وقوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ في الكلام حذفٌ، تقديره [[وكان هذا التقدير لأن «الحج» فعل من الأفعال، و «أشهر» زمان فهما غيران، فكان لا بد من تأويل.
وهناك احتمالان آخران للإعراب، وهما:
الأول: الحج حجّ أشهر على الإضافة.
والثاني: أن يجعل الحدث نفس الزمان مبالغة ومجازا، فالحج حال فيه، فلما اتسع في الظرف جعل نفس الحدث.
ونظيرها: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً [الأحقاف: 15] وإذا كان ظرف الزمان نكرة مخبرا به عن حدث جاز فيه الرفع والنصب مطلقا، أي: سواء كان الحدث مستوعبا للظرف أم لا، هذا مذهب البصريين.
وأمّا الكوفيون فقالوا: إن كان الحدث مستوبعا فالرفع فقط نحو: «الصوم يوم» وإن لم يكن مستوعبا فهشام يلتزم رفعه أيضا نحو: «ميعادك يوم» والفراء يجيز نصبه مثل البصريين، وقد نقل عنه أنه منع نصب «أشهر» يعني في الآية لأنها نكرة، فيكون له في المسألة قولان، وهذه المسألة بعيدة الأطراف تضمّها كتب النحويين. قال ابن عطية: «ومن قدّر الكلام: الحج في أشهر فيلزمه مع سقوط حرف الجر نصب الأشهر، ولم يقرأ به أحد» قال الشيخ: «ولا يلزم ذلك، لأنّ الرفع على جهة الاتساع، وإن كان أصله الجرّ بفي» .
ينظر: «الدر المصون» (1/ 489- 490) .]] : أشهر الحج أشهرٌ أو وقتُ الحجِّ أشهر معلوماتٌ، قال ابن مسعود وغيره: وهي شوَّال، وذُو القَعْدة، وذو الحَجَّة كلُّه [[ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 271) .]] .
وقال ابن عبَّاس وغيره: هي شَوَّال، وذو القَعْدة، وعَشْرٌ من ذي الحجة [[أخرجه الطبري (2/ 268) برقم (3525) ، وذكره ابن عطية (1/ 271) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 393) ، وعزاه لوكيع، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي.]] ، والقولان لمالكٍ- رحمه اللَّه- فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ، أي: ألزمه نفْسَهُ، وفرض الحج هو بالنيةِ والدخولِ في الإِحرام، والتلبيةُ تَبَعٌ لذلك، وقوله تعالى: فِيهِنَّ، ولم يجىء الكلام «فيها» ، فقال قوم: هما سواء/ في الاستعمال، وقال أبو عثمانَ المازنيّ [[بكر بن محمد بن حبيب بن بقية، أبو عثمان المازني، من مازن شيبان: أحد الأئمة في النحو، من أهل البصرة. ووفاته فيها. له تصانيف، منها كتاب: «ما تلحن فيه العامة» و «الألف واللام» و «التصريف» و «العروض» و «الديباج» . توفي سنة (249) هـ. ينظر: «الأعلام» (2/ 69) .]] : الجمع الكثير لما لا يعقل يأتي كالواحدةِ المؤنَّثة، والقليلُ ليس كذلك، تقول: الأجذاعُ انكسرن والجُذُوعُ انكسرت [[وهذا بخلاف قوله: مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [التوبة: 36] ، فهناك «أشهر» جمع كثرة، وهنا «حرم» جمع قلة.]] ، ويؤيد ذلك قوله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ [التوبة: 36] ثم قال:
مِنْها [التوبة: 36] .
وقوله تعالى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ ... الآية، وقرأ ابن كثيرٍ، وأبو عمرٍو: «فَلاَ رَفَثٌ وَلاَ فُسُوقٌ وَلاَ جِدَالَ» ، بالرفع في الاثنين، ونصب الجدال [[وحجة من فتح أنه نفي لجميع جنس الرفث والفسوق، كما قال: لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة: 2] وكأن قائلا قال: هل من رفث؟ هل من فسوق؟
وحجة من رفع: أنه يعلم من الفحوى أنه ليس النفي وقتا واحدا، ولكنه بجميع ضروبه، وقد يكون اللفظ واحدا، والمراد جميعا.
ينظر: «السبعة» (180) ، و «الكشف» (1/ 285) ، و «حجة القراءات» (128، 129) ، و «الحجة» (2/ 286) ، و «شرح الطيبة» (4/ 96) ، و «شرح شعلة» (287) ، و «العنوان» (73) ، و «إتحاف» (1/ 433) ، و «معاني القراءات» (1/ 196) .]] ، و «لا» بمعنى «لَيْسَ» ، في قراءة الرفع، والرَّفَثُ الجماعُ في قول ابن عبَّاس، ومجاهد، ومالك [[أخرجه الطبري (2/ 276- 277) رقم (3599- 3603- 3613) عن ابن عباس، رقم (3609- 3614) عن مجاهد.
وذكره البغوي (1/ 172) عن ابن عباس ومجاهد، وابن عطية (1/ 272) عن ابن عباس، ومجاهد، ومالك.
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (1/ 395) ، وعزاه لوكيع، وسفيان بن عيينة، والفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وأبي يعلى، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس.]] ، والفُسُوقُ قال ابن عبَّاس وغيره: هي المعاصِي كلُّها [[أخرجه الطبري (2/ 279- 280) رقم (3634- 3648، 3652، 3656) ، وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (1/ 172) . وابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 272) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 395) ، وفي (1/ 396) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وسفيان، ووكيع، والفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن أبي يعلى، وابن أبي حاتم.]] ، وقال ابن زَيْد، ومالك: الفُسُوقُ:
الذبْح للأصنام [[أخرجه الطبري (2/ 282) رقم (3671) ، عن ابن زيد. وذكره ابن عطية (1/ 272) ، عن ابن زيد، ومالك.]] ، ومنه قوله تعالى: أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الأنعام: 145] ، والأول أولى.
قال الفَخْر [[«التفسير الكبير» (5/ 140) .]] : وأكثر المحقِّقين حملوا الفِسْقَ هنا على كل المعاصِي قالوا: لأن اللفظ صالِحٌ للكلِّ ومتناولٌ له، والنهي عن الشيء يوجبُ الاِنتهاءَ عن جَميعِ أنواعه، فحمل اللفْظ على بعض أنواع الفسوقِ تحكُّم من غير دليل. انتهى.
قال ابن عباس وغيره: الجِدَالُ هنا: أن تماري مسلماً [[أخرجه الطبري (2/ 283- 284) ، رقم (3674- 3675- 3681- 3695- 3696) ، وذكره ابن عطية (1/ 273) ، والسيوطي (1/ 395- 396) وعزاه إلى وكيع، وسفيان بن عيينة، والفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وأبي يعلى، وابن جرير، وابن أبي حاتم.]] .
وقال مالك، وابن زَيْد: الجدالُ هنا أن يَخْتَلفَ الناسُ أيهم صادَفَ موقفَ إِبراهيمَ- عليه السلام- كما كانوا يفعلون في الجاهلية [[أخرجه الطبري (2/ 286) رقم (3706) ، وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (1/ 173) ، وابن عطية (1/ 273) عن مالك، وابن زيد، وذكره السيوطي (1/ 397) ، وعزاه لابن جرير عن ابن زيد.]] ، قُلْتُ: ومعنى الآية: فلا تَرْفُثُوا، ولا تفسُقُوا، ولا تجادلُوا كقوله ﷺ: «وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ، فَإِذَا كَانَ صَوْمُ أَحَدِكُمْ، فَلاَ يرفث، ولا يصحب، فَإِنْ شَاتَمَهُ أَحَدٌ، أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ إِنِّي امرؤ صَائِمٌ ... » [[تقدم تخريجه.]] الحديث. انتهى.
قال ابن العربيِّ في «أحكامه» [[ينظر: «الأحكام» (1/ 134) .]] : قوله تعالى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ، أراد نفيه مشروعاً، لا موجوداً، فإِنا نجد الرفَثَ فيه، ونشاهده، وخبَرُ اللَّه سبحانه لا يَقَعُ بخلافِ مخبره. انتهى.
قال الفَخْر [[«التفسير الكبير» (1/ 141) .]] : قال القَفَّال: ويدُخُل في هذا النهْيِ ما وقع من بعضهم من مجادلة النبيّ ﷺ حين أمرهم بفَسْخِ الحَجِّ إِلى العمرة، فشَقَّ عليهم ذلك، وقالوا: «أنروحُ إلى منى، ومَذَاكِيرُنَا تَقْطُرُ مَنِيًّا ... » الحديث. انتهى.
وقوله تعالى: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ: المعنى: فيثيب عليه، وفي هذا تحضيضٌ على فعل الخير.
ت: وروى أُسَامَةُ بنُ زيدٍ عن النبيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ صُنِعَ إِليْهِ مَعْرُوفٌ، فَقَالَ لِفَاعِلِهِ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْراً، فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ» رواه الترمذيُّ، والنَّسائي، وابنُ حِبَّانَ في «صحيحه» بهذا اللفظ [[أخرجه الترمذي (4/ 380) كتاب «البر والصلة» ، باب ما جاء في المتتبع بما لم يعطه، حديث (2034) ، والنسائي في «الكبرى» (6/ 53) ، كتاب «عمل اليوم والليلة» ، باب ما يقول لمن صنع إليه معروفا، -- حديث (10008) ، وابن السني في «عمل اليوم والليلة» (276) ، والطبراني في «الصغير» (2/ 148) ، وأبو نعيم في «ذكر أخبار أصبهان» (2/ 345) ، كلهم من طريق الأحوص بن جواب، ثنا سعيد بن الخمس، ثنا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عن أبي عثمانَ النهدي، عن أسامة بن زيد مرفوعا.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن جيد غريب، لا نعرفه من حديث أسامة بن زيد، إلا من هذا الوجه. اهـ.
وصححه ابن حبان برقم (3413) .
وقال الترمذي أيضا: وقد روي عن أبي هريرة عن النبي ﷺ بمثله، وسألت محمدا فلم يعرفه اهـ. قلت:
والحديث الذي أشار إليه الترمذي:
أخرجه ابن أبي شيبة (9/ 70) ، والبزار (2/ 397- كشف) رقم (1944) ، والطبراني في «الصغير» (2/ 149) ، كلهم من طريق موسى بن عبيدة الربذي، عن محمد بن ثابت، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: «إذا قال الرجل لأخيه: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْراً فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ» .
قال البزار: ومحمد بن ثابت لا نعلم روى عنه إلا موسى بن عبيدة، ولا روى عن أبي هريرة هذا الحديث غيره.
والحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/ 153) ، وقال: رواه البزار، وفيه موسى بن عبيدة، وهو ضعيف.]] . انتهى من «السلاح» ونحو هذا جوابه ﷺ للمهاجرين حيث قَالُوا: «مَا رَأَيْنَا كَالأَنْصَارِ» ، وأثنوا علَيْهم خيراً.
وقوله سبحانه: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى ... الآية: قال ابن عُمَرَ وغيره:
نزلَتِ الآية في طائفةٍ من العرب، كانت تجيء إِلى الحج بلا زادٍ، ويبقون عالة على النَّاس، فأمروا بالتزوُّد [[أخرجه الطبري في (2/ 290) رقم (3732) ، وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (1/ 173) ، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 273) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 398) ، وعزاه إلى ابن جرير، وابن مردويه، عن ابن عمر.]] ، وقال بعض النَّاس: المعنى: تزوَّدوا الرفيقَ الصالحَ، وهذا تخصيصٌ ضعيفٌ، والأولى في معنى الآية: وتزوَّدوا لمعادِكُمْ من الأعمال الصالحة، قُلْتُ: وهذا التأويلُ هو الذي صَدَّر به الفخْرُ [[ينظر: «التفسير الكبير» (5/ 143) .]] وهو الظاهرُ، وفي قوله: فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى حضّ على التقوى.
{"ayah":"ٱلۡحَجُّ أَشۡهُرࣱ مَّعۡلُومَـٰتࣱۚ فَمَن فَرَضَ فِیهِنَّ ٱلۡحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِی ٱلۡحَجِّۗ وَمَا تَفۡعَلُوا۟ مِنۡ خَیۡرࣲ یَعۡلَمۡهُ ٱللَّهُۗ وَتَزَوَّدُوا۟ فَإِنَّ خَیۡرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُونِ یَـٰۤأُو۟لِی ٱلۡأَلۡبَـٰبِ"}