الباحث القرآني

جَمَعَ لَهم بَيْنَ زادِ سَفَرِهِمْ وزادِ مَعادِهِمْ، كَما جَمَعَ بَيْنَ اللِّباسَيْنِ في قَوْلِهِ: ﴿يا بَنِي آدَمَ قَدْ أنْزَلْنا عَلَيْكم لِباسًا يُوارِي سَوْآتِكم ورِيشًا ولِباسُ التَّقْوى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِن آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهم يَذَّكَّرُونَ﴾ [الأعراف: ٢٦] فَذَكَرَ - سُبْحانَهُ - زِينَةَ ظَواهِرِهِمْ وبَواطِنِهِمْ ونَبَّهَهم بِالحِسِّيِّ عَلى المَعْنَوِيِّ؛ وفَهْمُ هَذا القَدْرِ زائِدٌ عَلى فَهْمِ مُجَرَّدِ اللَّفْظِ ووَضْعِهِ في أصْلِ اللِّسانِ، واللَّهُ المُسْتَعانُ، وعَلَيْهِ التُّكْلانِ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلّا بِاللَّهِ. * (فَصْلٌ: المَعْصِيَةُ تُؤَثِّرُ في العَقْلِ) وَمِن عُقُوباتِها: أنَّها تُؤَثِّرُ بِالخاصَّةِ في نُقْصانِ العَقْلِ، فَلا تَجِدُ عاقِلَيْنِ أحَدُهُما مُطِيعٌ لِلَّهِ والآخَرُ عاصٍ، إلّا وعَقْلُ المُطِيعِ مِنهُما أوْفَرُ وأكْمَلُ، وفِكْرُهُ أصَحُّ، ورَأْيُهُ أسَدُّ، والصَّوابُ قَرِينُهُ. وَلِهَذا تَجِدُ خِطابَ القُرْآنِ إنَّما هو مَعَ أُولِي العُقُولِ والألْبابِ، كَقَوْلِهِ: ﴿واتَّقُونِ ياأُولِي الألْبابِ﴾، وقَوْلِهِ: ﴿فاتَّقُوا اللَّهَ ياأُولِي الألْبابِ لَعَلَّكم تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة: ١٠٠]، وقَوْلِهِ: ﴿وَما يَذَّكَّرُ إلّا أُولُو الألْبابِ﴾ [البقرة: ٢٦٩]، ونَظائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَكَيْفَ يَكُونُ عاقِلًا وافِرَ العَقْلِ مَن يَعْصِي مَن هو في قَبْضَتِهِ وفي دارِهِ، وهو يَعْلَمُ أنَّهُ يَراهُ ويُشاهِدُهُ فَيَعْصِيهِ وهو بِعَيْنِهِ غَيْرُ مُتَوارٍ عَنْهُ، ويَسْتَعِينُ بِنِعَمِهِ عَلى مَساخِطِهِ، ويَسْتَدْعِي كُلَّ وقْتٍ غَضَبَهُ عَلَيْهِ، ولَعْنَتَهُ لَهُ، وإبْعادَهُ مِن قُرْبِهِ، وطَرْدَهُ عَنْ بابِهِ، وإعْراضَهُ عَنْهُ، وخِذْلانَهُ لَهُ، والتَّخْلِيَةَ بَيْنَهُ وبَيْنَ نَفْسِهِ وعَدُوِّهِ، وسُقُوطَهُ مِن عَيْنِهِ، وحِرْمانَهُ رُوحَ رِضاهُ وَحُبَّهُ، وقُرَّةَ العَيْنِ بِقُرْبِهِ، والفَوْزَ بِجِوارِهِ، والنَّظَرَ إلى وجْهِهِ في زُمُرَةِ أوْلِيائِهِ، إلى أضْعافِ أضْعافِ ذَلِكَ مِن كَرامَتِهِ أهْلَ الطّاعَةِ، وأضْعافِ أضْعافِ ذَلِكَ مِن عُقُوبَةِ أهْلِ المَعْصِيَةِ. فَأيُّ عَقْلٍ لِمَن آثَرَ لَذَّةَ ساعَةٍ أوْ يَوْمٍ أوْ دَهْرٍ، ثُمَّ تَنْقَضِي كَأنَّها حُلْمٌ لَمْ يَكُنْ، عَلى هَذا النَّعِيمِ المُقِيمِ، والفَوْزِ العَظِيمِ؟ بَلْ هو سَعادَةُ الدُّنْيا والآخِرَةِ، ولَوْلا العَقْلُ الَّذِي تَقُومُ بِهِ عَلَيْهِ الحُجَّةُ لَكانَ بِمَنزِلَةِ المَجانِينِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ المَجانِينُ أحْسَنَ حالًا مِنهُ وأسْلَمَ عاقِبَةً، فَهَذا مِن هَذا الوَجْهِ. وَأمّا تَأْثِيرُها في نُقْصانِ العَقْلِ المَعِيشِ، فَلَوْلا الِاشْتِراكُ في هَذا النُّقْصانِ، لَظَهَرَ لِمُطِيعِنا نُقْصانُ عَقْلِ عاصِينا، ولَكِنَّ الجائِحَةَ عامَّةٌ، والجُنُونَ فُنُونٌ. وَيا عَجَبًا لَوْ صَحَّتِ العُقُولُ لَعَلِمَتْ أنَّ طَرِيقَ تَحْصِيلِ اللَّذَّةِ والفَرْحَةِ والسُّرُورِ وطِيبِ العَيْشِ، إنَّما هو في رِضاءِ مَنِ النَّعِيمُ كُلُّهُ في رِضاهُ، والألَمُ والعَذابُ كُلُّهُ في سُخْطِهِ وغَضَبِهِ، فَفي رِضاهُ قُرَّةُ العُيُونِ، وسُرُورُ النُّفُوسِ، وحَياةُ القُلُوبِ، ولَذَّةُ الأرْواحِ، وطِيبُ الحَياةِ، ولَذَّةُ العَيْشِ، وأطْيَبُ النَّعِيمِ، ومِمّا لَوْ وُزِنَ مِنهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ بِنَعِيمِ الدُّنْيا لَمْ يَفِ بِهِ، بَلْ إذا حَصَلَ لِلْقَلْبِ مِن ذَلِكَ أيْسَرُ نَصِيبٍ لَمْ يَرْضَ بِالدُّنْيا وما فِيها عِوَضًا مِنهُ، ومَعَ هَذا فَهو يَتَنَعَّمُ بِنَصِيبِهِ مِنَ الدُّنْيا أعْظَمَ مِن تَنَعُّمِ المُتْرَفِينَ فِيها، ولا يَشُوبُ تَنَعُّمَهُ بِذَلِكَ الحَظِّ اليَسِيرِ ما يَشُوبُ تَنَعُّمَ المُتْرَفِينَ مِنَ الهُمُومِ والغُمُومِ والأحْزانِ المُعارِضاتِ، بَلْ قَدْ حَصَلَ لَهُ عَلى النَّعِيمَيْنِ وهو يَنْتَظِرُ نَعِيمَيْنِ آخَرَيْنِ أعْظَمَ مِنهُما، وما يَحْصُلُ لَهُ في خِلالِ ذَلِكَ مِنَ الآلامِ، فالأمْرُ كَما قالَ تَعالى: ﴿إنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإنَّهم يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ﴾ [النساء: ١٠٤]. فَلا إلَهَ إلّا اللَّهُ ما أنْقَصَ عَقْلَ مَن باعَ الدُّرَّ بِالبَعْرِ، والمِسْكَ بِالرَّجِيعِ، ومُرافَقَةَ الَّذِينَ أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَداءِ والصّالِحِينَ، بِمُرافَقَةِ الَّذِينَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ولَعَنَهم وأعَدَّ لَهم جَهَنَّمَ وساءَتْ مَصِيرًا. * (فائدة) التَّقْوى ثَلاث مَراتِب إحْداها حمية القلب والجوارح عَن الآثام والمحرّمات. الثّانِيَة حميتها عَن المكروهات. الثّالِثَة الحمية عَن الفضول وما لا يَعْنِي. فالأولى تُعْطِي العَبْد حَياته، والثّانية تفيده صِحَّته وقوته، والثّالِثَة تكسبه سروره وفرحه وبهجته.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب