الباحث القرآني

﴿ويا قَوْمِ﴾ ناداهم بِذَلِكَ تَلَطُّفًا بِهِمْ واسْتِدْراجًا لَهم ﴿لا أسْألُكم عَلَيْهِ﴾ أيِ التَّبْلِيغِ المَفْهُومِ مِمّا تَقَدَّمَ، وقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلْإنْذارِ، وإفْرادِ اللَّهِ سُبْحانَهُ بِالعِبادَةِ، وقِيلَ: لِلدُّعاءِ إلى التَّوْحِيدِ، وقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ، وكُلُّها أقْوالٌ مُتَقارِبَةٌ أيْ لا أطْلُبُ مِنكم عَلى ذَلِكَ ﴿مالا﴾ تُؤَدُّونَهُ إلَيَّ بَعْدَ إيمانِكُمْ، وأجْرًا لِي في مُقابَلَةِ اهْتِدائِكم ﴿إنْ أجْرِيَ إلا عَلى اللَّهِ﴾ فَهو سُبْحانَهُ يُثِيبُنِي عَلى ذَلِكَ في الآخِرَةِ، ولا بُدَّ حَسَبَ وعْدِهِ الَّذِي لا يُخْلَفُ فالمُرادُ بِالأجْرِ الأجْرُ عَلى التَّبْلِيغِ، وجَوَّزَ أنْ يُرادَ الأجْرُ عَلى الطّاعَةِ مُطْلَقًا، ويَدْخُلُ فِيهِ ذَلِكَ دُخُولًا أوَّلِيًّا، وفي التَّعْبِيرِ بِالمالِ أوَّلًا وبِالأجْرِ ثانِيًا ما لا يَخْفى مِن مَزِيَّةِ ما عِنْدَ اللَّهِ تَعالى عَلى ما عِنْدَهم ﴿وما أنا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ قِيلَ: هو جَوابٌ عَمّا لَوَّحُوا بِهِ بِقَوْلِهِمْ ﴿وما نَراكَ اتَّبَعَكَ إلا الَّذِينَ هم أراذِلُنا﴾ مِن أنَّهُ لَوِ اتَّبَعَهُ الأشْرافُ لَوافَقُوهم وإنَّ اتِّباعَ الفُقَراءِ مانِعٌ لَهم عَنْ ذَلِكَ كَما صَرَّحُوا بِهِ في قَوْلِهِمْ ﴿أنُؤْمِنُ لَكَ واتَّبَعَكَ الأرْذَلُونَ﴾ فَكانَ ذَلِكَ التِماسًا مِنهم لِطَرْدِهِمْ وتَعْلِيقًا لِإيمانِهِمْ بِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ بِذَلِكَ أنَفَةً مِن الِانْتِظامِ مَعَهم في سِلْكٍ واحِدٍ، انْتَهى، والمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أنَّهم قالُوا لَهُ يا نُوحُ: إنْ أحْبَبْتَ أنْ نَتْبَعَكَ فاطْرُدْ هَؤُلاءِ، وإلّا فَلَنْ نَرْضى أنْ نَكُونَ نَحْنُ وهم في الأمْرِ سَواءً وذَلِكَ كَما قالَ قُرَيْشٌ لِلنَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ في فُقَراءِ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُمُ: اطْرُدْ هَؤُلاءِ عَنْكَ ونَحْنُ نَتْبَعُكَ فَإنّا نَسْتَحِي أنْ نَجْلِسَ مَعَهم في مَجْلِسِكَ، فَهو جَوابٌ عَمّا لَمْ يُذْكَرْ في النَّظْمِ الكَرِيمِ لَكِنَّ فِيهِ نَوْعَ إشارَةٍ إلَيْهِ، وقُرِئَ (بِطارِدٍ) بِالتَّنْوِينِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلى الأصْلِ، يَعْنِي أنَّ اسْمَ الفاعِلِ إذا كانَ بِمَعْنى الحالِ أوْ الِاسْتِقْبالِ فَأصْلُهُ أنْ يَعْمَلَ ولا يُضافَ، وهو ظاهِرُ كَلامِ سِيبَوَيْهِ، واسْتَدْرَكَ عَلَيْهِ أبُو حَيّانَ بِأنَّهُ قَدْ يُقالُ: إنَّ الأصْلَ الإضافَةُ لِأنَّهُ قَدِ اعْتَوَرَهُ شَبَهانِ: أحَدُهُما شَبَهُهُ بِالمُضارِعِ وهو شَبَهٌ بِغَيْرِ جِنْسِهِ والآخَرُ شَبَهُهُ بِالأسْماءِ إذا كانَتْ فِيها الإضافَةُ، وإلْحاقُهُ بِجِنْسِهِ أوْلى مِن إلْحاقِهِ بِغَيْرِ جِنْسِهِ، انْتَهى، ورُبَّما يُقالُ: إنَّ أوْلَوِيَّةَ إلْحاقِهِ بِالأسْماءِ إنَّما يَتِمُّ القَوْلُ بِها إذا كانَتِ الإضافَةُ في الأسْماءِ هي الأصْلَ ولَيْسَ فَلَيْسَ. ﴿إنَّهم مُلاقُو رَبِّهِمْ﴾ تَعْلِيلٌ لِلِامْتِناعِ مِن طَرْدِهِمْ كَأنَّهُ قِيلَ: لا أطْرُدُهم ولا أُبْعِدُهم عَنْ مَجْلِسِي لِأنَّهم مِن أهْلِ الزُّلْفى المُقَرَّبُونَ الفائِزُونَ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى، وانْفِهامُ الفَوْزِ بِمَعُونَةِ المَقامِ وإلّا فَمُلاقاةُ اللَّهِ تَعالى تَكُونُ لِلْفائِزِ وغَيْرِهِ أوْ أنَّهم مُلاقُو رَبِّهِمْ فَيُخاصِمُونَ طارِدَهم عِنْدَهُ فَيُعاقِبُهُ عَلى ما فَعَلَ -وحَمَلَهُ عَلى أنَّهم مُصَدِّقُونَ في الدُّنْيا بِلِقاءِ رَبِّهِمْ مُوقِنُونَ بِهِ عالِمُونَ أنَّهم مُلاقُوهُ لا مَحالَةَ فَكَيْفَ أطْرُدُهُمْ- خِلافَ الظّاهِرِ عَلى أنَّ هَذا التَّصْدِيقَ مِن تَوابِعِ الإيمانِ، وقِيلَ: المَعْنى إنَّهم يُلاقُونَهُ تَعالى فَيُجازِيهِمْ عَلى ما في قُلُوبِهِمْ مِن إيمانٍ صَحِيحٍ ثابِتٍ كَما ظَهَرَ لِي، أوْ عَلى خِلافِ ذَلِكَ مِمّا تَعْرِفُونَهم بِهِ مِن بِناءِ أمْرِهِمْ عَلى بادِئِ الرَّأْيِ مِن غَيْرِ تَعَمُّقٍ في الفِكْرِ، وما عَلَيَّ أنْ أشُقَّ عَنْ قُلُوبِهِمْ وأتَعَرَّفَ سِرَّ ذَلِكَ مِنهم حَتّى أطْرُدَهم إنْ كانَ الأمْرُ كَما تَزْعُمُونَ، وفِيهِ أنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ (p-42)مَبْنِيًّا عَلى أنَّ سُؤالَ الطَّرْدِ لِعَدَمِ إخْلاصِهِمْ لا لِاسْتِرْذالِهِمْ، وحالُهُ أظْهَرُ مِن أنْ يَخْفى يَأْباهُ الجَزْمُ بِتَرَتُّبِ غَضَبِ اللَّهِ تَعالى عَلى طَرْدِهِمْ كَما سَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى. ﴿ولَكِنِّي أراكم قَوْمًا تَجْهَلُونَ﴾ أيْ بِكُلِّ ما يَنْبَغِي أنْ يُعْلَمَ، ويَدْخُلُ فِيهِ جَهْلُهم بِمَنزِلَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى وبِما يَتَرَتَّبُ مِنَ المَحْذُورِ عَلى طَرْدِهِمْ وبِرَكاكَةِ رَأْيِهِمْ في التِماسِ ذَلِكَ وتَوْقِيفِ إيمانِهِمْ عَلَيْهِ وغَيْرِ ذَلِكَ، وإيثارُ صِيغَةِ الفِعْلِ لِلدَّلالَةِ عَلى التَّجَدُّدِ والِاسْتِمْرارِ وعَبَّرَ بِالرُّؤْيَةِ مُوافَقَةً لِتَعْبِيرِهِمْ، وجَوَّزَ أنْ يَكُونَ الجَهْلُ بِمَعْنى الجِنايَةِ عَلى الغَيْرِ وفِعْلِ ما يَشُقُّ عَلَيْهِ لا بِمَعْنى عَدَمِ العِلْمِ المَذْمُومِ وهو مَعْنًى شائِعٌ كَما في قَوْلِهِ: ؎ألا لا يَجْهَلَنَّ أحَدٌ عَلَيْنا فَنَجْهَلُ فَوْقَ جَهْلِ الجاهِلِينا أيْ: ولَكِنِّي أراكم قَوْمًا تَتَسَفَّهُونَ عَلى المُؤْمِنِينَ بِنِسْبَتِهِمْ إلى الخَساسَةِ،
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب