﴿ولَوْ أنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الجِبالُ أوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرْضُ أوْ كُلِّمَ بِهِ المَوْتى بَلْ لِلَّهِ الأمْرُ جَمِيعًا أفَلَمْ يَيْأسِ الَّذِينَ آمَنُوا أنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدى النّاسَ جَمِيعًا ولا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهم بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِن دارِهِمْ حَتّى يَأْتِيَ وعْدُ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ المِيعادَ﴾ ﴿ولَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِن قَبْلِكَ فَأمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أخَذْتُهم فَكَيْفَ كانَ عِقابِ﴾
قالَ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ وغَيْرُهُما: إنَّ الكُفّارَ قالُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ: سَيِّرْ جَبَلَيْ مَكَّةَ فَقَدْ ضَيَّقا عَلَيْنا، واجْعَلْ لَنا أرْضًا قِطَعًا غِراسًا، وأحْيِ لَنا آباءَنا وأجْدادَنا، وفُلانًا وفُلانًا، فَنَزَلَتْ مُعْلِمَةً أنَّهم لا يُؤْمِنُونَ ولَوْ كانَ ذَلِكَ كُلُّهُ. ولَمّا ذَكَرَ تَعالى عِلَّةَ إرْسالِهِ، وهي تِلاوَةُ ما أوْحاهُ إلَيْهِ، ذَكَرَ تَعْظِيمَ هَذا المُوحى وأنَّهُ لَوْ كانَ قُرْآنًا تَسِيرُ بِهِ الجِبالُ عَنْ مَقارِّها، أوْ تُقَطَّعُ بِهِ الأرْضُ حَتّى تَتَزايَلَ قِطَعًا قِطَعًا، أوْ تُكَلَّمُ بِهِ المَوْتى فَتَسْمَعُ وتُجِيبُ، لَكانَ هَذا القُرْآنُ لِكَوْنِهِ غايَةً في التَّذْكِيرِ ونِهايَةً في الإنْذارِ والتَّخْوِيفِ. كَما قالَ: ﴿لَوْ أنْزَلْنا هَذا القُرْآنَ عَلى جَبَلٍ﴾ [الحشر: ٢١] الآيَةَ، فَجَوابُ ”لَوْ“ مَحْذُوفٌ وهو ما قَدَّرْناهُ، وحَذْفُ جَوابِ ”لَوْ“ لِدَلالَةِ المَعْنى عَلَيْهِ جائِزٌ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَوْ يَرى الَّذِينَ ظَلَمُوا إذْ يَرَوْنَ العَذابَ﴾ [البقرة: ١٦٥]، ﴿ولَوْ تَرى إذْ وُقِفُوا عَلى النّارِ﴾ [الأنعام: ٢٧] وقالَ الشّاعِرُ:
؎وجَدِّكَ لَوْ شَيْءٌ أتانا رَسُولُهُ سِواكَ ولَكِنْ لَمْ نَجِدْ عَنْكَ مَدْفَعا
وقِيلَ: تَقْدِيرُهُ لَمّا آمَنُوا بِهِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَوْ أنَّنا نَزَّلْنا إلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وكَلَّمَهُمُ المَوْتى وحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا﴾ [الأنعام: ١١١] قالَ الزَّجّاجُ وقالَ الفَرّاءُ: هو مُتَعَلِّقٌ بِما قَبْلَهُ، والمَعْنى: وهم يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ، ﴿ولَوْ أنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الجِبالُ﴾ وما بَيْنَهُما اعْتِراضٌ، وعَلى قَوْلِ الفَرّاءِ: يَتَرَتَّبُ جَوابُ ”لَوْ“ أنْ يَكُونَ ”لَمّا آمَنُوا“؛ لِأنَّ قَوْلَهم ”وهم يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ“ لَيْسَ جَوابًا، وإنَّما هو دَلِيلٌ عَلى الجَوابِ. وقِيلَ: مَعْنى ﴿قُطِّعَتْ بِهِ الأرْضُ﴾ شُقِّقَتْ فَجُعِلَتْ أنْهارًا وعُيُونًا. ويَتَرَتَّبُ عَلى أنْ يَكُونَ الجَوابُ المَحْذُوفُ لَمّا آمَنُوا قَوْلَهُ: ﴿بَلْ لِلَّهِ الأمْرُ جَمِيعًا﴾ أيْ: الإيمانُ والكُفْرُ، إنَّما يَخْلُقُهُما اللَّهُ تَعالى ويُرِيدُهُما. وأمّا عَلى تَقْدِيرِ لَكانَ هَذا القُرْآنَ فَيَحْتاجُ إلى ضَمِيمَةٍ وهو أنْ يُقَدَّرَ: لَكانَ هَذا القُرْآنُ الَّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ المَطْلُوبَ فِيهِ إيمانُهم وما تَضَمَّنَهُ مِنَ التَّكالِيفِ، ثُمَّ قالَ: ﴿بَلْ لِلَّهِ الأمْرُ جَمِيعًا﴾ أيْ: الإيمانُ والكُفْرُ بِيَدِ اللَّهِ يَخْلُقُهُما فِيمَن يَشاءُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿بَلْ لِلَّهِ الأمْرُ جَمِيعًا﴾ عَلى مَعْنَيَيْنِ: أحَدُهُما: بَلْ لِلَّهِ القُدْرَةُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ، وهو قادِرٌ عَلى (p-٣٩٢)الآياتِ الَّتِي اقْتَرَحُوها، إلّا أنَّ عِلْمَهُ بِأنَّ إظْهارَها مَفْسَدَةٌ. والثّانِي: بَلْ لِلَّهِ أنْ يُلْجِئَهم إلى الإيمانِ وهو قادِرٌ عَلى الإلْجاءِ. لَوْلا أنَّهُ بَنى أمْرَ التَّكْلِيفِ عَلى الِاخْتِيارِ، ويُعَضِّدُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ﴾ مَشِيئَةَ الإلْجاءِ والقَسْرِ لَهَدى النّاسَ جَمِيعًا، انْتَهى. وهو عَلى طَرِيقَةِ الِاعْتِزالِ. واليَأْسُ: القُنُوطُ في الشَّيْءِ، وهو هُنا في قَوْلِ الأكْثَرِينَ بِمَعْنى العِلْمِ، كَأنَّهُ قِيلَ: ألَمْ يَعْلَمِ الَّذِينَ آمَنُوا. قالَ القاسِمُ بْنُ مَعْنٍ: هي لُغَةُ هَوازِنَ، وقالَ ابْنُ الكَلْبِيِّ: هي لُغَةُ حَيٍّ مِنَ النَّخَعِ وأنْشَدُوا عَلى ذَلِكَ لِسُحَيْمِ بْنِ وثِيلٍ الرِّياحِيِّ وقالَ ابْنُ الكَلْبِيِّ:
؎أقُولُ لَهم بِالشِّعْبِ إذْ يَيْسِرُونَنِي ∗∗∗ ألَمْ تَيْأسُوا أنِّي ابْنُ فارِسِ زَهْدَمِ
(وقالَ رَباحُ بْنُ عَدِيٍّ)
:
؎ألَمْ يَيْأسِ الأقْوامُ أنِّي أنا ابْنُهُ ∗∗∗ وإنْ كُنْتُ عَنْ أرْضِ العَشِيرَةِ نائِيا
(وقالَ آخَرُ)
؎حَتّى إذا يَئِسَ الرُّماةُ وأرْسَلُوا ∗∗∗ غُضْفًا دَواجِنَ قافِلًا أعْصامُها
أيْ: إذا عَلِمُوا أنْ لَيْسَ وجْهٌ إلّا الَّذِي رَأوْا. وأنْكَرَ الفَرّاءُ أنْ يَكُونَ يَئِسَ بِمَعْنى عَلِمَ، وزَعَمَ أنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ أحَدًا مِنَ العَرَبِ يَقُولُ: يَئِسْتُ بِمَعْنى عَلِمْتُ، انْتَهى. وقَدْ حَفِظَ ذَلِكَ غَيْرُهُ، وهَذا القاسِمُ بْنُ مَعْنٍ مِن ثِقاةِ الكُوفِيِّينَ وأجِلّائِهِمْ نَقَلَ أنَّها لُغَةُ هَوازِنَ، وابْنُ الكَلْبِيِّ نَقَلَ أنَّها لُغَةٌ لِحَيٍّ مِنَ النَّخَعِ، ومَن حَفِظَ حُجَّةٌ عَلى مَن لَمْ يَحْفَظْ. وقِيلَ: إنَّما اسْتُعْمِلَ اليَأْسُ بِمَعْنى العِلْمِ لِتَضَمُّنِهِ مَعْناهُ؛ لِأنَّ اليائِسَ مِنَ الشَّيْءِ عالِمٌ بِأنَّهُ لا يَكُونُ، كَما اسْتُعْمِلَ الرَّجاءُ في مَعْنى الخَوْفِ، والنِّسْيانُ في مَعْنى التَّرْكِ. وحَمَلَ جَماعَةٌ هُنا اليَأْسَ عَلى المَعْرُوفِ فِيهِ في اللُّغَةِ وهو: القُنُوطُ مِنَ الشَّيْءِ، وتَأوَّلُوا ذَلِكَ. فَقالَ الكِسائِيُّ: المَعْنى أفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا مِن إيمانِ الكُفّارِ مِن قُرَيْشٍ المُعانِدِينَ لِلَّهِ ورَسُولِهِ ؟ وذَلِكَ أنَّهُ لَمّا سَألُوا هَذِهِ الآياتِ اشْتاقَ المُؤْمِنُونَ إلَيْها وأحَبُّوا نُزُولَها لِيُؤْمِنَ هَؤُلاءِ الَّذِينَ عَلِمَ اللَّهُ تَعالى مِنهم أنَّهم لا يُؤْمِنُونَ، فَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا مِن إيمانِهِمْ. وقالَ الفَرّاءُ: وقَعَ لِلْمُؤْمِنِينَ أنْ لَوْ يَشاءُ هَدى النّاسَ جَمِيعًا فَقالَ: أفَلَمْ يَيْأسُوا ؟ عَلِمْنا بِقَوْلِ آبائِهِمْ، فالعِلْمُ مُضْمَرٌ كَما تَقُولُ في الكَلامِ: يَئِسْتُ مِنكَ أنْ لا تُفْلِحَ كَأنَّهُ قالَ: عَلِمْتُهُ عِلْمًا قالَ: فَيَئِسْتُ بِمَعْنى عَلِمْتُ وإنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ سُمِعَ، فَإنَّهُ يَتَوَجَّهُ إلى ذَلِكَ بِالتَّأْوِيلِ. وقالَ أبُو العَبّاسِ: أفَلَمْ يَيْأسُوا بِعِلْمِهِمْ أنْ لا هِدايَةَ إلّا بِالمَشِيئَةِ ؟ وإيضاحُ هَذا المَعْنى أنْ يَكُونَ ﴿أنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ﴾ مُتَعَلِّقًا بِـ (آمَنُوا) أيْ: أفَلَمْ يَقْنَطْ عَنْ إيمانِ هَؤُلاءِ الكَفَرَةِ الَّذِينَ آمَنُوا بِأنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدى النّاسَ جَمِيعًا، ولَهَداهم إلى الإيمانِ أوِ الجَنَّةِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ اليَأْسُ في هَذِهِ الآيَةِ عَلى بابِهِ، وذَلِكَ أنَّهُ لَمّا أبْعَدَ إيمانَهم في قَوْلِهِ: ﴿ولَوْ أنَّ قُرْآنًا﴾ الآيَةَ، عَلى التَّأْوِيلِ في المَحْذُوفِ المُقَدَّرِ. قالَ في هَذِهِ: أفَلَمْ يَيْأسِ المُؤْمِنُونَ، انْتَهى. وهَذا قَوْلُ الفَرّاءِ الَّذِي ذَكَرْناهُ.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يَتَعَلَّقَ ﴿أنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ﴾ بِـ (آمَنُوا) عَلى أوَلَمْ يَقْنَطْ عَنْ إيمانِ هَؤُلاءِ الكَفَرَةِ الَّذِينَ آمَنُوا بِأنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدى النّاسَ جَمِيعًا، انْتَهى. وهَذا قَوْلُ أبِي العَبّاسِ، ويُحْتَمَلُ عِنْدِي وجْهٌ آخَرُ غَيْرُ ما ذَكَرُوهُ، وهو أنَّ الكَلامَ تامٌّ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿أفَلَمْ يَيْأسِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إذْ هو تَقْرِيرٌ؛ أيْ: قَدْ يَئِسَ المُؤْمِنُونَ مِن إيمانِ هَؤُلاءِ المُعانِدِينَ، و﴿أنْ لَوْ يَشاءُ﴾ جَوابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ؛ أيْ: وأقْسَمُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ لَهَدى النّاسَ جَمِيعًا، ويَدُلُّ عَلى إضْمارِ هَذا القَسَمِ وُجُودُ (أنْ) مَعَ (لَوْ) كَقَوْلِ الشّاعِرِ:
؎أما واللَّهِ أنْ لَوْ كُنْتَ حُرًّا ∗∗∗ وما بِالحُرِّ أنْتَ ولا القَمِينُ
(وقَوْلِ الآخَرِ)(p-٣٩٣)
؎فَأُقْسِمُ أنْ لَوِ التَقَيْنا وأنْتُمُ ∗∗∗ لَكانَ لَنا يَوْمٌ مِنَ الشَّرِّ مُظْلِمُ
وقَدْ ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ أنَّ ”أنْ“ تَأْتِي بَعْدَ القَسَمِ، وجَعَلَها ابْنُ عُصْفُورٍ رابِطَةً لِلْقَسَمِ بِالجُمْلَةِ المُقْسَمِ عَلَيْها، وأمّا عَلى تَأْوِيلِ الجُمْهُورِ فَـ (أنْ) عِنْدَهم هي المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ؛ أيْ: أنَّهُ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ. وقَرَأ عَلِيٌّ وابْنُ عَبّاسٍ، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وجَماعَةٌ مِنَ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ، وقالَ غَيْرُهُ وعِكْرِمَةُ وابْنُ أبِي مُلَيْكَةَ والجَحْدَرِيُّ وعَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ وابْنُهُ زَيْدٌ وأبُو زَيْدٍ المُزَنِيُّ وعَلِيُّ بْنُ بَذِيمَةَ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ: أفَلَمْ يَتَبَيَّنْ مِن بَيَّنْتُ كَذا إذا عَرَفْتَهُ. وتَدُلُّ هَذِهِ القِراءَةُ عَلى أنَّ مَعْنى ﴿أفَلَمْ يَيْأسِ﴾ هُنا مَعْنى العِلْمِ، كَما تَظافَرَتِ النُّقُولُ أنَّها لُغَةٌ لِبَعْضِ العَرَبِ. وهَذِهِ القِراءَةُ لَيْسَتْ قِراءَةَ تَفْسِيرٍ لِقَوْلِهِ: ﴿أفَلَمْ يَيْأسِ﴾ كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ ظاهِرُ كَلامِ الزَّمَخْشَرِيِّ، بَلْ هي قِراءَةٌ مُسْنَدَةٌ إلى الرَّسُولِ ﷺ، ولَيْسَتْ مُخالِفَةً لِلسَّوادِ إذْ كَتَبُوا يَيْئَسُ بِغَيْرِ صُورَةِ الهَمْزَةِ، وهَذا كَقِراءَةِ: (فَتَبَيَّنُوا)، و(فَتَثَبَّتُوا) وكِلْتاهُما في السَّبْعَةِ. وأمّا قَوْلُ مَن قالَ: إنَّما كَتَبَهُ الكاتِبُ وهو ناعِسٌ، فَسَوّى أسْنانَ السِّينِ فَقَوْلُ زِنْدِيقٍ مُلْحِدٍ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وهَذا ونَحْوُهُ مِمّا لا يُصَدَّقُ في كِتابِ اللَّهِ الَّذِي لا يَأْتِيهِ الباطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ولا مِن خَلْفِهِ، وكَيْفَ يَخْفى مِثْلُ هَذا حَتّى يَبْقى ثابِتًا بَيْنَ دَفَّتَيِ الإمامِ، وكانَ مُتَقَلِّبًا في أيْدِي أُولَئِكَ الأعْلامِ المُحْتاطِينَ في دِينِ اللَّهِ المُهْتَمِّينَ عَلَيْهِ، لا يَغْفُلُونَ عَنْ جَلائِلِهِ ودَقائِقِهِ، خُصُوصًا عَنِ القانُونِ الَّذِي إلَيْهِ المَرْجِعُ، والقاعِدَةُ الَّتِي عَلَيْها البِناءُ، وهَذِهِ واللَّهِ فِرْيَةٌ ما فِيها مِرْيَةٌ، انْتَهى. وقالَ الفَرّاءُ: لا يُتْلى إلّا كَما أنْزَلَ: ﴿أفَلَمْ يَيْأسِ﴾ انْتَهى.
والكُفّارُ عامٌّ في جَمِيعِ الكُفّارِ، وهَذا الأمْرُ مُسْتَمِرٌّ فِيهِمْ إلى يَوْمِ القِيامَةِ قالَهُ الحَسَنُ، وابْنُ السّائِبِ، أوْ هو ظاهِرُ اللَّفْظِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كُفّارُ قُرَيْشٍ، والعَرَبُ لا تَزالُ تُصِيبُهم قَوارِعُ مِن سَرايا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وغَزَواتِهِ.
وقالَ مُقاتِلٌ والزَّمَخْشَرِيُّ: كُفّارُ مَكَّةَ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تُصِيبُهم بِما صَنَعُوا مِن كُفْرِهِمْ وسُوءِ أعْمالِهِمْ قارِعَةٌ داهِيَةٌ تَقْرَعَهم بِما يُحِلُّ اللَّهُ بِهِمْ في كُلِّ وقْتٍ مِن صُنُوفِ البَلايا والمَصائِبِ في أنْفُسِهِمْ وأوْلادِهِمْ وأمْوالِهِمْ، أوْ تَحُلُّ القارِعَةُ قَرِيبًا مِنهم فَيَفْزَعُونَ ويَضْطَرِبُونَ ويَتَطايَرُ إلَيْهِمْ شَرَرُها، وتَتَعَدّى إلَيْهِمْ شُرُورُها حَتّى يَأْتِيَ وعْدُ اللَّهِ وهو مَوْتُهم أوِ القِيامَةُ، انْتَهى.
وقالَ الحَسَنُ: حالُ الكَفَرَةِ هَكَذا هو أبَدًا، ووَعَدَ اللَّهُ قِيامَ السّاعَةِ، والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في (تَحُلُّ) عائِدٌ عَلى ﴿قارِعَةٌ﴾ قالَهُ الحَسَنُ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: التّاءُ لِلْخِطابِ، والضَّمِيرُ لِلرَّسُولِ ﷺ أوْ تَحُلُّ أنْتَ يا مُحَمَّدُ قَرِيبًا مِن دارِهِمْ بِجَيْشِكَ كَما حَلَّ بِالحُدَيْبِيَةِ، وعَزاهُ الطَّبَرِيُّ إلى ابْنِ عَبّاسٍ ومُجاهِدٍ وقَتادَةَ وقالَهُ عِكْرِمَةُ. ويَكُونُ ﴿وعْدُ اللَّهِ﴾ فَتْحَ مَكَّةَ، وكانَ اللَّهُ قَدْ وعَدَهُ ذَلِكَ، وقالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ. وقَرَأ مُجاهِدٌ وابْنُ جُبَيْرٍ: (أوْ يَحُلُّ) بِالياءِ عَلى الغَيْبَةِ، واحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ عائِدًا عَلى مَعْنى القارِعَةِ، راعى فِيهِ التَّذْكِيرَ؛ لِأنَّها بِمَعْنى البَلاءِ، أوْ تَكُونَ الهاءُ في (قارِعَةٌ) لِلْمُبالَغَةِ فَذُكِّرَ، واحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ عائِدًا عَلى الرَّسُولِ ﷺ؛ أيْ: ويَحُلُّ الرَّسُولُ قَرِيبًا. وقَرَأ أيْضًا ﴿مِن دِيارِهِمْ﴾ [البقرة: ٨٥] عَلى الجَمْعِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: القارِعَةُ: العَذابُ مِنَ السَّماءِ. وقالَ عِكْرِمَةُ: السَّرايا والطَّلائِعُ.
وفِي قَوْلِهِ: ﴿ولَقَدِ اسْتُهْزِئَ﴾ الآيَةَ، تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وأنَّ حالَكَ حالُ مَن تَقَدَّمَكَ مِنَ الرُّسُلِ، وأنَّ المُسْتَهْزِئِينَ يُمْلى لَهم؛ أيْ: يُمْهَلُونَ ثُمَّ يُؤْخَذُونَ. وتَنْبِيهٌ عَلى أنَّ حالَ مَنِ اسْتَهْزَأ بِكَ، وإنْ أمْهَلَ حالَ أُولَئِكَ في أخْذِهِمْ، ووَعِيدٌ لَهم. وفي قَوْلِهِ: ﴿فَكَيْفَ كانَ عِقابِ﴾ ؟ اسْتِفْهامٌ مَعْناهُ التَّعَجُّبُ بِما حَلَّ، وفي ضِمْنِهِ وعِيدُ مُعاصِرِي الرَّسُولِ ﷺ مِنَ الكُفّارِ.
{"ayahs_start":31,"ayahs":["وَلَوۡ أَنَّ قُرۡءَانࣰا سُیِّرَتۡ بِهِ ٱلۡجِبَالُ أَوۡ قُطِّعَتۡ بِهِ ٱلۡأَرۡضُ أَوۡ كُلِّمَ بِهِ ٱلۡمَوۡتَىٰۗ بَل لِّلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ جَمِیعًاۗ أَفَلَمۡ یَا۟یۡـَٔسِ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَن لَّوۡ یَشَاۤءُ ٱللَّهُ لَهَدَى ٱلنَّاسَ جَمِیعࣰاۗ وَلَا یَزَالُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ تُصِیبُهُم بِمَا صَنَعُوا۟ قَارِعَةٌ أَوۡ تَحُلُّ قَرِیبࣰا مِّن دَارِهِمۡ حَتَّىٰ یَأۡتِیَ وَعۡدُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُخۡلِفُ ٱلۡمِیعَادَ","وَلَقَدِ ٱسۡتُهۡزِئَ بِرُسُلࣲ مِّن قَبۡلِكَ فَأَمۡلَیۡتُ لِلَّذِینَ كَفَرُوا۟ ثُمَّ أَخَذۡتُهُمۡۖ فَكَیۡفَ كَانَ عِقَابِ"],"ayah":"وَلَوۡ أَنَّ قُرۡءَانࣰا سُیِّرَتۡ بِهِ ٱلۡجِبَالُ أَوۡ قُطِّعَتۡ بِهِ ٱلۡأَرۡضُ أَوۡ كُلِّمَ بِهِ ٱلۡمَوۡتَىٰۗ بَل لِّلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ جَمِیعًاۗ أَفَلَمۡ یَا۟یۡـَٔسِ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَن لَّوۡ یَشَاۤءُ ٱللَّهُ لَهَدَى ٱلنَّاسَ جَمِیعࣰاۗ وَلَا یَزَالُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ تُصِیبُهُم بِمَا صَنَعُوا۟ قَارِعَةٌ أَوۡ تَحُلُّ قَرِیبࣰا مِّن دَارِهِمۡ حَتَّىٰ یَأۡتِیَ وَعۡدُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُخۡلِفُ ٱلۡمِیعَادَ"}