قَوْلُهُ تَعالى: ﴿الحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ﴾
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ في أشْهُرِ الحَجِّ ما هي، فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ وابْنِ عُمَرَ والحَسَنِ وعَطاءٍ ومُجاهِدٍ: " أنَّها شَوّالٌ وذُو القِعْدَةِ وعَشْرٌ مِن ذِي الحِجَّةِ " ورُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: " أنَّها شَوّالُ وذُو القِعْدَةِ وذُو الحِجَّةِ " .
ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وابْنِ عُمَرَ في رِوايَةٍ أُخْرى مِثْلُهُ، وكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عَطاءٍ ومُجاهِدٍ. وقالَ قائِلُونَ: " وجائِزٌ أنْ لا يَكُونَ ذَلِكَ اخْتِلافًا في الحَقِيقَةِ، وأنْ يَكُونَ مُرادُ مَن قالَ وذُو الحِجَّةِ أنَّهُ بَعْضُهُ؛ لِأنَّ الحَجَّ لا مَحالَةَ إنَّما هو في بَعْضِ الأشْهُرِ لا في جَمِيعِها؛ لِأنَّهُ لا خِلافَ أنَّهُ لَيْسَ يَبْقى بَعْدَ أيّامِ مِنًى شَيْءٌ مِن مَناسِكِ الحَجِّ " .
وقالُوا: " ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَن تَأوَّلَهُ عَلى ذِي الحِجَّةِ كُلِّهِ مُرادُهُ أنَّها لَمّا كانَتْ هَذِهِ أشْهُرَ الحَجِّ كانَ الِاخْتِيارُ عِنْدَهُ فِعْلَ العُمْرَةِ في غَيْرِها " كَما رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وغَيْرِهِ مِنَ الصَّحابَةِ اسْتِحْبابُهم لِفِعْلِ العُمْرَةِ في غَيْرِ أشْهُرِ الحَجِّ عَلى ما قَدَّمْنا. وحَكى الحَسَنُ بْنُ أبِي مالِكٍ عَنْ أبِي يُوسُفَ قالَ شَوّالٌ وذُو القِعْدَةِ وعَشْرُ لَيالٍ مِن ذِي الحِجَّةِ؛ لِأنَّ مَن لَمْ يُدْرِكِ الوُقُوفَ بِعَرَفَةَ حَتّى طَلَعَ الفَجْرُ مِن يَوْمِ النَّحْرِ فَحَجُّهُ فائِتٌ " .
ولا تَنازُعَ بَيْنَ أهْلِ اللُّغَةِ في تَجْوِيزِ إرادَةِ الشَّهْرَيْنِ وبَعْضِ الثّالِثِ، بِقَوْلِهِ: ﴿أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ﴾ كَما قالَ النَّبِيُّ ﷺ «أيّامُ مِنًى ثَلاثَةٌ» وإنَّما هي يَوْمانِ وبَعْضُ الثّالِثِ ويَقُولُونَ: " حَجَجْتُ عامَ كَذا " وإنَّما الحَجُّ في بَعْضِهِ، " ولَقِيتُ فُلانًا سَنَةَ كَذا " وإنَّما كانَ لِقاؤُهُ في بَعْضِها، و" كَلَّمْتُهُ يَوْمَ الجُمُعَةِ " والمُرادُ البَعْضُ وذَلِكَ مِن مَفْهُومِ الخِطابِ إذا تَعَذَّرَ اسْتِغْراقُ الفِعْلِ لِلْوَقْتِ كانَ المَعْقُولُ مِنهُ البَعْضَ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: ولِقَوْلِ مَن قالَ إنَّها شَوّالٌ وذُو القِعْدَةِ وذُو الحِجَّةِ وجْهٌ آخَرُ، وهو شائِعٌ مُسْتَقِيمٌ، وهو يَنْتَظِمُ القَوْلَيْنِ مِنَ المُخْتَلِفِينَ في مَعْنى الأشْهُرِ المَعْلُوماتِ؛ وهو أنَّ أهْلَ الجاهِلِيَّةِ قَدْ كانُوا يَنْسِئُونَ الشُّهُورَ فَيَجْعَلُونَ صَفَرًا المُحَرَّمَ ويَسْتَحِلُّونَ المُحَرَّمَ عَلى حَسَبِ ما يَتَّفِقُ لَهم مِنَ الأُمُورِ الَّتِي يُرِيدُونَ فِيها القِتالَ، فَأبْطَلَ اللَّهُ تَعالى النَّسِيءَ وأقَرَّ وقْتَ الحَجِّ عَلى ما كانَ ابْتِداؤُهُ عَلَيْهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَواتِ، كَما قالَ ﷺ «يَوْمَ حَجَّةِ الوَداعِ: ألا إنَّ الزَّمانَ قَدِ اسْتَدارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ والأرْضَ، السَّنَةُ اثْنا عَشَرَ شَهْرًا مِنها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ شَوّالٌ وذُو القِعْدَةِ وذُو الحِجَّةِ ورَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمادى وشَعْبانَ» .
قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿الحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ﴾ (p-٣٧٤)يَعْنِي بِها هَذِهِ الأشْهُرَ الَّتِي ثَبَتَ وقْتُ الحَجِّ فِيها دُونَ ما كانَ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ عَلَيْهِ مِن تَبْدِيلِ الشُّهُورِ وتَأْخِيرِ الحَجِّ وتَقْدِيمِهِ.
وقَدْ كانْ وقْتُ الحَجِّ مُعَلَّقًا عِنْدَهم وهَذِهِ الثَّلاثَةُ الَّتِي يَأْمَنُونَ فِيها وارِدَيْنِ وصادِرِينَ، فَذَكَرَ اللَّهُ هَذِهِ الأشْهُرَ وأخْبَرَنا بِاسْتِقْرارِ أمْرِ الحَجِّ وحَظَرَ بِذَلِكَ تَغْيِيرَها وتَبْدِيلَها إلى غَيْرِها. وفِيهِ وجْهٌ آخَرُ: وهو أنَّ اللَّهَ لَمّا قَدَّمَ ذِكْرَ التَّمَتُّعِ بِالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ ورَخَّصَ فِيهِ وأبْطَلَ بِهِ ما كانَتِ العَرَبُ تَعْتَقِدُهُ مِن حَظْرِ العُمْرَةِ في هَذِهِ الأشْهُرِ، قالَ: ﴿الحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ﴾ فَأفادَ بِذَلِكَ أنَّ الأشْهُرَ الَّتِي يَصِحُّ فِيها التَّمَتُّعُ بِالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ وثَبَتَ حُكْمُهُ فِيها هَذِهِ الأشْهُرُ، وأنَّ مَنِ اعْتَمَرَ في غَيْرِها ثُمَّ حَجَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ حُكْمُ التَّمَتُّعِ؛ واللَّهُ أعْلَمُ
* * *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ﴾
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ في تَأْوِيلِهِ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رِوايَةً والحَسَنُ وقَتادَةُ " فَمَن أحْرَمَ " ورَوى شَرِيكٌ عَنْ أبِي إسْحاقَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ: ﴿فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ﴾ قالَ: " التَّلْبِيَةَ " وكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وابْنِ عُمَرَ وإبْراهِيمَ النَّخَعِيِّ وطاوُسٍ ومُجاهِدٍ وعَطاءٍ وقالَتْ عَمْرَةُ عَنْ عائِشَةَ: " لا إحْرامَ إلّا لِمَن أهَلَّ ولَبّى " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَوْلُ مِن تَأوَّلَ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ﴾ عَلى مَن أحْرَمَ لا يَدُلَّ عَلى أنَّهُ رَأى الإحْرامَ جائِزًا بِغَيْرِ تَلْبِيَةٍ؛ لِأنَّهُ جائِزٌ أنْ يَقُولَ: " فَمَن أحْرَمَ وشَرَطَ الإحْرامَ أنْ يُلَبِّيَ " فَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ أحَدٍ مِن السَّلَفِ جَوازُ الدُّخُولِ في الإحْرامِ بِغَيْرِ تَلْبِيَةٍ أوْ ما يَقُومُ مُقامَها مِن تَقْلِيدِ الهَدْيِ وسَوْقِهِ.
وأصْحابُنا لا يُجِيزُونَ الدُّخُولَ في الإحْرامِ إلّا بِالتَّلْبِيَةِ وْتَقْلِيدِ الهَدْيِ وسَوْقِهِ، والدَّلِيلُ عَلى ذَلِكَ حَدِيثُ قُرادِ بْنِ أبِي نُوحٍ قالَ: حَدَّثَنا نافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ أبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عائِشَةَ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَخَلَ عَلَيْها وهي كَأنَّها حَزِينَةٌ فَقالَ: ما لَكِ ؟ فَقالَتْ: لا أنا قَضَيْتُ عُمْرَتِي وألْفانِي الحَجُّ عارِكًا، قالَ: ذَلِكَ شَيْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلى بَناتِ آدَمَ فَحُجِّي وقُولِي ما يَقُولُ المُسْلِمُونَ في حَجِّهِمْ» وذَلِكَ يَدُلَّ عَلى وُجُوبِ التَّلْبِيَةِ؛ لِأنَّها الَّذِي يَقُولُهُ المُسْلِمُونَ عِنْدَ الإحْرامِ وأمْرُهُ ﷺ عَلى الوُجُوبِ ويَدُلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ﷺ: «خُذُوا عَنِّي مَناسِكَكم» .
والتَّلْبِيَةُ مِنَ المَناسِكِ، وقَدْ فَعَلَها عِنْدَ الإحْرامِ، ويَدُلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ﷺ: «أتانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقالَ: مُرْ أُمَّتَكَ يَرْفَعُوا أصْواتَهم بِالتَّلْبِيَةِ فَإنَّها مِن شَعائِرِ الحَجِّ» فَيُضَمَّنُ ذَلِكَ مَعْنَيَيْنِ: فِعْلُ التَّلْبِيَةِ، ورَفْعُ الصَّوْتِ بِها، وقَدِ اتَّفَقُوا عَلى أنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ غَيْرُ واجِبٍ، فَبَقِيَ حُكْمُهُ في فِعْلِ التَّلْبِيَةِ ويَدُلُّ عَلَيْهِ أنَّ الحَجِّ، والعُمْرَةَ يَنْتَظِمانِ أفْعالًا مُتَغايِرَةً مُخْتَلِفَةً مَفْعُولَةً بِتَحْرِيمَةٍ واحِدَةٍ، فَأشْبَهَتِ الصَّلاةَ لَمّا تَضَمَّنَتْ أفْعالًا مُتَغايِرَةً مُخْتَلِفَةً مَفْعُولَةً بِتَحْرِيمَةٍ واحِدَةٍ كانَ شَرْطُ الدُّخُولِ فِيها الذِّكْرَ، كَذَلِكَ الحَجُّ والعُمْرَةُ واجِبٌ أنْ يَكُونَ الدُّخُولُ فِيهِما بِالذِّكْرِ، أوْ ما يَقُومُ مُقامَهُ وقالَ أصْحابُنا: " إذا قَلَّدَ بَدَنَةً وساقَها وهو يُرِيدُ الإحْرامَ فَقَدْ أحْرَمَ "، وقَدْ رَوى ابْنا جابِرٍ عَنْ أبِيهِما عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «أنَّ مَن قَلَّدَ بَدَنَةً فَقَدْ أحْرَمَ» .
واخْتَلَفَ (p-٣٨٣)السَّلَفُ في ذَلِكَ فَقالَ ابْنُ عُمَرَ: " إذا قَلَّدَ بَدَنَتَهُ فَقَدْ أحْرَمَ "، وكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وقِيسِ بْنِ سَعْدٍ وابْنِ مَسْعُودٍ وابْنِ عَبّاسٍ وطاوُسٍ وعَطاءٍ ومُجاهِدٍ والشَّعْبِيِّ ومُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وجابِرِ بْنِ زَيْدٍ وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وإبْراهِيمَ، وهَذا عَلى أنَّهُ قَلَّدَها وساقَها، وهو يُرِيدُ الإحْرامَ؛ لِأنَّهُ لا خِلافَ أنَّهُ إذا لَمْ يُرِدِ الإحْرامَ لا يَكُونُ مُحْرِمًا، وقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «إنِّي قَلَّدْتُ الهَدْيَ فَلا أحِلُّ إلى يَوْمِ النَّحْرِ» فَأخْبَرَ أنَّ تَقْلِيدَ الهَدْيِ وسَوْقَهُ كانَ المانِعَ لَهُ مِنَ الإحْلالِ، فَدَلَّ عَلى أنَّ لِذَلِكَ تَأْثِيرًا في الإحْرامِ وأنَّهُ قائِمٌ مُقامَ التَّلْبِيَةِ في بابِ الدُّخُولِ فِيهِ كَما كانَ لَهُ تَأْثِيرٌ في مَنعِ الإحْلالِ، والدَّلِيلُ عَلى أنَّ التَّقْلِيدَ بِانْفِرادِهِ لا يُوجِبُ الإحْرامَ، ما رَوَتْ عائِشَةُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «أنَّهُ كانَ يَبْعَثُ بِهَدْيِهِ ويُقِيمُ فَلا يَحْرُمُ عَلَيْهِ شَيْءٌ» وكَذَلِكَ قالَتْ عائِشَةُ: " لا يُحْرِمُ إلّا مَن أهَلَّ ولَبّى " تَعْنِي مِمَّنْ لَمْ يَسُقْ هَدْيَهُ ولَمْ يَخْرُجْ مَعَهُ.
* * *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلا رَفَثَ ولا فُسُوقَ ولا جِدالَ في الحَجِّ﴾ اخْتَلَفَ السَّلَفُ في تَأْوِيلِ الرَّفَثِ، فَقالَ ابْنُ عُمَرَ: " هو الجِماعُ " ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مِثْلُهُ.
ورُوِيَ عَنْهُ أنَّهُ التَّعْرِيضُ بِالنِّساءِ، وكَذَلِكَ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ أنْشَدَ في إحْرامِهِ:
؎وهُنَّ يَمْشِينَ بِنا هَمِيسًا إنْ يَصْدُقِ الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسا
فَقِيلَ لَهُ في ذَلِكَ، فَقالَ: " إنَّما الرَّفَثُ مُراجَعَةُ النِّساءِ بِذِكْرِ الجِماعِ " .
قالَ عَطاءٌ: " الرَّفَثُ الجِماعُ فَما دُونَهُ مِن قَوْلِ الفُحْشِ " . وقالَ عَمْرُو بْنُ دِينارٍ: " هو الجِماعُ فَما دُونَهُ مِن شَأْنِ النِّساءِ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَدْ قِيلَ: إنَّ أصْلَ الرَّفَثِ في اللُّغَةِ هو الإفْحاشُ في القَوْلِ، وبِالفَرْجِ الجِماعُ، وبِاليَدِ الغَمْزُ لِلْجِماعِ. وإذا كانَ كَذَلِكَ فَقَدْ تَضَمَّنَ نَهْيُهُ عَنِ الرَّفَثِ في الحَجِّ هَذِهِ الوُجُوهَ كُلَّها وحَصَلَ مِنَ اتِّفاقِ جَمِيعِ مِن رُوِيَ عَنْهُ تَأْوِيلُهُ أنَّ الجِماعَ مُرادٌ بِهِ في هَذِهِ الآيَةِ.
ويَدُلُّ عَلى أنَّ الرَّفَثَ الفُحْشُ في المَنطِقِ قَوْلُهُ ﷺ: «إذا كانَ يَوْمُ صَوْمِ أحَدِكم فَلا يَرْفُثْ ولا يَجْهَلْ، فَإنْ جُهِلَ عَلَيْهِ فَلْيَقُلْ إنِّي صائِمٌ»، والمُرادُ فُحْشُ القَوْلِ. وإنْ كانَ المُرادُ بِالرَّفَثِ هو التَّعْرِيضُ بِذِكْرِ النِّساءِ في الإحْرامِ، فاللَّمْسُ، والجِماعُ أوْلى أنْ يَكُونَ مَحْظُورًا، كَما قالَ تَعالى ﴿فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ ولا تَنْهَرْهُما﴾ [الإسراء: ٢٣] عُقِلَ مِنهُ النَّهْيُ عَنِ السَّبِّ، والضَّرْبِ.
وقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى الرَّفَثَ في شَأْنِ الصَّوْمِ فَقالَ: ﴿أُحِلَّ لَكم لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إلى نِسائِكُمْ﴾ [البقرة: ١٨٧] ولا خِلافَ أنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الجِماعُ، وعُقِلَ مِنهُ إباحَةُ ما دُونَهُ، كَما أنَّ حَظْرَهُ الرَّفَثَ في الحَجِّ وهو التَّعْرِيضُ، واللَّمْسُ قَدْ عُقِلَ بِهِ حَظْرُ ما فَوْقَهُ مِنَ الجِماعِ؛ لِأنَّ حَظْرَ القَلِيلِ يَدُلَّ عَلى الكَثِيرِ مِن جِنْسِهِ. وإباحَةُ الكَثِيرِ تَدُلُّ عَلى إباحَةِ القَلِيلِ مِن جِنْسِهِ، (p-٣٨٤)وقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ راشِدٍ قالَ: خَرَجْنا حُجّاجًا فَمَرَرْنا بِالرُّوَيْثَةِ فَإذا بِها شَيْخٌ يُقالُ لَهُ أبُو هَرِمٍ قالَ: سَمِعْتُ أبا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: " لِلْمُحْرِمِ مِنِ امْرَأتِهِ كُلُّ شَيْءٍ إلّا الجِماعَ " قالَ: فَأهْوى رَجُلٌ مِنّا إلى امْرَأتِهِ فَقَبَّلَها؛ فَقَدِمْنا مَكَّةَ فَذَكَرْنا ذَلِكَ لِعَطاءٍ فَقالَ: قاتَلَهُ اللَّهُ قَعَدَ عَلى طَرِيقٍ مِن طُرُقِ المُسْلِمِينَ يَفْتِنُهم بِالضَّلالَةِ؛ ثُمَّ قالَ لِلَّذِي قَبَّلَ امْرَأتَهُ: أهْرِقْ دَمًا. وهَذا شَيْخٌ مَجْهُولٌ. وما ذَكَرَهُ قَدِ اتَّفَقَتِ الأُمَّةُ عَلى خِلافِهِ، وعَلى أنَّ مَن قَبَّلَ امْرَأتَهُ في إحْرامِهِ بِشَهْوَةٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ. ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وابْنِ عَبّاسٍ وابْنِ عُمَرَ والحَسَنِ وعَطاءٍ وعِكْرِمَةَ وإبْراهِيمَ وسَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ذَلِكَ وهو قَوْلُ فُقَهاءِ الأمْصارِ.
ولَمّا ثَبَتَ بِما ذَكَرْنا حَظْرُ مُراجَعَةِ النِّساءِ بِذِكْرِ الجِماعِ في حالِ الإحْرامِ، والتَّعْرِيضِ بِهِ، واللَّمْسِ وذَلِكَ كُلُّهُ مِن دَواعِي الجِماعِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ الجِماعَ ودَواعِيَهُ مَحْظُورَةٌ عَلى المُحْرِمِ، وذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى حَظْرِ التَّطَيُّبِ لِهَذا المَعْنى بِعَيْنِهِ، ولِما ورَدَ فِيهِ مِنَ السُّنَّةِ. وأمّا الفُسُوقُ فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: " الفُسُوقُ السِّبابُ " والجِدالُ: المِراءُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: " الجِدالُ أنْ تُجادِلَ صاحِبَكَ حَتّى تَغِيظَهُ، والفُسُوقُ المَعاصِي " ورُوِيَ عَنْ مُجاهِدٍ ﴿ولا جِدالَ في الحَجِّ﴾ قالَ: قَدْ أعْلَمَ اللَّهُ تَعالى أشْهُرَ الحَجِّ فَلَيْسَ فِيها شَكٌّ ولا خِلافٌ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: جَمِيعُ ما ذُكِرَ مِن هَذِهِ المَعانِي عَنِ المُتَقَدِّمِينَ جائِزٌ أنْ يَكُونَ مُرادَ اللَّهَ تَعالى، فَيَكُونُ المُحْرِمُ مَنهِيًّا عَنِ السِّبابِ، والمُماراةِ في أشْهُرِ الحَجِّ وفي غَيْرِ ذَلِكَ وعَنِ الفُسُوقِ وسائِرِ المَعاصِي، فَتَضَمَّنَتِ الآيَةُ الأمْرَ بِحِفْظِ اللِّسانِ، والفَرْجِ عَنْ كُلِّ ما هو مَحْظُورٌ مِنَ الفُسُوقِ، والمَعاصِي.
والمَعاصِي، والفُسُوقُ وإنْ كانَتْ مَحْظُورَةً قَبْلَ الإحْرامِ فَإنَّ اللَّهَ نَصَّ عَلى حَظْرِها في الإحْرامِ تَعْظِيمًا لِحُرْمَةِ الإحْرامِ؛ ولِأنَّ المَعاصِيَ في حالِ الإحْرامِ أعْظَمُ وأكْبَرُ عِقابًا مِنها في غَيْرِها، كَما قالَ ﷺ: «إذا كانَ يَوْمُ صَوْمِ أحَدِكم فَلا يَرْفُثْ ولا يَجْهَلْ، فَإنْ جُهِلَ عَلَيْهِ فَلْيَقُلْ إنِّي امْرُؤٌ صائِمٌ» . وقَدْ رُوِيَ أنَّ الفَضْلَ بْنَ العَبّاسِ كانَ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنَ المُزْدَلِفَةِ إلى مِنًى، فَكانَ يُلاحِظُ النِّساءَ ويَنْظُرُ إلَيْهِنَّ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ يَصْرِفُ وجْهَهُ بِيَدِهِ مِن خَلْفِهِ وقالَ:«إنَّ هَذا يَوْمٌ مَن مَلَكَ سَمْعَهُ وبَصَرَهُ غُفِرَ لَهُ» ومَعْلُومٌ حَظْرُ ذَلِكَ في غَيْرِ ذَلِكَ اليَوْمِ، ولَكِنَّهُ خَصَّ اليَوْمَ تَعْظِيمًا لِحُرْمَتِهِ، فَكَذَلِكَ المَعاصِي، والفُسُوقُ، والجِدالُ، والرَّفَثُ كُلُّ ذَلِكَ مَحْظُورٌ ومُرادٌ بِالآيَةِ، سَواءٌ كانَ مِمّا حَظَرَهُ الإحْرامُ، أوْ كانَ مَحْظُورًا فِيهِ وفي غَيْرِهِ بِعُمُومِ اللَّفْظِ؛ ويَكُونُ تَخْصِيصُهُ إيّاها بِحالِ الإحْرامِ تَعْظِيمًا لِلْإحْرامِ، وإنْ كانَتْ مَحْظُورَةً في غَيْرِهِ. وقَدْ رَوى مَسْعُودٌ عَنْ مَنصُورٍ عَنْ أبِي حازِمٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ (p-٣٨٥)ﷺ قالَ: «مَن حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ ولَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمَ ولَدَتْهُ أُمُّهُ» وهَذا مُوافِقٌ لِدَلالَةِ الآيَةِ؛ وذَلِكَ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا نَهى عَنِ المَعاصِي، والفُسُوقِ في الحَجِّ فَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ الأمْرَ بِالتَّوْبَةِ مِنها؛ لِأنَّ الإصْرارَ عَلى ذَلِكَ هو مِنَ الفُسُوقِ، والمَعاصِي، فَأرادَ اللَّهُ تَعالى أنْ يُحْدِثَ الحاجُّ تَوْبَةً مِنَ الفُسُوقِ، والمَعاصِي حَتّى يَرْجِعَ مِن ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ ولَدَتْهُ أُمُّهُ عَلى ما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ .
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا جِدالَ في الحَجِّ﴾ قَدْ تَضَمَّنَ النَّهْيَ عَنْ مُماراةِ صاحِبِهِ ورَفِيقِهِ وإغْضابِهِ وحَظْرِ الجِدالِ في وقْتِ الحَجِّ عَلى ما كانَ عَلَيْهِ أمْرُ الجاهِلِيَّةِ؛ لِأنَّهُ قَدِ اسْتَقَرَّ عَلى وقْتٍ واحِدٍ وأُبْطِلَ بِهِ النَّسِيءُ الَّذِي كانَ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ عَلَيْهِ؛ وهو مَعْنى قَوْلِهِ ﷺ «ألا إنَّ الزَّمانَ قَدِ اسْتَدارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَواتِ الأرْضَ» يَعْنِي عَوْدَ الحَجِّ إلى الوَقْتِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُ، واتَّفَقَ ذَلِكَ في حَجَّةِ النَّبِيِّ ﷺ .
وقَوْلُهُ: ﴿فَلا رَفَثَ ولا فُسُوقَ ولا جِدالَ في الحَجِّ﴾ وإنْ كانَ ظاهِرُهُ الخَبَرَ، فَهو نَهْيٌ عَنْ هَذِهِ الأفْعالِ، وعَبَّرَ بِلَفْظِ النَّفْيِ عَنْها؛ لِأنَّ المَنهِيَّ عَنْهُ سَبِيلُهُ أنْ يَكُونَ مَنفِيًّا غَيْرَ مَفْعُولٍ وهو كَقَوْلِهِ في الأمْرِ: ﴿والوالِداتُ يُرْضِعْنَ أوْلادَهُنَّ﴾ [البقرة: ٢٣٣] و﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ﴾ [البقرة: ٢٣٤] وما جَرى مَجْراهُ صِيغَتُهُ صِيغَةُ الخَبَرِ ومَعْناهُ الأمْرُ.
* * *
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزّادِ التَّقْوى﴾ رُوِيَ عَنْ مُجاهِدٍ والشَّعْبِيِّ أنَّ أُناسًا مِن أهْلِ اليَمَنِ كانُوا لا يَتَزَوَّدُونَ في حَجِّهِمْ حَتّى نَزَلَتْ ﴿وتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزّادِ التَّقْوى﴾ وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الزّادُ الكَعْكُ، والزَّيْتُ. وقِيلَ فِيهِ: إنَّ قَوْمًا كانُوا يَرْمُونَ بِأزْوادِهِمْ يَتَسَمَّوْنَ بِالمُتَوَكِّلَةِ، فَقِيلَ لَهم: تَزَوَّدُوا مِنَ الطَّعامِ ولا تَطْرَحُوا كَلَّكم عَلى النّاسِ وقِيلَ فِيهِ: إنَّ مَعْناهُ أنْ تَزَوَّدُوا مِنَ الأعْمالِ الصّالِحَةِ، فَإنَّ خَيْرَ الزّادِ التَّقْوى.
قالَ أبُو بَكْرٍ: لَمّا احْتَمَلَتِ الآيَةُ الأمْرَيْنِ مِن زادِ الطَّعامِ وزادِ التَّقْوى، وجَبَ أنْ يَكُونَ عَلَيْهِما؛ إذْ لَمْ تَقُمْ دَلالَةٌ عَلى تَخْصِيصِ زادٍ مِن زادٍ. وذَكَرَ التَّزَوُّدَ مِنَ الأعْمالِ الصّالِحَةِ في الحَجِّ؛ لِأنَّهُ أحَقُّ شَيْءٍ بِالِاسْتِكْثارِ مِن أعْمالِ البِرِّ فِيهِ لِمُضاعَفَةِ الثَّوابِ عَلَيْهِ، كَما نَصَّ عَلى حَظْرِ الفُسُوقِ والمَعاصِي فِيهِ، وإنْ كانَتْ مَحْظُورَةً في غَيْرِهِ، تَعْظِيمًا لِحُرْمَةِ الإحْرامِ وإخْبارًا أنَّها فِيهِ أعْظَمُ مَأْثَمًا؛ فَجَمَعَ الزّادَيْنِ في مَجْمُوعِ اللَّفْظِ مِنَ الطَّعامِ ومِن زادِ التَّقْوى، ثُمَّ أخْبَرَ أنَّ زادَ التَّقْوى خَيْرُهُما لِبَقاءِ نَفْعِهِ ودَوامِ ثَوابِهِ.
وهَذا يَدُلَّ عَلى بُطْلانِ مَذْهَبِ المُتَصَوِّفَةِ الَّذِينَ يَتَسَمَّوْنَ بِالمُتَوَكِّلَةِ في تَرْكِهِمُ التَّزَوُّدَ، والسَّعْيَ في المَعاشِ. وهو يَدُلُّ عَلى أنَّ مِن شَرْطِ اسْتِطاعَةِ الحَجِّ الزّادَ، والرّاحِلَةَ؛ لِأنَّهُ خاطَبَ بِذَلِكَ مَن خاطَبَهُ بِالحَجِّ، وعَلى هَذا المَعْنى قالَ النَّبِيُّ ﷺ حِينَ سُئِلَ عَنِ الِاسْتِطاعَةِ: هي «الزّادُ، والرّاحِلَةُ» . واللَّهُ المُوَفِّقُ.
(p-٣٨٦)
{"ayah":"ٱلۡحَجُّ أَشۡهُرࣱ مَّعۡلُومَـٰتࣱۚ فَمَن فَرَضَ فِیهِنَّ ٱلۡحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِی ٱلۡحَجِّۗ وَمَا تَفۡعَلُوا۟ مِنۡ خَیۡرࣲ یَعۡلَمۡهُ ٱللَّهُۗ وَتَزَوَّدُوا۟ فَإِنَّ خَیۡرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُونِ یَـٰۤأُو۟لِی ٱلۡأَلۡبَـٰبِ"}