الباحث القرآني

﴿وإذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إنَّكم ظَلَمْتُمْ أنْفُسَكم بِاتِّخاذِكُمُ العِجْلَ فَتُوبُوا إلى بارِئِكم فاقْتُلُوا أنْفُسَكم ذَلِكم خَيْرٌ لَكم عِنْدَ بارِئِكم فَتابَ عَلَيْكم إنَّهُ هو التَّوّابُ الرَّحِيمُ﴾ هَذِهِ نِعْمَةٌ أُخْرى وهي نِعْمَةُ نَسْخِ تَكْلِيفٍ شَدِيدٍ عَلَيْهِمْ كانَ قَدْ جُعِلَ جابِرًا لِما اقْتَرَفُوهُ مِن إثْمِ عِبادَةِ الوَثَنِ؛ فَحَصَلَ العَفْوُ عَنْهم بِدُونِ ذَلِكَ التَّكْلِيفِ فَتَمَّتِ المِنَّةُ وبِهَذا صَحَّ جَعْلُ هَذِهِ مِنَّةً مُسْتَقِلَّةً بَعْدَ المِنَّةِ المُتَضَمِّنِ لَها قَوْلُهُ تَعالى ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكم مِن بَعْدِ ذَلِكَ لِأنَّ العَفْوَ عَنِ المُؤاخَذَةِ بِالذَّنْبِ في الآخِرَةِ قَدْ يَحْصُلُ مَعَ العُقُوبَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ مِن حَدٍّ ونَحْوِهِ وهو حِينَئِذٍ مِنَّةٌ إذْ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَ لِلذَّنْبِ عِقابَيْنِ دُنْيَوِيٌّ وأُخْرَوِيٌّ كَما كانَ المُذْنِبُ النَّفْسَ والبَدَنَ ولَكِنَّ اللَّهَ بِرَحْمَتِهِ (p-٥٠٣)جَعَلَ الحُدُودَ جَوابِرَ في الإسْلامِ كَما في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ فَلَمّا عَفا اللَّهُ عَنْ بَنِي إسْرائِيلَ عَلى أنْ يَقْتُلُوا أنْفُسَهم فَقَدْ تَفَضَّلَ بِإسْقاطِ العُقُوبَةِ الأُخْرَوِيَّةِ الَّتِي هي أثَرُ الذَّنْبِ. ولَمّا نَسَخَ تَكْلِيفَهم بِقَتْلِ أنْفُسِهِمْ فَقَدْ تَفَضَّلَ بِذَلِكَ فَصارَتْ مِنَّتانِ. فَقَوْلُ مُوسى لِقَوْمِهِ ﴿إنَّكم ظَلَمْتُمْ أنْفُسَكم بِاتِّخاذِكُمُ العِجْلَ فَتُوبُوا إلى بارِئِكم فاقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ﴾ تَشْرِيعُ حُكْمٍ لا يَكُونُ مِثْلُهُ إلّا عَنْ وحْيٍ لا عَنِ اجْتِهادٍ. وإنْ جازَ الِاجْتِهادُ لِلْأنْبِياءِ فَإنَّ هَذا حُكْمٌ مُخالِفٌ لِقاعِدَةِ حِفْظِ النُّفُوسِ الَّتِي قِيلَ قَدِ اتَّفَقَ عَلَيْها شَرائِعُ اللَّهِ؛ فَهو يَدُلُّ عَلى أنَّهُ كَلَّفَهم بِقَتْلِ أنْفُسِهِمْ قَتْلًا حَقِيقَةً إمّا بِأنْ يَقْتُلَ كُلٌّ مَن عَبَدَ العِجْلَ نَفْسَهُ فَيَكُونُ المُرادُ بِالأنْفُسِ الأرْواحَ الَّتِي في الأجْسامِ فالفاعِلُ والمَفْعُولُ واحِدٌ عَلى هَذا وإنَّما اخْتَلَفا بِالِاعْتِبارِ كَقَوْلِهِ ظَلَمْتُمْ أنْفُسَكم وقَوْلِ ابْنِ أُذَيْنَةَ: وإذا وجَدْتَ لَها وساوِسَ سَلْوَةً شَفَعَ الفُؤادُ إلى الضَّمِيرِ فَسَلَّها. وإمّا بِأنْ يَقْتُلَ مَن لَمْ يَعْبُدُوا العِجْلَ عابِدِيهِ، وكَلامُ التَّوْراةِ في هَذا الغَرَضِ في غايَةِ الإبْهامِ وظاهِرُهُ أنَّ مُوسى أمَرَهُ اللَّهُ أنْ يَأْمُرَ اللّاوِيِّينَ الَّذِينَ هم مِن سِبْطِ لاوِي الَّذِي مِنهُ مُوسى وهارُونُ أنْ يَقْتُلُوا مَن عَبَدَ العِجْلَ بِالسَّيْفِ وأنَّهم فَعَلُوا وقَتَلُوا ثَلاثَةَ آلافِ نَفْسٍ ثُمَّ اسْتَشْفَعَ لَهم مُوسى فَغَفَرَ اللَّهُ لَهم أيْ فَيَكُونُ حُكْمُ قَتْلِ أنْفُسِهِمْ مَنسُوخًا بَعْدَ العَمَلِ بِهِ ويَكُونُ المَعْنى فَلْيَقْتُلْ بَعْضُكم بَعْضًا، فالأنْفُسُ مُرادٌ بِها الأشْخاصُ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَإذا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلى أنْفُسِكُمْ﴾ [النور: ٦١] أيْ فَلْيُسَلِّمْ بَعْضُكم عَلى بَعْضٍ وقَوْلِهِ ﴿وإذْ أخَذْنا مِيثاقَكم لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ﴾ [البقرة: ٨٤] أيْ لا يَسْفِكُ بَعْضُكم دِماءَ بَعْضٍ وقَوْلِهِ عَقِبَهُ ﴿ثُمَّ أنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٨٥] فالفاعِلُ والمَفْعُولُ مُتَغايِرانِ. ومِنَ النّاسِ مَن حَمَلَ الأمْرَ بِقَتْلِ النَّفْسِ هُنا عَلى مَعْنى القَتْلِ المَجازِيِّ وهو التَّذْيِيلُ والقَهْرُ عَلى نَحْوِ قَوْلِ امْرِئِ القَيْسِ ؎فِي أعْشارِ قَلْبٍ مُقَتَّلِ وقَوْلِهِ خَمْرٌ مُقَتَّلَةٌ أوْ مَقْتُولَةٌ، أيْ مُذَلَّلَةٌ سُورَتُها بِالماءِ. قالَ بُجَيْرُ بْنُ زُهَيْرٍ: ؎إنَّ الَّتِي ناوَلْتَنِي فَرَدَدْتُها ∗∗∗ قُتِلَتْ قُتِلَتْ فَهاتِها لَمْ تُقْتَلِ وفِيهِ بُعْدٌ عَنِ اللَّفْظِ بَلْ مُخالَفَةٌ لِغَرَضِ الِامْتِنانِ لِأنَّ تَذْلِيلَ النَّفْسِ وقَهْرَها شَرِيعَةٌ غَيْرُ مَنسُوخَةٍ. (p-٥٠٤)والظُّلْمُ هُنا الجِنايَةُ والمَعْصِيَةُ عَلى حَدِّ قَوْلِهِ ﴿إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣] والفاءُ في قَوْلِهِ ﴿فَتُوبُوا﴾ فاءُ التَّسَبُّبِ لِأنَّ الظُّلْمَ سَبَبٌ في الأمْرِ بِالتَّوْبَةِ فالفاءُ لِتَفْرِيغِ الأمْرِ عَلى الخَبَرِ ولَيْسَتْ هُنا عاطِفَتَهُ عِنْدَ الزَّمَخْشَرِيِّ وابْنِ الحاجِبِ إذْ لَيْسَ بَيْنَ الخَبَرِ والإنْشاءِ تَرَتُّبٌ في الوُجُودِ، ومِنَ النُّحاةِ مَن لا يَرى الفاءَ تَخْرُجُ عَنِ العَطْفِ وهو الجارِي عَلى عِباراتِ الجُمْهُورِ مِثْلَ صاحِبِ مُغْنِي اللَّبِيبِ فَيَجْعَلُ ذَلِكَ عَطْفَ إنْشاءٍ عَلى خَبَرٍ ولا ضَيْرَ في ذَلِكَ. وذِكْرُ التَّوْبَةِ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى فَتَلَقّى ﴿آدَمُ مِن رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ٣٧] والفاءُ في قَوْلِهِ ﴿فاقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ﴾ ظاهِرَةٌ في أنَّ قَتْلَهم أنْفُسَهم بَيانٌ لِلتَّوْبَةِ المَشْرُوعَةِ لَهُ فَتَكُونُ الفاءُ لِلتَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ وهو عَطْفُ مُفَصَّلٍ عَلى مُجْمَلٍ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿فَقَدْ سَألُوا مُوسى أكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقالُوا أرِنا اللَّهَ جَهْرَةً﴾ [النساء: ١٥٣] كَما في مُغْنِي اللَّبِيبِ وهو يَقْتَضِي أنَّها تُفِيدُ التَّرْتِيبَ لا التَّعْقِيبَ. وأمّا صاحِبُ الكَشّافِ فَقَدَ جَوَّزَ فِيهِ وجْهَيْنِ أحَدُهُما تَأْوِيلُ الفِعْلِ المَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِالعَزْمِ عَلى الفِعْلِ فَيَكُونُ ما بَعْدَهُ مُرَتَّبًا عَلَيْهِ ومُعَقِّبًا وهَذا الوَجْهُ لَمْ يَذْكُرْهُ صاحِبُ المُغْنِي وهَذا لا يَتَأتّى في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَقَدْ سَألُوا مُوسى أكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقالُوا﴾ [النساء: ١٥٣] وثانِيهِما جَعْلُ التَّوْبَةِ المَطْلُوبَةِ شامِلَةً لِأقْوالٍ وأعْمالٍ آخِرُها قَتْلُهم أنْفُسَهم فَتَكُونُ الفاءُ لِلتَّرْتِيبِ والتَّعْقِيبِ أيْضًا. وعِنْدِي أنَّهُ إذا كانَتِ الجُمْلَةُ الثّانِيَةُ مُنَزَّلَةً مَنزِلَةَ البَيانِ مِنَ الجُمْلَةِ الأوْلى وكانَتِ الأوْلى مَعْطُوفَةً بِالفاءِ كانَ الأصْلُ في الثّانِيَةِ أنْ تُقْطَعَ عَنِ العِطْفِ فَإذا قُرِنَتْ بِالفاءِ كَما في هَذِهِ الآيَةِ كانَتِ الفاءُ الثّانِيَةُ مُؤَكِّدَةً لِلْأُولى، ولَعَلَّ ذَلِكَ إنَّما يَحْسُنُ في كُلِّ جُمْلَتَيْنِ تَكُونُ أُولاهُما فِعْلًا غَيْرَ مَحْسُوسٍ وتَكُونُ الثّانِيَةُ فِعْلًا مَحْسُوسًا مُبَيِّنًا لِلْفِعْلِ الأوَّلِ فَيَنْزِلُ مَنزِلَةَ حاصِلِ عَقِبِهِ فَيُقْرَنُ بِالفاءِ لِأنَّهُ لا يَحْصُلُ تَمامُهُ إلّا بَعْدَ تَقْرِيرِ الفِعْلِ الأوَّلِ في النَّفْسِ ولِذَلِكَ قَرَّبَهُ صاحِبُ الكَشّافِ بِتَأْوِيلِ الفِعْلِ الأوَّلِ بِالعَزْمِ في بَعْضِ المَواضِعِ. والبارِئُ هو الخالِقُ الخَلْقَ عَلى تَناسُبٍ وتَعْدِيلٍ فَهو أخَصُّ مِنَ الخالِقِ ولِذَلِكَ أتْبَعَ بِهِ الخالِقَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿هُوَ اللَّهُ الخالِقُ البارِئُ﴾ [الحشر: ٢٤] وتَعْبِيرُ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ في كَلامِهِ بِما يَدُلُّ عَلى مَعْنى لَفْظِ البارِئِ في العَرَبِيَّةِ تَحْرِيضٌ عَلى التَّوْبَةِ لِأنَّها رُجُوعٌ عَنِ المَعْصِيَةِ فَفِيها مَعْنى الشُّكْرِ، وكَوْنُ الخَلْقِ عَلى مِثالٍ مُتَناسِبٍ يَزِيدُ تَحْرِيضًا عَلى شُكْرِ الخالِقِ. (p-٥٠٥)وقَوْلُهُ ﴿فَتابَ عَلَيْكُمْ﴾ ظاهِرٌ في أنَّهُ مِن كَلامِ اللَّهِ تَعالى عِنْدَ تَذْكِيرِهِمْ بِالنِّعْمَةِ وهو مَحَلُّ التَّذْكِيرِ مِن قَوْلِهِ ﴿وإذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ﴾ إلَخْ فالماضِي مُسْتَعْمَلٌ في بابِهِ مِنَ الإخْبارِ وقَدْ جاءَ عَلى طَرِيقَةِ الِالتِفاتِ لِأنَّ المَقامَ لِلتَّكَلُّمِ فَعَدَلَ عَنْهُ إلى الغَيْبَةِ ورَجَّحَهُ هُنا سَبْقُ مَعادِ ضَمِيرِ الغَيْبَةِ في حِكايَةِ كَلامِ مُوسى. وعُطِفَتِ الفاءُ عَلى مَحْذُوفٍ إيجازًا، أيْ فَفَعَلْتُمْ فَتابَ عَلَيْكم أوْ فَعَزَمْتُمْ فَتابَ عَلَيْكم، عَلى حَدِّ ﴿أنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ البَحْرَ فانْفَلَقَ﴾ [الشعراء: ٦٣] أيْ فَضَرَبَ وعَطَفَ بِالفاءِ إشارَةً إلى تَعْقِيبِ جُرْمِهِمْ بِتَوْبَتِهِ تَعالى عَلَيْهِمْ وعَدَمِ تَأْخِيرِها إلى ما بَعْدَ اسْتِئْصالِ جَمِيعِ الَّذِينَ عَبَدُوا العِجْلَ بَلْ نَسَخَ ذَلِكَ بِقُرْبِ نُزُولِهِ بَعْدَ العَمَلِ بِهِ قَلِيلًا أوْ دُونَ العَمَلِ بِهِ. وفي ذَلِكَ رَحْمَةٌ عَظِيمَةٌ بِهِمْ؛ إذْ حَصَلَ العَفْوُ عَنْ ذَنْبٍ عَظِيمٍ بِدُونِ تَكْلِيفِهِمْ تَوْبَةً شاقَّةً بَلِ اكْتِفاءً بِمُجَرَّدِ نَدَمِهِمْ وعَزْمِهِمْ عَلى عَدَمِ العَوْدِ لِذَلِكَ. ومِنَ البَعِيدِ أنْ يَكُونَ ﴿فَتابَ عَلَيْكُمْ﴾ مِن كَلامِ مُوسى لِما فِيهِ مِن لُزُومِ حَذْفٍ في الكَلامِ غَيْرِ واضِحِ القَرِينَةِ؛ لِأنَّهُ يَلْزَمُ تَقْدِيرُ شَرْطٍ تَقْدِيرُهُ فَإنْ فَعَلْتُمْ يَتُبْ عَلَيْكم فَيَكُونُ مُرادًا مِنهُ الِاسْتِقْبالُ، والفاءُ فَصِيحَةٌ، ولِأنَّهُ يُعَرِّي هَذِهِ الآيَةَ عَنْ مَحَلِّ النِّعْمَةِ المُذَكَّرِ بِهِ إلّا تَضَمُّنًا. وجُمْلَةُ ﴿إنَّهُ هو التَّوّابُ الرَّحِيمُ﴾ خَبَرٌ وثَناءٌ عَلى اللَّهِ، وتَأْكِيدُهُ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ لِتَنْزِيلِهِمْ مَنزِلَةَ مَن يَشُكُّ في حُصُولِ التَّوْبَةِ عَلَيْهِمْ لِأنَّ حالَهم في عِظَمِ جُرْمِهِمْ حالُ مَن يَشُكُّ في قَبُولِ التَّوْبَةِ عَلَيْهِ وإنَّما جَمَعَ التَّوّابَ مَعَ الرَّحِيمِ لِأنَّ تَوْبَتَهُ تَعالى عَلَيْهِمْ كانَتْ بِالعَفْوِ عَنْ زَلَّةِ اتِّخاذِهِمُ العِجْلَ وهي زَلَّةٌ عَظِيمَةٌ لا يَغْفِرُها إلّا الغَفّارُ، وبِالنَّسْخِ لِحُكْمِ قَتْلِهِمْ وذَلِكَ رَحْمَةٌ فَكانَ لِلرَّحِيمِ مَوْقِعٌ عَظِيمٌ هُنا ولَيْسَ هو لِمُجَرَّدِ الثَّناءِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب