الباحث القرآني

﴿وإذْ قالَ إبْراهِيمُ رَبِّ أرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتى قالَ أوَلَمْ تُؤْمِن قالَ بَلى ولَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا واعْلَمْ أنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ . مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿أوْ كالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ﴾ [البقرة: ٢٥٩] فَهو مِثالٌ ثالِثٌ لِقَضِيَّةِ قَوْلِهِ: ﴿اللَّهُ ولِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة: ٢٥٧] الآيَةَ، ومِثالٌ ثانٍ لِقَضِيَّةِ: ﴿أوْ كالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ﴾ [البقرة: ٢٥٩] فالتَّقْدِيرُ: أوْ هو كَإبْراهِيمَ إذْ قالَ رَبِّ أرِنِي، إلخ، فَإنَّ إبْراهِيمَ لِفَرْطِ مَحَبَّتِهِ الوُصُولَ إلى مَرْتَبَةِ المُعايَنَةِ في دَلِيلِ البَعْثِ رامَ الِانْتِقالَ مِنَ العِلْمِ النَّظَرِيِّ البُرْهانِيِّ إلى العِلْمِ الضَّرُورِيِّ، فَسَألَ اللَّهَ أنْ يُرِيَهُ إحْياءَ المَوْتى بِالمَحْسُوسِ. وانْتَصَبَ (كَيْفَ) هُنا عَلى الحالِ مُجَرَّدَةً عَنِ الِاسْتِفْهامِ، كانْتِصابِها في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكم في الأرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ﴾ [آل عمران: ٦] . وقَوْلُهُ: ﴿أوَلَمْ تُؤْمِن﴾ الواوُ فِيهِ واوُ الحالِ، والهَمْزَةُ اسْتِفْهامٌ تَقْرِيرِيٌّ عَلى هَذِهِ الحالَةِ، وعامِلُ الحالِ فِعْلٌ مُقَدَّرٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أرِنِي، والتَّقْدِيرُ: أأُرِيكَ في حالِ أنَّكَ لَمْ تُؤْمِن، وهو تَقْرِيرٌ مَجازِيٌّ مُرادٌ بِهِ لَفْتُ عَقْلِهِ إلى دَفْعِ هَواجِسِ الشَّكِّ، فَقَوْلُهُ: ﴿بَلى ولَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ كَلامٌ صَدَرَ عَنِ اخْتِبارِهِ يَقِينَهُ وإلْفائِهِ سالِمًا مِنَ الشَّكِّ. (p-٣٩)وقَوْلُهُ: ﴿لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ مَعْناهُ: لِيَثْبُتَ ويَتَحَقَّقَ عِلْمِي ويَنْتَقِلَ مِن مُعالَجَةِ الفِكْرِ والنَّظَرِ إلى بَساطَةِ الضَّرُورَةِ بِيَقِينِ المُشاهَدَةِ، وانْكِشافِ المَعْلُومِ انْكِشافًا لا يَحْتاجُ إلى مُعاوَدَةِ الِاسْتِدْلالِ ودَفْعِ الشُّبَهِ عَنِ العَقْلِ، وذَلِكَ أنَّ حَقِيقَةَ (يَطَمْئِنُ) يَسْكُنُ، ومَصْدَرُهُ الِاطْمِئْنانُ، واسْمُ المَصْدَرِ الطُّمَأْنِينَةُ، فَهو حَقِيقَةٌ في سُكُونِ الأجْسامِ، وإطْلاقُهُ عَلى اسْتِقْرارِ العِلْمِ في النَّفْسِ وانْتِفاءِ مُعالَجَةِ الِاسْتِدْلالِ أصْلُهُ مَجازٌ بِتَشْبِيهِ التَّرَدُّدِ وعِلاجِ الِاسْتِدْلالِ بِالِاضْطِرابِ والحَرَكَةِ، وشاعَ ذَلِكَ المَجازُ حَتّى صارَ مُساوِيًا لِلْحَقِيقَةِ يُقالُ: اطْمَأنَّ بالُهُ واطْمَأنَّ قَلْبُهُ. والأظْهَرُ أنَّ (اطْمَأنَّ) وزْنُهُ (افْعَلَلَّ) وأنَّهُ لا قَلْبَ فِيهِ، فالهَمْزَةُ فِيهِ هي لامُ الكَلِمَةِ، والمِيمُ عَيْنُ الكَلِمَةِ، وهَذا قَوْلُ أبِي عَمْرٍو، وهو البَيِّنُ إذْ لا داعِيَ إلى القَلْبِ، فَإنَّ وُقُوعَ الهَمْزَةِ لامًا أكْثَرُ وأخَفُّ مِن وُقُوعِها عَيْنًا، وذَهَبَ سِيبَوَيْهِ إلى أنَّ (اطْمَأنَّ) مَقْلُوبٌ، وأصْلُهُ (اطْأمَنَّ) وقَدْ سُمِعَ طَمْأنْتُهُ وطَأْمَنتُهُ، وأكْثَرُ الِاسْتِعْمالِ عَلى تَقْدِيمِ المِيمِ عَلى الهَمْزَةِ، والَّذِي أوْجَبَ الخِلافَ عَدَمُ سَماعِ المُجَرَّدِ مِنهُ؛ إذْ لَمْ يُسْمَعْ (طَمَنَ) . والقَلْبُ مُرادٌ بِهِ العِلْمُ إذِ القَلْبُ لا يَضْطَرِبُ عِنْدَ الشَّكِّ ولا يَتَحَرَّكُ عِنْدَ إقامَةِ الدَّلِيلِ وإنَّما ذَلِكَ لِلْفِكْرِ، وأرادَ بِالِاطْمِئْنانِ العِلْمَ المَحْسُوسَ وانْشِراحَ النَّفْسِ بِهِ وقَدْ دَلَّهُ اللَّهُ عَلى طَرِيقَةٍ يَرى بِها إحْياءَ المَوْتى رَأْيَ العَيْنِ. وقَوْلُهُ: ﴿فَخُذْ أرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ﴾ اعْلَمْ أنَّ الطَّيْرَ يُطْلَقُ عَلى الواحِدِ مُرادِفًا لِطائِرٍ، فَإنَّهُ مِنَ التَّسْمِيَةِ بِالمَصْدَرِ وأصْلُها وصْفٌ فَأصْلُها الوَحْدَةُ، ولا شَكَّ في هَذا الإطْلاقِ، وهو قَوْلُ أبِي عُبَيْدَةَ والأزْهَرِيِّ وقُطْرُبٍ ولا وجْهَ لِلتَّرَدُّدِ فِيهِ، ويُطْلَقُ عَلى جَمْعِهِ أيْضًا وهو اسْمُ جَمْعِ (طائِرٍ) كَصَحْبٍ وصاحِبٍ، وذَلِكَ أنَّ أصْلَهُ المَصْدَرُ، والمَصْدَرُ يَجْرِي عَلى الواحِدِ وعَلى الجَمْعِ. وجِيءَ بِـ (مِن) لِلتَّبْعِيضِ لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّ الأرْبَعَةَ مُخْتَلِفَةُ الأنْواعِ، والظّاهِرُ أنَّ حِكْمَةَ التَّعَدُّدِ والِاخْتِلافِ زِيادَةٌ في تَحَقُّقِ أنَّ الإحْياءَ لَمْ يَكُنْ أهْوَنَ في بَعْضِ الأنْواعِ دُونَ بَعْضٍ، فَلِذَلِكَ عُدِّدَتِ الأنْواعُ، ولَعَلَّ جَعْلَها أرْبَعَةً لِيَكُونَ وضْعُها عَلى الجِهاتِ الأرْبَعِ: المَشْرِقِ والمَغْرِبِ والجَنُوبِ والشَّمالِ لِئَلّا يَظُنَّ لِبَعْضِ الجِهاتِ مَزِيدَ اخْتِصاصٍ بِتَأتِّي الإحْياءِ، ويَجُوزُ أنَّ المُرادَ بِالأرْبَعَةِ أرْبَعَةُ أجْزاءٍ مِن طَيْرٍ واحِدٍ فَتَكُونُ اللّامُ لِلْعَهْدِ إشارَةً إلى طَيْرٍ (p-٤٠)حاضِرٍ، أيْ: خُذْ أرْبَعَةً مِن أجْزائِهِ ثُمَّ ادْعُهُنَّ. والسَّعْيُ مِن أنْواعِ المَشْيِ لا مِن أنْواعِ الطَّيَرانِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ آيَةً عَلى أنَّهُنَّ أُعِيدَتْ إلَيْهِنَّ حَياةٌ مُخالِفَةٌ لِلْحَياةِ السّابِقَةِ لِئَلّا يَظُنَّ أنَّهُنَّ لَمْ يَمُتْنَ تَمامًا. وذِكْرُ ”كُلِّ جَبَلٍ“ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ أمْرٌ بِجَعْلِ كُلِّ جُزْءٍ مِن أجْزاءِ الطَّيْرِ عَلى جَبَلٍ؛ لِأنَّ وضْعَها عَلى الجِبالِ تَقْوِيَةٌ لِتَفَرُّقِ تِلْكَ الأجْزاءِ، فَإنَّها فُرِّقَتْ بِالفَصْلِ مِن أجْسادِها وبِوَضْعِها في أمْكِنَةٍ مُتَباعِدَةٍ وعَسِرَةِ التَّناوُلِ. والجَبَلُ قِطْعَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ الأرْضِ ذاتُ حِجارَةٍ وتُرابٍ، ناتِئَةٌ تِلْكَ القِطْعَةُ مِنَ الأرْضِ المُسْتَوِيَةِ، وفي الأرْضِ جِبالٌ كَثِيرَةٌ مُتَفاوِتَةُ الِارْتِفاعِ، وفي بَعْضِها مَساكِنُ لِلْبَشَرِ مِثْلُ جِبالِ طَيِّئٍ، وبَعْضُها تَعْتَصِمُ بِهِ النّاسُ مِنَ العَدُوِّ؛ كَما قالَ السَّمَوْألُ: ؎لَنا جَبَلٌ يَحْتَلُّهُ مِن نُجِيرُهُ مَنِيعٌ يَرُدُّ الطَّرْفَ وهو كَلَيْلُ ومَعْنى (صُرْهُنَّ) أدْنِهِنَّ أوْ: أيْلِهِنَّ. يُقالُ: صارَهُ يَصُورُهُ ويَصِيرُهُ بِمَعْنًى، وهو لَفْظٌ عَرَبِيٌّ عَلى الأصَحِّ. وقِيلَ: مُعَرَّبٌ، فَعَنْ عِكْرِمَةَ أنَّهُ نَبَطِيٌّ، وعَنْ قَتادَةَ هو حَبَشِيٌّ، وعَنْ وهْبٍ هو رُومِيٌّ، وفائِدَةُ الأمْرِ بِإدْنائِها أنْ يَتَأمَّلَ أحْوالَها، حَتّى يَعْلَمَ بَعْدَ إحْيائِها أنَّها لَمْ يَنْتَقِلْ جُزْءٌ مِنها عَنْ مَوْضِعِهِ. وقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنهُنَّ جُزْءًا﴾ عَطْفٌ عَلى مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ”جُزْءًا“ لِأنَّ تَجْزِئَتَهُنَّ إنَّما تَقَعُ بَعْدَ الذَّبْحِ، فالتَّقْدِيرُ فاذْبَحْهُنَّ ثُمَّ اجْعَلْ. إلخ. وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿فَصُرْهُنَّ﴾ بِضَمِّ الصّادِ وسُكُونِ الرّاءِ، مَن صارَهُ يَصُورُهُ، وقَرَأ حَمْزَةُ وأبُو جَعْفَرٍ وخَلَفٌ ورُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ ﴿فَصِرْهُنَّ﴾ بِكَسْرِ الصّادِ مَن صارَ يَصِيرُ. لُغَةٌ في هَذا الفِعْلِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ جُزْءًا بِسُكُونِ الزّايِ وقَرَأهُ أبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ بِضَمِّ الزّايِ، وهُما لُغَتانِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب