الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَيا قَوْمِ لا أسْألُكم عَلَيْهِ مالًا إنْ أجْرِيَ إلّا عَلى اللَّهِ﴾ الآيَةَ. ذَكَرَ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ عَنْ نَبِيِّهِ نُوحٍ عَلَيْهِ وعَلى نَبِيِّنا الصَّلاةُ والسَّلامُ: أنَّهُ أخْبَرَ قَوْمَهُ أنَّهُ لا يَسْألُهم مالًا في مُقابَلَةِ ما جاءَهم بِهِ مِنَ الوَحْيِ والهُدى، بَلْ يَبْذُلُ لَهم ذَلِكَ الخَيْرَ العَظِيمَ مَجّانًا مِن غَيْرِ أخْذِ أُجْرَةٍ في مُقابِلِهِ. وَبَيَّنَ في آياتٍ كَثِيرَةٍ أنَّ ذَلِكَ هو شَأْنُ الرُّسُلِ عَلَيْهِمْ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ، كَقَوْلِهِ في ”سَبَإٍ“ عَنْ نَبِيِّنا ﷺ: ﴿قُلْ ما سَألْتُكم مِن أجْرٍ فَهو لَكم إنْ أجْرِيَ إلّا عَلى اللَّهِ﴾ الآيَةَ [سبإ: ٤٧] . وَقَوْلِهِ فِيهِ أيْضًا في آخِرِ ”سُورَةِ ص“: ﴿قُلْ ما أسْألُكم عَلَيْهِ مِن أجْرٍ وما أنا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ﴾ [ص: ٨٦] . وَقَوْلِهِ في ”الطُّورِ“، و ”القَلَمِ“: ﴿أمْ تَسْألُهم أجْرًا فَهم مِن مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ﴾ [الطور: ٤٠ ] [ ٦٨ \ ٤٦] . وَقَوْلِهِ في ”الفُرْقانِ“: ﴿قُلْ ما أسْألُكم عَلَيْهِ مِن أجْرٍ إلّا مَن شاءَ أنْ يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾ [الفرقان: ٥٧] . وَقَوْلِهِ في ”الأنْعامِ“: ﴿قُلْ لا أسْألُكم عَلَيْهِ أجْرًا إنْ هو إلّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ﴾ [الأنعام: ٩٠] . وَقَوْلِهِ عَنْ هُودٍ في ”سُورَةِ هُودٍ“: ﴿ياقَوْمِ لا أسْألُكم عَلَيْهِ أجْرًا إنْ أجْرِيَ إلّا عَلى الَّذِي فَطَرَنِي﴾ الآيَةَ [هود: ٥١] . وَقَوْلِهِ في ”الشُّعَراءِ“ عَنْ نُوحٍ، وهُودٍ، وصالِحٍ، ولُوطٍ، وشُعَيْبٍ عَلَيْهِمْ وعَلى نَبِيِّنا الصَّلاةُ والسَّلامُ: ﴿وَما أسْألُكم عَلَيْهِ مِن أجْرٍ إنْ أجْرِيَ إلّا عَلى رَبِّ العالَمِينَ﴾ [الشعراء: ١٠٩] . وَقَوْلِهِ تَعالى عَنْ رُسُلِ القَرْيَةِ المَذْكُورَةِ في ”يس“: ﴿اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ﴾ ﴿اتَّبِعُوا مَن لا يَسْألُكم أجْرًا﴾ الآيَةَ [يس: ٢٠، ٢١] . وَقَدْ بَيَّنّا وجْهَ الجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الآياتِ المَذْكُورَةِ وبَيْنَ قَوْلِهِ تَعالى: (p-١٧٩)﴿قُلْ لا أسْألُكم عَلَيْهِ أجْرًا إلّا المَوَدَّةَ في القُرْبى﴾ في كِتابِنا ”دَفْعُ إيهامِ الِاضْطِرابِ عَنْ آياتِ الكِتابِ“ في ”سُورَةِ سَبَإٍ“ في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى ﴿قُلْ ما سَألْتُكم مِن أجْرٍ فَهو لَكُمْ﴾ [سبإ: ٤٧] . وَيُؤْخَذُ مِن هَذِهِ الآياتِ الكَرِيمَةِ: أنَّ الواجِبَ عَلى أتْباعِ الرُّسُلِ مِنَ العُلَماءِ وغَيْرِهِمْ أنْ يَبْذُلُوا ما عِنْدَهم مِنَ العِلْمِ مَجّانًا مِن غَيْرِ أخْذِ عِوَضٍ عَلى ذَلِكَ، وأنَّهُ لا يَنْبَغِي أخْذُ الأُجْرَةِ عَلى تَعْلِيمِ كِتابِ اللَّهِ تَعالى، ولا عَلى تَعْلِيمِ العَقائِدِ والحَلالِ والحَرامِ. وَيَعْتَضِدُ ذَلِكَ بِأحادِيثَ تَدُلُّ عَلى نَحْوِهِ، فَمِن ذَلِكَ ما رَواهُ ابْنُ ماجَهْ، والبَيْهَقِيُّ، والرُّوَيانِيُّ في مُسْنَدِهِ، «عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قالَ: عَلَّمْتُ رَجُلًا القُرْآنَ، فَأهْدى لِي قَوْسًا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ﷺ فَقالَ: ”إنْ أخَذْتَها أخَذْتَ قَوْسًا مِن نارٍ“، فَرَدَدْتُها» . قالَ البَيْهَقِيُّ، وابْنُ عَبْدِ البَرِّ في هَذا الحَدِيثِ: هو مُنْقَطِعٌ، أيْ بَيْنَ عَطِيَّةَ الكَلاعِيِّ، وأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وكَذَلِكَ قالَ المِزِّيُّ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِأنَّ عَطِيَّةَ وُلِدَ في زَمَنِ النَّبِيِّ ﷺ . وَأعَلَّهُ ابْنُ القَطّانِ بِأنَّ راوِيَهُ عَنْ عَطِيَّةَ المَذْكُورِ هو عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ سَلْمٍ وهو مَجْهُولٌ. وَقالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ في التَّقْرِيبِ: شامِيٌّ مَجْهُولٌ. وَقالَ الشَّوْكانِيُّ في نَيْلِ الأوْطارِ: ولَهُ طُرُقٌ عَنْ أُبَيٍّ. قالَ ابْنُ القَطّانِ: لا يَثْبُتُ مِنها شَيْءٌ. قالَ الحافِظُ: وفِيما قالَهُ نَظَرٌ. وَذَكَرَ المِزِّيُّ في الأطْرافِ لَهُ طُرُقًا، مِنها: أنَّ الَّذِي أقْرَأهُ أُبَيٌّ هو الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، ويَشْهَدُ لَهُ ما أخْرَجَهُ الطَّبَرانِيُّ في الأوْسَطِ «عَنِ الطُّفَيْلِ بْنِ عَمْرٍو الدَّوْسِيِّ قالَ: أقْرَأنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ القُرْآنَ، فَأهْدَيْتُ لَهُ قَوْسًا، فَغَدا إلى النَّبِيِّ ﷺ وقَدْ تَقَلَّدَها، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: ”تَقَلَّدْها مِن جَهَنَّمَ“» الحَدِيثَ، وقالَ الشَّوْكانِيُّ أيْضًا: وفي البابِ عَنْ مُعاذٍ عِنْدَ الحاكِمِ، والبَزّارِ بِنَحْوِ حَدِيثِ أُبَيٍّ، وعَنْ أبِي الدَّرْداءِ عِنْدَ الدّارِمِيِّ بِإسْنادٍ عَلى شَرْطِ مُسْلِمٍ بِنَحْوِهِ أيْضًا. وَمِن ذَلِكَ ما رَواهُ أبُو داوُدَ، وابْنُ ماجَهْ، «عَنْ عُبادَةَ بْنِ الصّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قالَ: عَلَّمْتُ ناسًا مِن أهْلِ الصُّفَّةِ الكِتابَ والقُرْآنَ، فَأهْدى إلَيَّ رَجُلٌ مِنهم قَوْسًا، فَقُلْتُ لَيْسَتْ بِمالٍ، وأرْمِي عَنْها في سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، لَآتِيَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَلَأسْألَنَّهُ، فَأتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ، أهْدى إلَيَّ رَجُلٌ قَوْسًا مِمَّنْ كُنْتُ أُعَلِّمُهُ الكِتابَ، والقُرْآنَ، ولَيْسَتْ بِمالٍ، وأرْمِي عَلَيْها في سَبِيلِ اللَّهِ ؟ فَقالَ: ”إنْ كُنْتَ تُحِبُّ أنْ تُطَوَّقَ طَوْقًا مِن نارٍ فاقْبَلْها“»، وفي إسْنادِهِ المُغِيرَةُ بْنُ زِيادٍ المَوْصِليُّ، قالَ الشَّوْكانِيُّ: وثَّقَهُ وكِيعٌ، ويَحْيى بْنُ مَعِينٍ، وتَكَلَّمَ فِيهِ جَماعَةٌ. (p-١٨٠)وَقالَ الإمامُ أحْمَدُ: ضَعِيفُ الحَدِيثِ، حَدَّثَ بِأحادِيثَ مَناكِيرَ، وكُلُّ حَدِيثٍ رَفَعَهُ فَهو مُنْكَرٌ، وقالَ أبُو زُرْعَةَ الرّازِيُّ: لا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ. اهـ. وقالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ في التَّقْرِيبِ: المُغِيرَةُ بْنُ زِيادٍ البَجَلِيُّ أبُو هِشامٍ - أوْ هاشِمٍ - المَوْصِليُّ صَدُوقٌ لَهُ أوْهامٌ، وهَذا الحَدِيثُ رَواهُ أبُو داوُدَ مِن طَرِيقٍ أُخْرى لَيْسَ فِيها المُغِيرَةُ المَذْكُورُ، حَدَّثَنا عَمْرُو بْنُ عُثْمانَ، وكَثِيرُ بْنُ عُبَيْدٍ، قالا: ثَنا بَقِيَّةُ، حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَشّارٍ، قالَ عَمْرٌو: وحَدَّثَنِي عُبادَةُ بْنُ نُسَيٍّ، عَنْ جُنادَةَ بْنِ أبِي أُمَيَّةَ، عَنْ عُبادَةَ بْنِ الصّامِتِ نَحْوَ هَذا الخَبَرِ، والأوَّلُ أتَمُّ، فَقُلْتُ: ما تَرى فِيها يا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقالَ: ”جَمْرَةٌ بَيْنَ كَتِفَيْكَ تَقَلَّدْتَها“، أوْ ”تَعَلَّقْتَها“ اهـ مِنهُ بِلَفْظِهِ، وفي سَنَدِ هَذِهِ الرِّوايَةِ بَقِيَّةُ بْنُ الوَلِيدِ وقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ جَماعَةٌ، ووَثَّقَهُ آخَرُونَ إذا رَوى عَنِ الثِّقاتِ، وهو مِن رِجالِ مُسْلِمٍ، وأخْرَجَ لَهُ البُخارِيُّ تَعْلِيقًا. وَقالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ في ”التَّقْرِيبِ“: صَدُوقٌ، كَثِيرُ التَّدْلِيسِ عَنِ الضُّعَفاءِ، والظّاهِرُ أنَّ أعْدَلَ الأقْوالِ فِيهِ أنَّهُ إنْ صَرَّحَ بِالسَّماعِ عَنِ الثِّقاتِ فَلا بَأْسَ بِهِ، مَعَ أنَّ حَدِيثَهُ هَذا مُعْتَضِدٌ بِما تَقَدَّمَ وبِما سَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى. وَمِن ذَلِكَ ما رَواهُ الإمامُ أحْمَدُ، والتِّرْمِذِيُّ، عَنْ عِمْرانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «اقْرَءُوا القُرْآنَ واسْألُوا اللَّهَ بِهِ، فَإنَّ مِن بَعْدِكم قَوْمًا يَقْرَءُونَ القُرْآنَ يَسْألُونَ بِهِ النّاسَ»، قالَ التِّرْمِذِيُّ في هَذا الحَدِيثِ: لَيْسَ إسْنادُهُ بِذَلِكَ. وَمِنها ما رَواهُ أبُو داوُدَ في سُنَنِهِ: حَدَّثَنا وهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ، أخْبَرَنا خالِدٌ، عَنْ حُمَيْدٍ الأعْرَجِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المُنْكَدِرِ، عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: «خَرَجَ عَلَيْنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ونَحْنُ نَقْرَأُ القُرْآنَ، وفِينا الأعْرابِيُّ، والأعْجَمِيُّ: فَقالَ: ”اقْرَءُوا فَكُلٌّ حَسَنٌ، وسَيَجِيءُ أقْوامٌ يُقِيمُونَهُ كَما يُقامُ القَدَحُ يَتَعَجَّلُونَهُ ولا يَتَأجَّلُونَهُ“» حَدَّثَنا أحْمَدُ بْنُ صالِحٍ، حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وهْبٍ، أخْبَرَنِي عَمَرُ، وابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ بَكْرِ بْنِ سِوادَةَ، عَنْ وفاءِ بْنِ شُرَيْحٍ الصَّدَفِيِّ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السّاعِدِيِّ قالَ: «خَرَجَ عَلَيْنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ونَحْنُ نَقْتَرِي فَقالَ: ”الحَمْدُ لِلَّهِ، كِتابُ اللَّهِ واحِدٌ، وفِيكُمُ الأحْمَرُ، وفِيكُمُ الأبْيَضُ، وفِيكُمُ الأسْوَدُ، اقْرَءُوا قَبْلَ أنْ يَقْرَأهُ أقْوامٌ يُقِيمُونَهُ كَما يَقُومُ السَّهْمُ يَتَعَجَّلُ أجْرَهُ ولا يَتَأجَّلَهُ“» اهـ. وَمِنها ما رَواهُ الإمامُ أحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِبْلٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «اقْرَءُوا القُرْآنَ ولا تَغْلُوا فِيهِ ولا تَجْفُوا عَنْهُ ولا تَأْكُلُوا بِهِ ولا تَسْتَكْثِرُوا بِهِ»، قالَ الشَّوْكانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في ”نَيْلِ الأوْطارِ“ في هَذا الحَدِيثِ: قالَ في مَجْمَعِ الزَّوائِدِ: رِجالُ أحْمَدَ ثِقاتٌ. وَمِنها ما أخْرَجَهُ الأثْرَمُ في سُنَنِهِ عَنْ أُبَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: «كُنْتُ أخْتَلِفُ إلى رَجُلٍ مُسِنٍّ قَدْ أصابَتْهُ عِلَّةٌ، قَدِ احْتَبَسَ في بَيْتِهِ أُقْرِئُهُ القُرْآنَ، فَيُؤْتى بِطَعامٍ لا آكُلُ مِثْلَهُ بِالمَدِينَةِ، (p-١٨١)فَحاكَ في نَفْسِي شَيْءٌ فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ ﷺ فَقالَ: ”إنْ كانَ ذَلِكَ الطَّعامُ طَعامَهُ وطَعامَ أهْلِهِ فَكُلْ مِنهُ، وإنْ كانَ يُتْحِفُكَ بِهِ فَلا تَأْكُلْهُ“» ا هـ بِواسِطَةِ نَقْلِ ابْنِ قُدامَةَ في ”المُغْنِي“ والشَّوْكانِيِّ في ”نَيْلِ الأوْطارِ“ . فَهَذِهِ الأدِلَّةُ ونَحْوُها تَدُلُّ عَلى أنَّ تَعْلِيمَ القُرْآنِ والمَسائِلِ الدِّينِيَّةِ لا يَجُوزُ أخْذُ الأُجْرَةِ عَلَيْهِ. وَمِمَّنْ قالَ بِهَذا: الإمامُ أحْمَدُ في إحْدى الرِّوايَتَيْنِ، وأبُو حَنِيفَةَ، والضَّحّاكُ بْنُ قَيْسٍ، وعَطاءٌ. وَكَرِهَ الزُّهْرِيُّ، وإسْحاقُ تَعْلِيمَ القُرْآنِ بِأجْرٍ. وَقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَقِيقٍ: هَذِهِ الرُّغُفُ الَّتِي يَأْخُذُها المُعَلِّمُونَ مِنَ السُّحْتِ. وَمِمَّنْ كَرِهَ أُجْرَةَ التَّعْلِيمِ مَعَ الشَّرْطِ: الحَسَنُ، وابْنُ سِيرِينَ، وطاوُسٌ، والشَّعْبِيُّ، والنَّخَعِيُّ، قالَهُ في ”المُغْنِي“، وقالَ: إنَّ ظاهِرَ كَلامِ الإمامِ أحْمَدَ جَوازُ أخْذِ المُعَلِّمِ ما أُعْطِيَهُ مِن غَيْرِ شَرْطٍ. وَذَهَبَ أكْثَرُ أهْلِ العِلْمِ إلى جَوازِ أخْذِ الأُجْرَةِ عَلى تَعْلِيمِ القُرْآنِ، وهو مَذْهَبُ مالِكٍ، والشّافِعِيِّ. وَمِمَّنْ رَخَّصَ في أُجُورِ المُعَلِّمِينَ: أبُو قِلابَةَ، وأبُو ثَوْرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ. وَنَقَلَ أبُو طالِبٍ عَنْ أحْمَدَ أنَّهُ قالَ: التَّعْلِيمُ أحَبُّ إلَيَّ مِن أنْ يَتَوَكَّلَ لِهَؤُلاءِ السَّلاطِينِ، ومِن أنْ يَتَوَكَّلَ لِرَجُلٍ مِن عامَّةِ النّاسِ في ضَيْعَةٍ، ومِن أنْ يَسْتَدِينَ ويَتَّجِرَ لَعَلَّهُ لا يَقْدِرُ عَلى الوَفاءِ فَيَلْقى اللَّهَ تَعالى بِأماناتِ النّاسِ، التَّعْلِيمُ أحَبُّ إلَيَّ. وَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ مَنعَهُ مِنهُ في مَوْضِعِ مَنعِهِ لِلْكَراهَةِ لا لِلتَّحْرِيمِ، قالَهُ ابْنُ قُدامَةَ في ”المُغْنِي“ . واحْتَجَّ أهْلُ هَذا القَوْلِ بِأدِلَّةٍ، مِنها ما رَواهُ الشَّيْخانِ، وغَيْرُهُما مِن حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ جاءَتْهُ امْرَأةٌ، فَقالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي قَدْ وهَبْتُ نَفْسِي لَكَ، فَقامَتْ قِيامًا طَوِيلًا، فَقامَ رَجُلٌ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، زَوِّجْنِيها إنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِها حاجَةٌ ؟ فَقالَ ﷺ ”هَلْ عِنْدَكَ مِن شَيْءٍ تُصْدِقُها إيّاهُ ؟“، فَقالَ: ما عِنْدِي إلّا إزارِي، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: ”إنْ أعْطَيْتَها إزارَكَ جَلَسْتَ لا إزارَ لَكَ“، فالتَمِسْ شَيْئًا. فَقالَ: ما أجِدُ شَيْئًا، فَقالَ: ”التَمِسْ ولَوْ خاتَمًا مِن حَدِيدٍ“، فالتَمَسَ فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا، فَقالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: ”هَلْ مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ شَيْءٌ ؟“ قالَ نَعَمْ، سُورَةُ كَذا وكَذا يُسَمِّيها، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: ”قَدْ (p-١٨٢)زَوَّجْتُكَها بِما مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ“، وفي رِوايَةٍ ”قَدْ مَلَّكْتُكَها بِما مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ“» فَقالُوا: هَذا الرَّجُلُ أباحَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ أنْ يَجْعَلَ تَعْلِيمَهُ بَعْضَ القُرْآنِ لِهَذِهِ المَرْأةِ عِوَضًا عَنْ صَداقِها، وهو صَرِيحٌ في أنَّ العِوَضَ عَلى تَعْلِيمِ القُرْآنِ جائِزٌ، وما رَدَّ بِهِ بَعْضُ العُلَماءِ الِاسْتِدْلالَ بِهَذا الحَدِيثِ مِن أنَّهُ ﷺ زَوَّجَهُ إيّاها بِغَيْرِ صَداقٍ إكْرامًا لَهُ لِحِفْظِهِ ذَلِكَ المِقْدارَ مِنَ القُرْآنِ، ولَمْ يَجْعَلِ التَّعْلِيمَ صَداقًا لَها - مَرْدُودٌ بِما ثَبَتَ في بَعْضِ الرِّواياتِ في صَحِيحِ مُسْلِمٍ أنَّهُ ﷺ قالَ: «انْطَلِقْ فَقَدْ زَوَّجْتُكَها فَعَلِّمْها مِنَ القُرْآنِ» وفي رِوايَةٍ لِأبِي داوُدَ «عَلِّمْها عِشْرِينَ آيَةً وهي امْرَأتُكَ» . واحْتَجُّوا أيْضًا بِعُمُومِ قَوْلِهِ ﷺ الثّابِتِ في صَحِيحِ البُخارِيِّ مِن حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ: «إنَّ أحَقَّ ما أخَذْتُمْ عَلَيْهِ أجْرًا كِتابُ اللَّهِ»، قالُوا: الحَدِيثُ وإنْ كانَ وارِدًا في الجُعْلِ عَلى الرُّقْيا بِكِتابِ اللَّهِ فالعِبْرَةُ بِعُمُومِ الألْفاظِ لا بِخُصُوصِ الأسْبابِ، واحْتِمالُ الفَرْقِ بَيْنَ الجُعْلِ عَلى الرُّقْيَةِ وبَيْنَ الأُجْرَةِ عَلى التَّعْلِيمِ ظاهِرٌ. قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي - واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ - أنَّ الإنْسانَ إذا لَمْ تَدْعُهُ الحاجَةُ الضَّرُورِيَّةُ فالأوْلى لَهُ ألّا يَأْخُذَ عِوَضًا عَلى تَعْلِيمِ القُرْآنِ، والعَقائِدِ، والحَلالِ، والحَرامِ، لِلْأدِلَّةِ الماضِيَةِ، وإنْ دَعَتْهُ الحاجَةُ أخَذَ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ مِن بَيْتِ مالِ المُسْلِمِينَ؛ لِأنَّ الظّاهِرَ أنَّ المَأْخُوذَ مِن بَيْتِ المالِ مِن قَبِيلِ الإعانَةِ عَلى القِيامِ بِالتَّعْلِيمِ لا مِن قَبِيلِ الأُجْرَةِ. والأوْلى لِمَن أغْناهُ اللَّهُ أنْ يَتَعَفَّفَ عَنْ أخْذِ شَيْءٍ في مُقابِلِ التَّعْلِيمِ لِلْقُرْآنِ، والعَقائِدِ، والحَلالِ والحَرامِ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب