قال تعالى: ﴿الحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلا رَفَثَ ولا فُسُوقَ ولا جِدالَ فِي الحَجِّ وما تَفْعَلُوا مِن خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزّادِ التَّقْوى واتَّقُونِ ياأُولِي الأَلْبابِ ﴾ [البقرة: ١٩٧].
جعَلَ اللهُ للحجِّ زمنًا يُعمَلُ فيه، ويسمّى أشْهُرَ الحجِّ، وهي: شَوّالٌ، وذو القَعْدَةِ، وعَشْرٌ من ذي الحِجَّةِ، على قولِ جمهورِ العلماءِ، كأحمدَ وأبي حنيفةَ والشافعيِّ.
وجعَلَ الشافعيُّ ليلةَ النَّحْرِ فقطْ مِن أشهُرِ الحَجِّ، لا يَوْمَهُ.
روى ابنُ أبي شَيْبَةَ، عن عبدِ اللهِ قولَه: ﴿الحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ﴾ قال: «شوالٌ، وذو القَعْدةِ، وعَشْرُ ذي الحِجَّةِ»[[«مصنف ابن أبي شيبة» (١٣٦٣٦) (٣/٢٢٢).]].
وقال به ابنُ عباسٍ وابنُ عُمَرَ، ومجاهِدٌ والشَّعْبيُّ والنَّخَعيُّ[[«مصنف ابن أبي شيبة» (٣/٢٢١ ـ ٢٢٢).]].
وظاهرُ الآيةِ: جعلُ الأشهرِ أكثَرَ مِن اثنَيْنِ، وهو أقلُّ الجمعِ على قولٍ، وذلك لأنّه جعَلَ بعضَ الشهرِ بمنزلةِ الشهرِ، تقولُ: رأيتُك شهرَ كذا أو سنَةَ كذا أو يومَ كذا، والمقصودُ: رأيتَهُ فيه، أي: في أيّامٍ منه لا كلِّه.
وقد جعَلَ مالكٌ ذا الحجَّةِ كاملًا، وليس مرادُ مالكٍ: أنّ الحَجَّ يصحُّ بعدَ ليلةِ النحرِ، ولا أنّ المعتمِرَ بعدَها يُعتبَرُ متمتِّعًا، وإنّما المرادُ بقاءُ فضلِ الأيامِ والسَّعَةُ في أعمالِها، وأنّ العمرةَ في باقي ذي الحجةِ مفضولةٌ.
وقد كان غيرُ واحدٍ مِن السلفِ يَكْرَهُ أداءَها في أشهُرِ الحجِّ لغيرِ المتمتِّعِ، رُوِيَ هذا عن ابنِ مسعودٍ، وابنِ سِيرينَ، والقاسمِ بنِ محمدٍ:
روى ابنُ أبي حاتمٍ، عن طارقِ بنِ شِهابٍ، قال: قال عبدُ اللهِ: «الحَجُّ أشهُرٌ معلوماتٌ، ليس فيها عُمْرةٌ»[[«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٣٤٥).]]، وهو صحيحٌ.
قال محمدُ بنُ سِيرِينَ: «ما أحدٌ مِن أهلِ العلمِ يَشُكُّ في أنّ عمرةً في غيرِ أشهرِ الحجِّ أفضلُ مِن عمرةٍ في أشهرِ الحجِّ»[[«تفسير الطبري» (٣/٤٥١).]].
وليس المرادُ في ذلك تفضيلَ الإفرادِ على التمتُّعِ بكلِّ حالٍ، ولكنَّ المرادَ أنّ فضلَ العمرةِ بسفرٍ قاصدٍ وحْدَها أعظَمُ ممَّن قَصَدَ حَجَّتَهُ وعمرتَهُ بسفرةٍ واحدةٍ، لأنّ الغالبَ أنّ مَن قصَدَ مكةَ بعمرةٍ في أشهرِ الحجِّ أنّه يُتْبِعُها بحجٍّ مِن عامِه.
وقد كان عمرُ بنُ الخَطّابِ يَرى فَضْلَ التمتُّعِ ولوِ اعتمَرَ بسفرٍ خاصٍّ مِن عامِه، كما صحَّ عنه عندَ ابنِ أبي شَيْبةَ، أنّه قال: «لوِ اعْتَمَرْتُ ثمَّ اعْتَمَرْتُ ثمَّ حَجَجْتُ، لَتَمَتَّعْتُ»[[«مصنف ابن أبي شيبة» (١٣٧٠٠) (٣/٢٢٨).]].
ولهذا ذكَرَ غيرُ واحدٍ مِن العلماءِ: أنّ العمرةَ في غيرِ أشهرِ الحجِّ أفضلُ مِن العمرةِ في أشهرِ الحجِّ، ومرادُهم: قَصْدُ النُّسُكَيْنِ بسفَرَيْنِ، وإلا فعُمَرُ النبيِّ ﷺ كلُّها في أشهرِ الحجِّ، كان يقصدُ العمرةَ في ذي القَعْدةِ ويَرجِعُ، إلا لمّا حَجَّ، قَرَنَ عمرتَهُ بحَجَّتِه.
وروى أيُّوبُ، عن نافعٍ، قال: قال ابنُ عمرَ: «أنْ تَفْصِلُوا بينَ أشهُرِ الحجِّ والعمرةِ، فتجعَلُوا العمرةَ في غيرِ أشهرِ الحجِّ: أتمُّ لحجِّ أحدِكم، وأتمُّ لعُمْرتِهِ»[[«تفسير الطبري» (٣/٤٤٩).]].
فهم يَرَوْنَ التمامَ للنسك بالعملِ التامِّ مِن دارِ الرجلِ، قاصدًا إلى دارِهِ راجعًا، لحجِّهِ وعمرتِهِ، كلُّ واحدةٍ منفردة.
لذا ذكَرَ مالكٌ أنّ مِن أشهُرِ الحجِّ ذا الحِجَّةِ كاملًا، لأنّ العمرةَ عندَهُ بعدَ الحجِّ في ذي الحِجَّةِ كالعمرةِ قَبْلَهُ في التفاضُلِ مع غيرِ أشهرِ الحجِّ، لأنّ الحاجَّ ما زالَ في سَفْرةِ حَجِّهِ لم يَرجِعْ إلى أهلِه.
وقد رُوِيَ عن جماعةٍ مِن السلفِ، كعطاءٍ وطاوسٍ وابنِ شهابٍ: إطلاقُ ذي الحِجَّةِ أنّه مِن أشهُرِ الحجِّ، ولعلَّهم أطلَقُوهُ كما أطْلَقَهُ القرآنُ، للعِلْمِ بكونِهِ إلى العشرِ لأداءِ النُّسُكِ، أو أرادُوا إطلاقَهُ ومرادُهُمْ كالمعنى الذي ذهَبَ إليه بعدَهُمْ مالكٌ.
ويؤيِّدُ هذا: أنّ بعضَ المفسِّرينَ يُطلِقُ ذا الحِجَّةِ تارَةً، ويُرِيدُ به العشرَ منها، ومِن ذلك: أنّ مجاهِدًا أطلَقَها مرةً، وقيَّدَها أُخرى.
و ﴿مَعْلُوماتٌ﴾ صفةٌ لـ ﴿أشْهُرٌ﴾، أي: إنّها بيِّنةٌ معروفةٌ مستفيضةٌ بين الناسِ، وهذا دليلٌ على أنّ المشهورَ المستفيضَ البَيِّنَ الذي لم يطرَأْ عليه لبسٌ: لا تَثْقُلُ المسامعُ بذِكْرِه، وقد كانت هذه الأشهُرُ معلومةً في الجاهليَّةِ والإسلامِ.
والتقديرُ في قولِهِ تعالى: ﴿الحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ﴾: يعني ما شرَعَهُ اللهُ لعِبادِهِ لا يكونُ إلا في هذه الأشهرِ، وما عَداهُ لا يكونُ حَجًّا مقصودًا مشروعًا، وإنْ أُطلِقَ اسمُ الحجِّ على العمرةِ مِن جهةِ اللُّغَةِ، فمعناهُ القصدُ، ولكنَّ الحَجَّ في الآيةِ بمعناهُ الضَّيِّقِ، لا بمعناه الواسعِ.
التأكيدُ على المواقيت الزمانية:
وفي الآيةِ دليلٌ على أنّ المواقيتَ الزمانيَّةَ آكَدُ مِن المواقيتِ المكانيَّةِ، وذلك أنّ اللهَ لم يذكُرِ المواقيتَ المكانيَّةَ في كتابِهِ.
وكذلك: فإنّ المواقيتَ الزمانيَّةَ مواقيتُ للأممِ قبلَ الإسلامِ وبعدَهُ منذُ شرَعَ اللهُ الحجَّ، بخلافِ المواقيتِ المكانيَّةِ، فإنّها شِرْعةٌ لأُمَّةِ محمَّدٍ ﷺ خاصَّةً.
وكذلك: فإنّ الحجَّ لا يَصِحُّ إلا في مواقيتِهِ الزمانيَّةِ، فلو وقَعَ الوقوفُ بعَرَفةَ والمبيتُ والنحرُ وأيامُ مِنًى وغيرُها ممّا عُيِّنَ، في غيرِ أشهُرِ الحجِّ، فهو باطلٌ بلا خلافٍ، بل مَن قال بِصِحَّتِها في غيرِ أيّامِها، فهو كافرٌ، لإنكارِهِ معلومًا مِن الدينِ بالضرورةِ، وأمّا الإهلالُ بالحجِّ مِن غيرِ المواقيتِ المكانيَّةِ، فلا يُبطِلُ الحجَّ، وإنّما يأثَمُ صاحِبُهُ بلا خلافٍ، وإنّما الخلافُ في وجوبِ الدمِ عليه.
ثمَّ قال تعالى: ﴿فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ﴾، أيْ: مَن أوجَبَهُ على نفسِهِ ودخَلَ فيه، وجَبَ عليه اجتنابُ ما نَهى اللهُ عنه، وفِعْلُ ما أمَرَ اللهُ به، وله الترخُّصُ برُخَصِ اللهِ فيه.
حكمُ عقد نيَّةِ الحجِّ من أشهر الحج:
وفيه أهميةُ عَقْدِ نيةِ الحجِّ في أشهُرِهِ، وهذا ظاهرٌ مِن قولِه: ﴿فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ﴾، واختلَفَ العلماءُ في عَقْدِ النيةِ قبلَ أشهرِ الحجِّ وانتظارِ الحجِّ:
القولُ الأولُ: ما ذهَبَ إليه جمهورُ العلماءِ، وهو أنّ الإحرامَ صحيحٌ، وهو خلافُ الأَوْلى، وهو قولُ مالكٍ وأبي حنيفةَ وأحمدَ.
وأنّ اللهَ إنّما ذكَرَ أفضَلَ الأحوالِ، ولم يَفرِضْها، فمَن أحْرَمَ مِن بيتِ المَقْدِسِ أو مِن الصِّينِ أو مِن الأندلسِ في رمضانَ أو قبلَهُ وسارَ، فحجُّهُ صحيحٌ ولو أحرَمَ قبلَ الميقاتِ المكانيِّ والزمانيِّ جميعًا، فقد رخَّصَ اللهُ بالإهلالِ في جميعِ الأشهرِ، كما في قولِه تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ والحَجِّ﴾ [البقرة: ١٨٩].
القولُ الثاني ـ وهو قولُ الشافعيِّ ـ: أنّ الإهلالَ للحجِّ لا يصحُّ إلا في أشهُرِهِ، لظاهرِ التقييدِ في الآيةِ، وعندَهُ: أنّ مَن أهَلَّ قبلَ أشهرِ الحجِّ، لم يَنعقِدْ إحرامُهُ، وعنه قولانِ في انقلابِهِ إلى عُمْرةٍ، ورُوِيَ هذا القولُ عن جماعةٍ مِن السلفِ مِن الصحابةِ والتابعِينَ.
قال به جابرٌ وابنُ عباسٍ وأصحابُهُ كعطاءٍ وطاوسٍ ومجاهدٍ[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (١٤٦١٧) و(١٤٦١٨) و(١٤٦١٩) (٣/٣٢٣).]].
وقولُ ابنِ عباسٍ فيه: «مِن السُّنَّةِ ألاَّ يُحرِمَ بالحَجِّ إلا في أشهرِ الحجِّ»، رواهُ ابنُ مَرْدَوَيْهِ.
وفي لفظٍ عنه: «لا ينبغي لأحدٍ أنْ يُحرِمَ بالحجِّ إلا في شهورِ الحجِّ»[[«تفسير ابن كثير» (١/٥٤١).]].
وسُئِلَ جابرٌ: «أيُحرَمُ بالحجِّ في غيرِ أشهرِ الحجِّ؟ قال: لا».
رواهُما الشافعيُّ[[«الأم»، للشافعي (٣/٣٨٧ ط. رفعت فوزي).]].
والعِبْرةُ في فرضِ الحجِّ بعَقْدِ النِّيَّةِ فيه، لأنّ العملَ لا بدَّ أنْ يكونَ في أشهُرِه، ومَن عقَدَ نيةَ الحجِّ في آخِرِ يومٍ مِن رمضانَ قبلَ غروبِ الشمسِ: لم يَفرِضْهُ في أشهرِ الحجِّ، وهذا قولُ جابرٍ مِن الصحابةِ، ولا مخالفَ له، ومِثلُ هذا مَن عقَدَ النيةَ قبلَ غروبِ شمسِ آخِرِ يومٍ مِن شعبانَ للعمرةِ: لم تكنْ عُمرتُهُ في رمضانَ ولو كان عَمِلَها فيه.
وقولُه: ﴿فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ﴾ دليلٌ على وجوبِ إتمامِ الحجِّ بمجردِ الدخولِ فيه، وهذا كقولِهِ تعالى: ﴿وأَتِمُّوا الحَجَّ والَعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ [البقرة: ١٩٦]، فسمّى الدخولَ في الحجِّ فرضًا.
والمرادُ بالفرضِ عَقْدُ نيةِ النُّسُكِ على الصحيحِ، وهو قولُ أكثرِ السلفِ، كابنِ عباسٍ وعطاءٍ وإبراهيمَ، ورُوِيَ عن بعضِ السلفِ: أنّ الفرضَ هنا التلبيةُ، وهو قولُ طاوسٍ والقاسمِ بنِ محمدٍ، والتلبيةُ سُنَّةٌ مؤكَّدةٌ على الصحيحِ، وعلامةٌ ظاهرةٌ لفرضِ النُّسُكِ، وليستْ هي فرضَهُ، فيدخُلُ بالنيةِ ولو لم يُلَبِّ، ولا يدخُلُ بالتلبيةِ إذا لم يَنْوِ، وقد كان بعضُ السلفِ يلبِّي وهو غيرُ مُحرِمٍ، كابنِ مسعودٍ، ولم يكنْ داخلًا في النسكِ، ولا فارضًا على نفسِهِ شيئًا مِن لوازمِه.
ثمَّ لمّا ذكَرَ اللهُ أزمنةَ الحجِّ، ذكَرَ المحظوراتِ على الحاجِّ بعدَ دخولِهِ في الحجِّ: ﴿فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلا رَفَثَ ولا فُسُوقَ ولا جِدالَ فِي الحَجِّ﴾.
حكمُ مباشَرَة المحرِمِ لزوجتهِ:
والمرادُ بالرَّفَثِ: الجِماعُ، كما في قولِ اللهِ تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إلى نِسائِكُمْ﴾ [البقرة: ١٨٧]، ويسمّى في القرآنِ: لَمْسًا ومَسًّا، ورَفَثًا وغِشْيانًا، وحَرْثًا ونِكاحًا، ووَطْئًا ودُخُولًا وإفضاءً.
وكما يحرُمُ الجماعُ تحرُمُ دواعِيهِ مِن المباشَرةِ والتقبيلِ لشهوةٍ، وقد روى نافعٌ، أنّ عبدَ اللهِ بنَ عمرَ كان يقولُ: «الرَّفَثُ إتيانُ النساءِ، والتكلُّمُ بذلك للرجالِ والنساءِ إذا ذكَرُوا ذلك بأفواهِهم»[[«تفسير الطبري» (٣/٤٥٩).]].
ورُوِيَ هذا المعنى عن جماعةٍ، كابنِ عباسٍ وطاوسٍ، وعطاءٍ وغيرِهم[[«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٣٤٦).]].
ونَصَّ بعضُ السلفِ على الفرقِ بين الكلامِ بدواعِي الجماعِ بحضرةِ المرأةِ وبغيابِها، فيَمنَعُ منه بحضرتِها، ويُجِيزُهُ في غيابِها، وهذا مرويٌّ عن ابنِ عباسٍ[[«تفسير الطبري» (٣/٤٥٩).]]، وأبي العاليةِ[[«تفسير الطبري» (٣/٤٦١).]]، وحكاهُ ابنُ جريرٍ إجماعًا[[«تفسير الطبري» (٣/٤٦٩).]].
وقولُهُ تعالى: ﴿ولا فُسُوقَ﴾، كلُّ محرَّمٍ مِن الأقوالِ والأفعالِ في غيرِ الحجِّ، فهو في الحجِّ آكَدُ، وهو المرادُ هنا، وأكثرُ ما يدخُلُ فيه: الأقوالُ، لعمومِ البَلْوى بها، كما في قولِه ﷺ: (سِبابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ، وقِتالُهُ كُفْرٌ) [[أخرجه البخاري (٤٨) (١/١٩)، ومسلم (٦٤) (١/٨١)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.]].
وقولُهُ: ﴿ولا جِدالَ فِي الحَجِّ﴾: الجدالُ يرادُ به: المجادَلةُ والمقاوَلةُ والملاحاةُ، ويُقصَدُ به هنا: ما يؤدِّي إلى محرَّمٍ، كغضبٍ وخصومةٍ وسَبٍّ، وأصلُهُ يُطلَقُ على كلِّ ملاحاةٍ ومقاوَلةٍ بفائدةٍ أو بغيرِ فائدةٍ، فيُطْلَقُ على ما ينفعُ، كقولِه تعالى: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها﴾ [المجادلة: ١]، وقولِهِ: ﴿وجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أحْسَنُ﴾ [النحل: ١٢٥]، وعلى ما لا ينفعُ، كما في هذه الآيةِ.
معنى الجدالِ في الحجِّ:
وحُمِلَ النهيُ عن الجدال في هذه الآيةِ على أمرَيْنِ:
الأولُ: النهيُ عن المِراءِ في الحجِّ، وصَحَّ هذا عن ابنِ مسعودٍ وابنِ عباسٍ وابنِ عمرَ وكثيرٍ مِن السلفِ[[«تفسير الطبري» (٣/٤٧٨ ـ ٤٨١).]].
الثاني: النهيُ عن الجدالِ في أحكامِ الحجِّ بعدَ بيانِها، وجاء هذا عن مجاهدٍ والسُّدِّيِّ والقاسمِ بنِ محمدٍ ومالكِ بنِ أنسٍ.
والأولُ أعَمُّ، وكلا المَحْمَلَيْنِ صحيحٌ، فالاختلافُ هنا اختلافُ تنوُّعٍ لا تَضادٍّ، ولكنَّ بعضَ السلفِ يُخصِّصُهُ بمسائلِ الحجِّ، وبعضَهم يجعلُهُ فيها وفي غيرِها، وظاهرُ الخلافِ عندَهم إنّما هو في سببِ النزولِ ومقصدِهِ، لا في دخولِ الحكمِ وشمولِهِ للأمرَيْنِ جميعًا.
وفي الآيةِ تخصيصُ المُحرِمِ بالنهيِ عن الفسقِ والمِراءِ مع عمومِ النهيِ لغيرِه، تأكيدًا على أنّ الحجَّ يتأثَّرُ بالفسوقِ، وربَّما تنقصُهُ أو تُذهِبُ أجْرَهُ إنْ كَثُرَتْ، وأنّ عظمةَ الأجرِ تكونُ للعبادةِ التامَّةِ السالِمةِ مِن المحرَّماتِ، كما في «الصحيحَيْنِ»، مِن حديثِ أبي هريرةَ مرفوعًا: (مَن حَجَّ للهِ فَلَمْ يَرْفُثْ ولَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمَ ولَدَتْهُ أُمُّهُ) [[أخرجه البخاري (١٥٢١) (٢/١٣٣)، ومسلم (١٣٥٠) (٢/٩٨٣).]]، فجعَلَ السلامةَ مِن الرَّفَثِ والفسوقِ شرطًا لتكفيرِ الذنوبِ، فإنّ المعاصيَ من الرَّفَثِ والفسوقِ تخفِّفُ الحجَّ فلا يَقْوى على مغالبةِ الذنوبِ وتكفيرِها عندَ الميزانِ.
وفي الآيةِ والحديثِ: إشارةٌ إلى أنّ الذنوبَ تَنقُصُ الحسناتِ وتَمْحُوها، كما تَنقُصُ الحسناتُ الذنوبَ وتَمْحُوها، وفيها أنّ الذنوبَ التي تقترنُ بعملٍ صالحٍ أعظمُ مِنَ الذنوبِ المجرَّدةِ، فالذنوبُ للمُحرِمِ والصائمِ والمجاهِدِ والمرابِطِ أعظمُ مِن غيرِها، لاقترانِها بعبادةٍ، فخَصَّ اللهُ الحجَّ بالذِّكْرِ والتأكيدِ، لطولِ أيامِه، بخلافِ الصلاةِ وإنْ كانت أعظَمَ إلا أنّ وقتَها قصيرٌ، فلا يقترنُ معها محرَّمٌ غالبًا، لحالِها ولِقِصَرِ زمانِها.
دَلالةُ الاقتران:
وفي الآيةِ: دليلٌ على أنّ دَلالةَ الاقترانِ تدُلُّ على الاشتراكِ بأدنى معاني الحُكْمِ، لا بأَقْصاهُ، فقرَنَ اللهُ الرفَثَ والفسوقَ والجدالَ بنهيٍ واحدٍ مع اختلافِها في مَرْتَبَتِه، فدلالةُ الاقترانِ تدُلُّ على اشتراكِ المقروناتِ في أصلِ الحُكْمِ، لا في مقدارِه، فضلًا عن لوازمِه، كاشتراكِ هذه المنهيّاتِ في أصلِ الحُكْمِ.
وأمّا الاستدلالُ بها على الاشتراكِ في الحُكْمِ كلِّه، فلا يصحُّ في قولِ جمهورِ العلماءِ، وظواهرُ الأدلةِ تؤيِّدُهُ، كما في قولِه تعالى: ﴿كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إذا أثْمَرَ وآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ﴾ [الأنعام: ١٤١]، وقولِه: ﴿فَكاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وآتُوهُمْ مِن مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ﴾ [النور: ٣٣].
والاشتراكُ في أصلِ الحكمِ غالبٌ لا مُطَّرِدٌ أيضًا، وهذا خلافًا لقولِ المُزَنِيِّ صاحِبِ الشافعيِّ، وأبي يوسفَ صاحِبِ أبي حنيفةَ، وأهلُ اللغةِ يفرِّقون بينَ واوِ العطفِ وواوِ النظمِ.
واستدلالُ بعضِ الفقهاءِ بالاقترانِ في بعضِ المواضعِ: لا يَعني أنّه يجعلُها قاعدةً، فربَّما جعَلَها قرينةً تَقْوى في موضعٍ، ولا تَقْوى في موضعٍ آخَرَ، ولا يُلزَمُ فقيهٌ بما لم يَلتَزِمْهُ وينُصَّ عليه.
وفي قوله تعالى: ﴿وما تَفْعَلُوا مِن خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزّادِ التَّقْوى واتَّقُونِ ياأُولِي الأَلْبابِ ﴾: تنبيهٌ إلى عمارةِ الوقتِ بالعملِ الصالحِ، وكما نَهى عن الرَّفَثِ والفسوقِ والجدالِ، فقد أمَرَ بضِدِّهِ، ليُعمَرَ وقتُ الحاجِّ، فلا يَجِدَهُ خاليًا فيَعْمُرَهُ شيطانُهُ بالوسواسِ المحرَّمِ وخَطَراتِ السوءِ، فإنّ الإثمَ يبدأُ وسواسًا قبلَ أنْ يكونَ عملًا، وكذلك فإنّ السيئةَ تُزاحَمُ بالحسنةِ.
وفي الآيةِ: تنبيهٌ إلى طلبِ الإخلاصِ واستدعائِهِ، قال: ﴿وما تَفْعَلُوا مِن خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾، فإنّ اللهَ أعلَمُ وأشَدُّ اطِّلاعًا على حالِكُمْ، فراقِبُوا عِلمَ اللهِ بعَمَلِكم، لا عِلْمَ غيرِهِ بكم.
ثمَّ أمَرَ اللهُ بالأخذِ بالأسبابِ الماديَّةِ والشرعيَّةِ: ﴿وتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزّادِ التَّقْوى﴾، تزوَّدُوا بما يُصلِحُ أنفُسَكم ودُنْياكم، وخيرٌ مِن ذلك زادُ الدِّينِ، وهو التَّقْوى بالعملِ الصالحِ وتَرْكِ المحرَّمِ، وفي الآيةِ: نهيٌ عن التواكُلِ، وإيجابٌ للأخذِ بالأسبابِ، فهي مِن صُنْعِ اللهِ وحُسْنِ تدبيرِه في كَوْنِه.
قال عِكْرِمةُ: «كان أناسٌ يَحُجُّونَ بلا زادٍ، فأنزَلَ اللهُ هذه الآيةَ»[[«تفسير الطبري» (٣/٤٩٥)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٣٥٠).]].
وفي الآيةِ: إشارةٌ إلى أنّ أعْقَلَ الناسِ أكثرُهُمْ عبادةً وتَقْوى، فإنّ العقولَ تدُلُّ على اللهِ، وتهدي إليه إلا مَن عطَّلَها بالهَوى والشهواتِ.
{"ayah":"ٱلۡحَجُّ أَشۡهُرࣱ مَّعۡلُومَـٰتࣱۚ فَمَن فَرَضَ فِیهِنَّ ٱلۡحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِی ٱلۡحَجِّۗ وَمَا تَفۡعَلُوا۟ مِنۡ خَیۡرࣲ یَعۡلَمۡهُ ٱللَّهُۗ وَتَزَوَّدُوا۟ فَإِنَّ خَیۡرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُونِ یَـٰۤأُو۟لِی ٱلۡأَلۡبَـٰبِ"}