الباحث القرآني

﴿وَإذْ قالَ إبْراهِيمُ﴾: دَلِيلٌ آخَرُ عَلى وِلايَتِهِ (تَعالى) لِلْمُؤْمِنِينَ؛ وإخْراجِهِ لَهم مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ؛ وإنَّما لَمْ يَسْلُكْ بِهِ مَسْلَكَ (p-256)الِاسْتِشْهادِ كَما قَبْلَهُ؛ بِأنْ يُقالَ: أوْ كالَّذِي قالَ: رَبِّ.. إلَخْ.. لِجَرَيانِ ذِكْرِهِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - في أثْناءِ المُحاجَّةِ؛ ولِأنَّهُ لا دَخْلَ لِنَفْسِهِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - في أصْلِ الدَّلِيلِ؛ كَدَأْبِ عُزَيْرٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ -؛ فَإنَّ ما جَرى عَلَيْهِ مِن إحْيائِهِ بَعْدَ مِائَةِ عامٍ؛ مِن جُمْلَةِ الشَّواهِدِ عَلى قدرته (تَعالى)؛ وهِدايَتِهِ؛ والظَّرْفُ مُنْتَصِبٌ بِمُضْمَرٍ؛ صُرِّحَ بِمِثْلِهِ في نَحْوِ قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿واذْكُرُوا إذْ جَعَلَكم خُلَفاءَ﴾؛ أيْ: واذْكُرْ وقْتَ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلامُ -؛ وما وقَعَ حِينَئِذٍ مِن تَعاجِيبِ صُنْعِ اللَّهِ (تَعالى)؛ لِتَقِفَ عَلى ما مَرَّ مِن وِلايَتِهِ (تَعالى)؛ وهِدايَتِهِ. وتَوْجِيهُ الأمْرِ بِالذِّكْرِ في أمْثالِ هَذِهِ المَواقِعِ إلى الوَقْتِ؛ دُونَ ما وقَعَ فِيهِ مِنَ الواقِعاتِ؛ مَعَ أنَّها المَقْصُودَةُ بِالتَّذْكِيرِ؛ لِما ذُكِرَ غَيْرَ مَرَّةٍ؛ مِنَ المُبالَغَةِ في إيجابِ ذِكْرِها؛ لِما أنَّ إيجابَ ذِكْرِ الوَقْتِ إيجابٌ لِذِكْرِ ما وقَعَ فِيهِ بِالطَّرِيقِ البُرْهانِيِّ؛ ولِأنَّ الوَقْتَ مُشْتَمِلٌ عَلَيْها مُفَصَّلَةً؛ فَإذا اسْتُحْضِرَ كانَتْ حاضِرَةً بِتَفاصِيلِها؛ بِحَيْثُ لا يَشِذُّ عَنْها شَيْءٌ مِمّا ذُكِرَ عِنْدَ الحِكايَةِ؛ أوْ لَمْ يُذْكَرْ؛ كَأنَّها مُشاهَدَةٌ عِيانًا؛ "رَبِّ" كَلِمَةُ اسْتِعْطافٍ؛ قُدِّمَتْ بَيْنَ يَدَيِ الدُّعاءِ مُبالَغَةً في اسْتِدْعاءِ الإجابَةِ؛ "أرِنِي"؛ مِنَ الرُّؤْيَةِ البَصَرِيَّةِ المُتَعَدِّيَةِ إلى واحِدٍ؛ وبِدُخُولِ هَمْزَةِ النَّقْلِ طَلَبَتْ مَفْعُولًا آخَرَ؛ هو الجُمْلَةُ الِاسْتِفْهامِيَّةُ؛ المُعَلِّقَةُ لَها؛ فَإنَّها تُعَلَّقُ؛ كَما يُعَلَّقُ النَّظَرُ البَصَرِيُّ؛ أيْ: اجْعَلْنِي مُبْصِرًا؛ ﴿كَيْفَ تُحْيِ المَوْتى﴾؛ بِأنْ تُحْيِيَها وأنا أنْظُرُ إلَيْها؛ و"كَيْفَ" في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى التَّشْبِيهِ بِالظَّرْفِ؛ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ؛ وبِالحالِ؛ عِنْدَ الأخْفَشِ؛ والعامِلُ فِيها "تُحْيِي"؛ أيْ: في أيِّ حالٍ؛ أوْ: عَلى أيِّ حالٍ تُحْيِي؛ قالَ القُرْطُبِيُّ: الِاسْتِفْهامُ بِـ "كَيْفَ" إنَّما هو سُؤالٌ عَنْ حالِ شَيْءٍ مُتَقَرِّرِ الوُجُودِ عِنْدَ السّائِلِ؛ والمَسْؤُولِ؛ فالِاسْتِفْهامُ هَهُنا عَنْ هَيْئَةِ الإحْياءِ المُتَقَرِّرِ عِنْدَ السّائِلِ؛ أيْ: بَصِّرْنِي كَيْفِيَّةَ إحْيائِكَ لِلْمَوْتى؛ وإنَّما سَألَهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - لِيَتَأيَّدَ إيقانُهُ بِالعِيانِ؛ ويَزْدادَ قَلْبُهُ اطْمِئْنانًا عَلى اطْمِئْنانٍ؛ وأمّا ما قِيلَ مِن أنَّ نَمْرُودَ لَمّا قالَ: أنا أُحْيِي وأُمِيتُ؛ قالَ إبْراهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلامُ -: "إنَّ إحْياءَ اللَّهِ (تَعالى) بِرَدِّ الأرْواحِ إلى الأجْسادِ"؛ فَقالَ نَمْرُودُ: هَلْ عايَنْتَهُ؟ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلى أنْ يَقُولَ: نَعَمْ؛ فانْتَقَلَ إلى تَقْرِيرٍ آخَرَ؛ ثُمَّ سَألَ رَبَّهُ أنْ يُرِيَهُ ذَلِكَ؛ فَيَأْباهُ تَعْلِيلُ السُّؤالِ بِالِاطْمِئْنانِ؛ قالَ: اسْتِئْنافٌ؛ كَما مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ؛ ﴿أوَلَمْ تُؤْمِن﴾: عَطْفٌ عَلى مُقَدَّرٍ؛ أيْ: "ألَمْ تَعْلَمْ؛ ولَمْ تُؤْمِن بِأنِّي قادِرٌ عَلى الإحْياءِ كَيْفَ أشاءُ؛ حَتّى تَسْألَنِي إراءَتَهُ؟"؛ قالَهُ - عَزَّ وعَلا - وهو أعْلَمُ بِأنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - أثْبَتُ النّاسِ إيمانًا؛ وأقْواهم يَقِينًا؛ لِيُجِيبَ بِما أجابَ بِهِ؛ فَيَكُونَ ذَلِكَ لُطْفًا لِلسّامِعِينَ؛ ﴿قالَ بَلى﴾؛ عَلِمْتُ؛ وآمَنتُ بِأنَّكَ قادِرٌ عَلى الإحْياءِ؛ عَلى أيِّ كَيْفِيَّةٍ شِئْتَ؛ ﴿وَلَكِنْ﴾ سَألْتُ ما سَألْتُ؛ ﴿لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾؛ بِمُضامَّةِ العِيانِ إلى الإيمانِ؛ والإيقانِ؛ وأزْدادَ بَصِيرَةً بِمُشاهَدَتِهِ عَلى كَيْفِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ؛ ﴿قالَ فَخُذْ﴾: الفاءُ لِجَوابِ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ؛ أيْ: إنْ أرَدْتَ ذَلِكَ ﴿فَخُذْ أرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ﴾؛ قِيلَ: هو اسْمٌ لِجَمْعِ "طائِرٌ"؛ كَـ "رَكْبٌ"؛ و"سَفْرٌ"؛ وقِيلَ: جَمْعٌ لَهُ كَـ "تاجِرٌ"؛ و"تَجْرٌ"؛ وقِيلَ: هو مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ الجِنْسُ؛ وقِيلَ: هو تَخْفِيفُ "طَيِّرٌ"؛ بِمَعْنى "طائِرٌ"؛ كَـ "هَيْنٌ"؛ في "هَيِّنٌ"؛ و"مِن" مُتَعَلِّقَةٌ بِـ "خُذْ"؛ أوْ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ صِفَةً لِـ "أرْبَعَةً"؛ أيْ: أرْبَعَةً كائِنَةً مِنَ الطَّيْرِ؛ قِيلَ: هِيَ: طاوُوسٌ؛ ودِيكٌ؛ وغُرابٌ؛ وحَمامَةٌ؛ وقِيلَ: نَسْرٌ؛ بَدَلَ الأخِيرِ؛ وتَخْصِيصُ الطَّيْرِ بِذَلِكَ لِأنَّهُ أقْرُبُ إلى الإنْسانِ؛ وأجْمَعُ لِخَواصِّ الحَيَوانِ؛ ولِسُهُولَةِ تَأتِّي ما يُفْعَلُ بِهِ مِنَ التَّجْزِئَةِ؛ والتَّفْرِيقِ؛ وغَيْرِ ذَلِكَ؛ ﴿فَصُرْهُنَّ﴾؛ مِن "صارَهُ؛ يَصُورُهُ"؛ أيْ: أمالَهُ؛ وقُرِئَ بِكَسْرِ الصّادِ؛ مِن "صارَهُ؛ يَصِيرُهُ"؛ أيْ: أمِلْهُنَّ؛ واضْمُمْهُنَّ؛ وقُرِئَ: "فَصُرَّهُنَّ"؛ بِضَمِّ الصّادِ؛ وكَسْرِها؛ وتَشْدِيدِ الرّاءِ؛ مِن "صَرَّهُ؛ يَصُرُّهُ؛ ويَصِرُّهُ"؛ إذا جَمَعَهُ؛ وقُرِئَ: "فَصَرِّهِنَّ"؛ مِن "التَّصْرِيَةُ"؛ بِمَعْنى "الجَمْعُ"؛ أيْ: اجْمَعْهُنَّ؛ "إلَيْكَ"؛ لِتَتَأمَّلَها؛ وتَعْرِفَ شِياتِها مُفَصَّلَةً؛ حَتّى تَعْلَمَ بَعْدَ الإحْياءِ أنَّ جُزْءًا مِن أجْزائِها لَمْ يَنْتَقِلْ مِن مَوْضِعِهِ الأوَّلِ أصْلًا؛ رُوِيَ أنَّهُ أُمِرَ بِأنْ يَذْبَحَها؛ ويَنْتِفَ رِيشَها؛ ويُقَطِّعَها؛ ويُفَرِّقَ (p-257)أجْزاءَها؛ ويَخْلِطَ رِيشَها ودِماءَها ولُحُومَها؛ ويُمْسِكَ رُؤُوسَها؛ ثُمَّ أُمِرَ بِأنْ يَجْعَلَ أجْزاءَها عَلى الجِبالِ؛ وذَلِكَ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنهُنَّ جُزْءًا﴾؛ أيْ: جَزِّئْهُنَّ؛ وفَرِّقْ أجْزاءَهُنَّ عَلى ما بِحَضْرَتِكَ مِنَ الجِبالِ؛ قِيلَ: كانَتْ أرْبَعَةَ أجْبُلٍ؛ وقِيلَ: سَبْعَةً؛ فَجَعَلَ عَلى كُلِّ جَبَلٍ رُبُعًا؛ أوْ سُبُعًا؛ مِن كُلِّ طائِرٍ؛ وقُرِئَ: "جُزُؤًا"؛ بِضَمَّتَيْنِ؛ و"جُزًّا"؛ بِالتَّشْدِيدِ؛ بِطَرْحِ هَمْزَتِهِ تَخْفِيفًا؛ ثُمَّ تَشْدِيدِهِ عِنْدَ الوَقْفِ؛ ثُمَّ إجْراءِ الوَصْلِ مُجْرى الوَقْفِ؛ ﴿ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ﴾؛ في حَيِّزِ الجَزْمِ؛ عَلى أنَّهُ جَوابُ الأمْرِ؛ ولَكِنَّهُ بُنِيَ لِاتِّصالِهِ بِنُونِ جَمْعِ المُؤَنَّثِ؛ ﴿سَعْيًا﴾؛ أيْ: ساعِياتٍ؛ مُسْرِعاتٍ؛ أوْ: ذَواتِ سَعْيٍ؛ طَيَرانًا؛ أوْ مَشْيًا؛ وإنَّما اقْتُصِرَ عَلى حِكايَةِ أوامِرِهِ - عَزَّ وجَلَّ - مِن غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِامْتِثالِهِ - عَلَيْهِ السَّلامُ -؛ ولا لِما تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِن عَجائِبِ آثارِ قدرته (تَعالى)؛ كَما رُوِيَ أنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - نادى؛ فَقالَ: "تَعالَيْنَ بِإذْنِ اللَّهِ"؛ فَجَعَلَ كُلُّ جُزْءٍ مِنهُنَّ يَطِيرُ إلى صاحِبِهِ؛ حَتّى صارَتْ جُثَثًا؛ ثُمَّ أقْبَلْنَ إلى رُؤُوسِهِنَّ؛ فانْضَمَّتْ كُلُّ جُثَّةٍ إلى رَأْسِها؛ فَعادَتْ كُلُّ واحِدَةٍ مِنهُنَّ إلى ما كانَتْ عَلَيْهِ مِنَ الهَيْئَةِ؛ لِلْإيذانِ بِأنَّ تَرَتُّبَ تِلْكَ الأُمُورِ عَلى الأوامِرِ الجَلِيلَةِ؛ واسْتِحالَةِ تَخَلُّفِها عَنْها؛ مِنَ الجَلاءِ؛ والظُّهُورِ؛ بِحَيْثُ لا حاجَةَ لَهُ إلى الذِّكْرِ أصْلًا؛ وناهِيكَ بِالقِصَّةِ دَلِيلًا عَلى فَضْلِ الخَلِيلِ؛ ويُمْنِ الضَّراعَةِ في الدُّعاءِ؛ وحُسْنِ الأدَبِ في السُّؤالِ؛ حَيْثُ أراهُ اللَّهُ (تَعالى) ما سَألَهُ في الحالِ؛ عَلى أيْسَرِ ما يَكُونُ مِنَ الوُجُوهِ؛ وأرى عُزَيْرًا ما أراهُ؛ بَعْدَما أماتَهُ مِائَةَ عامٍ؛ ﴿واعْلَمْ أنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ﴾؛ غالِبٌ عَلى أمْرِهِ؛ لا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ عَمّا يُرِيدُهُ؛ ﴿حَكِيمٌ﴾؛ ذُو حِكْمَةٍ بالِغَةٍ في أفاعِيلِهِ؛ فَلَيْسَ بِناءُ أفْعالِهِ عَلى الأسْبابِ العادِيَّةِ لِعَجْزِهِ عَنْ إيجادِها بِطَرِيقٍ آخَرَ خارِقٍ لِلْعاداتِ؛ بَلْ لِكَوْنِهِ مُتَضَمِّنًا لِلْحِكَمِ؛ والمَصالِحِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب