَى زَنِيمُ [[مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٨١ وأمالي القالي ٢: ٥٢، والتنبيه: ٩٣، وسمط اللآلي: ٦٨٥، ٦٨٦، ثم في لسان العرب (ظأب) (ظاب) (صور) (دهس) (خلع) (صوع) (عنق) (زنم) ، وفي كتب أخرى، ويأتي البيت منسوبًا لأوس بن حجر هكذا: يَصُوعُ عُنُوقَهَا أَحْوَى زَنِيمٌ ... لَهُ ظَأْب كمَا صَخِبَ الغرِيمُ وهو بيت ملفق، وصواب رواية الشعر مادة (زنم) من اللسان: وجَاءَتْ خُلْعَةٌ دُهْسٌ صَفَايَا ... يَصُوعُ عُنُوقَهَا أَحْوَى زَنِيمُ يُفَرِّقُ بَيْنَهَا صَدْعٌ رَبَاعٌ ... لَهُ ظَأْبٌ كَما صَخِبَ الغَرِيمُ الخلعة بكسر الخاء وضمها: خيار المال، يعنى المعزي التي سيقت إليه، كانت كلها خيارًا. والدهس جمع دهساء: وهي من المعزى، السوادء المشربة حمرة لا تغلو. وقوله: "يصوع" هذه الرواية أخرى بمعنى يفرق. وذلك إذا أراد سفادها. والتيس إذا أرسل في الشاء صاعها، أي فرقها إذا أراد سفادها. والتيس إذا أرسل في الشاء صاعها، أي فرقها إذا أراد سفادها. وعنوق جمع عناق: وهي أنثي المعز. وهو جمع عزيز. والأحوى: الذي تضرب حمرته إلى السواد، يعنى تيس المعز، ويعنى أنه كريم. والزنيم: الذي له زنمتان في حلقة. والصدع (بفتح الصاد وسكون الدال أو فتحها) : وهو الفتى الشاب المدمج الخلق، الصلب القوي. ورباع: أي دخل في السنة الرابعة، وذلك في عز شبابه وقوته. وظأب التيس: صوته وجلبته وصياحه وصخبه، وهو أشد ما يكون منه عند السفاد. والغريم: الذي له الدين على المدين، ويقال للمدين غريم. يقول: إذا أراد سفادها هاج وفرقها، وكان له صخب كصخب صاحب الدين على المدين الذي يماطله ويماحكمه ويلويه دينه.]] بمعنى: يفرِّق عنوقها ويقطعها = وببيت خنساء: *لَظَلَّتْ الشُّمُّ مِنْهَا وَهْيَ تَنْصَارُ* [[مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٨١ وفيه مراجعه. والبيت ليس في ديوانها.]] يعني بالشم: الجبال، أنها تتصدع وتتفرق -وببيت أبي ذؤيب: فَانْصَرْنَ مِنْ فَزَعٍ وَسَدَّ فُرُوجَهُ ... غُبْرٌ ضَوَارٍ: وَافِيَانِ وَأَجْدَعُ [[ديوانه: ١٢ المفضليات: ٨٧٣، ومجاز القرآن لأبي عبيدة: ٨١، والأضداد للأصمعي وابن السكيت ٣٣، ١٨٧. وهذه الرواية التي رواها أبو عبيدة والأصمعي وابن السكيت والطبري" فانصرن"، رواية غربية، وهي في سياقه الشعر أغرب. وأنا أنكر معناها وأجده مخلا بالشعر. وذلك أن سياقه في صفة ثور الوحش، ثور من قد تقضى شبايه، لم تزل كلاب القناص تروعه حتى شعفت فؤاده. فإذا أصبح الصباح داخله الفزع خشية أن يباكره صياد بكلا به. فهو لا يزال يرمي بعينه في غيوب الأرض ثم يغضي ليتسمع، فيصدق سمعه ما يرى. وهو عندئذ واقف في الشمس يتشمس من ندى الليل، فيقول أبو ذؤيب: فَغَدَا يُشَرِّقُ مَتْنَهُ، فَبَدَا لَهُ ... أُولَى سَوَابِقِها قَرِيبًا تُوزَعُ يقول: بدت له طلائع الكلاب قد دنت منه، والقناص يكفها حتى يرسلها جميعا عليه. فَاهْتَاجَ من فَرَعٍ، وسَدَّ فُرُوجَهُ ... غُبْرٌ ضَوَارٍ: وَافِيَانِ وَأَجْدَعُ يقول هاجه الفزع فعدا عدوًا شديدًا والكلاب من خلفه وحواليه قد أخذت عليه مذهبه. ويروى"فانصاع من فزع" أي ذهب في شق. والغبر الضواري: هي كلاب الصياد، "منها وافيان": كلبان سالما الأذنين. والأجدع: مقطوع الأذن. إما علامة له، وإما من طول ممارسته لصيد الثيران وضربها له بقرونها حتى انقطعت آذانه.]] قالوا: فلقول القائل:"صُرْت الشيء"، معنيان: أملته، وقطعته. وحكوا سماعًا:"صُرْنا به الحكم": فصلنا به الحكم. * * * قال أبو جعفر: وهذا القول الذي ذكرناه عن البصريين =: من أن معنى الضم في"الصاد" من قوله: ﴿فصرهن إليك﴾ والكسر، سواء بمعنى واحد - وأنهما لغتان، معناهما في هذا الموضع: فقطعهن - وأنّ معنى"إليك" تقديمها قبل"فصرهن"، من أجل أنها صلة قوله:"فخذ" = [[قوله"أولى بالصواب"، خبر قوله: "وهذا القول الذي ذكرناه ... أولى بالصواب ... ".]] . أولى بالصواب من قول الذين حكينا قولهم من نحويّي الكوفيين، الذي أنكروا أن يكون للتقطيع في ذلك وجه مفهوم إلا على معنى القلب الذي ذكرت - [[سياق العبارة: " ... أولى بالصواب ... لإجماع جميع أهل التأويل ... ".]] . لإجماع أهل التأويل على أن معنى قوله: ﴿فصرهن﴾ غير خارج من أحد معنيين: إما"قطِّعهن"، وإما"اضْمُمْهن إليك"، بالكسر قرئ ذلك أو بالضم. ففي إجماع جميعهم على ذلك = على غير مراعاة منهم كسر الصاد وضمها، ولا تفريق منهم بين معنيي القراءتين، أعني الكسر والضم = أوضح الدليل على صحّة قول القائلين من نحويي أهل البصرة في ذلك ما حكينا عنهم من القول، وخطأ قول نحويي الكوفيين؛ لأنهم لو كانوا إنما تأولوا قوله: ﴿فصرهن﴾ بمعنى فقطعهن، على أنّ أصل الكلام"فاصرهن"، ثم قلبت فقيل:"فصِرْهن" بكسر"الصاد"، لتحول"ياء"،"فاصرهن" مكان رائه، وانتقال رائه مكان يائه، لكان لا شكّ -مع معرفتهم بلغتهم وعلمهم بمنطقهم- قد فصلوا بين معنى ذلك إذا قرئ بكسر صاده، وبينه إذا قرئ بضمها، إذ كان غير جائز لمن قلب"فاصِرهن" إلى"فصِرهن" أن يقرأه"فصُرْهن" بضم"الصاد"، وهم، مع اختلاف قراءتهم ذلك، قد تأولوه تأويلا واحدًا على أحد الوجهين اللذين ذكرنا. ففي ذلك أوضحُ الدليل على خطأ قول من قال: إن ذلك إذا قرئ بكسر"الصاد" بتأويل: التقطيع، مقلوب من:"صَرِي يَصْرَى" إلى"صار يصير" = وجهل من زعم أن قول القائل:"صار يصور"، و"صار يصير" غير معروف في كلام العرب بمعنى: قطع. * * * ذكر من حضرنا قوله في تأويل قول الله تعالى ذكره: ﴿فصرهن﴾ أنه بمعنى: فقطّعهن. ٥٩٩٤ - حدثنا سليمان بن عبد الجبار، قال: حدثنا محمد بن الصلت، قال: حدثنا أبو كدينة، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ﴿فصرهن﴾ قال: هي نبطيَّة، فشقِّقْهن. [[الأثر: ٥٩٩٤ -"سليمان بن عبد الجبار بن زريق الخياط". قال ابن أبي حاتم: سئل عنه أبي فقال: صدوق، وسمعت حجاج ابن الشاعر يبالغ في الثناء عليه ويذكره بالخير. مترجم في التهذيب، وتاريخ بغداء ٩: ٥٢. و"محمد بن الصلت بن الحجاج الأسدي" مضى برقم: ٣٠٠٢. و"أبو كدينة" هو: يحيى بن المهلب البجلى. مضى في رقم ٤١٩٣ بغير ترجمة. قال ابن معين وأبو داود والنسائي: ثقة. مترجم في التهذيب.]] . ٥٩٩٥ - حدثني محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبي جَمْرة، عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: ﴿فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك﴾ ، قال: إنما هو مثلٌ. قال: قطعهن، ثم اجعلهن في أرباع الدنيا، رُبعًا ههنا، ورُبعًا ههنا، ثم ادعهن يأتينك سعيًا. [[الأثر: ٥٩٩٥ -"أبو جمرة" هو: نصر بن عمران بن عصام الضبعي. روى عن أبيه وابن عباس وابن عمر وغيرهم. وعنه شعبة وإبراهيم بن طهمان وابنه علقمة وغيرها. مترجم في التهذيب. وقد مضى غير مترجم في رقم: ٣٢٥٠، وسقط في الطبع من اسمه راء"جمرة". وفي المطبوعة والمخطوطة"أبو حمزة"، وهو خطأ.]] . ٥٩٩٦ - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ﴿فصرهن﴾ قال: قطعهن. ٥٩٩٧ - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن أبي مالك في قوله: ﴿فصرهن إليك﴾ يقول: قطعهن. ٥٩٩٨ - حدثني المثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن حصين، عن أبي مالك، مثله. ٥٩٩٩ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يحيى بن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد: ﴿فصرهن﴾ قال: قال جناح ذِه عند رأس ذِه، ورأس ذِه عند جناح ذِه. ٦٠٠٠ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، قال: زعم أبو عمرو، عن عكرمة في قوله: ﴿فصرهن إليك﴾ قال: قال عكرمة بالنبطيَّة: قطّعهن. ٦٠٠١ - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن يحيى، عن مجاهد: ﴿فصرهن إليك﴾ قال: قطعهن. ٦٠٠٢ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ﴿فصرهن إليك﴾ انتفهن بريشهن ولحومهن تمزيقًا، [[هكذا جاء في الموضعين، في المخطوطة والمطبوعة، إلا أنها في المطبوعة: "انتفهن" منقوطة، وفي المخطوطة: "اسفهن" غير منقوطة. وأنا أرى أن أقرأها: "أشبعهن، ريشهن ولحومهن تمزيقا"، أو حرفًا يقارب هذا المعنى.]] ثم اخلط لحومهن بريشهن. ٦٠٠٣ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ﴿فصرهن إليك﴾ قال: انتفهن بريشهن ولحومهن تمزيقًا. [[هكذا جاء في الموضعين، في المخطوطة والمطبوعة، إلا أنها في المطبوعة: "انتفهن" منقوطة، وفي المخطوطة: "اسفهن" غير منقوطة. وأنا أرى أن أقرأها: "أشبعهن، ريشهن ولحومهن تمزيقا"، أو حرفًا يقارب هذا المعنى.]] ٦٠٠٤ - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: ﴿فصرهن إليك﴾ أمر نبيُّ الله عليه السلام أن يأخذ أربعة من الطير فيذبحهن، ثم يخلط بين لحومهن وريشهن ودمائهن. ٦٠٠٥ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: ﴿فصرهن إليك﴾ قال: فمزقهن. قال: أمر أن يخلط الدماء بالدماء، والريش بالريش،"ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا". ٦٠٠٦ - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك: ﴿فصرهن إليك﴾ يقول: فشقِّقهن، وهو بالنبطية"صرّى"، وهو التشقيق. ٦٠٠٧ - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: ﴿فصرهن إليك﴾ يقول قطعهن. ٦٠٠٨ - حدثنا عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: ﴿فصرهن إليك﴾ يقول: قطعهن إليك ومزقهن تمزيقًا. ٦٠٠٩ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: ﴿فصرهن إليك﴾ أي قطعهن، وهو"الصَّوْر" في كلام العرب. * * * قال أبو جعفر: ففيما ذكرنا من أقوال من روينا في تأويل قوله: ﴿فصرهن إليك﴾ أنه بمعنى: فقطعهن إليك، دلالةٌ واضحة على صحة ما قلنا في ذلك، وفساد قول من خالفنا فيه. وإذ كان ذلك كذلك، فسواءٌ قرأ القارئ ذلك بضم"الصاد":"فصُرْهن" إليك أو كسرها"فصِرْهن" إذ كانت لغتين معروفتين بمعنى واحد. [[في المطبوعة: "أن كانت اللغتان معروفتين"، لم يحسن قراءة المخطوطة، لسرعة الكاتب فيما كتب وإهماله.]] . غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإن أحبّهما إليّ أن أقرأ به"فصُرْهن إليك" بضم"الصاد"، لأنها أعلى اللغتين وأشهرهما، وأكثرهما في إحياء العرب. * * * [وأما قول من تأوّل قوله: ﴿فصرهن إليك﴾ بمعنى: اضممهن إليك ووجّهن نحوك واجمعهن، فهو قولٌ قال به من أهل التأويل نفر قليل] . [[هذا الذي بين القوسين زيادة استظهرتها من سياق التفسير، وهو رده على القول الأول الذي مضى في ص ٤٦٩ س ٣ إلى ٧، ولم يعد ثانية إلى ذكره. وكان مكانه في المطبوعة: "وعند نفر قليل من أهل التأويل أنها بمعنى: أوثق". وهو تصرف من ناسخ قديم أو طابع. أما المخطوطة، فكان نصها هكذا متصلا بما قبله وما بعده. "وأكثرهما في أحياء العرب من أهل التأويل نفر قليل" ذكر من قال ذلك". والذي استظهرته أقرب إلى سياق التفسير إن شاء الله. وهذا دليل آخر على شدة إهمال الناسخ في كثير من المواضع لعجلته وقلة حذره.]] . * ذكر من قال ذلك: ٦٠١٠ - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ﴿فصرهن إليك﴾ "صرهن": أوثِقْهُنّ. ٦٠١١ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء قوله: ﴿فصرهن إليك﴾ قال: اضممهن إليك. ٦٠١٢ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: ﴿فصرهن إليك﴾ قال: اجمعهن. * * * القول في تأويل قوله: ﴿ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا﴾ قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ﴿ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا﴾ . فقال بعضهم: يعني بذلك: على كل ربع من أرباع الدنيا جزءًا منهن. * ذكر من قال ذلك: ٦٠١٣ - حدثني المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبي جمرة، عن ابن عباس: ﴿ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا﴾ قال: اجعلهن في أرباع الدنيا: ربعًا ههنا، وربعًا ههنا، وربعًا ههنا، وربعًا ههنا، ﴿ثم ادعهن يأتينك سعيا﴾ . [[في المطبوعة والمخطوطة: "عن أبي حمزة"، وهو خطأ. انظر ما سلف من التعليق على الأثر: ٥٩٩٥.]] . ٦٠١٤ - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ﴿ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا﴾ قال: لما أوثقهن ذبحهن، ثم جعل على كل جبل منهن جزءًا. ٦٠١٥ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: قال: أمر نبي الله أن يأخذ أربعة من الطير فيذبحهن، ثم يخلط بين لحومهن وريشهن ودمائهن، ثم يجزئهن على أربعة أجبُل، فذكر لنا أنه شكل على أجنحتهن، [[لم أفهم لقوله: "شكل على أجنحتهن" معنى، ولعل فيها تصحيفًا لم أتبينه، ولعل معناه أنه نثر ريش أجنحتهن. ولم أجد الخبر في مكان آخر.]] وأمسك برؤوسهن بيده، فجعل العظم يذهب إلى العظم، والريشة إلى الريشة، والبَضعة إلى البَضعة، وذلك بعين خليل الله إبراهيم ﷺ. ثم دعاهن فأتينه سعيًا على أرجلهن، ويلقي كل طير برأسه. [[في المطبوعة والمخطوطة: " ويلقي كل طير برأسه"، والصواب زيادة"إلى".]] . وهذا مثل آتاه الله إبراهيم، يقول: كما بعث هذه الأطيار من هذه الأجبل الأربعة، كذلك يبعث الله الناسَ يوم القيامة من أرباع الأرض ونواحيها. ٦٠١٦ - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: ذبحهن، ثم قطعهن، ثم خلط بين لحومهن وريشهن، ثم قسّمهن على أربعة أجزاء، فجعل على كل جبل منهن جزءًا، فجعل العظم يذهب إلى العظم، والريشة إلى الريشة، والبَضعة إلى البَضعة، وذلك بعين خليل الله إبراهيم. ثم دعاهن فأتينه سعيًا، يقول: شدًّا على أرجلهن. وهذا مثل أراه الله إبراهيم، يقول: كما بعثتُ هذه الأطيار من هذه الأجبل الأربعة، كذلك يبعث الله الناس يوم القيامة من أرباع الأرض ونواحيها. ٦٠١٧ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم: أن أهل الكتاب يذكرون أنه أخذَ الأطيار الأربعة، ثم قطَّع كل طير بأربعة أجزاء، ثم عمد إلى أربعة أجبال، فجعل على كل جبل ربعًا من كل طائر، فكان على كل جبل ربع من الطاووس، وربع من الديك، وربع من الغراب وربع من الحمام. ثم دعاهن فقال:"تعالين بإذن الله كما كنتُن"، فوثب كل ربع منها إلى صاحبه حتى اجتمعن، فكان كل طائر كما كان قبل أن يقطعه. ثم أقبلن إليه سعيًا، كما قال الله. وقيل: يا إبراهيم هكذا يجمع الله العباد، ويحيي الموتى للبعث من مشارق الأرض ومغاربها، وشامِها ويَمنها! فأراه الله إحياء الموتى بقدرته، حتى عرف ذلك، يعني: ما قال نمروذ من الكذب والباطل. [[في المطبوعة: "بغير ما قال نمرود ... " وفي المخطوطة: " بعير ما قال" غير منقوطة، وصواب قراءته ما أثبت. وهذا تفسير للإشارة في قوله: "حتى عرف ذلك".]] . ٦٠١٨ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: ﴿ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا﴾ قال: فأخذ طاووسًا، وحمامة، وغرابًا، وديكًا، ثم قال: فرّقهن، اجعل رأس كل واحد وجؤشوش الآخر وجناحي الآخر ورجلي الآخر معه. [[الجؤشوش: الصدر. يقال: "مضى جؤشوش من الليل" أي: صدر منه، مجاز من ذلك.]] . فقطعهن وفرقهن أرباعًا على الجبال، ثم دعاهن فجئنه جميعًا، فقال الله: كما ناديتهن فجئنَك، فكما أحييت هؤلاء وجمعتهن بعدَ هذا، فكذلك أجمع هؤلاء أيضًا - يعني الموتى. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: ثم اجعل على كل جبل من الأجبال التي كانت الأطيار والسباع التي كانت تأكل من لحم الدابة التي رآها إبراهيم ميتة، فسأل إبراهيم عند رؤيته إياها، أن يريه كيف يحييها وسائر الأموات غيرها. وقالوا: كانت سبعة أجبال. * كر من قال ذلك: ٦٠١٩ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: لما قال إبراهيم ما قال = عند رؤيته الدابة التي تفرقت الطيرُ والسباع عنها حين دنا منها، وسأل ربّه ما سأل = قال: ﴿فخذ أربعة من الطير﴾ = قال ابن جريج: فذبحها = ثم اخلط بين دمائهن وريشهن ولحومهن، [[في المخطوطة والمطبوعة: "ثم خلط ... "، فعل ماض، والصواب ما أثبت.]] . ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا حيث رأيت الطيرَ ذهبت والسباعَ. قال: فجعلهن سبعة أجزاء، وأمسك رؤوسهن عنده، ثم دعاهن بإذن الله، فنظر إلى كل قطرة من دم تطير إلى القطرة الأخرى، وكل ريشة تطير إلى الريشة الأخرى، وكل بَضْعة وكل عظم يطير بعضه إلى بعض من رؤوس الجبال، حتى لقيت كل جثة بعضها بعضًا في السماء، ثم أقبلن يسعَيْن، حتى وصلت رأسها. ٦٠٢٠ - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: ﴿فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك﴾ ، ثم اجعل على سبعة أجبال، فاجعل على كل جبل منهن جزءًا، ثم ادعهن يأتينك سعيًا! فأخذ إبراهيم أربعة من الطير، فقطّعهن أعضاء، لم يجعل عضوًا من طير مع صاحبه. ثم جعل رأس هذا مع رجل هذا، وصدر هذا مع جناح هذا، وقسَّمهن على سبعة أجبال، ثم دعاهن فطار كل عضو إلى صاحبه، ثم أقبلن إليه جميعًا. * * * وقال آخرون: بل أمره الله أن يجعل ذلك على كل جبل. * ذكر من قال ذلك: ٦٠٢١ - حدثني محمد بن عمرو، قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ﴿ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا﴾ ، قال: ثم بدِّدهن على كل جبل يأتينك سعيًا، وكذلك يُحيي الله الموتى. ٦٠٢٢ - حدثني المثنى، قال، حدثنا أبو حذيفة، قال، حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ثم اجعلهن أجزاء على كل جبل، ثم ادعهن يأتينك سعيًا، كذلك يحيى الله الموتى. هو مثل ضربه الله لإبراهيم. ٦٠٢٣ - حدثنا القاسم، قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج، قال مجاهد: ﴿ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا﴾ ثم بددهن أجزاءً على كل جبل = ثم ﴿ادعهن﴾ ، تعالين بإذن الله. فكذلك يُحيي الله الموتى. مثل ضربه الله لإبراهيم ﷺ. ٦٠٢٤ - حدثني المثنى، قال: حدثني إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك، قال: أمره أن يُخالف بين قوائمهن ورؤوسهن وأجنحتهن، ثم يجعل على كل جبل منهن جزءًا. ٦٠٢٥ - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ﴿ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا﴾ ، فخالف إبراهيم بين قوائمهن وأجنحتهن. * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلات بالآية ما قاله مجاهد، وهو أن الله تعالى ذكره أمرَ إبراهيم بتفريق أعضاء الأطيار الأربعة بعد تقطيعه إياهن، على جميع الأجبال التي كان يصل إبراهيم في وقت تكليف الله إياه تفريقَ ذلك وتبديدَها عليها أجزاء. لأن الله تعالى ذكره قال له: ﴿ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا﴾ و"الكل" حرف يدل على الإحاطة بما أضيف إليه، لفظه واحد ومعناه الجمع. [[انظر ما سلف في معنى"كل" ٣: ١٩٥.]] . فإذا كان ذلك كذلك، فلن يجوز أن تكون الجبال التي أمر الله إبراهيمَ بتفريق أجزاء الأطيار الأربعة، عليها خارجةً من أحد معنيين: إما أن تكون بعضًا، أو جميعا. [[في المطبوعة والمخطوطة: "أو جمعا"، والصواب ما أثبت، وسيأتي على الصواب بعد قليل في المخطوطة.]] . فإن كانت"بعضًا" فغير جائز أن يكون ذلك البعض إلا ما كان لإبراهيم السبيلُ إلى تفريق أعضاء الأطيار الأربعة عليه. = أو يكون"جميعا"، فيكون أيضًا كذلك. [[في المطبوعة: "جمعا"، وأثبت ما في المخطوطة.]] . وقد أخبر الله تعالى ذكره أنه أمره بأن يجعل ذلك على"كل جبل"، وذلك إما كل جبل وقد عرفهن إبراهيم بأعيانهن، [[في المطبوعة: "من كل جبل وقد عرفهن ... " في المخطوطة: " ... قد عرفهن" بغير واو. وقد زدت"من أجبل" حتى تستقيم العبارة، مستظهرًا مما مضى.]] وإمَّا ما في الأرض من الجبال. فأما قول من قال:"إن ذلك أربعة أجبل"، وقول من قال:"هن سبعة"، فلا دلالة عندنا على صحة شيء من ذلك فنستجيز القول به، وإنما أمر الله إبراهيم ﷺ أن يجعل الأطيار الأربعة أجزاء متفرقة على كل جبل، ليري إبراهيم قدرته على جمع أجزائهن وهنَّ متفرقات متبدِّدات في أماكن مختلفة شتى، حتى يؤلف بعضهن إلى بعض، فيعدن = كهيئتهن قبل تقطيعهن وتمزيقهن وقبل تفريق أجزائهن على الجبال = أطيارًا أحياءً يطرن، فيطمئنّ قلب إبراهيم، ويعلم أنّ كذلك جَمْعُ الله أوصال الموتى لبعث القيامة، [[في المطبوعة: "أن كذلك يجمع الله ... " وأثبت ما في المخطوطة.]] . وتأليفه أجزاءهم بعد البلى وردّ كل عضو من أعضائهم إلى موضعه كالذي كان قبل الردَى. [[في المطبوعة: "قبل الرد"، والصواب من المخطوطة. والردى: الهلاك.]] . * * * قال أبو جعفر: و"الجزْء" من كل شيء هو البعض منه، كان منقسمًا جميعه عليه على صحة أو غير منقسم. فهو بذلك من معناه مخالف معنى"السهم". لأن"السهم" من الشيء، هو البعض المنقسم عليه جميعه على صحة. ولذلك كثر استعمال الناس في كلامهم عند ذكرهم أنصباءَهم من المواريث:"السهام" دون"الأجزاء". [[هذه تفرقة جيدة قلما تصيبها في كتب اللغة، فقيدها.]] . * * * وأما قوله: ﴿ثم ادعهن﴾ فإن معناه ما ذكرت آنفًا عن مجاهد، أنه قال: هو امه أمر أن يقول لأجزاء الأطيار بعد تفريقهن على كل جبل:"تعالين بإذن الله". * * * فإن قال قائل: أمِر إبراهيم أن يدعوهنّ وهن ممزَّقات أجزاء على رؤوس الجبال أمواتًا، أم بعد ما أحيِين؟ فإن كان أمر أن يدعوهنّ وهن ممزقات لا أرواح فيهن، فما وجه أمر من لا حياة فيه بالإقبال؟ وإن كان أمر بدعائهن بعد ما أحيين، فما كانت حاجة إبراهيم إلى دعائهن، وقد أبصرهن يُنْشرن على رؤوس الجبال؟ قيل: إن أمر الله تعالى ذكره إبراهيمَ ﷺ بدعائهن وهن أجزاء متفرقات، إنما هو أمر تكوين = كقول الله للذين مسخهم قرَدة بعد ما كانوا إنسًا: ﴿كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ [البقرة: ٦٥] = لا أمرَ عبادةٍ، فيكون محالا إلا بعد وجُود المأمور المتعبَّد. * * * القول في تأويل قوله: ﴿وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠) ﴾ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ﴿واعلم﴾ يا إبراهيم، أن الذي أحيا هذه الأطيار بعد تمزيقك إياهن، وتفريقك أجزاءهن على الجبال، فجمعهن وردّ إليهن الروح، حتى أعادهن كهيئتهنّ قبل تفريقكَهُنّ = ﴿عزيز﴾ ، في بطشه إذا بطش بمن بطش من الجبابرة والمتكبرة، الذين خالفوا أمرَه، وعصوا رُسله، وعبدوا غيره، وفي نقمته حتى ينتقم منهم = ﴿حكيم﴾ في أمره. * * * ٦٠٢٦ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا ابن إسحاق: ﴿واعلم أن الله عزيز حكيم﴾ ، قال: عزيز في بطشه، حكيم في أمره. ٦٠٢٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: ﴿واعلم أن الله عزيز﴾ في نقمته = ﴿حكيم﴾ في أمره.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب