قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ﴾ الْقَوْمُ: الْجَمَاعَةُ الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ﴾ [الحجرات: ١١] ثم قال ﴿وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ﴾ [الحجرات: ١١] وَقَالَ زُهَيْرٌ:
وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْرِي ... أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ﴾ [الأعراف: ٨٠] أَرَادَ الرِّجَالَ دُونَ النِّسَاءِ. وَقَدْ يَقَعُ الْقَوْمُ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ﴾ [نوح: ١] وَكَذَا كُلُّ نَبِيٍّ مُرْسَلٌ إِلَى النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ جَمِيعًا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَا قَوْمِ﴾ مُنَادَى مُضَافٌ وَحُذِفَتِ الْيَاءُ فِي "يَا قَوْمِ" لِأَنَّهُ مَوْضِعُ حَذْفٍ وَالْكَسْرَةُ تَدُلُّ عَلَيْهَا وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ التَّنْوِينِ فَحَذَفْتَهَا كَمَا تَحْذِفُ التَّنْوِينَ مِنَ الْمُفْرَدِ وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ إِثْبَاتُهَا سَاكِنَةً فَتَقُولُ يَا قَوْمِي لِأَنَّهَا اسْمٌ وَهِيَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ وَإِنْ شِئْتَ فَتَحْتَهَا وَإِنْ شِئْتَ أَلْحَقْتَ مَعَهَا هَاءً فَقُلْتَ يَا قَوْمِيَهْ. وَإِنْ شِئْتَ أَبْدَلْتَ مِنْهَا أَلِفًا لِأَنَّهَا أَخَفُّ فَقُلْتَ يَا قَوْمًا وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ يَا قَوْمُ بِمَعْنَى يَا أَيُّهَا الْقَوْمُ وَإِنْ جَعَلْتَهُمْ نَكِرَةً نَصَبْتَ وَنَوَّنْتَ وَوَاحِدُ الْقَوْمِ امْرُؤٌ عَلَى غَيْرِ اللَّفْظِ وَتَقُولُ قَوْمٌ وَأَقْوَامٌ وَأَقَاوِمُ جَمْعُ الْجَمْعِ. وَالْمُرَادُ هُنَا بِالْقَوْمِ عَبَدَةُ الْعِجْلِ وَكَانَتْ مُخَاطَبَتُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لهم بأمر من الله تعالى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ اسْتَغْنَى بِالْجَمْعِ الْقَلِيلِ عَنِ الْكَثِيرِ وَالْكَثِيرُ نُفُوسٌ وَقَدْ يُوضَعُ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ مَوْضِعَ جَمْعِ الْقِلَّةِ وَالْقَلِيلُ مَوْضِعَ الكثرة قال الله تعالى "ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴿﴾ [البقرة: ٢٢٨] وقال ﴿وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ﴾ [الزخرف: ٧١]. وَيُقَالُ لِكُلِّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا يَعُودُ عَلَيْهِ ضَرَرُهُ: إِنَّمَا أَسَأْتَ إِلَى نَفْسِكَ. وَأَصْلُ الظُّلْمِ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ) قَالَ بَعْضُ أَرْبَابِ الْمَعَانِي عِجْلُ كُلِّ إِنْسَانٍ نَفْسُهُ فَمَنْ أَسْقَطَهُ وَخَالَفَ مُرَادَهُ فَقَدْ بَرِئَ مِنْ ظُلْمِهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ هُنَا عِجْلٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ عَبَدُوهُ كَمَا نَطَقَ بِهِ التَّنْزِيلُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ﴾ لَمَّا قَالَ لَهُمْ: فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ قَالُوا: كَيْفَ؟ قَالَ "فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ" قَالَ أَرْبَابُ الْخَوَاطِرِ: ذَلِّلُوهَا بِالطَّاعَاتِ وَكُفُّوهَا عَنِ الشَّهَوَاتِ. والصحيح أنه قل عَلَى الْحَقِيقَةِ هُنَا. وَالْقَتْلُ: إِمَاتَةُ الْحَرَكَةِ. وَقَتَلْتُ الْخَمْرَ: كَسَرْتُ شِدَّتَهَا بِالْمَاءِ. قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: التَّوْبَةُ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ وَكَانَتْ تَوْبَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْقَتْلَ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ عَبَدَةِ الْعِجْلِ بِأَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ بِيَدِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ لَمَّا قِيلَ لَهُمْ "فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ" قَامُوا صَفَّيْنِ وَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا فَكَانَ ذَلِكَ شَهَادَةً لِلْمَقْتُولِ وَتَوْبَةً لِلْحَيِّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ظَلَامًا فَفَعَلُوا ذَلِكَ وَقِيلَ وَقَفَ الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ صَفًّا وَدَخَلَ الَّذِينَ لَمْ يَعْبُدُوهُ عَلَيْهِمْ بِالسِّلَاحِ فَقَتَلُوهُمْ وَقِيلَ: قَامَ السَّبْعُونَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ مُوسَى فَقَتَلُوا إِذْ لَمْ يَعْبُدُوا الْعِجْلَ مَنْ عَبَدَ الْعِجْلَ. وَيُرْوَى أَنَّ يُوشَعَ بْنَ نُونٍ خَرَجَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ مُحْتَبُونَ فَقَالَ مَلْعُونٌ مَنْ حَلَّ حَبْوَتَهُ أَوْ مَدَّ طَرَفَهُ إِلَى قَاتِلِهِ أَوِ اتَّقَاهُ بِيَدٍ أَوْ رِجْلٍ فَمَا حَلَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ حَبْوَتَهُ حَتَّى قُتِلَ مِنْهُمْ يَعْنِي مَنْ قُتِلَ وَأَقْبَلَ الرَّجُلُ يَقْتُلُ مَنْ يَلِيهِ. ذَكَرُهُ النَّحَّاسُ وَغَيْرُهُ. وَإِنَّمَا عُوقِبَ الَّذِينَ لَمْ يَعْبُدُوا الْعِجْلَ بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُغَيِّرُوا الْمُنْكَرَ حِينَ عَبَدُوهُ وَإِنَّمَا اعْتَزَلُوا وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَاتِلُوا مَنْ عَبَدَهُ. وَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ إِذَا فَشَا الْمُنْكَرُ وَلَمْ يُغَيَّرْ عُوقِبَ الْجَمِيعُ. رَوَى جَرِيرٌ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ (مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي هُمْ أَعَزُّ مِنْهُمْ وَأَمْنَعُ لَا يُغَيِّرُونَ إِلَّا عَمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ (. أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي هَذَا الْمَعْنَى إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَلَمَّا اسْتَحَرَّ [[استحر: اشتد وكثر.]] فِيهِمُ الْقَتْلُ وَبَلَغَ سَبْعِينَ أَلْفًا عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَإِنَّمَا رَفَعَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْقَتْلَ لِأَنَّهُمْ أَعْطَوُا الْمَجْهُودَ فِي قَتْلِ أَنْفُسِهِمْ فَمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ نِعْمَةً بَعْدَ الْإِسْلَامِ هِيَ أَفْضَلُ مِنَ التَّوْبَةِ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ: فَأَقِيلُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ الْإِقَالَةِ أَيِ اسْتَقْبِلُوهَا مِنَ الْعَثْرَةِ بِالْقَتْلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿بارِئِكُمْ﴾ الْبَارِئُ: الْخَالِقُ وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ وَذَلِكَ أَنَّ الْبَارِئَ هُوَ الْمُبْدِعُ الْمُحْدِثُ. وَالْخَالِقُ هُوَ الْمُقَدِّرُ النَّاقِلُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ. وَالْبَرِيَّةُ الْخَلْقُ وَهِيَ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ غَيْرَ أَنَّهَا لَا تُهْمَزُ وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو "بَارِئْكُمْ" بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ وَيُشْعِرْكُمْ وَيَنْصُرْكُمْ وَيَأْمُرْكُمْ. وَاخْتَلَفَ النُّحَاةُ فِي هَذَا فَمِنْهُمْ مَنْ يُسَكِّنُ الضَّمَّةَ وَالْكَسْرَةَ فِي الْوَصْلِ وَذَلِكَ فِي الشِّعْرِ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدُ: لَا يَجُوزُ التَّسْكِينُ مَعَ تَوَالِي الْحَرَكَاتِ فِي حَرْفِ الْإِعْرَابِ فِي كَلَامٍ وَلَا شِعْرٍ وَقِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو لَحْنٌ قَالَ النَّحَّاسُ وَغَيْرُهُ وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ النَّحْوِيُّونَ الْقُدَمَاءُ الْأَئِمَّةُ وَأَنْشَدُوا:
إِذَا اعْوَجَجْنَ قُلْتُ صَاحِبْ قَوِّمِ ... بِالدَّوِّ أَمْثَالَ السَّفِينِ الْعُوَّمِ [[الدو (بفتح الدال وتشديد الواو): الصحراء. وأراد بأمثال السفين رواحل محملة تقطع الصحراء قطع السفن البحر.]]
وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
فَالْيَوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ ... إِثْمًا مِنَ اللَّهِ وَلَا وَاغِلِ [[المستحقب: المتكسب. والواغل: الذي يدخل على القوم في طعامهم وشرابهم من غير أن يدعوه. يقول هذا حين قتل أبوه ونذر ألا يشرب الخمر حتى يثأر به فلما أدرك ثأره حلت له بزعمه فلا يأثم بشربها إذ وفى بنذره فيها.]]
وَقَالَ آخَرُ:
قَالَتْ سُلَيْمَى اشْتَرْ لَنَا سَوِيقًا
وَقَالَ الْآخَرُ:
رُحْتِ وَفِي رِجْلَيْكِ مَا فيهما ... وقد بدا هنك من المئزر
فَمَنْ أَنْكَرَ التَّسْكِينَ فِي حَرْفِ الْإِعْرَابِ فَحُجَّتُهُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ مِنْ حَيْثُ كَانَ عَلَمًا لِلْإِعْرَابِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَأَمَّا حَرَكَةُ الْبِنَاءِ فَلَمْ يَخْتَلِفِ النُّحَاةُ فِي جَوَازِ تَسْكِينِهَا مَعَ تَوَالِي الْحَرَكَاتِ. وَأَصْلُ بَرَأَ مِنْ تَبَرَّى الشَّيْءُ مِنَ الشَّيْءِ وَهُوَ انْفِصَالُهُ مِنْهُ. فَالْخَلْقُ قَدْ فُصِلُوا مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ وَمِنْهُ بَرَأْتُ مِنَ الْمَرَضِ بَرْءًا (بِالْفَتْحِ) كَذَا يَقُولُ أَهْلُ الْحِجَازِ. وَغَيْرُهُمْ يَقُولُ بَرِئْتُ مِنَ الْمَرَضِ بُرْءًا (بِالضَّمِّ) وَبَرِئْتُ مِنْكَ وَمِنَ الدُّيُونِ وَالْعُيُوبِ بَرَاءَةً وَمِنْهُ الْمُبَارَأَةُ لِلْمَرْأَةِ. وَقَدْ بَارَأَ شَرِيكَهُ وَامْرَأَتَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَتابَ عَلَيْكُمْ﴾ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَفَعَلْتُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ أَيْ فَتَجَاوَزَ عَنْكُمْ أَيْ عَلَى الْبَاقِينَ مِنْكُمْ.
(إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) تقدم [[راجع ص ١٠٣ فما بعدها وص ٣٢٥.]] معناه والحمد لله.
{"ayah":"وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ یَـٰقَوۡمِ إِنَّكُمۡ ظَلَمۡتُمۡ أَنفُسَكُم بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلۡعِجۡلَ فَتُوبُوۤا۟ إِلَىٰ بَارِىِٕكُمۡ فَٱقۡتُلُوۤا۟ أَنفُسَكُمۡ ذَ ٰلِكُمۡ خَیۡرࣱ لَّكُمۡ عِندَ بَارِىِٕكُمۡ فَتَابَ عَلَیۡكُمۡۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِیمُ"}