الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَإذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إنَّكم ظَلَمْتُمْ أنْفُسَكم بِاتِّخاذِكُمُ العِجْلَ فَتُوبُوا إلى بارِئِكم فاقْتُلُوا أنْفُسَكم ذَلِكم خَيْرٌ لَكم عِنْدَ بارِئِكم فَتابَ عَلَيْكم إنَّهُ هو التَوّابُ الرَحِيمُ﴾ ﴿وَإذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرى اللهَ جَهْرَةً فَأخَذَتْكُمُ الصاعِقَةُ وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ هَذا القَوْلُ مِن مُوسى ﷺ كانَ بِأمْرٍ مِنَ اللهِ تَعالى، وحُذِفَتِ الياءُ في "يا قَوْمِي" لِأنَّ النِداءَ مَوْضِعُ حَذْفٍ وتَخْفِيفٍ، والضَمِيرُ في "اتِّخاذِكُمْ" في مَوْضِعِ خَفْضٍ عَلى اللَفْظِ، وفي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالمَعْنى، و"العَجَلُ" لَفْظَةٌ عَرَبِيَّةٌ اسْمٌ لِوَلَدِ البَقَرَةِ، وقالَ قَوْمٌ: سُمِّيَ عِجْلًا لِأنَّهُ اسْتَعْجَلَ قَبْلَ مَجِيءِ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ، ولَيْسَ هَذا القَوْلُ بِشَيْءٍ، واخْتَلَفَ هَلْ بَقِيَ العِجْلُ مِن ذَهَبٍ؟، قالَ ذَلِكَ الجُمْهُورُ، وقالَ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: صارَ لَحْمًا ودَمًا، والأوَّلُ أصَحُّ. و"تُوبُوا": مَعْناهُ: ارْجِعُوا عَنِ المَعْصِيَةِ إلى الطاعَةِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ "بارِئِكُمْ" بِإظْهارِ الهَمْزَةِ وكَسْرِها وقَرَأ أبُو عَمْرٍو: "بارِئِكُمْ" بِإسْكانِ الهَمْزَةِ. ورُوِيَ عن سِيبَوَيْهِ اخْتِلاسُ الحَرَكَةِ وهو أحْسَنُ، وهَذا التَسْكِينُ يَحْسُنُ في تَوالِي الحَرَكاتِ، وقالَ المُبَرِّدُ: لا يَجُوزُ التَسْكِينُ مَعَ تَوالِي الحَرَكاتِ في حَرْفِ الإعْرابِ، وقِراءَةُ أبِي عَمْرٍو "بارِئِكُمْ" لَحْنٌ. (p-٢١٥)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وقَدْ رُوِيَ عَنِ العَرَبِ التَسْكِينُ في حَرْفِ الإعْرابِ، قالَ الشاعِرُ: ؎ إذا اعْوَجَجْنَ قُلْتُ صاحِبَ قَوْمٍ...................................... وقالَ امْرُؤُ القَيْسَ: ؎ فاليَوْمَ أشْرَبُ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ ∗∗∗ إثْمًا مِنَ اللهِ ولا واغِلِ وقالَ آخَرُ: ؎ قالَتْ سُلَيْمى: اشْتَرِ لَنا سَوِيقًا ∗∗∗...................................... وقالَ الآخَرُ: ؎ ...................................... ∗∗∗ وقَدْ بَدا هَنُكِ مِنَ المِئْزَرِ وقالَ جَرِيرٌ: ؎ ...................................... ∗∗∗ ونَهْرُ تِيرَيْ وما تَعْرِفُكُمُ العَرَبُ وقالَ وضّاحُ اليَمَنِ: ؎ إنَّما شِعْرِي شَهْدٌ ∗∗∗ قَدْ خُلِطَ بِجُلْجُلانَ ومَن أنْكَرَ التَسْكِينَ في حَرْفِ الإعْرابِ فَحُجَّتُهُ أنَّ ذَلِكَ لا يَجُوزُ مِن حَيْثُ كانَ عَلَمًا (p-٢١٦)لِلْإعْرابِ. قالَ أبُو عَلِيٍّ ؟: وأمّا حَرَكَةُ البِناءِ فَلَمْ يَخْتَلِفِ النُحاةُ في جَوازِ تَسْكِينِها مَعَ تَوالِي الحَرَكاتِ. وقَرَأ الزُهْرِيُّ: "بارِيكُمْ" بِكَسْرِ الياءِ مِن غَيْرِ هَمْزٍ ورُوِيَتْ عن نافِعٍ، وقَرَأ قَتادَةُ: "فَأقِيلُوا أنْفُسَكُمْ"، وقالَ: هي مِنَ الِاسْتِقالَةِ. قالَ أبُو الفَتْحِ: "اقْتالَ" هَذِهِ افْتَعَلَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ عَيْنُها واوًا كاقْتادَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ياءً كاقْتاسَ. والتَصْرِيفُ يَضْعُفُ أنْ تَكُونَ مِنَ الِاسْتِقالَةِ، ولَكِنَّ قَتادَةَ رَحِمَهُ اللهُ يَنْبَغِي أنْ يُحْسِنَ الظَنَّ بِهِ في أنَّهُ لَمْ يُورِدْ ذَلِكَ إلّا بِحُجَّةٍ عِنْدَهُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَتابَ عَلَيْكُمْ﴾، قَبْلَهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَفَعَلْتُمْ، وقَوْلُهُ: "عَلَيْكُمْ"، مَعْناهُ: عَلى الباقِينَ، وجَعَلَ اللهُ تَعالى القَتْلَ لِمَن قُتِلَ شَهادَةً، وتابَ عَلى الباقِينَ، وعَفا عنهم. قالَ بَعْضُ الناسِ: "فاقْتُلُوا" في هَذِهِ الآيَةِ مَعْناهُ بِالتَوْبَةِ، وإماتَةُ عَوارِضِ النُفُوسِ مِن شَهْوَةٍ وتَعَنُّتٍ وغَضَبٍ، واحْتَجَّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَلامُ في الثَوْمِ والبَصَلِ: "فَلْتُمِتْهُما طَبْخًا". وبِقَوْلِ حَسّانَ: ؎ ...................................... ∗∗∗ قُتِلْتَ قُتِلْتَ فَهاتِها لَمْ تُقْتَلِ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإذْ قُلْتُمْ يا مُوسى﴾، يُرِيدُ السَبْعِينَ الَّذِينَ اخْتارَهم مُوسى، واخْتُلِفَ (p-٢١٧)فِي وقْتِ اخْتِيارِهِمْ، فَحَكى أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ أنَّ ذَلِكَ بَعْدَ عِبادَةِ العِجْلِ، اخْتارَهم لِيَسْتَغْفِرُوا لِبَنِي إسْرائِيلَ. وحَكى النَقّاشُ وغَيْرُهُ أنَّهُ اخْتارَهم حِينَ خَرَجَ مِنَ البَحْرِ، وطَلَبَ بِالمِيعادِ، والأوَّلُ أصَحُّ. وقِصَّةُ السَبْعِينَ أنَّ مُوسى ﷺ لَمّا رَجَعَ مِن تَكْلِيمِ اللهِ، ووَجَدَ العِجْلَ قَدْ عُبِدَ، قالَتْ لَهُ طائِفَةٌ مِمَّنْ لَمْ يَعْبُدِ العِجْلَ: نَحْنُ لَمْ نَكْفُرْ ونَحْنُ أصْحابُكَ، ولَكِنْ أسْمِعْنا كَلامَ رَبِّكَ، فَأوحى اللهُ إلَيْهِ أنِ اخْتَرْ مِنهم سَبْعِينَ شَيْخًا، فَلَمْ يَجِدْ إلّا سِتِّينَ، فَأوحى اللهُ إلَيْهِ أنِ اخْتَرْ مِنَ الشَبابِ عَشْرَةً، فَفَعَلَ، فَأصْبَحُوا شُيُوخًا، وكانَ قَدِ اخْتارَ سِتَّةً مِن كُلِّ سِبْطٍ، فَزادُوا اثْنَيْنِ عَلى السَبْعِينَ، فَتَشاحُّوا فِيمَن يَتَأخَّرُ، فَأوحى اللهُ إلَيْهِ أنَّ مَن تَأخَّرَ لَهُ مِثْلُ أجْرِ مَن مَضى، فَتَأخَّرَ يُوشَعُ بْنُ نُونَ، وطالُوتُ بْنُ يُوقِنا، وذَهَبَ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ بِالسَبْعِينَ بَعْدَ أنْ أمَرَهم أنْ يَتَجَنَّبُوا النِساءَ ثَلاثًا ويَغْتَسِلُوا في اليَوْمِ الثالِثِ، واسْتَخْلَفَ هارُونَ عَلى قَوْمِهِ، ومَضى حَتّى أتى الجَبَلَ فَأُلْقِي عَلَيْهِمُ الغَمامُ. قالَ النَقّاشُ وغَيْرُهُ: غَشِيَتْهم سَحابَةٌ، وحِيلَ بَيْنَهم وبَيْنَ مُوسى بِالنُورِ فَوَقَعُوا سُجُودًا. قالَ السُدِّيُّ وغَيْرُهُ: وسَمِعُوا كَلامَ اللهِ يَأْمُرُ ويَنْهى، فَلَمْ يُطِيقُوا سَماعَهُ، واخْتَلَطَتْ أذْهانُهُمْ، ورَغِبُوا أنْ يَكُونَ مُوسى يَسْمَعُ ويُعَبِّرُ لَهم فَفَعَلَ، فَلَمّا فَرَغَ وخَرَجُوا بَدَّلَتْ مِنهم طائِفَةٌ ما سَمِعَتْ مِن كَلامِ اللهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنهم يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ﴾ [البقرة: ٧٥]. واضْطَرَبَ إيمانُهُمْ، وامْتَحَنَهُمُ اللهُ بِذَلِكَ، فَقالُوا: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرى اللهَ جَهْرَةً﴾ ولَمْ يَطْلُبُوا مِنَ الرُؤْيَةِ مُحالًا، أمّا إنَّهُ عِنْدَ أهْلِ السُنَّةِ مُمْتَنَعٌ في الدُنْيا مِن طَرِيقِ السَمْعِ، فَأخَذَتْهم حِينَئِذٍ الصاعِقَةُ فاحْتَرَقُوا وماتُوا مَوْتَ هُمُودٍ يَعْتَبِرُ بِهِ الغَيْرُ. وقالَ قَتادَةُ: ماتُوا وذَهَبَتْ أرْواحُهُمْ، ثُمَّ رُدُّوا لِاسْتِيفاءِ آجالِهِمْ، فَحِينَ حَصَلُوا في ذَلِكَ (p-٢١٨)الهُمُودِ جَعَلَ مُوسى يُناشِدُ رَبَّهُ فِيهِمْ ويَقُولُ: أيْ رَبِّ. كَيْفَ أرْجِعُ إلى بَنِي إسْرائِيلَ دُونَهم فَيَهْلَكُونَ ولا يُؤْمِنُونَ بِي أبَدًا، وقَدْ خَرَجُوا مَعِي وهُمُ الأخْيارُ؟ قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: يَعْنِي: وهم بِحالِ الخَيْرِ وقْتَ الخُرُوجِ وقالَ قَوْمٌ: بَلْ ظَنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ أنَّ السَبْعِينَ إنَّما عُوقِبُوا بِسَبَبِ عِبادَةِ العِجْلِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: "أتُهْلِكُنا"، يَعْنِي السَبْعِينَ ﴿بِما فَعَلَ السُفَهاءُ مِنّا﴾ [الأعراف: ١٥٥] ؟ يَعْنِي عَبَدَةَ العِجْلِ وقالَ ابْنُ فَوْرَكٍ: يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ مُعاقَبَةُ السَبْعِينَ لِإخْراجِهِمْ طَلَبُ الرُؤْيَةِ عن طَرِيقِهِ بِقَوْلِهِمْ لِمُوسى: "أرِنا"، ولَيْسَ ذَلِكَ مِن مَقْدُورِ مُوسى ﷺ. و"جَهْرَةً" مَصْدَرٌ في مَوْضِعِ الحالِ، والأظْهَرُ أنَّها مِنَ الضَمِيرِ في "نَرى"، وقِيلَ: مِنَ الضَمِيرِ في "نُؤْمِنَ"، وقِيلَ: مِنَ الضَمِيرِ في "قُلْتُمْ"،. والجَهْرَةُ العَلانِيَةُ ومِنهُ: الجَهْرُ ضِدُّ السِرِّ، وجَهَرَ الرَجُلُ الأمْرَ كَشَفَهُ. وقَرَأ سَهْلُ بْنُ شُعَيْبٍ، وحُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ: "جَهْرَةً" بِفَتْحِ الهاءِ، وهي لُغَةٌ مَسْمُوعَةٌ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ فِيما فِيهِ حَرْفُ الحَلْقِ ساكِنًا قَدِ انْفَتَحَ ما قَبْلَهُ، والكُوفِيُّونَ يُجِيزُونَ فِيهِ الفَتْحَ، وإنْ لَمْ يَسْمَعُوهُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ "جَهْرَةً" جَمْعُ جاهَرَ، أيْ: حَتّى نَرى اللهَ كاشِفِينَ هَذا الأمْرَ، وقَرَأ عُمَرُ، وعَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عنهُما: "فَأخَذَتْكُمُ الصَعْقَةُ"، ومَضى في صَدْرِ السُورَةِ مَعْنى "الصاعِقَةُ"، والصَعْقَةُ ما يَحْدُثُ بِالإنْسانِ عَنِ الصاعِقَةِ. و"تَنْظُرُونَ" مَعْناهُ: إلى حالِكم. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: حَتّى أحالَهُمُ العَذابُ وأزالَ نَظَرَهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب