الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَوْ أنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الجِبالُ أوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرْضُ أوْ كُلِّمَ بِهِ المَوْتى بَلْ لِلَّهِ الأمْرُ جَمِيعًا أفَلَمْ يَيْأسِ الَّذِينَ آمَنُوا أنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدى النّاسَ جَمِيعًا ولا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهم بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِن دارِهِمْ حَتّى يَأْتِيَ وعْدُ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ المِيعادَ﴾ .
اعْلَمْ أنَّهُ رُوِيَ «أنَّ أهْلَ مَكَّةَ قَعَدُوا في فِناءِ مَكَّةَ، فَأتاهُمُ الرَّسُولُ ﷺ وعَرَضَ الإسْلامَ عَلَيْهِمْ، فَقالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُمَيَّةَ المَخْزُومِيُّ: سَيِّرْ لَنا جِبالَ مَكَّةَ حَتّى يَنْفَسِحَ المَكانُ عَلَيْنا واجْعَلْ لَنا فِيها أنْهارًا نَزْرَعُ فِيها، أوْ أحْيِ لَنا بَعْضَ أمْواتِنا لِنَسْألَهم أحَقٌّ ما تَقُولُ أوْ باطِلٌ، فَقَدْ كانَ عِيسى يُحْيِي المَوْتى، أوْ سَخِّرْ لَنا الرِّيحَ حَتّى نَرْكَبَها ونَسِيرَ في البِلادِ فَقَدْ كانَتِ الرِّيحُ مُسَخَّرَةً لِسُلَيْمانَ، فَلَسْتَ بِأهْوَنَ عَلى رَبِّكَ مِن سُلَيْمانَ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ: ﴿ولَوْ أنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الجِبالُ»﴾ أيْ مِن أماكِنِها ﴿أوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرْضُ﴾ أيْ شُقِّقَتْ فَجُعِلَتْ أنْهارًا وعُيُونًا ﴿أوْ كُلِّمَ بِهِ المَوْتى﴾ لَكانَ هو هَذا القُرْآنُ الَّذِي أنْزَلْناهُ عَلَيْكَ. وحُذِفَ جَوابُ ”لَوْ“ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا، وقالَ الزَّجّاجُ: المَحْذُوفُ هو أنَّهُ ﴿ولَوْ أنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الجِبالُ﴾ وكَذا وكَذا لَما آمَنُوا بِهِ، كَقَوْلِهِ: ﴿ولَوْ أنَّنا نَزَّلْنا إلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وكَلَّمَهُمُ المَوْتى﴾ [الأنْعامِ: ١١١].
ثم قال تَعالى: ﴿بَلْ لِلَّهِ الأمْرُ جَمِيعًا﴾ ] يَعْنِي إنْ شاءَ فَعَلَ وإنْ شاءَ لَمْ يَفْعَلْ، ولَيْسَ لِأحَدٍ أنْ يَتَحَكَّمَ عَلَيْهِ في أفْعالِهِ وأحْكامِهِ.
ثم قال تَعالى: ﴿أفَلَمْ يَيْأسِ الَّذِينَ آمَنُوا أنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدى النّاسَ جَمِيعًا﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ:
المسألة الأُولى: في قَوْلِهِ: ﴿أفَلَمْ يَيْأسِ﴾ قَوْلانِ:
(p-٤٣)القَوْلُ الأوَّلُ: أفَلَمْ يَعْلَمُوا وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ، فَفِيهِ وجْهانِ:
الوجه الأوَّلُ: [يَيْأسُ] يَعْلَمُ في لُغَةِ النَّخَعِ، وهَذا قَوْلُ أكْثَرِ المُفَسِّرِينَ مِثْلِ مُجاهِدٍ والحَسَنِ وقَتادَةَ. واحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِ الشّاعِرِ:
؎ألَمْ يَيْأسِ الأقْوامُ أنِّي أنا ابْنُهُ وإنْ كُنْتَ عَنْ أرْضِ العَشِيرَةِ نائِيًا
وأنْشَدَ أبُو عُبَيْدَةَ:
؎أقُولُ لَهم بِالشِّعْبِ إذْ يَأْسِرُونَنِي ∗∗∗ ألَمْ تَيْأسُوا أنِّي ابْنُ فارِسِ زَهْدَمِ
أيْ ألَمْ تَعْلَمُوا. وقالَ الكِسائِيُّ: ما وجَدَتِ العَرَبَ تَقُولُ: يَئِسْتُ بِمَعْنى عَلِمْتُ البَتَّةَ.
والوجه الثّانِي: ما رُوِيَ أنَّ عَلِيًّا وابْنَ عَبّاسٍ كانا يَقْرَآنِ: [ أفَلَمْ يَأْسَ الَّذِينَ آمَنُوا ] فَقِيلَ لِابْنِ عَبّاسٍ: أفَلَمْ يَيْأسْ، فَقالَ: أظُنُّ أنَّ الكاتِبَ كَتَبَها وهو ناعِسٌ، إنَّهُ كانَ في الخَطِّ يَأْسَ فَزادَ الكاتِبُ سِنَّةً واحِدَةً، فَصارَ يَيْأسُ، فَقُرِئَ يَيْأسُ، وهَذا القَوْلُ بَعِيدٌ جِدًّا؛ لِأنَّهُ يَقْتَضِي كَوْنَ القُرْآنِ مَحَلًّا لِلتَّحْرِيفِ والتَّصْحِيفِ، وذَلِكَ يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ حُجَّةً، قالَ صاحِبُ الكَشّافِ: ما هَذا القَوْلُ - واللَّهِ - إلّا فِرْيَةٌ بِلا مِرْيَةٍ.
والقَوْلُ الثّانِي: قالَ الزَّجّاجُ: المَعْنى أوْ يَئِسَ الَّذِينَ آمَنُوا مِن إيمانِ هَؤُلاءِ؛ لِأنَّ اللَّهَ لَوْ شاءَ لَهَدى النّاسَ جَمِيعًا، وتَقْرِيرُهُ أنَّ العِلْمَ بِأنَّ الشَّيْءَ لا يَكُونُ يُوجِبُ اليَأْسَ مِن كَوْنِهِ، والمُلازَمَةُ تُوجِبُ حُسْنَ المَجازِ، فَلِهَذا السَّبَبِ حَسُنَ إطْلاقُ لَفْظِ اليَأْسِ لِإرادَةِ العِلْمِ.
المسألة الثّانِيَةُ: احْتَجَّ أصْحابُنا بِقَوْلِهِ: ﴿أنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدى النّاسَ جَمِيعًا﴾ وكَلِمَةُ ”لَوْ“ تُفِيدُ انْتِفاءَ الشَّيْءِ لِانْتِفاءِ غَيْرِهِ، والمَعْنى: أنَّهُ تَعالى ما شاءَ هِدايَةَ جَمِيعِ النّاسِ، والمُعْتَزِلَةُ تارَةً يَحْمِلُونَ هَذِهِ المَشِيئَةَ عَلى مَشِيئَةِ الإلْجاءِ، وتارَةً يَحْمِلُونَ الهِدايَةَ عَلى الهِدايَةِ إلى طَرِيقِ الجَنَّةِ، وفِيهِمْ مَن يُجْرِي الكَلامَ عَلى الظّاهِرِ، ويَقُولُ: إنَّهُ تَعالى ما شاءَ هِدايَةَ جَمِيعِ النّاسِ؛ لِأنَّهُ ما شاءَ هِدايَةَ الأطْفالِ والمَجانِينِ، فَلا يَكُونُ شائِيًا لِهِدايَةِ جَمِيعِ النّاسِ. والكَلامُ في هَذِهِ المسألة قَدْ سَبَقَ مِرارًا.
أما قوله تَعالى: ﴿ولا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهم بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِن دارِهِمْ﴾ فَفِيهِ مَسْألَتانِ:
المسألة الأُولى: قَوْلُهُ: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فِيهِ قَوْلانِ:
القَوْلُ الأوَّلُ: قِيلَ: أرادَ بِهِ جَمِيعَ الكُفّارِ؛ لِأنَّ الوَقائِعَ الشَّدِيدَةَ الَّتِي وقَعَتْ لِبَعْضِ الكُفّارِ مِنَ القَتْلِ والسَّبْيِ أوْجَبَ حُصُولَ الغَمِّ في قَلْبِ الكُلِّ، وقِيلَ: أرادَ بَعْضَ الكُفّارِ وهم جَماعَةٌ مُعَيَّنُونَ، والألِفُ واللّامُ في لَفْظِ الكُفّارِ لِلْمَعْهُودِ السّابِقِ، وهو ذَلِكَ الجَمْعُ المُعَيَّنُ.
المسألة الثّانِيَةُ: في الآيَةِ وجْهانِ:
الأوَّلُ: ولا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهم بِما صَنَعُوا مِن كُفْرِهم وسُوءِ أعْمالِهِمْ قارِعَةٌ داهِيَةٌ تَقْرَعُهم بِما يُحِلُّ اللَّهُ بِهِمْ في كُلِّ وقْتٍ مِن صُنُوفِ البَلايا والمَصائِبِ في نُفُوسِهِمْ وأوْلادِهِمْ وأمْوالِهِمْ، أوْ تَحُلُّ القارِعَةُ قَرِيبًا مِنهم، فَيَفْزَعُونَ ويَضْطَرِبُونَ ويَتَطايَرُ إلَيْهِمْ شَرارُها ويَتَعَدّى إلَيْهِمْ شُرُورُها حَتّى يَأْتِيَ وعْدُ اللَّهِ وهو مَوْتُهم أوِ القِيامَةُ.
(p-٤٤)والقَوْلُ الثّانِي: ولا يَزالُ كُفّارُ مَكَّةَ تُصِيبُهم بِما صَنَعُوا بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنَ العَداوَةِ والتَّكْذِيبِ قارِعَةٌ؛ لِأنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كانَ لا يَزالُ يَبْعَثُ السَّرايا فَتُغِيرُ حَوْلَ مَكَّةَ وتَخْتَطِفُ مِنهم وتُصِيبُ مَواشِيَهم، أوْ تَحِلُّ أنْتَ يا مُحَمَّدُ قَرِيبًا مِن دَراهِمْ بِجَيْشِكَ كَما حَلَّ بِالحُدَيْبِيَةِ حَتّى يَأْتِيَ وعْدُ اللَّهِ وهو فَتْحُ مَكَّةَ، وكانَ اللَّهُ قَدْ وعَدَهُ ذَلِكَ.
ثم قال ﴿إنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ المِيعادَ﴾ ] والغَرَضُ مِنهُ تَقْوِيَةُ قَلْبِ الرَّسُولِ ﷺ وإزالَةُ الحُزْنِ عَنْهُ، قالَ القاضِي: وهَذا يَدُلُّ عَلى بُطْلانِ قَوْلِ مَن يُجَوِّزُ الخُلْفَ عَلى اللَّهِ تَعالى في مِيعادِهِ، وهَذِهِ الآيَةُ وإنْ كانَتْ وارِدَةً في حَقِّ الكُفّارِ إلّا أنَّ العِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، إذْ بِعُمُومِهِ يَتَناوَلُ كُلَّ وعِيدٍ ورَدَ في حَقِّ الفُسّاقِ.
وجَوابُنا: أنَّ الخُلْفَ غَيْرٌ، وتَخْصِيصَ العُمُومِ غَيْرٌ، ونَحْنُ لا نَقُولُ بِالخُلْفِ، ولَكِنّا نُخَصِّصُ عُمُوماتِ الوَعِيدِ بِالآياتِ الدّالَّةِ عَلى العَفْوِ.
{"ayah":"وَلَوۡ أَنَّ قُرۡءَانࣰا سُیِّرَتۡ بِهِ ٱلۡجِبَالُ أَوۡ قُطِّعَتۡ بِهِ ٱلۡأَرۡضُ أَوۡ كُلِّمَ بِهِ ٱلۡمَوۡتَىٰۗ بَل لِّلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ جَمِیعًاۗ أَفَلَمۡ یَا۟یۡـَٔسِ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَن لَّوۡ یَشَاۤءُ ٱللَّهُ لَهَدَى ٱلنَّاسَ جَمِیعࣰاۗ وَلَا یَزَالُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ تُصِیبُهُم بِمَا صَنَعُوا۟ قَارِعَةٌ أَوۡ تَحُلُّ قَرِیبࣰا مِّن دَارِهِمۡ حَتَّىٰ یَأۡتِیَ وَعۡدُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُخۡلِفُ ٱلۡمِیعَادَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق