الباحث القرآني

فِيهِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ﴾ لَمَّا ذَكَرَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي قَوْلِهِ: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ﴾ [البقرة: ١٩٦] بَيَّنَ اخْتِلَافَهُمَا فِي الْوَقْتِ، فَجَمِيعُ السَّنَةِ وَقْتٌ لِلْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ، وَوَقْتُ الْعُمْرَةِ. وَأَمَّا الْحَجُّ فَيَقَعُ فِي السَّنَةِ مَرَّةً، فَلَا يَكُونُ فِي غَيْرِ هذه الأشهر. و "الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ" ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: أَشْهُرُ الْحَجِّ أَشْهُرٌ، أَوْ وَقْتُ الْحَجِّ أَشْهُرٌ، أَوْ وَقْتُ عَمَلِ الْحَجِّ أَشْهُرٌ. وَقِيلَ التَّقْدِيرُ: الْحَجُّ فِي أَشْهُرٍ. وَيَلْزَمُهُ مَعَ سُقُوطِ حَرْفِ الْجَرِّ نَصْبُ الْأَشْهُرِ، وَلَمْ يَقْرَأْ أَحَدٌ بِنَصْبِهَا، إِلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْكَلَامِ النَّصْبُ عَلَى أَنَّهُ ظَرْفٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْأَشْهُرُ رُفِعَ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ وَقْتُ الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَسَمِعْتُ الْكِسَائِيَّ يَقُولُ: إِنَّمَا الصَّيْفُ شَهْرَانِ، وَإِنَّمَا الطَّيْلَسَانُ [[الطيلسان: كساء مدور أخضر، لحمته أو سداه من صوف يلبسه الخواص من العلماء والمشايخ، وهو من لباس العجم.]] ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ. أَرَادَ وَقْتَ الصَّيْفِ، وَوَقْتَ لِبَاسِ الطَّيْلَسَانِ، فَحَذَفَ. الثَّانِيَةُ- وَاخْتُلِفَ فِي الْأَشْهُرِ الْمَعْلُومَاتِ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَعَطَاءٌ وَالرَّبِيعُ وَمُجَاهِدٌ وَالزُّهْرِيُّ: أَشْهُرُ الْحَجِّ شَوَّالٌ وذو العقدة وَذُو الْحَجَّةِ كُلُّهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ: هِيَ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرَةٌ مِنْ ذِي الْحَجَّةِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَالَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَالْقَوْلَانِ مَرْوِيَّانِ عَنْ مَالِكٍ، حَكَى الْأَخِيرَ ابْنُ حَبِيبٍ، وَالْأَوَّلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَفَائِدَةُ الْفَرْقِ تَعَلُّقُ الدَّمِ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّ ذَا الْحَجَّةِ كُلَّهُ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَمْ يردما فِيمَا يَقَعُ مِنَ الْأَعْمَالِ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، لِأَنَّهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَخِيرِ يَنْقَضِي الْحَجُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ، وَيَلْزَمُ الدَّمُ فِيمَا عَمِلَ بَعْدَ ذَلِكَ لِتَأْخِيرِهِ عَنْ وَقْتِهِ. الثَّالِثَةُ- لَمْ يُسَمِّ اللَّهَ تَعَالَى أَشْهُرَ الْحَجِّ فِي كِتَابِهِ، لِأَنَّهَا كَانَتْ مَعْلُومَةً عِنْدَهُمْ. وَلَفْظُ الْأَشْهُرِ قَدْ يَقَعُ عَلَى شَهْرَيْنِ وَبَعْضِ الثَّالِثِ، لِأَنَّ بَعْضَ الشَّهْرِ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ كُلِّهِ، كَمَا يُقَالُ: رَأَيْتُكَ سَنَةَ كَذَا، أَوْ عَلَى عَهْدِ فُلَانٍ. وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا رَآهُ فِي سَاعَةٍ مِنْهَا، فَالْوَقْتُ يُذْكَرُ بَعْضُهُ بِكُلِّهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: (أَيَّامَ مِنًى ثَلَاثَةٌ). وَإِنَّمَا هِيَ يَوْمَانِ وَبَعْضُ الثَّالِثِ. وَيَقُولُونَ: رَأَيْتُكَ الْيَوْمَ، وَجِئْتُكَ الْعَامَ. وَقِيلَ: لَمَّا كَانَ الِاثْنَانِ وَمَا فوقهما جمع [[كذا في نسخ الأصل. ووجهه: أن اسم كان ضمير الشان، وجملة "الاثنان وما ... " إلخ في محل نصب خبر كان.]] قال أشهر، والله أعلم. الرَّابِعَةُ- اخْتُلِفَ فِي الْإِهْلَالِ بِالْحَجِّ غَيْرَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مِنْ سُنَّةِ الْحَجِّ أَنْ يُحْرَمَ بِهِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَطَاوُسٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ: مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَمْ يُجْزِهِ ذَلِكَ عَنْ حَجِّهِ وَيَكُونُ عُمْرَةً، كَمَنْ دَخَلَ فِي صَلَاةٍ قَبْلَ وَقْتِهَا فَإِنَّهُ لَا تُجْزِيهِ وَتَكُونُ نَافِلَةً، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يَحِلُّ بِعُمْرَةٍ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: هَذَا مَكْرُوهٌ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ جَوَازُ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ كُلِّهَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: لَا يحل حتى يقضي حجه، لقوله تعالى: ﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ [البقرة: ١٨٩] وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهَا. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَصَحُّ، لِأَنَّ تِلْكَ عَامَّةٌ، وَهَذِهِ الْآيَةُ خَاصَّةٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ النَّصِّ عَلَى بَعْضِ أَشْخَاصِ الْعُمُومِ، لِفَضْلِ هَذِهِ الْأَشْهُرِ على غيرها، وعليه فيكون قول مالك صحيح، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ﴾ أَيْ أَلْزَمَهُ نَفْسَهُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ بِالنِّيَّةِ قَصْدًا بَاطِنًا، وَبِالْإِحْرَامِ فِعْلًا ظَاهِرًا، وَبِالتَّلْبِيَةِ نُطْقًا مَسْمُوعًا، قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي التَّلْبِيَةِ. وَلَيْسَتِ التَّلْبِيَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: تَكْفِي النِّيَّةُ فِي الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ. وَأَوْجَبَ التَّلْبِيَةَ أَهْلُ الظَّاهِرِ وَغَيْرُهُمْ. وَأَصْلُ الْفَرْضِ فِي اللُّغَةِ: الْحَزُّ وَالْقَطْعُ، وَمِنْهُ فُرْضَةُ [[فرضة القوس (بضم أوله وسكون ثانية): الحز يقع عليه الوتر. وفرضة النهر: مشرب الماء منه. وفرضة الجبل: ما انحدر من وسطه وجانبه.]] الْقَوْسِ وَالنَّهَرِ وَالْجَبَلِ. فَفَرْضِيَّةُ الْحَجِّ لَازِمَةٌ لِلْعَبْدِ الْحُرِّ كلزوم الخز لِلْقَدَحِ. وَقِيلَ: "فَرَضَ" أَيْ أَبَانَ، وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى الْقَطْعِ، لِأَنَّ مَنْ قَطَعَ شَيْئًا فَقَدْ أَبَانَهُ عَنْ غَيْرِهِ. وَ "مَنْ" رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَمَعْنَاهَا الشَّرْطُ، وَالْخَبَرُ قَوْلُهُ: "فَرَضَ"، لِأَنَّ "مَنْ" لَيْسَتْ بِمَوْصُولَةٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: رَجُلٌ فَرْضٌ. وَقَالَ: "فِيهِنَّ" وَلَمْ يَقُلْ فِيهَا، فَقَالَ قَوْمٌ: هُمَا سَوَاءٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ. وَقَالَ الْمَازِنِيُّ أَبُو عُثْمَانَ: الْجَمْعُ الْكَثِيرُ لِمَا لَا يَعْقِلُ يَأْتِي كَالْوَاحِدَةِ الْمُؤَنَّثَةِ، وَالْقَلِيلُ لَيْسَ كَذَلِكَ، تَقُولُ: الْأَجْذَاعُ انْكَسَرْنَ، وَالْجُذُوعُ انْكَسَرَتْ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ﴾ [التوبة: ٣٦] ثم قال: "مِنْها". السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَلا رَفَثَ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَالزُّهْرِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَمَالِكٌ: الرَّفَثُ الْجِمَاعُ، أَيْ فَلَا جِمَاعَ لِأَنَّهُ يُفْسِدُهُ. وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِمَاعَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ مُفْسِدٌ لِلْحَجِّ، وَعَلَيْهِ حج قابل والهدى. وقال عبد الله ابن عُمَرَ وَطَاوُسٌ وَعَطَاءٌ وَغَيْرُهُمُ: الرَّفَثُ الْإِفْحَاشُ لِلْمَرْأَةِ بِالْكَلَامِ، لِقَوْلِهِ: إِذَا أَحْلَلْنَا فَعَلْنَا بِكَ كَذَا، مِنْ غَيْرِ كِنَايَةٍ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَأَنْشَدَ وَهُوَ مُحْرِمٌ: وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَا هَمِيسَا ... إِنْ تَصْدُقِ الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسَا [[الليس: المرأة اللينة الملبس؟.]] فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ حُصَيْنُ بْنُ قَيْسٍ: أَتَرْفُثُ وَأَنْتَ مُحْرِمٌ! فَقَالَ: إِنَّ الرَّفَثَ مَا قِيلَ عِنْدَ النِّسَاءِ. وَقَالَ قَوْمٌ: الرَّفَثُ الْإِفْحَاشُ بِذِكْرِ النِّسَاءِ، كَانَ ذَلِكَ بِحَضْرَتِهِنَّ أَمْ لَا. وَقِيلَ: الرَّفَثُ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِمَا يُرِيدُهُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الرَّفَثُ اللَّغَا مِنَ الْكَلَامِ، وَأَنْشَدَ: وَرَبِّ أَسْرَابِ حَجِيجٍ كُظَّمِ ... عَنِ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ يُقَالُ: رَفَثَ يَرْفُثُ، بِضَمِ الْفَاءِ وَكَسْرِهَا. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ "فَلَا رُفُوثَ" عَلَى الْجَمْعِ. قال ابن العربي: المراد بقوله "فَلا رَفَثَ" نَفْيُهُ مَشْرُوعًا لَا مَوْجُودًا، فَإِنَّا نَجِدُ الرَّفَثَ فِيهِ وَنُشَاهِدُهُ، وَخَبَرُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ بِخِلَافِ مَخْبَرِهِ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ النَّفْيُ إِلَى وُجُودِهِ مَشْرُوعًا لَا إِلَى وُجُودِهِ مَحْسُوسًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾[[راجع ج ٣ ص ١١٢.]] [البقرة: ٢٢٨] مَعْنَاهُ: شَرْعًا لَا حِسًّا، فَإِنَّا نَجِدُ الْمُطَلَّقَاتِ لَا يَتَرَبَّصْنَ، فَعَادَ النَّفْيُ إِلَى الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لَا إِلَى الْوُجُودِ الْحِسِّيِّ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾[[راجع ج ١٧ ص ٢٢٥.]] [الواقعة: ٧٩] إِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ وَارِدٌ فِي الْآدَمِيِّينَ- وَهُوَ الصَّحِيحُ- أَنَّ مَعْنَاهُ لَا يَمَسُّهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ شَرْعًا، فَإِنْ وُجِدَ الْمَسُّ فَعَلَى خِلَافِ حُكْمِ الشَّرْعِ، وَهَذِهِ الدَّقِيقَةُ هِيَ الَّتِي فَاتَتِ الْعُلَمَاءَ فَقَالُوا: إِنَّ الْخَبَرَ يَكُونُ بِمَعْنَى النَّهْيِ، وَمَا وُجِدَ ذَلِكَ قَطُّ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُوجَدَ، فَإِنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ حَقِيقَةً وَمُتَضَادَّانِ وَصْفًا. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلا فُسُوقَ﴾ يَعْنِي جَمِيعَ الْمَعَاصِي كُلَّهَا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ. وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَجَمَاعَةٌ: الْفُسُوقُ إِتْيَانُ مَعَاصِي اللَّهِ عز وجل فِي حَالِ إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ، كَقَتْلِ الصَّيْدِ وَقَصِّ الظُّفْرِ وَأَخْذِ الشَّعْرِ، وَشَبَهِ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَمَالِكٌ: الْفُسُوقُ الذَّبْحُ لِلْأَصْنَامِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾[[راجع ج ٧ ص ١١٥.]] [الانعام: ١٤٥]. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْفُسُوقُ التَّنَابُزُ بِالْأَلْقَابِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: ﴿بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ﴾[[راجع ج ١٦ ص ٣٢٨.]] [الحجرات: ١١]. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ أَيْضًا: الْفُسُوقُ السِّبَابُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ). وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأَقْوَالِ. قَالَ ﷺ: (مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)، (وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ) خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ. وَجَاءَ عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مِنْ عَمَلٍ أَفْضَلُ مِنَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ حَجَّةٌ مَبْرُورَةٌ لَا رَفَثَ فِيهَا وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ (. وَقَالَ الْفُقَهَاءُ: الْحَجُّ الْمَبْرُورُ هُوَ الَّذِي لَمْ يُعْصَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ أَثْنَاءَ أَدَائِهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ الَّذِي لَمْ يُعْصَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَعْدَهُ، ذَكَرَ الْقَوْلَيْنِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. قُلْتُ: الْحَجُّ الْمَبْرُورُ هُوَ الَّذِي لَمْ يُعْصَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيهِ لَا بَعْدُهُ. قَالَ الْحَسَنُ: الْحَجُّ الْمَبْرُورُ هُوَ أَنْ يَرْجِعَ صَاحِبُهُ زَاهِدًا فِي الدُّنْيَا رَاغِبًا فِي الْآخِرَةِ. وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا، وَسَيَأْتِي. الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ﴾ قُرِئَ "فَلَا رَفَثٌ وَلَا فُسُوقٌ" بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ فِيهِمَا. وَقُرِئَا بِالنَّصْبِ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ. وَأَجْمَعُوا عَلَى الْفَتْحِ فِي "وَلا جِدالَ"، وَهُوَ يُقَوِّي قِرَاءَةَ النَّصْبِ فِيمَا قَبْلَهُ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ النَّفْيُ الْعَامُّ مِنَ الرَّفَثِ وَالْفُسُوقِ وَالْجِدَالِ، وَلِيَكُونَ الْكَلَامُ عَلَى نِظَامٍ وَاحِدٍ فِي عُمُومِ الْمَنْفِيِّ كُلِّهِ، وَعَلَى النَّصْبِ أَكْثَرُ الْقُرَّاءِ. وَالْأَسْمَاءُ الثَّلَاثَةُ فِي مَوْضِعِ [[هذا على أحد قولين للنحويين، والثاني أن "لا" عاملة في الاسم النصب وما بعدها خبر.]] رَفْعٍ، كُلُّ وَاحِدٍ مَعَ "لَا". وَقَوْلُهُ "فِي الْحَجِّ" خَبَرٌ عَنْ جَمِيعِهَا. وَوَجْهُ قِرَاءَةِ الرَّفْعِ أَنَّ "لَا" بِمَعْنَى "لَيْسَ" فَارْتَفَعَ الِاسْمُ بَعْدَهَا، لِأَنَّهُ اسْمُهَا، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَلَيْسَ رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ فِي الْحَجِّ، دَلَّ عَلَيْهِ "فِي الْحَجِّ" الثَّانِي الظَّاهِرِ وَهُوَ خَبَرٌ "لَا جِدالَ". وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ: الرَّفْعُ بِمَعْنَى فَلَا يَكُونَنَّ رفث ولا فسوق، أي شي يُخْرِجُ مِنَ الْحَجِّ، ثُمَّ ابْتَدَأَ النَّفْيَ فَقَالَ: ولا جدال. قُلْتُ: فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ كَانَ تَامَّةً، مِثْلَ قَوْلِهِ: "وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ" فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى خَبَرٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ نَاقِصَةً وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَيَجُوزُ أَنْ يُرْفَعَ "رَفَثٌ وَفُسُوقٌ" بِالِابْتِدَاءِ، "وَلَا" لِلنَّفْيِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْضًا. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْقَعْقَاعِ بِالرَّفْعِ فِي الثَّلَاثَةِ. وَرُوِيَتْ عَنْ عَاصِمٍ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ، وَعَلَيْهِ يَكُونُ "فِي الْحَجِّ" خَبَرُ الثَّلَاثَةِ، كَمَا قُلْنَا فِي قِرَاءَةِ النَّصْبِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَحْسُنْ أَنْ يَكُونَ "فِي الْحَجِّ" خَبَرٌ عَنِ الْجَمِيعِ مَعَ اخْتِلَافِ الْقِرَاءَةِ، لِأَنَّ خَبَرَ لَيْسَ مَنْصُوبٌ وَخَبَرَ "وَلا جِدالَ" مَرْفُوعٌ، لِأَنَّ "وَلا جِدالَ" مَقْطُوعٌ مِنَ الْأَوَّلِ وَهُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَلَا يَعْمَلُ عَامِلَانِ فِي اسْمٍ وَاحِدٍ. وَيَجُوزُ "فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ" تَعْطِفُهُ على الموضع. وأنشد النحويون: لَا نَسَبَ الْيَوْمَ وَلَا خُلَّةْ ... اتَّسَعَ الْخَرْقُ عَلَى الرَّاقِعْ [[البيت لأنس العباس السلمى. راجع الكلام عليه في شرح الشواهد الكبرى للعينى.]] وَيَجُوزُ فِي الْكَلَامِ "فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقًا وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ" عَطْفًا عَلَى اللَّفْظِ عَلَى مَا كَانَ يَجِبُ فِي "لَا" قَالَ الْفَرَّاءُ: وَمِثْلُهُ: فَلَا أَبَ وَابْنًا مِثْلَ مَرْوَانَ وَابْنِهِ ... إِذَا هُوَ بِالْمَجْدِ ارْتَدَى وَتَأَزَّرَا وَقَالَ أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ: "فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ" بِالنَّصْبِ فِيهِمَا، "وَلَا جِدَالٌ" بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ. وَأَنْشَدَ الْأَخْفَشُ: هَذَا وَجَدُّكُمُ الصِّغَارُ بِعَيْنِهِ ... لَا أُمَّ لِي إِنْ كَانَ ذَاكَ وَلَا أَبُ وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَى "فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ" النَّهْيُ، أَيْ لَا تَرْفُثُوا وَلَا تَفْسُقُوا. وَمَعْنَى "وَلا جِدالَ" النَّفْيُ، فَلَمَّا اخْتَلَفَا فِي الْمَعْنَى خُولِفَ بَيْنَهُمَا فِي اللَّفْظِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وفية نظر، إذ فيل: "وَلا جِدالَ" نَهْيٌ أَيْضًا، أَيْ لَا تُجَادِلُوا، فَلِمَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا. التَّاسِعَةُ- "وَلا جِدالَ" الْجِدَالُ وَزْنُهُ فِعَالٌ مِنَ الْمُجَادَلَةِ، وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الجدل وهو القتل، وَمِنْهُ زِمَامٌ مَجْدُولٌ. وَقِيلَ: هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الجدالة التي هي الأرض. فَكَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَصْمَيْنِ يُقَاوِمُ صَاحِبَهُ حَتَّى يَغْلِبَهُ، فَيَكُونُ كَمَنْ ضَرَبَ بِهِ الْجَدَالَةَ. قَالَ الشَّاعِرُ: قَدْ أَرْكَبُ الْآلَةَ بَعْدَ الْآلَةِ [[الآلة: الحالة، والشدة.]] ... وأترك العاجز بالجداله منعفرا لست لَهُ مَحَالَهْ الْعَاشِرَةُ- وَاخْتَلَفَتِ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ بِهِ هُنَا عَلَى أَقْوَالٍ سِتَّةٍ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ: الْجِدَالُ هُنَا أَنْ تُمَارِيَ مُسْلِمًا حَتَّى تُغْضِبَهُ فَيَنْتَهِي إِلَى السِّبَابِ، فَأَمَّا مُذَاكَرَةُ الْعِلْمِ فَلَا نَهْيَ عَنْهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْجِدَالُ السِّبَابُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: الْجِدَالُ هُنَا أَنْ يَخْتَلِفَ النَّاسُ: أَيُّهُمْ صَادَفَ مَوْقِفَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ حِينَ كَانَتْ قُرَيْشٌ تَقِفُ فِي غَيْرِ مَوْقِفِ سَائِرِ الْعَرَبِ، ثُمَّ يَتَجَادَلُونَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ: لَا جِدَالَ فِي مَوَاضِعِهِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْجِدَالُ هُنَا أَنْ تَقُولَ طَائِفَةٌ: الْحَجُّ الْيَوْمَ، وَتَقُولُ طَائِفَةٌ: الْحَجُّ غَدًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَطَائِفَةٌ مَعَهُ: الْجِدَالُ الْمُمَارَاةُ فِي الشُّهُورِ حَسَبَ مَا كانت عليه العرب من النسي، كَانُوا رُبَّمَا جَعَلُوا الْحَجَّ فِي غَيْرِ ذِي الْحَجَّةِ، وَيَقِفُ بَعْضُهُمْ بِجَمْعٍ [[هي المزدلفة.]] وَبَعْضُهُمْ بِعَرَفَةَ، وَيَتَمَارَوْنَ فِي الصَّوَابِ مِنْ ذَلِكَ. قُلْتُ: فَعَلَى هَذَيْنَ التَّأْوِيلَيْنِ لَا جِدَالَ فِي وَقْتِهِ وَلَا فِي مَوْضِعِهِ، وَهَذَانَ الْقَوْلَانِ أَصَحُّ مَا قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ "وَلا جِدالَ"، لِقَوْلِهِ ﷺ: (إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يوم خلق الله السموات وَالْأَرْضَ) الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي فِي "بَرَاءَةٌ" [[راجع ج ٨ ص ١٣٢.]]. يَعْنِي رَجَعَ أم الْحَجِّ كَمَا كَانَ، أَيْ عَادَ إِلَى يَوْمِهِ وَوَقْتِهِ. وَقَالَ ﷺ لَمَّا حَجَّ: (خُذُوا عَنِّي مَنَاسِككُمْ) فَبَيَّنَ بِهَذَا مَوَاقِفَ الْحَجِّ وَمَوَاضِعَهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: الْجِدَالُ أَنْ تَقُولَ طَائِفَةٌ: حَجُّنَا أَبَرُّ مِنْ حَجِّكُمْ. وَيَقُولُ الْآخَرُ مِثْلَ ذَلِكَ. وَقِيلَ: الْجِدَالُ كَانَ فِي الْفَخْرِ بِالْآبَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ شَرْطٌ وَجَوَابُهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ يُجَازِيكُمْ عَلَى أَعْمَالِكُمْ، لِأَنَّ الْمُجَازَاةَ إِنَّمَا تَقَعُ من العالم بالشيء. وقيل: هُوَ تَحْرِيضٌ وَحَثٌّ عَلَى حُسْنِ الْكَلَامِ مَكَانَ الْفُحْشِ، وَعَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى فِي الْأَخْلَاقِ مَكَانَ الْفُسُوقِ وَالْجِدَالِ. وَقِيلَ: جُعِلَ فِعْلُ الْخَيْرِ عِبَارَةً عَنْ ضَبْطِ أَنْفُسِهِمْ حَتَّى لَا يُوجَدَ مَا نُهُوا عَنْهُ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَتَزَوَّدُوا﴾ أَمْرٌ بِاتِّخَاذِ الزَّادِ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي طائفة من العرب كانت تجئ إِلَى الْحَجِّ بِلَا زَادٍ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: كَيْفَ نَحُجُّ بَيْتَ اللَّهِ وَلَا يُطْعِمُنَا، فَكَانُوا يَبْقَوْنَ عَالَةً عَلَى النَّاسِ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ، وَأُمِرُوا بِالزَّادِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: كَانَ النَّاسُ يَتَّكِلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالزَّادِ، فَأُمِرُوا بِالزَّادِ. وَكَانَ لِلنَّبِيِّ ﷺ فِي مَسِيرِهِ رَاحِلَةٌ عَلَيْهَا زَادٌ، وَقَدِمَ عَلَيْهِ ثلاثمائة رَجُلٍ مِنْ مُزَيْنَةَ، فَلَمَّا أَرَادُوا أَنْ يَنْصَرِفُوا قَالَ: (يَا عُمَرُ زَوِّدِ الْقَوْمَ). وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: "تَزَوَّدُوا" الرَّفِيقَ الصَّالِحَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا تَخْصِيصٌ ضَعِيفٌ، وَالْأَوْلَى فِي مَعْنَى الْآيَةِ: وَتَزَوَّدُوا لِمَعَادِكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. قُلْتُ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ، فَإِنَّ الْمُرَادَ الزَّادُ الْمُتَّخَذُ فِي سَفَرٍ الْحَجِّ الْمَأْكُولِ حَقِيقَةً كَمَا ذَكَرْنَا، كَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَحُجُّونَ وَلَا يَتَزَوَّدُونَ وَيَقُولُونَ: نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ، فَإِذَا قَدِمُوا مَكَّةَ سَأَلُوا النَّاسَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى " وَهَذَا نَصٌّ فِيمَا ذَكَرْنَا، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: الزَّادُ التَّمْرُ وَالسَّوِيقُ. ابْنُ جُبَيْرٍ: الْكَعْكُ وَالسَّوِيقُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: "أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّزَوُّدِ لِمَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَإِنْ كَانَ ذَا حِرْفَةٍ تَنْفُقُ فِي الطَّرِيقِ أَوْ سَائِلًا فَلَا خِطَابَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا خَاطَبَ اللَّهُ أَهْلَ الْأَمْوَالِ الَّذِينَ كَانُوا يَتْرُكُونَ أَمْوَالَهُمْ وَيَخْرُجُونَ بِغَيْرِ زَادٍ وَيَقُولُونَ: نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ. وَالتَّوَكُّلُ لَهُ شُرُوطٌ، مَنْ قَامَ بِهَا خَرَجَ بِغَيْرِ زَادٍ وَلَا يَدْخُلُ فِي الْخِطَابِ، فَإِنَّهُ خَرَجَ عَلَى الْأَغْلَبِ مِنَ الْخَلْقِ وَهُمُ الْمُقَصِّرُونَ عَنْ دَرَجَةِ التَّوَكُّلِ الْغَافِلُونَ عَنْ حَقَائِقِهِ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ". قَالَ أَبُو الْفَرَجُ الْجَوْزِيُّ: وَقَدْ لَبِسَ إِبْلِيسُ عَلَى قَوْمٍ يَدَّعُونَ التَّوَكُّلَ، فَخَرَجُوا بِلَا زَادٍ وَظَنُّوا أَنَّ هَذَا هُوَ التَّوَكُّلُ وَهُمْ عَلَى غَايَةِ الْخَطَأِ. قَالَ رَجُلٌ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: أُرِيدُ أن أخرج إِلَى مَكَّةَ عَلَى التَّوَكُّلِ بِغَيْرِ زَادٌ، فَقَالَ لَهُ أَحْمَدُ: اخْرُجْ فِي غَيْرِ الْقَافِلَةِ. فَقَالَ لَا، إِلَّا مَعَهُمْ. قَالَ: فَعَلَى جُرُبِ [[جرب (بضمتين): جمع جراب وهو الوعاء.]] النَّاسِ تَوَكَّلْتَ؟! الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى ﴾ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ خَيْرَ الزَّادِ اتِّقَاءُ الْمَنْهِيَّاتِ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَضُمُّوا إِلَى التَّزَوُّدِ التَّقْوَى. وَجَاءَ قَوْلُهُ "فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى " مَحْمُولًا عَلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّ مَعْنَى "وَتَزَوَّدُوا": اتَّقُوا اللَّهَ فِي اتِّبَاعِ مَا أَمَرَكُمْ بِهِ مِنَ الْخُرُوجِ بِالزَّادِ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ مَا اتَّقَى بِهِ الْمُسَافِرُ مِنَ الْهَلَكَةِ [[الهلكة (بالتحريك): الهلاك.]] أَوِ الْحَاجَةِ إِلَى السُّؤَالِ وَالتَّكَفُّفِ. وَقِيلَ: فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ لَيْسَتْ بِدَارِ قَرَارٍ. قَالَ أَهْلُ الْإِشَارَاتِ: ذَكَّرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى سَفَرَ الْآخِرَةِ وَحَثَّهُمْ عَلَى تَزَوُّدِ التَّقْوَى، فَإِنَّ التَّقْوَى زَادُ الْآخِرَةِ. قَالَ الْأَعْشَى: إِذْ أَنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بِزَادٍ مِنَ التُّقَى ... وَلَاقَيْتَ بَعْدَ الْمَوْتِ مَنْ قَدْ تَزَوَّدَا نَدِمْتَ عَلَى أَلَّا تَكُونَ كَمِثْلِهِ ... وَأَنَّكَ لَمْ تَرْصُدْ كَمَا كَانَ أَرْصَدَا وَقَالَ آخَرُ: الْمَوْتُ بَحْرٌ طامح موجه ... تذهب فيه حيلة السابخ يَا نَفْسُ إِنِّي قَائِلٌ فَاسْمَعِي ... مَقَالَةً مِنْ مُشْفِقٍ نَاصِحِ لَا يَصْحَبُ الْإِنْسَانَ فِي قَبْرِهِ ... غَيْرَ التُّقَى وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبابِ﴾ خَصَّ أُولِي الْأَلْبَابِ بِالْخِطَابِ- وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ يَعُمُّ الْكُلَّ- لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ قَامَتْ عَلَيْهِمْ حُجَّةُ اللَّهِ، وَهُمْ قَابِلُو أَوَامِرِهِ وَالنَّاهِضُونَ بِهَا. وَالْأَلْبَابُ جَمْعُ لُبٍّ، ولب كل شي: خَالِصُهُ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلْعَقْلِ: لُبٌّ. قَالَ النَّحَّاسُ: سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ يَقُولُ قَالَ لِي أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى ثَعْلَبٌ: أَتَعْرِفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ شَيْئًا مِنَ الْمُضَاعَفِ جَاءَ عَلَى فَعُلَ؟ قُلْتُ نَعَمْ، حَكَى سِيبَوَيْهِ عَنْ يُونُسَ: لَبُبْتُ تَلُبُّ، فاستحسنه وقال: ما أعرف له نظيرا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب