الباحث القرآني

﴿ويا قَوْمِ لا أسْألُكم عَلَيْهِ مالًا إنْ أجْرِيَ إلّا عَلى اللَّهِ وما أنا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إنَّهم مُلاقُو رَبِّهِمْ ولَكِنِّي أراكم قَوْمًا تَجْهَلُونَ﴾ ﴿ويا قَوْمِ مَن يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إنْ طَرَدْتُهم أفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ ﴿ولا أقُولُ لَكم عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ ولا أعْلَمُ الغَيْبَ ولا أقُولُ إنِّي مَلَكٌ ولا أقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أعْيُنُكم لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أعْلَمُ بِما في أنْفُسِهِمْ إنِّي إذًا لَمِنَ الظّالِمِينَ﴾ ﴿قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ﴾ ﴿قالَ إنَّما يَأْتِيكم بِهِ اللَّهُ إنْ شاءَ وما أنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ ﴿ولا يَنْفَعُكم نُصْحِي إنْ أرَدْتُ أنْ أنْصَحَ لَكم إنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أنْ يُغْوِيَكم هو رَبُّكم وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾: تَلَطَّفَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ بِنِدائِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿ويا قَوْمِ﴾، اسْتِدْراجًا لَهم في قَبُولِ كَلامِهِ، كَما تَلَطَّفَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِقَوْلِهِ (يا أبَتِ) وكَما تَلَطَّفَ مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ بِقَوْلِهِ (يا قَوْمِ) والضَّمِيرُ في عَلَيْهِ عائِدٌ إلى الإنْذارِ. وإفْرادُ اللَّهِ بِالعِبادَةِ المَفْهُومُ مِن قَوْلِهِ لَهم: ﴿إنِّي لَكم نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [هود: ٢٥] ﴿ألّا تَعْبُدُوا إلّا اللَّهَ﴾ [هود: ٢] (p-٢١٨)وقِيلَ: عَلى الدِّينِ، وقِيلَ: عَلى الدُّعاءِ إلى التَّوْحِيدِ، وقِيلَ: عَلى تَبْلِيغِ الرِّسالَةِ. وكُلُّها أقْوالٌ مُتَقارِبَةٌ، والمَعْنى: إنَّكم وهَؤُلاءِ الَّذِينَ اتَّبَعُونا سَواءٌ في أنْ أدْعُوَكم إلى اللَّهِ، وإنِّي لا أبْتَغِي عَمّا أُلْقِيهِ إلَيْكم مِن شَرائِعِ اللَّهِ مالًا، فَلا يَتَفاوَتُ حالُكم وحالُهم. وأيْضًا: فَلَعَلَّهم ظَنُّوا أنَّهُ يُرِيدُ: الِاسْتِرْفادَ مِنهم، فَنَفاهُ بِقَوْلِهِ: ﴿لا أسْألُكم عَلَيْهِ مالًا إنْ أجْرِيَ إلّا عَلى اللَّهِ﴾، فَلا تَحْرِمُوا أنْفُسَكُمُ السَّعادَةَ الأبَدِيَّةَ بِتَوَهُّمٍ فاسِدٍ. ثُمَّ ذَكَرَ أنَّهُ قامَ بِهَؤُلاءِ وصْفٌ يَجِبُ العُكُوفُ عَلَيْهِمْ بِهِ والِانْضِواءُ مَعَهم، وهو الإيمانُ فَلا يُمْكِنُ طَرْدُهم، وكانُوا سَألُوا مِنهُ طَرْدَ هَؤُلاءِ المُؤْمِنِينَ، رَفْعًا لِأنْفُسِهِمْ مِن مُساواةِ أُولَئِكَ الفُقَراءِ. ونَظِيرَ هَذا: ما اقْتَرَحَتْ قُرَيْشٌ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِن طَرْدِ أتْباعِهِ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا مِن قُرَيْشٍ. وقُرِئَ: بِطارِدٍ: بِالتَّنْوِينِ، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلى الأصْلِ يَعْنِي: أنَّ اسْمَ الفاعِلِ إذا كانَ بِمَعْنى الحالِ أوْ الِاسْتِقْبالِ، أصْلُهُ أنْ يَعْمَلَ ولا يُضافَ، وهَذا ظاهِرُ كَلامِ سِيبَوَيْهِ. ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّ الأصْلَ الإضافَةُ لا العَمَلُ، لِأنَّهُ قَدِ اعْتَوَرَهُ شَبَهانِ: أحَدُهُما: شِبْهٌ بِالمُضارِعِ وهو شَبَهُهُ بِغَيْرِ جِنْسِهِ. والآخَرُ: شِبْهٌ بِالأسْماءِ إذا كانَتْ فِيها الإضافَةُ، فَكانَ إلْحاقُهُ بِجِنْسِهِ أوْلى مِن إلْحاقِهِ بِغَيْرِ جِنْسِهِ. ﴿أنَّهم مُلاقُو رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٤٦]: ظاهِرُهُ التَّعْلِيلُ لِانْتِفاءِ طَرْدِهِمْ، أيْ: إنَّهم يُلاقُونَ اللَّهَ، أيْ: جَزاءَهُ، فَيُوصِلُهم إلى حَقِّهِمْ عِنْدِي إنْ ظَلَمْتُهم بِالطَّرْدِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْناهُ: أنَّهم يُلاقُونَ اللَّهَ فَيُعاقِبُ مَن طَرَدَهم، أوْ: يُلاقُونَهُ فَيُجازِيهِمْ عَلى ما في قُلُوبِهِمْ مِن إيمانٍ صَحِيحٍ ثابِتٍ كَما ظَهَرَ لِي مِنهم، وما أعْرِفُ غَيْرَهُ مِنهم، أوْ عَلى خِلافِ ذَلِكَ مِمّا تَعْرِفُونَهم بِهِ مِن بِناءِ إيمانِهِمْ عَلى بادِئِ الرَّأْيِ مِن غَيْرِ نَظَرٍ ولا تَفَكُّرٍ، وما عَلَيَّ أنْ أشُقَّ عَلى قُلُوبِهِمْ، وأتَعَرَّفَ ذَلِكَ مِنهم حَتّى أطْرُدَهم ونَحْوُهُ ﴿ولا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ﴾ [الأنعام: ٥٢] الآيَةَ، أوْ هم مُصَدِّقُونَ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ، مُوقِنُونَ بِهِ عالِمُونَ أنَّهم مُلاقُوهُ لا مَحالَةَ، انْتَهى. ووَصْفُهم بِالجَهْلِ لِكَوْنِهِمْ بَنَوْا أمْرَهم عَلى الجَهْلِ بِالعَواقِبِ، والِاغْتِرارِ بِالظَّواهِرِ. أوْ لِأنَّهم يَتَسافَلُونَ عَلى المُؤْمِنِينَ ويَدْعُونَهم: أراذِلَ، مِن قَوْلِهِ: ألا لا يَجْهَلَنْ أحَدٌ عَلَيْنا أوْ: تَجْهَلُونَ لِقاءَ رَبِّكم، أوْ: تَجْهَلُونَ أنَّهم خَيْرٌ مِنكم، أوْ: وصْفُهم بِالجَهْلِ في هَذا الِاقْتِراحِ، وهو طَرْدُ المُؤْمِنِينَ ونَحْوِهِ ﴿مَن يَنْصُرُنِي﴾ اسْتِفْهامٌ مَعْناهُ: لا ناصِرَ لِي مِن عِقابِ اللَّهِ إنْ طَرَدْتُهم عَنِ الخَيْرِ الَّذِي قَدْ قَبِلُوهُ، أوْ لِأجْلِ إيمانِهِمْ، قالَهُ الفَرّاءُ، وكانُوا يَسْألُونَهُ أنْ يَطْرُدَهم لِيُؤْمِنُوا بِهِ، أنَفَةً مِنهم أنْ يَكُونُوا مَعَهم عَلى سَواءٍ، ثُمَّ وقَفَهم بِقَوْلِهِ: ﴿أفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ [يونس: ٣]، عَلى النَّظَرِ المُؤَدِّي إلى صِحَّةِ هَذا الِاحْتِجاجِ. وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الجُمَلِ الثَّلاثِ في الأنْعامِ. وتَزْدَرِي: تَفْتَعِلُ، والدّالُ بَدَلٌ مِنَ التّاءِ قالَ: تَرى الرَّجُلَ النَّحِيفَ فَتَزْدَرِيهِ وفي أثْوابِهِ أسَدٌ هَصُورُ وأنْشَدَ الفَرّاءُ: يُباعِدُهُ الصَّدِيقُ وتَزْدَرِيهِ حَلِيلَتُهُ ويَنْهَرُهُ الصَّغِيرُ والعائِدُ عَلى المَوْصُولِ مَحْذُوفٌ، أيْ: تَزْدَرُونَهم، أيْ: تَسْتَحْقِرُهم أعْيُنُكم. ولَنْ يُؤْتِيَهم: مَعْمُولٌ لِقَوْلِهِ: (ولا أقُولُ) و(لِلَّذِينَ): مَعْناهُ لِأجْلِ الَّذِينَ. ولَوْ كانَتِ اللّامُ لِلتَّبْلِيغِ لَكانَ القِياسُ: (لَنْ يُؤْتِيَكم) بِكافِ الخِطابِ، أيْ: لَيْسَ احْتِقارُكم إيّاهم يُنْقِصُ ثَوابَهم عِنْدَ اللَّهِ ولا يُبْطِلُ أُجُورَهم. ﴿اللَّهُ أعْلَمُ بِما في أنْفُسِهِمْ﴾: تَسْلِيمٌ لِلَّهِ، أيْ: لَسْتُ أحْكُمُ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ مِن هَذا، وإنَّما الحُكْمُ بِذَلِكَ لِلَّهِ تَعالى الَّذِي يَعْلَمُ ما في أنْفُسِهِمْ فَيُجازِيهِمْ عَلَيْهِ. وقِيلَ: هو رَدٌّ عَلى قَوْلِهِمُ: اتَّبَعَكَ أراذِلُنا، أيْ: لَسْتُ أحْكُمُ عَلَيْهِمْ بِأنْ لا يَكُونَ لَهم خَيْرٌ لِظَنِّكم بِهِمْ، إنَّ بَواطِنَهم لَيْسَتْ كَظَواهِرِهِمُ، اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ أعْلَمُ بِما في نُفُوسِهِمْ. إنِّي: لَوْ فَعَلْتُ ذَلِكَ لَمِنَ الظّالِمِينَ، وهُمُ الَّذِينَ يَضَعُونَ الشَّيْءَ في غَيْرِ مَواضِعِهِ، ﴿قَدْ جادَلْتَنا﴾: الظّاهِرُ المُبالَغَةُ في الخُصُومَةِ والمُناظَرَةِ. وقالَ الكَلْبِيُّ: دَعَوْتَنا. وقِيلَ: وعَظْتَنا، وقِيلَ: أتَيْتَ بِأنْواعِ الجِدالِ وفُنُونِهِ فَما صَحَّ دَعْواكَ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ: فَأكْثَرْتَ (p-٢١٩)جَدَلَنا كَقَوْلِهِ: ﴿وكانَ الإنْسانُ أكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾ [الكهف: ٥٤] فَأْتِنا بِما تَعِدُنا مِنَ العَذابِ: المُعَجَّلِ، وما بِمَعْنى الَّذِي والعائِدُ مَحْذُوفٌ أيْ: بِما تَعِدْناهُ، أوْ مَصْدَرِيَّةٌ، وإنَّما كَثُرَتْ مُجادَلَتُهُ لَهم لِأنَّهُ أقامَ فِيهِمْ ما أخْبَرَ اللَّهُ بِهِ ألْفَ سَنَةٍ إلّا خَمْسِينَ عامًا، وهو كُلُّ وقْتٍ يَدْعُوهم إلى اللَّهِ وهم يُجِيبُونَهُ بِعِبادَتِهِمْ أصْنامَهم. قالَ: إنَّما يَأْتِيكم بِهِ اللَّهُ، أيْ: لَيْسَ ذَلِكَ إلَيَّ إنَّما هو لِلْإلَهِ الَّذِي يُعاقِبُكم عَلى عِصْيانِكم، إنْ شاءَ، أيْ: إنِ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ أنْ يُعَجِّلَ عَذابَكم وأنْتُمْ في قَبْضَتِهِ لا يُمْكِنُ أنْ تُفْلِتُوا مِنهُ، ولا أنْ تَمْتَنِعُوا. ولَمّا قالُوا: ﴿قَدْ جادَلْتَنا﴾، وطَلَبُوا تَعْجِيلَ العَذابِ، وكانَ مُجادَلَتُهُ لَهم إنَّما هو عَلى سَبِيلِ النُّصْحِ والإنْقاذِ مِن عَذابِ اللَّهِ، قالَ: ﴿ولا يَنْفَعُكم نُصْحِي﴾ . وقَرَأ عِيسى بْنُ عُمَرَ الثَّقَفِيُّ: نَصْحِي بِفَتْحِ النُّونِ، وهو مَصْدَرٌ. وقِراءَةُ الجَماعَةِ: بِضَمِّها، فاحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ مَصْدَرًا كالشُّكْرِ، واحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ اسْمًا. وهَذانِ الشَّرْطانِ اعْتَقَبَ الأوَّلُ مِنهُما قَوْلَهُ: ﴿ولا يَنْفَعُكم نُصْحِي﴾، وهو دَلِيلٌ عَلى جَوابِ الشَّرْطِ تَقْدِيرُهُ: إنْ أرَدْتُ أنْ أنْصَحَ لَكم فَلا يَنْفَعُكم نُصْحِي، والشَّرْطُ الثّانِي: اعْتَقَبَ الشَّرْطَ الأوَّلَ. وجَوابُهُ أيْضًا ما دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿ولا يَنْفَعُكم نُصْحِي﴾، تَقْدِيرُهُ: إنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أنْ يُغْوِيَكم فَلا يَنْفَعُكم نُصْحِي. وصارَ الشَّرْطُ الثّانِي شَرْطًا في الأوَّلِ، وصارَ المُتَقَدِّمُ مُتَأخِّرًا والمُتَأخِّرُ مُتَقَدِّمًا، وكَأنَّ التَّرْكِيبَ: إنْ أرَدْتُ أنْ أنْصَحَ لَكم إنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أنْ يُغْوِيَكم فَلا يَنْفَعُكم نُصْحِي، وهو مِن حَيْثُ المَعْنى كالشَّرْطِ إذا كانَ بِالفاءِ نَحْوَ: إنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أنْ يُغْوِيَكم. فَإنْ أرَدْتُ أنْ أنْصَحَ لَكم فَلا يَنْفَعُكم نُصْحِي. ونَظِيرُهُ: ﴿وامْرَأةً مُؤْمِنَةً إنْ وهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إنْ أرادَ النَّبِيُّ أنْ يَسْتَنْكِحَها﴾ [الأحزاب: ٥٠] وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَوْلُهُ: ﴿إنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أنْ يُغْوِيَكُمْ﴾ جَزاؤُهُ ما دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿ولا يَنْفَعُكم نُصْحِي﴾، وهَذا الدَّلِيلُ في حُكْمِ ما دَلَّ عَلَيْهِ، فَوُصِلَ بِشَرْطٍ كَما وُصِلَ الجَزاءُ بِالشَّرْطِ في قَوْلِهِ: إنْ أحْسَنْتَ إلَيَّ أحْسَنْتُ إلَيْكَ إنْ أمْكَنَنِي. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ولَيْسَ نُصْحِي لَكم بِنافِعٍ، ولا إرادَتِي الخَيْرَ لَكم مُغْنِيَةً، إذا كانَ اللَّهُ تَعالى قَدْ أرادَ بِكُمُ الإغْواءَ والإضْلالَ والإهْلاكَ. والشَّرْطُ الثّانِي: اعْتِراضٌ بَيْنَ الكَلامِ، وفِيهِ بَلاغَةٌ مِنَ اقْتِرانِ الإرادَتَيْنِ، وأنَّ إرادَةَ البَشَرِ غَيْرُ مُغْنِيَةٍ، وتَعَلُّقُ هَذا الشَّرْطِ هو بِنُصْحِي، وتَعَلُّقُ الآخَرِ هو بِلا يَنْفَعُ، انْتَهى. وكَذا قالَ أبُو الفَرَجِ بْنُ الجَوْزِيِّ قالَ: جَوابُ الأوَّلِ: النُّصْحُ، وجَوابُ الثّانِي: النَّفْعُ. والظّاهِرُ أنَّ مَعْنى يُغْوِيَكم: يُضِلَّكم مِن قَوْلِهِ: غَوى الرَّجُلُ يَغْوِي وهو: الضَّلالُ. وفِيهِ إسْنادُ الإغْواءِ إلى اللَّهِ، فَهو حُجَّةٌ عَلى المُعْتَزِلَةِ إذْ يَقُولُونَ: إنَّ الضَّلالَ هو مِنَ العَبْدِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إذا عَرَفَ اللَّهُ مِنَ الكافِرِ الإصْرارَ فَخَلّاهُ وشَأْنَهُ ولَمْ يُلْجِئْهُ، سُمِّيَ ذَلِكَ إغْواءً وإمْلاءً، كَما إنَّهُ إذا عَرَفَ مِنهُ أنْ يَتُوبَ ويَرْعَوِي فَلَطَفَ بِهِ، سُمِّيَ: إرْشادًا وهِدايَةً، انْتَهى. وهُوَ عَلى طَرِيقَةِ الِاعْتِزالِ، ونَصُّوا عَلى أنَّهُ لا يُوصَفُ اللَّهُ بِأنَّهُ عارِفٌ، فَلا يَنْبَغِي أنْ يُقالَ: إذا عَرَفَ اللَّهُ، كَما قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، ولِلْمُعْتَزِلِيِّ أنْ يَقُولَ: لا يَتَعَيَّنُ أنْ تَكُونَ إنْ شَرْطِيَّةً، بَلْ هي نافِيَةٌ والمَعْنى: ما كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أنْ يُغْوِيَكم، فَفي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى نَفْيِ الإضْلالِ عَنِ اللَّهِ تَعالى، ويَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿ولا يَنْفَعُكم نُصْحِي إنْ أرَدْتُ أنْ أنْصَحَ﴾: إخْبارًا مِنهُ لَهم وتَعْزِيَةً لِنَفْسِهِ عَنْهم، لِما رَأى مِن إصْرارِهِمْ وتَمادِيهِمْ عَلى الكُفْرِ. وقِيلَ: مَعْنى (يُغْوِيَكم): يُهْلِكَكم، والغَوى: المَرَضُ والهَلاكُ. وفي لُغَةِ طَيِّءٍ: أصْبَحَ فُلانٌ غاوِيًا أيْ: مَرِيضًا، والغَوى: بَشَمُ الفَصِيلِ، وقالَهُ يَعْقُوبُ في الإصْلاحِ. وقِيلَ: فَقْدُهُ اللَّبَنَ حَتّى يَمُوتَ جُوعًا، قالَهُ الفَرّاءُ، وحَكاهُ الطَّبَرِيُّ يُقالُ مِنهُ: غَوى يَغْوِي. وحَكى الزَّهْراوِيُّ: أنَّهُ الَّذِي قُطِعَ عَنْهُ اللَّبَنُ حَتّى كادَ يَهْلِكُ، أوْ لَمّا يَهْلِكُ بَعْدُ. قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: وكَوْنُ مَعْنى يُغْوِيَكم يُهْلِكَكم، قَوْلٌ مَرْغُوبٌ عَنْهُ، وأنْكَرَ مَكِّيٌّ أنْ يَكُونَ الغَوى بِمَعْنى: الهَلاكِ، مَوْجُودًا في لِسانِ العَرَبِ، وهو مَحْجُوجٌ بِنَقْلِ الفَرّاءِ وغَيْرِهِ. وإذا كانَ مَعْنى يُغْوِيَكم: يُهْلِكَكم، فَلا حُجَّةَ فِيهِ لا لِمُعْتَزِلِيٍّ ولا لِسُنِّيٍّ، بَلِ الحُجَّةُ مِن غَيْرِ هَذا، ومَعْناهُ: أنَّكم إذا كُنْتُمْ مِنَ التَّصْمِيمِ عَلى الكُفْرِ، فالمَنزِلَةُ الَّتِي لا تَنْفَعُكم نَصائِحُ اللَّهِ ومَواعِظُهُ وسائِرُ ألْطافِهِ، كَيْفَ يَنْفَعُكم نُصْحِي ؟ (p-٢٢٠)وفِي قَوْلِهِ: ﴿هُوَ رَبُّكُمْ﴾: تَنْبِيهٌ عَلى المَعْرِفَةِ بِالخالِقِ، وأنَّهُ النّاظِرُ في مَصالِحِكم، إنْ شاءَ أنْ يُغْوِيَكم، وإنْ شاءَ أنْ يَهْدِيَكم. وفي قَوْلِهِ: ﴿وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [يونس: ٥٦]: وعِيدٌ وتَخْوِيفٌ. ﴿أمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إجْرامِي وأنا بَرِيءٌ مِمّا تُجْرِمُونَ﴾: قِيلَ: هَذِهِ الآيَةُ اعْتُرِضَتْ في قِصَّةِ نُوحٍ، والأخْبارُ فِيها عَنْ قُرَيْشٍ. يَقُولُونَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، أيِ: افْتَرى القُرْآنَ، وافْتَرى هَذا الحَدِيثَ عَنْ نُوحٍ وقَوْمِهِ، ولَوْ صَحَّ ذَلِكَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ لَوُقِفَ عِنْدَهُ، ولَكِنَّ الظّاهِرَ أنَّ الضَّمِيرَ في يَقُولُونَ عائِدٌ عَلى قَوْمِ نُوحٍ، أيْ: بَلْ أيَقُولُونَ افْتَرى ما أخْبَرَهم بِهِ مِن دِينِ اللَّهِ وعِقابِ مَن أعْرَضَ عَنْهُ، فَقالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: قُلْ إنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إثْمُ إجْرامِي، والإجْرامُ: مَصْدَرُ أجْرَمَ، ويُقالُ: أجْرَمَ وهو الكَثِيرُ، وجَرَمَ بِمَعْنًى. ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎طَرِيدُ عَشِيرَةٍ ورَهِينُ ذَنْبٍ بِما جَرَمَتْ يَدِي وجَنى لِسانِي وقُرِئَ: (أجْرامِي) بِفَتْحِ الهَمْزَةِ جَمْعُ جُرْمٍ، ذَكَرَهُ النَّحّاسُ، وفُسِّرَ: بِآثامِي. ومَعْنى ﴿مِمّا تُجْرِمُونَ﴾: مِن إجْرامِكم في إسْنادِ الِافْتِراءِ إلَيَّ، وقِيلَ: مِمّا تُجْرِمُونَ مِنَ الكُفْرِ والتَّكْذِيبِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب