الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ﴾ هذا متصل بقول: ﴿لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾ [يونس: ٢٠]. وَذَلِكَ أَنَّ نَفَرًا مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ فِيهِمْ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ المخزوميان جَلَسُوا خَلْفَ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ أَرْسَلُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَأَتَاهُمْ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: إِنْ سَرَّكَ أَنْ نَتَّبِعَكَ فَسَيِّرْ لَنَا جِبَالَ مَكَّةَ بِالْقُرْآنِ، فَأَذْهِبْهَا عَنَّا حَتَّى تَنْفَسِحَ، فَإِنَّهَا أَرْضٌ ضَيِّقَةٌ، وَاجْعَلْ لَنَا فِيهَا عُيُونًا وَأَنْهَارًا، حَتَّى نَغْرِسَ وَنَزْرَعَ، فَلَسْتَ كَمَا زَعَمْتَ بِأَهْوَنَ عَلَى رَبِّكَ مِنْ دَاوُدَ حِينَ سَخَّرَ لَهُ الْجِبَالَ تَسِيرُ مَعَهُ، وَسَخِّرْ لَنَا الرِّيحَ فَنَرْكَبُهَا إِلَى الشَّامِ نَقْضِي عَلَيْهَا مِيرَتَنَا وَحَوَائِجَنَا، ثُمَّ نَرْجِعُ مِنْ يَوْمِنَا، فَقَدْ كَانَ سُلَيْمَانُ سُخِّرَتْ لَهُ الرِّيحُ كَمَا زَعَمْتَ، فَلَسْتَ بِأَهْوَنَ عَلَى رَبِّكَ مِنْ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، وَأَحْيِ لَنَا قُصَيًّا [[هو قصى بن كلاب.]] جَدَّكَ، أَوْ مَنْ شِئْتَ أَنْتَ مِنْ مَوْتَانَا نَسْأَلُهُ، أَحَقٌّ مَا تَقُولُ أَنْتَ أَمْ بَاطِلٌ؟ فَإِنَّ عِيسَى كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى، وَلَسْتَ بِأَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ" الْآيَةَ، قَالَ مَعْنَاهُ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَامِّ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ، وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: لَكَانَ هَذَا الْقُرْآنُ، لَكِنْ حُذِفَ إِيجَازًا، لِمَا فِي ظَاهِرِ الْكَلَامِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: فَلَوْ أَنَّهَا نَفْسٌ تَمُوتُ جَمِيعَةً ... وَلَكِنَّهَا نَفْسٌ تَسَاقَطُ أَنْفُسَا يَعْنِي لَهَانَ عَلَيَّ، هَذَا مَعْنَى قَوْلِ قَتَادَةَ، قَالَ: لَوْ فَعَلَ هَذَا قُرْآنٌ قَبْلَ قُرْآنِكُمْ لَفَعَلَهُ قُرْآنُكُمْ. وَقِيلَ: الْجَوَابُ مُتَقَدِّمٌ، وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ لَوْ أَنْزَلْنَا الْقُرْآنَ وَفَعَلْنَا بِهِمْ مَا اقْتَرَحُوا. الْفَرَّاءُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابَ لَوْ فَعَلَ بِهِمْ هَذَا لَكَفَرُوا بِالرَّحْمَنِ. الزَّجَّاجُ: "وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً" إِلَى قَوْلِهِ: "الْمَوْتى " لَمَا آمَنُوا، وَالْجَوَابُ الْمُضْمَرُ هُنَا مَا أُظْهِرَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ﴾ [الأنعام: ١١١] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ﴾[[راجع ج ٧ ص ٦٦.]] [الأنعام: ١١١]. (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) أَيْ هُوَ الْمَالِكُ لِجَمِيعِ الْأُمُورِ، الْفَاعِلُ لِمَا يَشَاءُ مِنْهَا، فَلَيْسَ مَا تَلْتَمِسُونَهُ مِمَّا يَكُونُ بِالْقُرْآنِ، إِنَّمَا يَكُونُ بِأَمْرِ اللَّهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ قَالَ الْفَرَّاءُ قَالَ الْكَلْبِيُّ: "يَيْأَسِ" بِمَعْنَى يَعْلَمْ، لُغَةُ النَّخَعِ، وَحَكَاهُ الْقُشَيْرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَيْ أَفَلَمْ يَعْلَمُوا، وَقَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ فِي الصحاح. وَقِيلَ: هُوَ لُغَةُ هَوَازِنَ، أَيْ أَفَلَمْ يَعْلَمْ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَفَلَمْ يَعْلَمُوا وَيَتَبَيَّنُوا، وَأَنْشَدَ فِي ذَلِكَ أَبُو عُبَيْدَةَ لِمَالِكِ بْنِ عَوْفٍ النَّصْرِيِّ [[ذكر في "لسان العرب" أن قائل البيت هو سحيم بن وثيل اليربوعي،: وذكر بعض العلماء أنه قال لولده جابر ابن سحيم بدليل قوله فيه: "أنى ابن فارس زهدم" وزهدم: فرس سحيم. وقوله: ييسروننى من أيسار الجزور، أي يجتزروننى ويقتسمونني، وذكر ذلك لأنه كان قد وقع عليه سباء فضربوا عليه بالميسر يتحاسبون على قسمة فدائه.]]: أَقُولُ لَهُمْ بِالشِّعْبِ إِذْ يَيْسِرُونَنِي ... أَلَمْ تَيْأَسُوا أَنِّي ابْنُ فَارِسِ زَهْدَمِ يَيْسِرُونَنِي مِنَ الْمَيْسَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي "الْبَقَرَةِ" [[راجع ج ٣ ص ٥٣.]] وَيُرْوَى يَأْسِرُونَنِي مِنَ الْأَسْرِ. وقال رباح بن عدي: ألم ييأس الْأَقْوَامُ أَنِّي [أَنَا] [[من البحر لأبى حيان، وكتاب الرد.]] ابْنُهُ ... وَإِنْ كُنْتُ عَنْ أَرْضِ الْعَشِيرَةِ نَائِيَا فِي كِتَابِ الرَّدِّ "أَنِّي أَنَا ابْنُهُ" وَكَذَا ذَكَرَهُ الْغَزْنَوِيُّ: أَلَمْ يَعْلَمْ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: أَفَلَمْ يَعْلَمِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُشَاهِدُوا الْآيَاتِ. وَقِيلَ: هُوَ من اليأس المعروف، أي أفلم ييأس الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ إِيمَانِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ، لِعِلْمِهِمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ أَرَادَ هِدَايَتَهُمْ لَهَدَاهُمْ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ تَمَنَّوْا نُزُولَ الْآيَاتِ طَمَعًا فِي إِيمَانِ الْكُفَّارِ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ: "أَفَلَمْ يَتَبَيَّنِ الَّذِينَ آمَنُوا" مِنَ الْبَيَانِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وقيل لابن عباس المكتوب "أَفَلَمْ يَيْأَسِ" قَالَ: أَظُنُّ الْكَاتِبَ كَتَبَهَا وَهُوَ نَاعِسٌ، أَيْ زاد بعض الحروف حتى صار "يَيْأَسِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ: رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ أَنَّهُ قَرَأَ- "أَفَلَمْ يَتَبَيَّنِ الَّذِينَ آمَنُوا" وَبِهَا احْتَجَّ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ الصَّوَابُ فِي التِّلَاوَةِ، وَهُوَ بَاطِلٌ عَنِ بن عَبَّاسٍ، لِأَنَّ مُجَاهِدًا وَسَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ حَكَيَا الْحَرْفَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَلَى مَا هُوَ فِي الْمُصْحَفِ بِقِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو وَرِوَايَتُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ثُمَّ إِنَّ مَعْنَاهُ: أَفَلَمْ يَتَبَيَّنْ، فَإِنْ كَانَ مُرَادُ اللَّهِ تَحْتَ اللَّفْظَةِ الَّتِي خَالَفُوا بِهَا الْإِجْمَاعَ فَقِرَاءَتُنَا تَقَعُ عَلَيْهَا، وَتَأْتِي بِتَأْوِيلِهَا، وَإِنْ أَرَادَ اللَّهُ الْمَعْنَى الْآخَرَ الَّذِي الْيَأْسُ فِيهِ لَيْسَ مِنْ طَرِيقِ الْعِلْمِ فَقَدْ سَقَطَ مِمَّا أوردوا، وَأَمَا سُقُوطُهُ يُبْطِلُ الْقُرْآنَ، وَلُزُومُ أَصْحَابِهِ الْبُهْتَانَ. (أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ) "أَنَّ" مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، أَيْ أَنَّهُ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ (لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) وَهُوَ يَرُدُّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ﴾ أَيْ دَاهِيَةٌ تَفْجَؤُهُمْ بِكُفْرِهِمْ وَعُتُوِّهِمْ، وَيُقَالُ: قَرَعَهُ أَمْرٌ إِذَا أَصَابَهُ، وَالْجَمْعُ قَوَارِعُ، وَالْأَصْلُ فِي الْقَرْعِ الضَّرْبُ، قَالَ [[هو الأقيشر الأسدي، واسمه المغيرة بن عبد الله. والتلاد: المال القديم الموروث. والنشب: الضياع والبساتين وما جدده بعمله. والقوافيز (جمع قافوزة) وهى أوان يشرب بها الخمر.]]: أَفْنَى تِلَادِي وَمَا جَمَّعْتُ مِنْ نَشَبٍ ... قَرْعُ الْقَوَاقِيزِ أَفْوَاهَ الْأَبَارِيقِ أَيْ لَا يَزَالُ الْكَافِرُونَ تُصِيبُهُمْ دَاهِيَةٌ مُهْلِكَةٌ مِنْ صَاعِقَةٍ كَمَا أَصَابَ أَرْبَدَ أَوْ مِنْ قَتْلٍ أَوْ مِنْ أَسْرٍ أَوْ جَدْبٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعَذَابِ وَالْبَلَاءِ، كَمَا نَزَلَ بِالْمُسْتَهْزِئِينَ، وَهُمْ رُؤَسَاءُ الْمُشْرِكِينَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْقَارِعَةُ النَّكْبَةُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَعِكْرِمَةُ: الْقَارِعَةُ الطَّلَائِعُ وَالسَّرَايَا الَّتِي كَانَ يُنَفِّذُهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَهُمْ (أَوْ تَحُلُّ) أَيِ الْقَارِعَةُ. (قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) قَالَهُ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوْ تَحُلُّ أَنْتَ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ. وَقِيلَ: نَزَلَتِ الْآيَةُ بِالْمَدِينَةِ، أَيْ لَا تَزَالُ تُصِيبُهُمُ الْقَوَارِعُ فَتَنْزِلُ بِسَاحَتِهِمْ أَوْ بِالْقُرْبِ مِنْهُمْ كَقُرَى الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ. (حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ) فِي فَتْحِ مَكَّةَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ بِمَكَّةَ، أَيْ تُصِيبُهُمُ الْقَوَارِعُ، وَتَخْرُجُ عَنْهُمْ إِلَى الْمَدِينَةِ يَا مُحَمَّدُ، فَتَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ، أَوْ تَحُلُّ بِهِمْ مُحَاصِرًا لَهُمْ، وَهَذِهِ الْمُحَاصَرَةُ لِأَهْلِ الطَّائِفِ، وَلِقِلَاعِ خَيْبَرَ، وَيَأْتِي وَعْدُ اللَّهِ بِالْإِذْنِ لَكَ فِي قِتَالِهِمْ وَقَهْرِهِمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: وَعْدُ اللَّهِ يوم القيامة.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب