الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى ﴿وإذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ ياقَوْمِ إنَّكم ظَلَمْتُمْ أنْفُسَكم بِاتِّخاذِكُمُ العِجْلَ فَتُوبُوا إلى بارِئِكم فاقْتُلُوا أنْفُسَكم ذَلِكم خَيْرٌ لَكم عِنْدَ بارِئِكم فَتابَ عَلَيْكم إنَّهُ هو التَّوّابُ الرَّحِيمُ﴾ اعْلَمْ أنَّ هَذا الإنْعامَ الخامِسَ قالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: هَذِهِ الآيَةُ وما بَعْدَها مُنْقَطِعَةٌ عَمّا تَقَدَّمَ مِنَ التَّذْكِيرِ بِالنِّعَمِ، وذَلِكَ لِأنَّها أمْرٌ بِالقَتْلِ لا يَكُونُ نِعْمَةً وهَذا ضَعِيفٌ مِن وُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ اللَّهَ تَعالى نَبَّهَهم عَلى عِظَمِ ذَنْبِهِمْ، ثُمَّ نَبَّهَهم عَلى ما بِهِ يَتَخَلَّصُونَ عَنْ ذَلِكَ الذَّنْبِ العَظِيمِ وذَلِكَ مِن أعْظَمِ النِّعَمِ في الدِّينِ، وإذا كانَ اللَّهُ تَعالى قَدْ عَدَّدَ عَلَيْهِمُ النِّعَمَ الدُّنْيَوِيَّةَ فَبِأنْ يُعَدِّدَ عَلَيْهِمْ هَذِهِ النِّعْمَةَ الدِّينِيَّةَ أوْلى، ثُمَّ إنَّ هَذِهِ النِّعْمَةَ وهي كَيْفِيَّةُ هَذِهِ التَّوْبَةِ لَمّا لَمْ يَكُنْ وصْفُها إلّا بِمُقَدِّمَةِ ذِكْرِ المَعْصِيَةِ كانَ ذِكْرُها أيْضًا مِن تَمامِ النِّعْمَةِ، فَصارَ كُلُّ ما تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الآيَةُ مَعْدُودًا في نِعَمِ اللَّهِ فَجازَ التَّذْكِيرُ بِها. وثانِيها: أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا أمَرَهم بِالقَتْلِ رَفَعَ ذَلِكَ الأمْرَ عَنْهم قَبْلَ فَنائِهِمْ بِالكُلِّيَّةِ فَكانَ ذَلِكَ نِعْمَةً في حَقِّ أُولَئِكَ الباقِينَ. وفي حَقِّ الَّذِينَ كانُوا مَوْجُودِينَ في زَمانِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ لِأنَّهُ تَعالى لَوْلا أنَّهُ رَفَعَ القَتْلَ عَنْ آبائِهِمْ لَما وُجِدَ أُولَئِكَ الأبْناءُ فَحَسُنَ إيرادُهُ في مَعْرِضِ الِامْتِنانِ عَلى الحاضِرِينَ في زَمانِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. وثالِثُها: أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ أنَّ تَوْبَةَ أُولَئِكَ ما تَمَّتْ إلّا بِالقَتْلِ مَعَ أنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كانَ يَقُولُ لَهم: لا حاجَةَ بِكُمُ الآنَ في التَّوْبَةِ إلى القَتْلِ بَلْ إنْ رَجَعْتُمْ عَنْ كُفْرِكم وآمَنتُمْ قَبِلَ اللَّهُ إيمانَكم مِنكم فَكانَ بَيانُ التَّشْدِيدِ في تِلْكَ التَّوْبَةِ تَنْبِيهًا عَلى الإنْعامِ العَظِيمِ بِقَبُولِ مِثْلِ هَذِهِ التَّوْبَةِ السَّهْلَةِ الهَيِّنَةِ. ورابِعُها: أنَّ فِيهِ تَرْغِيبًا شَدِيدًا لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِ في التَّوْبَةِ، فَإنَّ أُمَّةَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا رَغِبُوا في تِلْكَ التَّوْبَةِ مَعَ نِهايَةِ مَشَقَّتِها عَلى النَّفْسِ فَلَأنْ يَرْغَبَ الواحِدُ مِنّا في التَّوْبَةِ الَّتِي هي مُجَرَّدُ النَّدَمِ كانَ أوْلى. ومَعْلُومٌ أنَّ تَرْغِيبَ الإنْسانِ فِيما هو المَصْلَحَةُ المُهِمَّةُ مِن أعْظَمِ النِّعَمِ. * * * وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ﴾ أيْ واذْكُرُوا إذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ بَعْدَما رَجَعَ مِنَ المَوْعِدِ الَّذِي وعَدَهُ رَبُّهُ فَرَآهم قَدِ اتَّخَذُوا العِجْلَ: ﴿ياقَوْمِ إنَّكم ظَلَمْتُمْ أنْفُسَكُمْ﴾ ولِلْمُفَسِّرِينَ في الظُّلْمِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّكم نَقَصْتُمْ أنْفُسَكُمُ الثَّوابَ الواجِبَ بِالإقامَةِ عَلى عَهْدِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ. والثّانِي: أنَّ الظُّلْمَ هو الإصْرارُ الَّذِي لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ ولا فِيهِ نَفْعٌ ولا دَفْعُ مَضَرَّةٍ لا عِلْمًا ولا طِبًّا، فَلَمّا عَبَدُوا العِجْلَ كانُوا قَدْ أضَرُّوا بِأنْفُسِهِمْ لِأنَّ ما يُؤَدِّي إلى ضَرَرِ الأبَدِ مِن أعْظَمِ الظُّلْمِ، ولِذَلِكَ قالَ تَعالى: ﴿إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لُقْمانَ: ١٣] لَكِنَّ هَذا الظُّلْمَ مِن حَقِّهِ أنْ يُقَيَّدَ لِئَلّا يُوهِمَ إطْلاقُهُ أنَّهُ ظُلْمُ الغَيْرِ لِأنَّ الأصْلَ في الظُّلْمِ ما يَتَعَدّى، فَلِذَلِكَ قالَ: ﴿إنَّكم ظَلَمْتُمْ أنْفُسَكُمْ﴾ . أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿بِاتِّخاذِكُمُ العِجْلَ﴾ فَفِيهِ حَذْفٌ لِأنَّهم لَمْ يَظْلِمُوا أنْفُسَهم بِهَذا القَدْرِ لِأنَّهم لَوِ اتَّخَذُوهُ (p-٧٥)ولَمْ يَجْعَلُوهُ إلَهًا لَمْ يَكُنْ فِعْلُهم ظُلْمًا، فالمُرادُ بِاتِّخاذِكُمُ العِجْلَ إلَهًا، لَكِنْ لَمّا دَلَّتْ مُقَدِّمَةُ الآيَةِ عَلى هَذا المَحْذُوفِ حَسُنَ الحَذْفُ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَتُوبُوا إلى بارِئِكم فاقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ﴾ فَفِيهِ سُؤالاتٌ. السُّؤالُ الأوَّلُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَتُوبُوا إلى بارِئِكم فاقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ﴾ يَقْتَضِي كَوْنَ التَّوْبَةِ مُفَسَّرَةً بِقَتْلِ النَّفْسِ كَما أنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«لا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاةَ أحَدِكم حَتّى يَضَعَ الطَّهُورَ مَواضِعَهُ فَيَغْسِلَ وجْهَهُ ثُمَّ يَدَيْهِ» “، يَقْتَضِي أنَّ وضْعَ الطَّهُورِ مَواضِعَهُ بِغَسْلِ الوَجْهِ واليَدَيْنِ ولَكِنَّ ذَلِكَ باطِلٌ لِأنَّ التَّوْبَةَ عِبارَةٌ عَنِ النَّدَمِ عَلى الفِعْلِ القَبِيحِ الَّذِي مَضى والعَزْمِ عَلى أنْ لا يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وذَلِكَ مُغايِرٌ لِقَتْلِ النَّفْسِ وغَيْرُ مُسْتَلْزِمٍ لَهُ فَكَيْفَ يَجُوزُ تَفْسِيرُهُ بِهِ ؟ . والجَوابُ لَيْسَ المُرادُ تَفْسِيرَ التَّوْبَةِ بِقَتْلِ النَّفْسِ بَلْ بَيانَ أنَّ تَوْبَتَهم لا تَتِمُّ ولا تَحْصُلُ إلّا بِقَتْلِ النَّفْسِ وإنَّما كانَ كَذَلِكَ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى أوْحى إلى مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّ شَرْطَ تَوْبَتِهِمْ قَتْلُ النَّفْسِ كَما أنَّ القاتِلَ عَمْدًا لا تَتِمُّ تَوْبَتُهُ إلّا بِتَسْلِيمِ النَّفْسِ حَتّى يَرْضى أوْلِياءُ المَقْتُولِ أوْ يَقْتُلُوهُ فَلا يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ مِن شَرْعِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّ تَوْبَةَ المُرْتَدِّ لا تَتِمُّ إلّا بِالقَتْلِ. إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ شَرْطُ الشَّيْءِ قَدْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ ذَلِكَ الشَّيْءِ مَجازًا كَما يُقالُ لِلْغاصِبِ إذا قَصَدَ التَّوْبَةَ: إنَّ تَوْبَتَكَ رَدُّ ما غَصَبْتَ يَعْنِي أنَّ تَوْبَتَكَ لا تَتِمُّ إلّا بِهِ فَكَذا هاهُنا. السُّؤالُ الثّانِي: ما مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَتُوبُوا إلى بارِئِكُمْ﴾ والتَّوْبَةُ لا تَكُونُ إلّا لِلْبارِي ؟ . والجَوابُ: المُرادُ مِنهُ النَّهْيُ عَنِ الرِّياءِ في التَّوْبَةِ كَأنَّهُ قالَ لَهم: لَوْ أظْهَرْتُمُ التَّوْبَةَ لا عَنِ القَلْبِ فَأنْتُمْ ما تُبْتُمْ إلى اللَّهِ الَّذِي هو مُطَّلِعٌ عَلى ضَمِيرِكم، وإنَّما تُبْتُمْ إلى النّاسِ وذَلِكَ مِمّا لا فائِدَةَ فِيهِ، فَإنَّكم إذا أذْنَبْتُمْ إلى اللَّهِ. السُّؤالُ الثّالِثُ: كَيْفَ اخْتُصَّ هَذا المَوْضِعُ بِذِكْرِ البارِئِ ؟ . والجَوابُ: البارِئُ هو الَّذِي خَلَقَ الخَلْقَ بَرِيئًا مِنَ التَّفاوُتِ: ﴿ما تَرى في خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفاوُتٍ﴾ [المُلْكِ: ٣] ومُتَمَيِّزًا بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ بِالأشْكالِ المُخْتَلِفَةِ والصُّوَرِ المُتَبايِنَةِ فَكانَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلى أنَّ مَن كانَ كَذَلِكَ فَهو أحَقُّ بِالعِبادَةِ مِنَ البَقَرِ الَّذِي يُضْرَبُ بِهِ المَثَلُ في الغَباوَةِ. السُّؤالُ الرّابِعُ: ما الفَرْقُ بَيْنَ الفاءِ في قَوْلِهِ: ﴿فَتُوبُوا﴾ والفاءِ في قَوْلِهِ: ﴿فاقْتُلُوا﴾ ؟ . الجَوابُ: أنَّ الفاءَ الأُولى لِلسَّبَبِ؛ لِأنَّ الظُّلْمَ سَبَبُ التَّوْبَةِ، والثّانِيَةَ لِلتَّعْقِيبِ لِأنَّ القَتْلَ مِن تَمامِ التَّوْبَةِ فَمَعْنى قَوْلِهِ: ﴿فَتُوبُوا﴾ أيْ فَأتْبِعُوا التَّوْبَةَ القَتْلَ تَتِمَّةً لِتَوْبَتِكم. السُّؤالُ الخامِسُ: ما المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿فاقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ﴾ أهُوَ ما يَقْتَضِيهِ ظاهِرُهُ مِن أنْ يَقْتُلَ كُلُّ واحِدٍ نَفْسَهُ أوِ المُرادُ غَيْرُ ذَلِكَ ؟ . الجَوابُ: اخْتَلَفَ النّاسُ فِيهِ فَقالَ قَوْمٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ: لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ أمْرَ كُلِّ واحِدٍ مِنَ التّائِبِينَ بِقَتْلِ نَفْسِهِ وهو اخْتِيارُ القاضِي عَبْدِ الجَبّارِ، واحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوَجْهَيْنِ: الأوَّلُ: وهو الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ أهْلُ التَّفْسِيرِ أنَّ المُفَسِّرِينَ أجْمَعُوا عَلى أنَّهم ما قَتَلُوا أنْفُسَهم بِأيْدِيهِمْ ولَوْ كانُوا مَأْمُورِينَ بِذَلِكَ لَصارُوا عُصاةً بِتَرْكِ ذَلِكَ. الثّانِي: وهو الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ القاضِي عَبْدُ الجَبّارِ أنَّ القَتْلَ هو نَقْضُ البِنْيَةِ الَّتِي عِنْدَها يَجِبُ أنْ يَخْرُجَ مِن أنْ يَكُونَ حَيًّا وما عَدا ذَلِكَ مِمّا يُؤَدِّي إلى أنْ يَمُوتَ قَرِيبًا أوْ بَعِيدًا إنَّما سُمِّيَ قَتْلًا عَلى (p-٧٦)طَرِيقِ المَجازِ. إذا عَرَفْتَ حَقِيقَةَ القَتْلِ فَنَقُولُ: إنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يَأْمُرَ اللَّهُ تَعالى بِهِ لِأنَّ العِباداتِ الشَّرْعِيَّةَ إنَّما تَحْسُنُ لِكَوْنِها مَصالِحَ لِذَلِكَ المُكَلَّفِ ولا تَكُونُ مَصْلَحَةً إلّا في الأُمُورِ المُسْتَقْبَلَةِ ولَيْسَ بَعْدَ القَتْلِ حالُ تَكْلِيفٍ حَتّى يَكُونَ القَتْلُ مَصْلَحَةً فِيهِ وهَذا بِخِلافِ ما يَفْعَلُهُ اللَّهُ تَعالى مِنَ الإماتَةِ لِأنَّ ذَلِكَ مِن فِعْلِ اللَّهِ فَيَحْسُنُ أنْ يَفْعَلَهُ إذا كانَ صَلاحًا لِمُكَلَّفٍ آخَرَ ويُعَوِّضُ ذَلِكَ المُكَلَّفَ بِالعِوَضِ العَظِيمِ وبِخِلافِ أنْ يَأْمُرَ اللَّهُ تَعالى بِأنْ يَجْرَحَ نَفْسَهُ أوْ يَقْطَعَ عُضْوًا مِن أعْضائِهِ ولا يَحْصُلَ المَوْتُ عَقِبَهُ لِأنَّهُ لَمّا بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ الفِعْلِ حَيًّا لَمْ يَمْتَنِعْ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ الفِعْلُ صَلاحًا في الأفْعالِ المُسْتَقْبَلَةِ. ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: لا نُسَلِّمُ أنَّ القَتْلَ اسْمٌ لِلْفِعْلِ المُزْهِقِ لِلرُّوحِ في الحالِ بَلْ هو عِبارَةٌ عَنِ الفِعْلِ المُؤَدِّي إلى الزُّهُوقِ إمّا في الحالِ أوْ بَعْدَهُ والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّهُ لَوْ حَلَفَ أنْ لا يَقْتُلُ إنْسانًا فَجَرَحَهُ جِراحَةً عَظِيمَةً وبَقِيَ بَعْدَ تِلْكَ الجِراحَةِ حَيًّا لَحْظَةً واحِدَةً ثُمَّ ماتَ فَإنَّهُ يَحْنَثُ في يَمِينِهِ وتُسَمِّيهِ كُلُّ أهْلِ هَذِهِ اللُّغَةِ قاتِلًا، والأصْلُ في الِاسْتِعْمالِ الحَقِيقَةُ فَدَلَّ عَلى أنَّ اسْمَ القَتْلِ اسْمُ الفِعْلِ المُؤَدِّي إلى الزُّهُوقِ سَواءٌ أدّى إلَيْهِ في الحالِ أوْ بَعْدَ ذَلِكَ وأنْتَ سَلَّمْتَ جَوازَ وُرُودِ الأمْرِ بِالجِراحَةِ الَّتِي لا تَسْتَعْقِبُ الزُّهُوقَ في الحالِ وإذا كانَ كَذَلِكَ ثَبَتَ جَوازُ أنْ يُرادَ الأمْرُ بِأنْ يَقْتُلَ الإنْسانُ نَفْسَهُ، سَلَّمْنا أنَّ القَتْلَ اسْمُ الفِعْلِ المُزْهِقِ لِلرُّوحِ في الحالِ فَلِمَ لا يَجُوزُ وُرُودُ الأمْرِ بِهِ ؟ قَوْلُهُ: لا بُدَّ في وُرُودِ الأمْرِ بِهِ مِن مَصْلَحَةٍ اسْتِقْبالِيَّةٍ، قُلْنا: أوَّلًا لا نُسَلِّمُ أنَّهُ لا بُدَّ فِيهِ مِن مَصْلَحَةٍ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّهُ أمَرَ مَن يَعْلَمُ كَفْرَهُ بِالإيمانِ ولا مَصْلَحَةَ في ذَلِكَ إذْ لا فائِدَةَ مِن ذَلِكَ التَّكْلِيفِ إلّا حُصُولُ العِقابِ، سَلَّمْنا أنَّهُ لا بُدَّ مِن مَصْلَحَةٍ ولَكِنْ لِمَ قُلْتَ إنَّهُ لا بُدَّ مِن عَوْدِ تِلْكَ المَصْلَحَةِ إلَيْهِ، ولِمَ لا يَجُوزُ أنَّ قَتْلَهُ نَفْسَهُ مَصْلَحَةٌ لِغَيْرِهِ فاللَّهُ تَعالى أمَرَهُ بِذَلِكَ لِيَنْتَفِعَ بِهِ ذَلِكَ الغَيْرُ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى يُوَصِّلُ العِوَضَ العَظِيمَ إلَيْهِ. سَلَّمْنا أنَّهُ لا بُدَّ مِن عَوْدِ المُصْلَحَةِ إلَيْهِ، لَكِنْ لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّ عِلْمَهُ بِكَوْنِهِ مَأْمُورًا بِذَلِكَ الفِعْلِ مَصْلَحَةٌ لَهُ، مِثْلُ أنَّهُ لَمّا أمَرَ بِأنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ غَدًا فَإنَّ عِلْمَهُ بِذَلِكَ يَصِيرُ داعِيًا لَهُ إلى تَرْكِ القَبائِحِ مِن ذَلِكَ الزَّمانِ إلى وُرُودِ الغَدِ، وإذا كانَتْ هَذِهِ الِاحْتِمالاتُ مُمْكِنَةً سَقَطَ ما قالَ القاضِي، بَلِ الوَجْهُ الأوَّلُ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ المُفَسِّرُونَ أقْوى، وعَلى هَذا يَجِبُ صَرْفُ الآيَةِ عَنْ ظاهِرِها، ثُمَّ فِيهِ وجْهانِ: الوَجْهُ الأوَّلُ: أنْ يُقالَ أمَرَ كُلَّ واحِدٍ مِن أُولَئِكَ التّائِبِينَ بِأنْ يَقْتُلَ بَعْضَهم بَعْضًا فَقَوْلُهُ: ﴿اقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ﴾ مَعْناهُ لِيَقْتُلْ بَعْضُكم بَعْضًا وهو كَقَوْلِهِ في مَوْضِعٍ آخَرَ: ﴿ولا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ﴾ [النِّساءِ: ٢٩] ومَعْناهُ لا يَقْتُلُ بَعْضُكم بَعْضًا وتَحْقِيقُهُ أنَّ المُؤْمِنِينَ كالنَّفْسِ الوَحْدَةِ، وقِيلَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تَلْمِزُوا أنْفُسَكُمْ﴾ [الحُجُراتِ: ١١] أيْ إخْوانَكم مِنَ المُؤْمِنِينَ، وفي قَوْلِهِ: ﴿لَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ والمُؤْمِناتُ بِأنْفُسِهِمْ خَيْرًا﴾ [النُّورِ: ١٢] أيْ بِأمْثالِهِمْ مِنَ المُسْلِمِينَ، وكَقَوْلِهِ: ﴿فَسَلِّمُوا عَلى أنْفُسِكُمْ﴾ [النُّورِ: ٦١] أيْ لِيُسَلِّمْ بَعْضُكم عَلى بَعْضٍ. ثُمَّ قالَ المُفَسِّرُونَ: أُولَئِكَ التّائِبُونَ بَرَزُوا صَفَّيْنِ فَضَرَبَ بَعْضُهم بَعْضًا إلى اللَّيْلِ. الوَجْهُ الثّانِي: أنَّ اللَّهَ تَعالى أمَرَ غَيْرَ أُولَئِكَ التّائِبِينَ بِقَتْلِ أُولَئِكَ التّائِبِينَ فَيَكُونُ المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿اقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ﴾ أيِ اسْتَسْلِمُوا لِلْقَتْلِ، وهَذا الوَجْهُ الثّانِي أقْرَبُ لِأنَّ في الوَجْهِ الأوَّلِ تَزْدادُ المَشَقَّةُ لِأنَّ الجَماعَةَ إذا اشْتَرَكَتْ في الذَّنْبِ كانَ بَعْضُهم أشَدَّ عَطْفًا عَلى البَعْضِ مِن غَيْرِهِمْ عَلَيْهِمْ فَإذا كُلِّفُوا بِأنْ يَقْتُلَ بَعْضُهم بَعْضًا عَظُمَتِ المَشَقَّةُ في ذَلِكَ ثُمَّ اخْتَلَفَتِ الرِّواياتُ: فالأوَّلُ: أنَّهُ أمَرَ مَن لَمْ يَعْبُدِ العِجْلَ مِنَ السَّبْعِينَ المُخْتارِينَ لِحُضُورِ المِيقاتِ أنْ يَقْتُلَ مَن عَبَدَ العِجْلَ مِنهم، وكانَ المَقْتُولُونَ سَبْعِينَ ألْفًا فَما تَحَرَّكُوا حَتّى قُتِلُوا عَلى ثَلاثَةِ (p-٧٧)أيّامٍ، وهَذا القَوْلُ ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ. الثّانِي: أنَّهُ لَمّا أمَرَهم مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ بِالقَتْلِ أجابُوا فَأخَذَ عَلَيْهِمُ المَواثِيقَ لِيَصْبِرُوا عَلى القَتْلِ فَأصْبَحُوا مُجْتَمِعِينَ كُلُّ قَبِيلَةٍ عَلى حِدَةٍ وأتاهم هارُونُ بِالِاثْنَيْ عَشَرَ ألْفًا الَّذِينَ لَمْ يَعْبُدُوا العِجْلَ البَتَّةَ وبِأيْدِيهِمُ السُّيُوفُ، فَقالَ التّائِبُونَ: إنَّ هَؤُلاءِ إخْوانُكم قَدْ أتَوْكم شاهِرِينَ السُّيُوفَ فاتَّقُوا اللَّهَ واصْبِرُوا فَلَعَنَ اللَّهُ رَجُلًا قامَ مِن مَجْلِسِهِ أوْ مَدَّ طَرْفَهُ إلَيْهِمْ أوِ اتَّقاهم بِيَدٍ أوْ رِجْلٍ يَقُولُونَ آمِينَ، فَجَعَلُوا يَقْتُلُونَهم إلى المَساءِ وقامَ مُوسى وهارُونُ عَلَيْهِما السَّلامُ يَدْعُوانِ اللَّهَ ويَقُولانِ البَقِيَّةَ البَقِيَّةَ يا إلَهَنا فَأوْحى اللَّهُ تَعالى إلَيْهِما، قَدْ غَفَرْتُ لِمَن قُتِلَ وتُبْتُ عَلى مَن بَقِيَ، قالَ: وكانَ القَتْلى سَبْعِينَ ألْفًا، هَذِهِ رِوايَةُ الكَلْبِيِّ. الثّالِثُ: أنَّ بَنِي إسْرائِيلَ كانُوا قِسْمَيْنِ: مِنهم مَن عَبَدَ العِجْلَ ومِنهم مَن لَمْ يَعْبُدْهُ ولَكِنْ لَمْ يُنْكِرْ عَلى مَن عَبَدَهُ، فَأمَرَ مَن لَمْ يَشْتَغِلْ بِالإنْكارِ بِقَتْلِ مَنِ اشْتَغَلَ بِالعِبادَةِ، ثُمَّ قالَ المُفَسِّرُونَ: إنَّ الرَّجُلَ كانَ يُبْصِرُ والِدَهُ ووَلَدَهُ وجارَهُ فَلَمْ يُمْكِنْهُ المُضِيُّ لِأمْرِ اللَّهِ فَأرْسَلَ اللَّهُ تَعالى سَحابَةً سَوْداءَ، ثُمَّ أمَرَ بِالقَتْلِ فَقَتَلُوا إلى المَساءِ حَتّى دَعا مُوسى وهارُونُ عَلَيْهِما السَّلامُ وقالا: يا رَبِّ هَلَكَتْ بَنُو إسْرائِيلَ البَقِيَّةَ البَقِيَّةَ فانْكَشَفَتِ السَّحابَةُ ونَزَلَتِ التَّوْراةُ وسَقَطَتِ الشِّفارُ مِن أيْدِيهِمْ. السُّؤالُ السّادِسُ: كَيْفَ اسْتَحَقُّوا القَتْلَ وهم قَدْ تابُوا مِنَ الرِّدَّةِ والتّائِبُ مِنَ الرِّدَّةِ لا يُقْتَلُ ؟ . الجَوابُ: ذَلِكَ مِمّا يَخْتَلِفُ بِالشَّرائِعِ فَلَعَلَّ شَرْعَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ يَقْتَضِي قَتْلَ التّائِبِ عَنِ الرِّدَّةِ إمّا عامًّا في حَقِّ الكُلِّ أوْ كانَ خاصًّا بِذَلِكَ القَوْمِ. السُّؤالُ السّابِعُ: هَلْ يَصِحُّ ما رُوِيَ أنَّ مِنهم مَن لَمْ يُقْتَلْ مِمَّنْ قَبِلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُ ؟ . الجَوابُ: لا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ لِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إنَّكم ظَلَمْتُمْ أنْفُسَكُمْ﴾ خِطابُ مُشافَهَةٍ فَلَعَلَّهُ كانَ مَعَ البَعْضِ أوْ أنَّهُ كانَ عامًّا فالعامُّ قَدْ يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ التَّخْصِيصُ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذَلِكم خَيْرٌ لَكم عِنْدَ بارِئِكُمْ﴾ فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلى ما لِأجْلِهِ يُمْكِنُ تَحَمُّلُ هَذِهِ المَشَقَّةِ وذَلِكَ لِأنَّ حالَتَهم كانَتْ دائِرَةً بَيْنَ ضَرَرِ الدُّنْيا وضَرَرِ الآخِرَةِ، والأوَّلُ أوْلى بِالتَّحَمُّلِ لِأنَّهُ مُتَناهٍ، وضَرَرُ الآخِرَةِ غَيْرُ مُتَناهٍ، ولِأنَّ المَوْتَ لا بُدَّ واقِعٌ فَلَيْسَ في تَحَمُّلِ القَتْلِ إلّا التَّقْدِيمُ والتَّأْخِيرُ، وأمّا الخَلاصُ مِنَ العِقابِ والفَوْزُ بِالثَّوابِ فَذاكَ هو الغَرَضُ الأعْظَمُ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَتابَ عَلَيْكُمْ﴾ فَفِيهِ مَحْذُوفٌ؛ ثُمَّ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنْ يُقَدَّرَ مِن قَوْلِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ كَأنَّهُ قالَ: فَإنْ فَعَلْتُمْ فَقَدْ تابَ عَلَيْكم. والآخَرُ: أنْ يَكُونَ خِطابًا مِنَ اللَّهِ لَهم عَلى طَرِيقَةِ الِالتِفاتِ فَيَكُونَ التَّقْدِيرُ فَفَعَلْتُمْ ما أمَرَكم بِهِ مُوسى فَتابَ عَلَيْكم بارِئُكم. وأمّا مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَتابَ عَلَيْكم إنَّهُ هو التَّوّابُ الرَّحِيمُ﴾، فَقَدْ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ: ﴿فَتابَ عَلَيْهِ إنَّهُ هو التَّوّابُ الرَّحِيمُ﴾ . [البَقَرَةِ: ٣٧]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب