قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي﴾ أَيْ عَلَى يَقِينٍ، قَالَهُ أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ. وَقِيلَ: عَلَى مُعْجِزَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي "الْأَنْعَامِ" [[راجع ج ٦ ص ٤٣٨.]] هَذَا الْمَعْنَى.
(وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ) أَيْ نُبُوَّةً وَرِسَالَةً، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهِيَ رَحْمَةٌ عَلَى الْخَلْقِ. وَقِيلَ: الْهِدَايَةُ إِلَى اللَّهِ بِالْبَرَاهِينِ. وَقِيلَ: بِالْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ.
(فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) [[قراءة نافع.]] أَيْ عُمِّيَتْ عَلَيْكُمُ الرِّسَالَةُ وَالْهِدَايَةُ فَلَمْ تَفْهَمُوهَا. يُقَالُ: عَمِيتُ عَنْ كَذَا، وَعَمِيَ عَلَيَّ كَذَا أَيْ لَمْ أَفْهَمْهُ. وَالْمَعْنَى: فَعَمِيَتِ الرَّحْمَةُ، فَقِيلَ: هُوَ مَقْلُوبٌ، لِأَنَّ الرَّحْمَةَ لَا تَعْمَى إِنَّمَا يُعْمَى عَنْهَا، فَهُوَ كَقَوْلِكَ: أَدْخَلْتُ فِي الْقَلَنْسُوَةِ رَأْسِي، وَدَخَلَ الْخُفُّ فِي رِجْلِي. وَقَرَأَهَا الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ "فَعُمِّيَتْ" بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، أَيْ فَعَمَّاهَا اللَّهُ عَلَيْكُمْ، وَكَذَا فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ "فَعَمَّاهَا" ذَكَرَهَا الْمَاوَرْدِيُّ.
(أَنُلْزِمُكُمُوها) قِيلَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقِيلَ: الْهَاءُ تَرْجِعُ إِلَى الرَّحْمَةِ. وَقِيلَ: إِلَى الْبَيِّنَةِ، أَيْ أَنُلْزِمُكُمْ قَبُولَهَا، وَأُوجِبُهَا عَلَيْكُمْ؟! وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، أَيْ لَا يُمْكِنُنِي أَنْ أَضْطَرَّكُمْ إِلَى الْمَعْرِفَةِ بِهَا، وإنما قصد نوح عليه السلام بِهَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ "أَنُلْزِمْكُمُوهَا" بِإِسْكَانِ الْمِيمِ الْأُولَى تَخْفِيفًا، وَقَدْ أَجَازَ مِثْلَ هَذَا سِيبَوَيْهِ، وَأَنْشَدَ [[البيت لامرئ القيس، والشاهد فيه تسكين الباء من قوله (أشرب) في حال الرفع والوصل. احتقب الإثم واستحقبه احتمله. والواغل الداخل على الشراب ولم يدع له. يقول: حلت لي فلا آثم بشربها إذ قد وفيت بنذري فيها. وكان قد نذر ألا يشربها حتى يدرك ثأر أبيه.]]:
فَالْيَوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ ... إِثْمًا مِنَ اللَّهِ وَلَا وَاغِلِ
وَقَالَ النَّحَّاسُ: وَيَجُوزُ عَلَى قَوْلِ يُونُسَ [فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ [[الزيادة عن النحاس.]] [أَنُلْزِمُكُمُهَا يَجْرِي الْمُضْمَرُ مَجْرَى الْمُظْهَرِ، كَمَا تَقُولُ: أَنُلْزِمُكُمْ ذَلِكَ.
(وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) أَيْ لَا يَصِحُّ قَبُولُكُمْ لَهَا مَعَ الْكَرَاهَةِ عَلَيْهَا. قَالَ قَتَادَةُ: وَاللَّهِ لَوِ اسْتَطَاعَ نَبِيُّ اللَّهِ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَأَلْزَمَهَا قَوْمَهُ وَلَكِنَّهُ لم يملك ذلك.
(وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى التَّبْلِيغِ، وَالدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ، وَالْإِيمَانِ بِهِ] أَجْرًا [[من ع وك وى.]] أَيْ [(مَالًا) فَيَثْقُلُ عَلَيْكُمْ.
(إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ) أَيْ ثَوَابِي فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ.
(وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) سَأَلُوهُ أَنْ يَطْرُدَ الْأَرَاذِلَ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ، كَمَا سَأَلَتْ قُرَيْشٌ النَّبِيَّ ﷺ أَنْ يَطْرُدَ الْمَوَالِيَ وَالْفُقَرَاءَ، حَسْبَ مَا تَقَدَّمَ فِي "الْأَنْعَامِ" [[راجع ج ٦ ص ٤٣١ وما بعدها.]] بَيَانُهُ، فَأَجَابَهُمْ بِقَوْلِهِ: (وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَالَ هَذَا عَلَى وَجْهِ الْإِعْظَامِ لَهُمْ بِلِقَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَامِ، أَيْ لَوْ فَعَلْتُ ذَلِكَ لَخَاصَمُونِي عِنْدَ اللَّهِ، فَيُجَازِيهِمْ عَلَى إِيمَانِهِمْ، وَيُجَازِي مَنْ طَرَدَهُمْ.
(وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) فِي اسْتِرْذَالِكُمْ لَهُمْ، وَسُؤَالِكُمْ طَرْدَهُمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ﴾ قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ يَمْنَعُنِي مِنْ عَذَابِهِ.
(إِنْ طَرَدْتُهُمْ) أَيْ لِأَجْلِ إِيمَانِهِمْ.
(أَفَلا تَذَكَّرُونَ [[قراءة نافع.]]) أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الذَّالِ. وَيَجُوزُ حَذْفُهَا فَتَقُولُ: تَذَكَّرُونَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾ أَخْبَرَ بِتَذَلُّلِهِ وَتَوَاضُعِهِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّهُ لَا يَدَّعِي مَا لَيْسَ لَهُ مِنْ خَزَائِنِ اللَّهِ، وهي إنعامه على من يشاء مِنْ عِبَادِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ، لِأَنَّ الْغَيْبَ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
(وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) أَيْ لَا أَقُولُ إِنَّ مَنْزِلَتِي عِنْدَ النَّاسِ مَنْزِلَةُ الْمَلَائِكَةِ. وَقَدْ قَالَتِ الْعُلَمَاءُ: الْفَائِدَةُ فِي الْكَلَامِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، لِدَوَامِهِمْ عَلَى الطَّاعَةِ، وَاتِّصَالِ عِبَادَاتِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي "الْبَقَرَةِ" [[راجع ج ١ ص ١٨٩ وما بعدها.]].
(وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ) أَيْ تَسْتَثْقِلُ وَتَحْتَقِرُ أَعْيُنُكُمْ، وَالْأَصْلُ تَزْدَرِيهِمْ حُذِفَتِ الْهَاءُ وَالْمِيمُ لِطُولِ الِاسْمِ. وَالدَّالُّ مُبْدَلَةٌ مِنْ تَاءٍ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي تَزْدَرِي تَزْتَرِي، وَلَكِنَّ التَّاءَ تُبَدَّلُ بَعْدَ الزَّايِ دَالًا، لِأَنَّ الزَّايَ مَجْهُورَةٌ وَالتَّاءُ مَهْمُوسَةٌ، فَأُبْدِلَ مِنَ التَّاءِ حَرْفٌ مَجْهُورٌ مِنْ مَخْرَجِهَا. وَيُقَالُ: أَزْرَيْتُ عَلَيْهِ إِذَا عِبْتُهُ. وَزَرَيْتُ عَلَيْهِ إِذَا حَقَّرْتُهُ. وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ:
يُبَاعِدُهُ الصَّدِيقُ وَتَزْدَرِيهِ ... حَلِيلَتُهُ وَيَنْهَرُهُ الصَّغِيرُ
(لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً) أَيْ لَيْسَ لِاحْتِقَارِكُمْ لَهُمْ تَبْطُلُ أُجُورُهُمْ، أَوْ يُنْقَصُ ثَوَابُهُمْ.
(اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ) فَيُجَازِيهِمْ عَلَيْهِ وَيُؤَاخِذُهُمْ بِهِ.
(إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أَيْ إِنْ قُلْتُ هَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَ "إِذاً" مُلْغَاةٌ، لأنها متوسطة.
{"ayahs_start":28,"ayahs":["قَالَ یَـٰقَوۡمِ أَرَءَیۡتُمۡ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَیِّنَةࣲ مِّن رَّبِّی وَءَاتَىٰنِی رَحۡمَةࣰ مِّنۡ عِندِهِۦ فَعُمِّیَتۡ عَلَیۡكُمۡ أَنُلۡزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمۡ لَهَا كَـٰرِهُونَ","وَیَـٰقَوۡمِ لَاۤ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَیۡهِ مَالًاۖ إِنۡ أَجۡرِیَ إِلَّا عَلَى ٱللَّهِۚ وَمَاۤ أَنَا۠ بِطَارِدِ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ۚ إِنَّهُم مُّلَـٰقُوا۟ رَبِّهِمۡ وَلَـٰكِنِّیۤ أَرَىٰكُمۡ قَوۡمࣰا تَجۡهَلُونَ","وَیَـٰقَوۡمِ مَن یَنصُرُنِی مِنَ ٱللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمۡۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ","وَلَاۤ أَقُولُ لَكُمۡ عِندِی خَزَاۤىِٕنُ ٱللَّهِ وَلَاۤ أَعۡلَمُ ٱلۡغَیۡبَ وَلَاۤ أَقُولُ إِنِّی مَلَكࣱ وَلَاۤ أَقُولُ لِلَّذِینَ تَزۡدَرِیۤ أَعۡیُنُكُمۡ لَن یُؤۡتِیَهُمُ ٱللَّهُ خَیۡرًاۖ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا فِیۤ أَنفُسِهِمۡ إِنِّیۤ إِذࣰا لَّمِنَ ٱلظَّـٰلِمِینَ"],"ayah":"وَیَـٰقَوۡمِ لَاۤ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَیۡهِ مَالًاۖ إِنۡ أَجۡرِیَ إِلَّا عَلَى ٱللَّهِۚ وَمَاۤ أَنَا۠ بِطَارِدِ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ۚ إِنَّهُم مُّلَـٰقُوا۟ رَبِّهِمۡ وَلَـٰكِنِّیۤ أَرَىٰكُمۡ قَوۡمࣰا تَجۡهَلُونَ"}