الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿وَإذْ قالَ إبْراهِيمُ رَبِّ أرِنِي كَيْفَ تُحْيِ المَوْتى قالَ أوَلَمْ تُؤْمِن قالَ بَلى ولَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أرْبَعَةً مِنَ الطَيْرِ فَصُرْهُنَّ إلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا واعْلَمْ أنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾
العامِلُ في "إذْ" فِعْلٌ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ: واذْكُرْ. واخْتَلَفَ الناسُ لِمَ صَدَرَتْ هَذِهِ المَقالَةُ عن إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَلامُ؟- فَقالَ الجُمْهُورُ: إنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَلامُ لَمْ يَكُنْ شاكًّا في إحْياءِ اللهِ المَوْتى قَطُّ، وإنَّما طَلَبَ المُعايَنَةَ، وتَرْجَمَ الطَبَرِيُّ في تَفْسِيرِهِ فَقالَ: وقالَ آخَرُونَ: سَألَ ذَلِكَ رَبَّهُ لِأنَّهُ شَكَّ في قُدْرَةِ اللهِ عَلى إحْياءِ المَوْتى، وأدْخَلَ تَحْتَ التَرْجَمَةِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: "ما في القُرْآنِ آيَةٌ أرْجى عِنْدِي مِنها" وذَكَرَ عن عَطاءِ بْنِ أبِي رَباحٍ أنَّهُ قالَ: "دَخَلَ قَلْبَ إبْراهِيمَ بَعْضُ ما يَدْخُلُ قُلُوبَ الناسِ فَقالَ: "رَبِّ أرِنِي كَيْفَ تُحْيِ المَوْتى" وذَكَرَ حَدِيثَ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: « "نَحْنُ أحَقُّ بِالشَكِّ مِن (p-٥٠)إبْراهِيمَ» "الحَدِيثَ"، ثُمَّ رَجَّحَ الطَبَرِيُّ هَذا القَوْلَ الَّذِي يَجْرِي مَعَ ظاهِرِ الحَدِيثِ، وقالَ: "إنَّ إبْراهِيمَ لَمّا رَأى الجِيفَةَ تَأْكُلُ مِنها الحِيتانُ ودَوابُّ البَرِّ ألْقى الشَيْطانُ في نَفْسِهِ فَقالَ: مَتى يَجْمَعُ اللهُ هَذِهِ مِن بُطُونِ هَؤُلاءِ".
وأمّا مَن قالَ بِأنَّ إبْراهِيمَ لَمْ يَكُنْ شاكًّا فاخْتَلَفُوا في سَبَبِ سُؤالِهِ - فَقالَ قَتادَةُ: إنَّ إبْراهِيمَ رَأى دابَّةً قَدْ تَوَزَّعَتْها السِباعُ فَعَجِبَ وسَألَ هَذا السُؤالَ، وقالَ الضَحّاكُ: نَحْوَهُ، قالَ: وقَدْ عَلِمَ عَلَيْهِ السَلامُ أنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى إحْياءِ المَوْتى، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: رَأى الدابَّةَ تَتَقَسَّمُها السِباعُ والحِيتانُ لِأنَّها كانَتْ عَلى حاشِيَةِ البَحْرِ. وقالَ ابْنُ إسْحاقَ: بَلْ سَبَبُها أنَّهُ لَمّا فارَقَ النُمْرُوذَ وقالَ لَهُ: أنا أُحْيِي وأُمِيتُ فَكَّرَ في تِلْكَ الحَقِيقَةِ والمَجازِ فَسَألَ هَذا السُؤالَ. وقالَ السُدِّيُّ، وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: بَلْ سَبَبُ هَذا السُؤالِ أنَّهُ لَمّا بُشِّرَ بِأنَّ اللهَ اتَّخَذَهُ خَلِيلًا أرادَ أنْ يُدِلَّ بِهَذا السُؤالِ لِيُجَرِّبَ صِحَّةَ الخُلَّةِ، فَإنَّ الخَلِيلَ يُدِلُّ بِما لا يُدِلُّ بِهِ غَيْرُهُ، وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي" يُرِيدُ بِالخُلَّةِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وما تَرْجَمَ بِهِ الطَبَرِيُّ عِنْدِي مَرْدُودٌ، وما أدْخَلَ تَحْتَ التَرْجَمَةِ مُتَأوَّلٌ، فَأمّا قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ: "هِيَ أرْجى آيَةٍ" فَمِن حَيْثُ فِيها الإدْلالُ عَلى اللهِ تَعالى - وسُؤالُ الإحْياءِ في الدُنْيا ولَيْسَتْ مَظِنَّةَ ذَلِكَ، ويَجُوزُ أنْ يَقُولَ: هي أرْجى آيَةٍ لِقَوْلِهِ: "أوَلَمْ تُؤْمِن" أيْ أنَّ الإيمانَ كافٍ لا يَحْتاجُ بَعْدَهُ إلى تَنْقِيحٍ وبَحْثٍ، وأمّا قَوْلُ عَطاءِ بْنِ أبِي رَباحٍ: "دَخَلَ قَلْبَ إبْراهِيمَ بَعْضُ ما يَدْخُلُ قُلُوبَ الناسِ" فَمَعْناهُ مِن حُبِّ المُعايَنَةِ، وذَلِكَ أنَّ النُفُوسَ مُسْتَشْرِفَةٌ إلى رُؤْيَةِ ما أُخْبِرَتْ بِهِ، ولِهَذا قالَ النَبِيُّ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ: « "لَيْسَ الخَبَرُ كالمُعايَنَةِ"»، وأمّا قَوْلُ النَبِيِّ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ: « "نَحْنُ أحَقُّ بِالشَكِّ مِن إبْراهِيمَ"» فَمَعْناهُ أنَّهُ لَوْ كانَ شَكٌّ لَكُنّا نَحْنُ أحَقَّ بِهِ، ونَحْنُ لا نَشُكُّ، فَإبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَلامُ أحْرى (p-٥١)لا يَشُكُّ، فالحَدِيثُ مَبْنِيٌّ عَلى نَفْيِ الشَكِّ عن إبْراهِيمَ. والَّذِي رُوِيَ فِيهِ عَنِ النَبِيِّ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ أنَّهُ قالَ: « "ذَلِكَ مَحْضُ الإيمانِ"» إنَّما هو في الخَواطِرِ الجارِيَةِ الَّتِي لا تَثْبُتُ، وأمّا الشَكُّ فَهو تَوَقُّفٌ بَيْنَ أمْرَيْنِ لا مَزِيَّةَ لِأحَدِهِما عَلى الآخَرِ، وذَلِكَ هو المَنفِيُّ عَنِ الخَلِيلِ عَلَيْهِ السَلامُ.
وإحْياءُ المَوْتى إنَّما يَثْبُتُ بِالسَمْعِ، وقَدْ كانَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَلامُ أعْلَمَ بِهِ، يَدُلُّكَ عَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ: "رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي ويُمِيتُ" فالشَكُّ يَبْعُدُ عَلى مَن ثَبَتَتْ قَدَمُهُ في الإيمانِ فَقَطْ، فَكَيْفَ بِمَرْتَبَةِ النُبُوءَةِ والخُلَّةِ، والأنْبِياءُ مَعْصُومُونَ مِنَ الكَبائِرِ ومِنَ الصَغائِرِ الَّتِي فِيها رَذِيلَةٌ إجْماعًا.
وإذا تَأمَّلْتَ سُؤالَهُ عَلَيْهِ السَلامُ وسائِرَ ألْفاظِ الآيَةِ لَمْ تُعْطَ شَكًّا، وذَلِكَ أنَّ الِاسْتِفْهامَ بِـ "كَيْفَ" إنَّما هو عن حالِ شَيْءٍ مَوْجُودٍ مُتَقَرِّرِ الوُجُودِ عِنْدَ السائِلِ والمَسْؤُولِ - نَحْوَ قَوْلِكَ: كَيْفَ عَلِمَ زَيْدٌ؟ وكَيْفَ نَسَجَ الثَوْبَ؟ ونَحْوِ هَذا - ومَتى قُلْتَ: كَيْفَ ثَوْبُكَ؟ وكَيْفَ زَيْدٌ؟ فَإنَّما السُؤالُ عن حالٍ مِن أحْوالِهِ، وقَدْ تَكُونُ "كَيْفَ" خَبَرًا عن شَيْءٍ شَأْنُهُ أنْ يُسْتَفْهَمَ عنهُ بِكَيْفَ نَحْوِ قَوْلِكَ: كَيْفَ شِئْتَ فَكُنْ، ونَحْوِ قَوْلِ البُخارِيِّ: كَيْفَ كانَ بَدْءُ الوَحْيِ.
و"كَيْفَ" في هَذِهِ الآيَةِ إنَّما هي اسْتِفْهامٌ عن هَيْئَةِ الإحْياءِ، والإحْياءُ مُتَقَرِّرٌ ولَكِنْ لَمّا وجَدْنا بَعْضَ المُنْكِرِينَ لِوُجُودِ شَيْءٍ قَدْ يُعَبِّرُ عن إنْكارِهِ بِالِاسْتِفْهامِ عن حالَةٍ لِذَلِكَ الشَيْءِ يَعْلَمُ أنَّها لا تَصْلُحُ، فَلَزِمَ مِن ذَلِكَ أنَّ الشَيْءَ في نَفْسِهِ لا يَصِحُّ، مِثالُ ذَلِكَ: أنْ يَقُولَ مُدَّعٍ: أنا أرْفَعُ هَذا الجَبَلَ. فَيَقُولَ لَهُ المُكَذِّبُ: أرِنِي كَيْفَ تَرْفَعُهُ. فَهَذِهِ طَرِيقَةُ مَجازٍ في العِبارَةِ، ومَعْناها تَسْلِيمٌ جَدَلِيٌّ، كَأنَّهُ يَقُولُ: افْرِضْ أنَّكَ تَرْفَعُهُ، أرِنِي كَيْفَ؟ فَلَمّا كانَ في عِبارَةِ الخَلِيلِ عَلَيْهِ السَلامُ هَذا الِاشْتِراكُ المَجازِيُّ خَلَصَ اللهُ لَهُ ذَلِكَ، وحَمَلَهُ عَلى أنْ (p-٥٢)يُبَيِّنَ الحَقِيقَةَ فَقالَ لَهُ: ﴿أوَلَمْ تُؤْمِن قالَ بَلى﴾ فَكَمُلَ الأمْرُ، وتَخَلَّصَ مِن كُلِّ شَكٍّ، ثُمَّ عَلَّلَ عَلَيْهِ السَلامُ سُؤالَهُ بِالطُمَأْنِينَةِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أوَلَمْ تُؤْمِن﴾ مَعْناهُ: إيمانًا مُطْلَقًا، دَخَلَ فِيهِ فَصْلُ إحْياءِ المَوْتى، والواوُ واوُ حالٍ دَخَلَتْ عَلَيْها ألِفُ التَقْرِيرِ.
و"لِيَطْمَئِنَّ"مَعْناهُ: لِيَسْكُنَ عن فِكْرِهِ، والطُمَأْنِينَةُ اعْتِدالٌ وسُكُونٌ عَلى ذَلِكَ الِاعْتِدالِ، فَطُمَأْنِينَةُ الأعْضاءِ مَعْرُوفَةٌ كَما قالَ عَلَيْهِ السَلامُ: « "ثُمَّ ارْكَعْ حَتّى تَطْمَئِنَّ راكِعًا"» الحَدِيثَ، وطُمَأْنِينَةُ القَلْبِ هي أنْ يَسْكُنَ فِكْرُهُ في الشَيْءِ المُعْتَقَدِ. والفِكْرُ في صُورَةِ الإحْياءِ غَيْرُ مَحْظُورَةٍ، كَما لَنا نَحْنُ اليَوْمَ أنْ نُفَكِّرَ فِيها بَلْ هي فِكْرٌ فِيها عِبَرٌ، فَأرادَ الخَلِيلُ أنْ يُعايِنَ فَتَذْهَبَ فِكْرُهُ في صُورَةِ الإحْياءِ إذْ حَرَّكَهُ إلى ذَلِكَ إمّا أمْرُ الدابَّةِ المَأْكُولَةِ، وإمّا قَوْلُ النُمْرُوذِ: "أنا أُحْيِي وأُمِيتُ" وقالَ الطَبَرِيُّ: مَعْنى لِيَطْمَئِنَّ: لِيُوقِنَ، وحُكِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وحُكِيَ عنهُ: لِيَزْدادَ يَقِينًا، وقالَهُ إبْراهِيمُ، وقَتادَةُ، وقالَ بَعْضُهُمْ: لِأزْدادَ إيمانًا مَعَ إيمانِي.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ولا زِيادَةَ في هَذا المَعْنى تُمْكِنُ إلّا السُكُونَ عَنِ الفِكْرِ وإلّا فاليَقِينُ لا يَتَبَعَّضُ. ورُوِيَ أنَّ الأرْبَعَةَ الَّتِي أخَذَ إبْراهِيمُ هي الدِيكُ والطاوُوسُ والحَمامُ والغُرابُ، ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ إسْحاقَ عن بَعْضِ أهْلِ العِلْمِ الأُوَلِ، وقالَهُ مُجاهِدٌ، وابْنُ جُرَيْجٍ، وابْنُ زَيْدٍ، وقالَ (p-٥٣)ابْنُ عَبّاسٍ: مَكانَ الغُرابِ الكُرْكِيُّ. ورُوِيَ في قَصَصِ هَذِهِ الآيَةِ أنَّ الخَلِيلَ عَلَيْهِ السَلامُ أخَذَ هَذِهِ الطَيْرَ حَسْبَما أُمِرَ، وذَكّاها ثُمَّ قَطَّعَها قِطَعًا صِغارًا، وجَمَعَ ذَلِكَ مَعَ الدَمِ والرِيشِ، ثُمَّ جَعَلَ مِن ذَلِكَ المَجْمُوعِ المُخْتَلِطِ جُزْءًا عَلى كُلِّ جَبَلٍ، ووَقَفَ هو مِن حَيْثُ يَرى تِلْكَ الأجْزاءَ وأمْسَكَ رُؤُوسَ الطَيْرِ في يَدِهِ، ثُمَّ قالَ: تَعالَيْنَ بِإذْنِ اللهِ، فَتَطايَرَتْ تِلْكَ الأجْزاءُ، وطارَ الدَمُ إلى الدَمِ، والرِيشُ إلى الرِيشِ حَتّى التَأمَتْ كَما كانَتْ أوَّلًا وبَقِيَتْ بِلا رُؤُوسٍ، ثُمَّ كَرَّرَ النِداءَ، فَجاءَتْهُ سَعْيًا حَتّى وُضِعَتْ أجْسادُها في رُؤُوسِها، وطارَتْ بِإذْنِ اللهِ تَعالى.
وقَرَأ حَمْزَةُ وحْدَهُ: "فَصِرْهُنَّ إلَيْكَ" بِكَسْرِ الصادِ، وقَرَأ الباقُونَ بِضَمِّها، ويُقالُ: صُرْتُ الشَيْءَ أصُورُهُ بِمَعْنى قَطَعْتُهُ، ومِنهُ قَوْلُرُؤْبَةَ:
؎ صُرْنا بِهِ الحُكْمَ وأعْيا الحَكَما................
ومِنهُ قَوْلُ الخَنْساءِ:
؎ فَلَوْ يُلاقِي الَّذِي لاقَيْتَهُ حَضَنٌ ∗∗∗ ∗∗∗ لَظَلَّتِ الشُمُّ مِنهُ وهْيَ تَنْصارُ
(p-٥٤)أيْ: تَتَقَطَّعُ، ويُقالُ أيْضًا: صُرْتُ الشَيْءَ أمَلْتُهُ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ:
؎ يَصُورُ عُنُوقَها أحْوى زَنِيمٌ ∗∗∗ ∗∗∗ لَهُ صَخَبٌ كَما صَخِبَ الغَرِيمُ
ومِنهُ قَوْلُ الأعْرابِيِّ في صِفَةِ نِساءٍ، "هُنَّ إلى الصِبا صُوَرٌ وعَنِ الخَنا نُورٌ" فَهَذا كُلُّهُ في ضَمِّ الصادِ.
ويُقالُ أيْضًا في هَذَيْنِ المَعْنَيَيْنِ "القَطْعِ والإمالَةِ": صِرْتُ الشَيْءَ بِكَسْرِ الصادِ أصِيرُهُ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ:
؎ وفَرْعٌ يَصِيرُ الجِيدَ وحْفٌ كَأنَّهُ ∗∗∗ ∗∗∗ عَلى اللِيتِ قِنْوانُ الكُرُومِ الدَوالِحِ
فَفِي اللَفْظَةِ لُغَتانِ قُرِئَ بِهِما.
وقَدْ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ في هَذِهِ الآيَةِ: "صُرْهُنَّ" مَعْناهُ: قَطِّعْهُنَّ، وقالَ عِكْرِمَةٌ، وابْنُ عَبّاسٍ - في بَعْضِ ما رُوِيَ عنهُ - إنَّها لَفْظَةٌ بِالنَبَطِيَّةِ مَعْناها: قَطِّعْهُنَّ، وقالَهُ الضَحّاكُ، وقالَ أبُو الأسْوَدِ الدُؤَلِيُّ: هي بِالسُرْيانِيَّةِ، وقالَ قَتادَةُ: صُرْهُنَّ: فَصِّلْهُنَّ، وقالَ ابْنُ إسْحاقَ: مَعْناهُ: قَطِّعْهُنَّ، وهو الصُورُ في كَلامِ العَرَبِ، وقالَ (p-٥٥)عَطاءُ بْنُ أبِي رَباحٍ: فَصُرْهُنَّ مَعْناهُ: اضْمُمْهُنَّ إلَيْكَ، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَعْناهُ: اجْمَعْهُنَّ، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مَعْناهُ: أوثِقْهُنَّ، فَقَدْ تَأوَّلَ المُفَسِّرُونَ اللَفْظَةَ بِمَعْنى التَقْطِيعِ، وبِمَعْنى الإمالَةِ، فَقَوْلُهُ: "إلَيْكَ" عَلى تَأْوِيلِ التَقْطِيعِ مُتَعَلِّقٌ بِـ "خُذْ" وعَلى تَأْوِيلِ الإمالَةِ والضَمِّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "صُرْهُنَّ"، وفي الكَلامِ مَتْرُوكٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الظاهِرُ تَقْدِيرُهُ: فَأمِلْهُنَّ إلَيْكَ وقَطِّعْهُنَّ، وقَرَأ قَوْمٌ "فَصُرَّهُنَّ" بِضَمِّ الصادِ وشَدِّ الراءِ المَفْتُوحَةِ، كَأنَّهُ يَقُولُ: فَشُدَّهُنَّ، ومِنهُ صُرَّةُ الدَنانِيرِ.
وقَرَأ قَوْمٌ: "فَصِرَّهُنَّ" بِكَسْرِ الصادِ وشَدِّ الراءِ المَفْتُوحَةِ، ومَعْناهُ: صَيِّحْهُنَّ مِن قَوْلِكَ: صَرَّ البابُ والقَلَمُ إذا صَوَّتَ، ذَكَرَهُ النَقّاشُ، قالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: وهي قِراءَةٌ غَرِيبَةٌ وذَلِكَ أنَّ يَفْعِلُ بِكَسْرِ العَيْنِ في المُضاعَفِ المُتَعَدِّي قَلِيلٌ، وإنَّما بابُهُ يَفْعُلُ بِضَمِّ العَيْنِ كَشَدَّ يَشُدُّ ونَحْوِهِ، لَكِنْ قَدْ جاءَ مِنهُ: نَمَّ الحَدِيثَ يَنِمُّهُ ويَنُمُّهُ، وهَرَّ الحَرْبَ يَهِرُّها ويَهُرُّها ومِنهُ قَوْلُ الأعْشى:
؎ لِيَعْتَوِرْنَكَ القَوْلُ حَتّى تَهِرَّهُ... ∗∗∗................
إلى غَيْرِ ذَلِكَ في حُرُوفٍ قَلِيلَةٍ، قالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: وأمّا قِراءَةُ عِكْرِمَةَ بِضَمِّ الصادِ فَيُحْتَمَلُ في الراءِ الضَمُّ والفَتْحُ والكَسْرُ كَمَدَّ وشَدَّ، والوَجْهُ ضَمُّ الراءِ مِن أجْلِ ضَمَّةِ الهاءِ مِن بَعْدُ. قالَ المَهْدَوِيُّ وغَيْرُهُ: ورُوِيَ عن عِكْرِمَةَ فَتْحُ الصادِ وشَدُّ الراءِ المَكْسُورَةِ، وهَذِهِ بِمَعْنى فاحْبِسْهُنَّ، مِن قَوْلِهِمْ: صَرى يَصْرِي إذا حَبَسَ، ومِنهُ الشاةُ المُصْراةُ. (p-٥٦)واخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ في مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنهُنَّ جُزْءًا﴾ فَرَوى أبُو حَمْزَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ المَعْنى: اجْعَلْ جُزْءًا عَلى كُلِّ رُبْعٍ مِن أرْباعِ الدُنْيا، كَأنَّ المَعْنى: اجْعَلْها في أرْكانِ الأرْضِ الأرْبَعَةِ، وفي هَذا القَوْلِ بُعْدٌ. وقالَ قَتادَةُ، والرَبِيعُ: المَعْنى: واجْعَلْ عَلى أرْبَعَةِ أجْبُلٍ عَلى كُلِّ جَبَلٍ جُزْءًا مِن ذَلِكَ المَجْمُوعِ المُتَقَطِّعِ، فَكَما يَبْعَثُ اللهُ هَذِهِ الطَيْرَ مِن هَذِهِ الجِبالِ فَكَذَلِكَ يَبْعَثُ الخَلْقَ يَوْمَ القِيامَةِ مِن أرْباعِ الدُنْيا وجَمِيعِ أقْطارِها. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "جُزْءًا" بِالهَمْزِ. وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ "جُزًّا" بِشَدِّ الزايِ في جَمِيعِ القُرْآنِ، وهي لُغَةٌ في الوَقْفِ، فَأجْرى أبُو جَعْفَرٍ الوَصْلَ مَجْراهُ، وقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، والسُدِّيُّ: أُمِرَ أنْ يَجْعَلَها عَلى الجِبالِ الَّتِي كانَتِ الطَيْرُ والسِباعُ حِينَ تَأْكُلُ الدابَّةَ تَطِيرُ إلَيْها وتَسِيرُ نَحْوَها وتَتَفَرَّقُ فِيها، قالا: وكانَتْ سَبْعَةَ أجْبُلٍ، فَكَذَلِكَ جَزَّأ ذَلِكَ المُقَطَّعَ مِن لَحْمِ الطَيْرِ سَبْعَةَ أجْزاءٍ، وقالَ مُجاهِدٌ: بَلْ أُمِرَ أنْ يَجْعَلَ عَلى كُلِّ جَبَلٍ يَلِيهِ جُزْءًا. قالَ الطَبَرِيُّ: مَعْناهُ دُونَ أنْ تَحْصُرَ الجِبالَ بِعَدَدٍ، بَلْ هي الَّتِي كانَ يَصِلُ إبْراهِيمُ إلَيْها وقْتَ تَكْلِيفِ اللهِ إيّاهُ تَفْرِيقَ ذَلِكَ فِيها، لِأنَّ الكُلَّ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلى الإحاطَةِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وبَعِيدٌ أنْ يُكَلَّفَ جَمِيعَ جِبالِ الدُنْيا، فَلَنْ يُحِيطَ بِذَلِكَ بَصَرُهُ، فَيَجِيءُ ما ذَهَبَ إلَيْهِ الطَبَرِيُّ جَيِّدًا مُتَمَكِّنًا، واللهُ أعْلَمُ أيَّ ذَلِكَ كانَ.
ومَعْنى الآيَةِ أنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَلامُ كانَ بِحَيْثُ يَرى الأجْزاءَ في مَقامِهِ، ويَرى كَيْفَ التَأمَتْ وكَذَلِكَ صَحَّتْ لَهُ العِبْرَةُ - وأمْرُهُ بِدُعائِهِنَّ وهُنَّ أمْواتٌ إنَّما هو لِتَقْرُبَ الآيَةُ مِنهُ، وتَكُونَ بِسَبَبٍ مِن حالِهِ ويَرى أنَّهُ قُصِدَ بِعَرْضِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، ولِذَلِكَ جَعَلَ اللهُ تَعالى سَيْرَهُنَّ إلَيْهِ سَعْيًا إذْ هي مِشْيَةُ المُجِدِّ الراغِبِ فِيما يَمْشِي إلَيْهِ، فَكانَ مِنَ المُبالَغَةِ أنْ رَأى إبْراهِيمُ جِدَّها في قَصْدِهِ وإجابَةِ دَعْوَتِهِ، ولَوْ جاءَتْهُ مَشْيًا لَزالَتْ هَذِهِ القَرِينَةُ، ولَوْ جاءَتْ طَيَرانًا.
(p-٥٧)لَكانَ ذَلِكَ عَلى عُرْفِ أمْرِها، فَهَذا أغْرَبُ مِنهُ، ثُمَّ وقَفَ عَلَيْهِ السَلامُ عَلى العِلْمِ بِالعِزَّةِ الَّتِي في ضِمْنِها القُدْرَةُ، وعَلى الحِكْمَةِ الَّتِي بِها إتْقانُ كُلِّ شَيْءٍ.
{"ayah":"وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَ ٰهِـۧمُ رَبِّ أَرِنِی كَیۡفَ تُحۡیِ ٱلۡمَوۡتَىٰۖ قَالَ أَوَلَمۡ تُؤۡمِنۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَـٰكِن لِّیَطۡمَىِٕنَّ قَلۡبِیۖ قَالَ فَخُذۡ أَرۡبَعَةࣰ مِّنَ ٱلطَّیۡرِ فَصُرۡهُنَّ إِلَیۡكَ ثُمَّ ٱجۡعَلۡ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلࣲ مِّنۡهُنَّ جُزۡءࣰا ثُمَّ ٱدۡعُهُنَّ یَأۡتِینَكَ سَعۡیࣰاۚ وَٱعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِیزٌ حَكِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق