الباحث القرآني

ولَمّا فَرَغَ مِنَ الجَوابِ عَنِ الكُفْرِ بِالمُوحى، عُطِفَ عَلى ”هُوَ رَبِّي“ الجَوابُ عَنِ الكُفْرِ بِالوَحْيِ فَقالَ: ﴿ولَوْ﴾ إشارَةٌ إلى أنَّهُ يَعْتَقِدُ في القُرْآنِ ما هو أهْلُهُ بَعْدَ ما أخْبَرَ عَنِ اعْتِقادِهِ في الرَّحْمَنِ، أيْ وقُلْ: لَوْ ﴿أنَّ قُرْآنًا﴾ كانَتْ بِهِ الآياتُ المَحْسُوساتُ بِأنَّ ﴿سُيِّرَتْ﴾ أيْ بِأدْنى إشارَةٍ مِن مُشِيرٍ ما ﴿بِهِ الجِبالُ﴾ أيْ فَأذْهَبَتْ عَلى ثِقَلِها وصَلابَتِها عَنْ وجْهِ الأرْضِ ﴿أوْ قُطِّعَتْ﴾ أيْ كَذَلِكَ ﴿بِهِ الأرْضُ﴾ أيْ عَلى كَثافَتِها فَشَقَّقَتْ فَتَفَجَّرَتْ مِنها الأنْهارُ ﴿أوْ كُلِّمَ بِهِ المَوْتى﴾ فَسَمِعَتْ وأجابَتْ لَكانَ هَذا القُرْآنُ، لِأنَّهُ آيَةٌ لا مِثْلَ لَها، فَكَيْفَ يَطْلُبُونَ آيَةَ غَيْرِهِ! أوْ يُقالُ: إنَّ التَّقْدِيرَ: لَوْ كانَ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ بِقُرْآنٍ غَيْرِهِ لَكانَ بِهِ - إقْرارًا لِأعْيُنِكم - إجابَةً إلى ما تُرِيدُونَ، لَكِنَّهُ لَمْ تَجْرِ عادَةٌ لِقُرْآنٍ قَبْلَهُ بِأنْ يَكُونَ بِهِ ذَلِكَ، فَلَمْ يَكُنْ بِهَذا القُرْآنِ، (p-٣٤١)لِأنَّ اللَّهَ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ لِحِكْمَةٍ عَلِمَها، ولَيْسَ لِأحَدٍ غَيْرَ اللَّهِ أمَرَ في خَرْقِ شَيْءٍ مِنَ العاداتِ، لا لِوَلِيٍّ ولا لِنَبِيٍّ ولا غَيْرِهِما حَتّى يَفْعَلَ لِأجْلِكم [ بِشَفاعَةٍ - ] أوْ بِغَيْرِها شَيْئًا لَمْ يُرِدْهُ اللَّهُ في الأزَلِ ﴿بَلْ﴾ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: لَوْ وُجِدَ شَيْءٌ مِن هَذا بِقُرْآنٍ يَوْمًا ما لَكانَ بِهَذا القُرْآنِ، فَكانَ حِينَئِذٍ يَصِيرُ كُلَّ مِن حَفِظَ مِنهُ شَيْئًا فَعَلَ ما شاءَ مِن ذَلِكَ، فَسَيَّرَ لَهُ ما شاءَ مِنَ الجِبالِ إلى ما أرادَ مِنَ الأراضِي لِما رامَ مِنَ الأغْراضِ، وقَطَعَ بِهِ ما طَلَبَ مِنَ الأرْضِ أنْهارًا وجِنانًا وغَيْرِها، وكَلَّمَ بِهِ مَنِ اشْتَهى مِنَ المَوْتى، ثُمَّ إذا فَتَحَ هَذا البابَ فَلا فَرْقَ بَيْنَ القُدْرَةِ عَلى هَذا والقُدْرَةِ عَلى غَيْرِهِ، فَيَصِيرُ مَن حَفِظَ مِنهُ شَيْئًا قادِرًا عَلى شَيْءٍ، فَبَطَلَتْ حِينَئِذٍ حِكْمَةُ اخْتِصاصِ اللَّهِ سُبْحانَهُ بِذَلِكَ مَن أرادَ مَن خَلَّصَ عِبادَهُ، وأدّى ذَلِكَ إلى أنْ يَدَّعِيَ مَن أرادَ مِنَ الفَجَرَةِ أنَّ أمْرَ ذَلِكَ بِيَدِهِ، يَفْعَلُ فِيهِ ما يَشاءُ مَتى شاءَ، فَيَصِيرُ ادِّعاءَهُ مَقْرُونًا بِالفِعْلِ شُبْهَةً في الشِّرْكِ، ولِيَعْلَمَ قَطْعًا أنَّهُ لَيْسَ في يَدِ أحَدٍ أمْرٌ، بَلْ ﴿اللَّهُ﴾ أيِ الَّذِي لَهُ صِفاتُ الكَمالِ وحْدَهُ ﴿الأمْرُ﴾ وهو ما يَصِحُّ أنْ يُؤْمَرَ فِيهِ ويَنْهى ﴿جَمِيعًا﴾ في ذَلِكَ وغَيْرِهِ، لا لِي ولا لِأحَدٍ مِنَ الأنْبِياءِ الَّذِينَ قُلْتُمْ (p-٣٤٢)إنِّي لَسْتُ أدْنى مَنزِلَةً مِنهُمْ، وأمّا الخَوارِقُ الَّتِي كانَتْ لَهم فَلَوْلا أنْ شاءَها لَما كانَتْ، فالأمْرُ إلَيْهِ وحْدَهُ، مَهْما شاءَ [ كانَ- ]، وما لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وكَأنَّ هَذا جَوابٌ لِما حُكِيَ في السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ أنَّ الكَفّارَ تَفَتَّنُوا بِهِ؛ قالَ ابْنُ إسْحاقَ: ثُمَّ إنِ الإسْلامَ جَعَلَ يَفْشُو بِمَكَّةَ في قَبائِلِ قُرَيْشٍ في الرِّجالِ والنِّساءِ، فاجْتَمَعَ أشْرافُهم فَأرْسَلُوا إلَيْهِ ﷺ فَكَلَّمُوهُ في الكَفِّ عَنْهم وعَرَضُوا عَلَيْهِ أنْ يُمَلِّكُوهُ عَلَيْهِمْ وغَيْرَ ذَلِكَ فَأبى وقالَ: «إنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إلَيْكم رَسُولًا، وأنْزَلَ عَلِيَّ كِتابًا، وأمَرَنِي أنْ أكُونَ لَكم بَشِيرًا ونَذِيرًا»، فَقالُوا: [ فَإنَّكَ - ] قَدْ عَلِمْتَ أنَّهُ لَيْسَ أحَدٌ مِنَ النّاسِ أضْيَقُ بَلَدًا ولا أقَلَّ ماءً ولا أشَدَّ عَيْشًا مِنّا، فَسَلْ لَنا رَبَّكَ الَّذِي بَعَثَكَ بِما بَعَثَكَ بِهِ فَلْيُسَيِّرْ عَنّا هَذِهِ الجِبالُ الَّتِي قَدْ ضُيِّقَتْ عَلَيْنا، ولِيُبْسِطْ لَنا بِلادَنا، ولِيُخْرِقْ فِيها أنْهارًا كَأنْهارِ الشّامِ والعِراقِ - زادَ البَغَوِيُّ: فَلَسْتُ كَما زَعَمْتَ بِأهْوَنِ عَلى رَبِّكَ مِن داوُدَ حَيْثُ سَخَّرَ لَهُ الجِبالَ تُسَبِّحُ مَعَهُ، أوْ سَخَّرَ لَنا الرِّيحَ فَنَرْكَبَها إلى الشّامِ لِمِيرَتِنا، ونَرْجِعُ في (p-٣٤٣)يَوْمِنا فَقَدْ سُخِّرَتِ الرِّيحُ لِسُلَيْمانَ كَما زَعَمْتَ - رَجَعَ إلى ابْنِ إسْحاقَ: ولِيَبْعَثْ لَنا مَن مَضى مِن آبائِنا، ولْيَكُنْ فِيمَن يَبْعَثُ لَنا مِنهم قَصِيُّ بْنُ كِلابٍ، فَإنَّهُ [كانَ - ] شَيْخُ صَدَقَ، فَنَسْألُهم عَمّا تَقُولُ أحَقٌّ هو أمْ باطِلٌ! فَإنْ صَدَقُوكَ وصَنَعْتَ ما سَألْناكَ صَدَّقْناكَ وعَرَفْنا بِهِ مَنزِلَتَكَ مِنَ اللَّهِ، وأنَّهُ بَعَثَكَ إلَيْنا رَسُولًا كَما تَقَدَّمَ - زادَ البَغَوِيُّ: فَإنَّ عِيسى كانَ يُحْيِي المَوْتى، ولَسْتُ بِأهْوَنِ عَلى رَبِّكَ مِنهُ”فَكانَ سُؤالُهم هَذا مُتَضَمِّنًا لِادِّعائِهِمْ أنَّ دَعْواهُ إنْزالُ القُرْآنِ لا تَصِحُّ إلّا أنْ فَعَلَ هَذِهِ الأشْياءَ. ولَمّا كانَ هَذا كُلُّهُ إقْناطًا مِن حُصُولِ الإيمانِ لِأحَدٍ بِما يَقْتَرِحُ، تَسَبَّبَ عَنْهُ الإنْكارُ عَلى مَن لَمْ يُفِدْ فِيهِ ذَلِكَ فَقالَ تَعالى: ﴿أفَلَمْ﴾ بِفاءِ السَّبَبِ ﴿يَيْأسِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ مِن إيمانِ مُقْتَرِحِي الآياتِ بِما يَقْتَرِحُونَ لِعِلْمِهِمْ ﴿أنَّ﴾ أيْ بِأنَّهُ ﴿لَوْ يَشاءُ اللَّهُ﴾ أيِ الَّذِي لَهُ صِفاتُ الكَمالِ - هِدايَةُ كُلِّ أحَدٍ مَشِيئَةً مُقْتَرِنَةً بِوُجُودِهِ ﴿لَهَدى النّاسَ﴾ وبَيَّنَ أنَّ اللّامَ لِلِاسْتِغْراقِ بِقَوْلِهِ: ﴿جَمِيعًا﴾ أيْ بِأيْسَرَ مَشِيئَةٍ، والعِلْمُ بِالشَّيْءِ يُوجِبُ اليَأْسَ مِن خِلافِهِ، (p-٣٤٤)لَكِنَّهُ لَمْ يَهْدِهِمْ جَمِيعًا فَلَمْ يَشَأْ ذَلِكَ، ولا يَكُونُ إلّا ما شاءَهُ، فَلا يَزالُ فَرِيقٌ مِنهم كافِرًا، فَقَدْ وضَّحَ أنَّ ﴿يَيْأسِ﴾ عَلى بابِها، وكَذا في البَيْتِ الَّذِي اسْتَشْهَدُوا بِهِ عَلى أنَّها بِمَعْنى“عَلِمَ" يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ مَعْناهُ: ألَمْ تَيْأسُوا عَنْ أذايَ أوْ عَنْ قَتْلِي عِلْمًا مِنكم بِأنِّي ابْنُ فارِسِ زَهْدَمَ، فَلا يَضِيعُ لِي ثَأْرٌ، وكَذا قِراءَةُ عَلَيٍّ ومَن مَعَهُ مِنَ الصَّحابَةِ رِضْوانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ - أفَلَمْ - يَتَبَيَّنِ الَّذِينَ آمَنُوا - أيْ أنَّ أهْلَ الضَّلالِ لا يُؤْمِنُونَ لِآيَةٍ مِنَ الآياتِ عِلْمًا مِنهم بِأنَّ الأمْرَ لِلَّهِ جَمِيعًا، وأنَّ إيمانَهم لَيْسَ مَوْقُوفًا عَلى غَيْرِ مَشِيئَتِهِ. ولَمّا عَلِمَ مِن ذَلِكَ أنَّ بَعْضَهم لا يُؤْمِنُ، ضاقَتْ صُدُورُ المُؤْمِنِينَ (p-٣٤٥)لِذَلِكَ لَمّا يُعايِنُونَهُ مِن أذى الكُفّارِ فَأتْبَعَهُ ما يُسَلِّيهِمْ عاطِفًا عَلى ما قَدَّرَتْهُ مِن نَتِيجَةِ عَدَمِ المَشِيئَةِ، فَقالَ:﴿ولا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أيْ سَتَرُوا ضِياءَ عُقُولِهِمْ ﴿تُصِيبُهم بِما صَنَعُوا﴾ أيْ مِمّا مُرِّنُوا عَلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ حَتّى صارَ لَهم طَبْعًا ﴿قارِعَةٌ﴾ أيْ داهِيَةٍ تُزْعِجُهم بِالنِّقْمَةِ مِن بَأْسِهِ عَلى يَدِ مَن يَشاءُ، وهو مِنَ الضَّرْبِ بِالمِقْرَعَةِ ﴿أوْ تَحُلُّ﴾ أيْ تَنْزِلُ نُزُولًا ثانِيًا تِلْكَ القارِعَةُ ﴿قَرِيبًا مِن دارِهِمْ﴾ أيْ فَتُوهِنُ أمْرَهم ﴿حَتّى يَأْتِيَ وعْدُ اللَّهِ﴾ أيِ المَلِكِ الأعْظَمِ بِفَتْحِ مَكَّةَ أوْ بِالنَّصْرِ عَلى جَمِيعِ الكَفَرَةِ في زَمَنِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ فَيَنْقَطِعُ ذَلِكَ، لِأنَّهُ لا يُبْقِي عَلى الأرْضِ كافِرًا، وفي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأزْمانِ كَزَمَنِ فَتْحِ مَكَّةَ المُشَرَّفَةِ، فَيَكُونُ المَعْنى خاصًّا بِالبَعْضِ ﴿إنَّ اللَّهَ﴾ أيِ الَّذِي لَهُ مَجامِعُ الكَمالِ ﴿لا يُخْلِفُ المِيعادَ﴾ أيِ الوَعْدِ ولا زَمانُهُ ولا مَكانُهُ؛ والوَعْدُ: عَقْدُ الخَبَرِ بِتَضَمُّنِ النَّفْعِ، والوَعِيدُ: عَقْدُهُ بِالزَّجْرِ والضُّرِّ، والإخْلافُ: نَقْضُ ما تَضَمَّنَ الخَبَرُ مِن خَيْرٍ أوْ شَرٍّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب