قال تعالى: ﴿وياقَوْمِ لا أسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا إنْ أجْرِيَ إلاَّ عَلى اللَّهِ وما أنا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ ولَكِنِّي أراكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ﴾ [هود: ٢٩].
في هذه الآيةِ: أنّه ينبغي ألاَّ يُؤخَذَ على دعوةِ الناسِ وإرشادِهم مالٌ، لأنّ أخْذَ المالِ يَجعَلُ يدَ المُعطِي العُلْيا، وتَنكسِرُ له النَّفْسُ الآخِذةُ، وتميلُ إليه وتُحِبُّهُ، والنَّفْسُ مجبولةٌ على حُبِّ مَن أحسَنَ إليها، وكلُّ مالٍ يَجعلُ صاحِبَهُ يقولُ الباطلَ أو يسكُتُ عن الحقِّ، فهو سُحْتٌ، وكلُّ آخِذٍ للمالِ أعلَمُ بنفسِه.
عدمُ أخْذِ الأنبياءِ المالَ على دَعْوَتِهم:
ومع عظَمةِ منزلةِ الأنبياءِ وعِصْمتِهم إلاَّ أنّهم كانوا لا يأخُذونَ المالَ مِن أُمَمِهم، فقد قال نُوحٌ لقومِهِ: ﴿وياقَوْمِ لا أسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا إنْ أجْرِيَ إلاَّ عَلى اللَّهِ وما أنا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ ولَكِنِّي أراكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ﴾، وقال مِثْلَ ذلك في الشُّعَراءِ ويُونُسَ، وقال هودٌ لقومِهِ: ﴿ياقَوْمِ لا أسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أجْرًا إنْ أجْرِي إلاَّ عَلى الَّذِي فَطَرَنِي﴾ [هود: ٥١]، وقال مِثلَ ذلك في سورةِ الشُّعَراءِ، وقالهُ مِثلَه صالحٌ ولُوطٌ لقومِهما فيها.
وقد ذكَرَ اللهُ في كتابِهِ إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ ونُوحًا وداودَ وسُلَيْمانَ وأيُّوبَ ويوسُفَ ومُوسى وهارونَ وزكريّا ويحيى وعيسى وإلياسَ وإسماعيلَ واليَسَعَ ويونُسَ ولوطًا، ثُمَّ قال للنبيِّ ﷺ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أجْرًا﴾ [الأنعام: ٩٠]، وقال للنبيِّ ﷺ: ﴿قُلْ ما أسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِن أجْرٍ إلاَّ مَن شاءَ أنْ يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلًا ﴾ [الفرقان: ٥٧].
وأمَرَ اللهُ نبيَّه بعدمِ سؤالِ الناسِ شيئًا، حتى لا يظُنُّوا به طمعًا فتَنصرِفَ قلوبُهُمْ عنه ولو كان متجرِّدًا في نفسِه، وقد قال تعالى: ﴿قُلْ لا أسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أجْرًا إلاَّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبى﴾ [الشورى: ٢٣]، وقال: ﴿قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِن أجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إنْ أجْرِيَ إلاَّ عَلى اللَّهِ﴾ [سبأ: ٤٧].
والحِكْمةُ مِن عدمِ سؤالِ الأنبياءِ مالًا وأجرًا مِن قومِهم أمورٌ، أظهَرُها أمرانِ:
الأولُ: أنّ الناسَ تَزهَدُ فيمَن يأخُذُ مالًا على دَعْوتِه، لأنّهم يشُكُّونَ في قَصْدِه، ويظُنُّونَهُ يطلُبُ دُنيا عاجلةً ورِفْعةً وعلوًّا وجاهًا، ويَعرِفونَ المتجرِّدَ مِن قِلَّةِ طَمَعِهِ فيهم، وسؤالِهِ الحاجاتِ منهم، وتشوُّفِهِ إلى ما في أيدِيهِم، وقد قال الرجلُ الذي جاء مِن أقْصى المدينةِ: ﴿ياقَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَن لا يَسْأَلُكُمْ أجْرًا وهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [يس: ٢٠ ـ ٢١]، فاستدَلَّ على صِدْقِهم بعَدَمِ طَمَعِهم، ومَنِ اعتادَ أخذَ الأجرِ على دَعْوتِهِ ونُصْحِهِ، واحتاجَ إلى هذا العطاءِ وتعلَّقَ به، تكلَّفَ في حديثِهِ وفِعْلِهِ حتى يُعطِيَهُ الناسُ، وأخَذَ يقولُ ما لا يُحِبُّهُ ويُؤمِنُ به ما دامَ الناسُ الذين يُعطُونَهُ يُحبُّونَه، وقد بيَّنَ اللهُ ذلك في قولِهِ تعالى: ﴿قُلْ ما أسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِن أجْرٍ وما أنا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ ﴾ [ص: ٨٦].
ومع عِصْمةِ الأنبياءِ مِن التكلُّفِ والزَّلَلِ، إلاَّ أنّ اللهَ منَعَهُمْ مِن أخذِ المالِ والأجرِ على الرِّسالةِ، حتى لا يظُنَّ الناسُ بهم سُوءًا، ويَتوهَّموا قولَهُمْ تكلُّفًا وهو حقٌّ.
الثاني: أنّ مَن سأَلَ الناسَ شيئًا على رِسالَتِهِ، استَثْقَلُوهُ، وضَعُفَ قَبُولُهم له، ونفَرُوا منه، لأنّه يُحمِّلُهم ما لا يُحبُّونَ مِن العطاءِ، ولو ظَنُّوهُ صادقًا، كما قال تعالى في سُورَتَيِ الطُّورِ والقَلَمِ: ﴿أمْ تَسْأَلُهُمْ أجْرًا فَهُمْ مِن مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ﴾ [الطور: ٤٠، والقلم: ٤٦]، يعني: أنّ سبَبَ نُفُورِهم مِنَ الحقِّ الذي معَكَ ليس لأجلِ أنّك تطلُبُ منهم شيئًا فيَغْرَمُوا، وإنّما هو عِنادٌ واستِكْبارٌ.
أخذُ المالِ على تبليغِ الدِّينِ:
وأخذُ المالِ على تعليمِ الناسِ الخيرَ، لم يكنْ محرَّمًا لذاتِ المالِ ولا لذاتِ العملِ، ولهذا قد يجوزُ في موضعٍ، ويُكرَهُ في موضعٍ ثانٍ، ويحرُمُ في موضعٍ ثالثٍ، وذلك بحسَبِ أثرِ المالِ على الداعِي والمدعُوِّ، وذلك يَرجِعُ إلى الحالِ والزمانِ ومَقامِ كلِّ واحدٍ مِن الآخَرِ وقصدِهِ بإعطاءِ المالِ.
وإنّما منَعَ اللهُ الأنبياءَ أنْ يأخُذُوا، لأنّ أُمَمَهُمْ على خلافِ عقيدتِهم، ولن يُعْطُوهم المالَ حُبًّا لهم، ولكنْ لاعتقادِهم أنْ يكونَ ذلك صَرْفًا لهم أو صرفًا لأتباعِهم عن اتِّباعِ الحقِّ الذي معهم، فإنْ عجَزوا عن المتبوعِ، استمالُوا التابعَ، فكان النبيُّ قدوةً لأتباعِه، وقد أرسَلتْ مَلِكةُ سَبَأٍ إلى سُلَيْمانَ هديَّةً، وكان مَقصَدُها استمالتَهُ عن الحقِّ، فامتنَعَ مِن أخذِها، والأصلُ أنّ الملوكَ ورؤوسَ الأُمَمِ تأخُذُ بعضُها الهدايا مِن بعضٍ، قال تعالى حاكيًا قولَها: ﴿وإنِّي مُرْسِلَةٌ إلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المُرْسَلُونَ ﴾ [النمل: ٣٥]، وكان قصدُها استمالتَهُ وصَرْفَهُ عن كُفْرِهم، وطلَبَ السلامةِ لها ولقومِها، وقد قال ابنُ زيدٍ: «إنّها قالتْ: إنّ هذا الرجُلَ إنْ كان إنّما هِمَّتُهُ الدُّنيا فسنُرْضِيهِ، وإنْ كان إنّما يُرِيدُ الدِّينَ فلن يَقبَلَ غيرَهُ»[[«تفسير الطبري» (١٨ /٥٤).]].
وقد قال وهبُ بنُ مُنَبِّهٍ ـ وكان ممَّن يأخُذُ خبرَ أهلِ الكتابِ والأُمَمِ السابقةِ ـ: «إنّها قالتْ: إنّه قد جاءَني كتابٌ لم يأتِني مِثلُهُ مِن مَلِكٍ مِن المُلُوكِ قبلَه، فإنْ يكُنِ الرجُلُ نبيًّا مُرسَلًا، فلا طاقةَ لنا به ولا قُوَّةَ، وإنْ يكنِ الرجُلُ مَلِكًا يُكاثِرُ، فليس بأعَزَّ منّا ولا أعَدَّ. فهيَّأَتْ هَدايا ممّا يُهدى للمُلوكِ، ممّا يُفتَنُونَ به، فقالتْ: إنْ يكنْ ملِكًا فسيَقبَلُ الهديَّةَ ويَرغَبُ في المالِ، وإن يكنْ نبيًّا، فليس له في الدُّنيا حاجةٌ، وليس إيّاها يُريدُ، إنّما يُريدُ أنْ ندخُلَ معه في دِينِهِ ونَتَّبِعَهُ على أمرِه»[[«تفسير الطبري» (١٨ /٥٤ ـ ٥٥).]].
وقد عرَفَ سُلَيْمانُ قَصْدَها مِن إرسالِها الهديَّةَ إليه، فامتنَعَ منها، قال تعالى: ﴿فَلَمّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمّا آتاكُمْ بَلْ أنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ارْجِعْ إلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها ولَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنها أذِلَّةً وهُمْ صاغِرُونَ ﴾ [النمل: ٣٦ ـ ٣٧].
والأزمنةُ تَختلِفُ، والأحوالُ تتبايَنُ، والعطاءُ الذي يأخُذُهُ الداعِي إلى اللهِ، والحاملُ لرسالةِ الأنبياءِ: يُعرَفُ موضعُهُ مِن الشرعِ بمعرفةِ مُعطِيهِ وغايتِهِ منه، فإنّ للمُعطِي رسالةً باطنةً غيرَ ظاهرةٍ تَكسِرُ القلوبَ وتُمِيلُها إلى أهواءِ المُعطِينَ ورغباتِهم، وأمّا عطاءُ أهلِ الدِّيانةِ والأمانةِ، فلا يُحذَرُ منه إلاَّ تشوُّفُ النَّفْسِ ولو كان المُعطِي نبيًّا، فقد أعطى النبيُّ ﷺ عمرَ، فقال له عمرُ: أعْطِهِ مَن هو أفقرُ إليه منِّي، فقال له: (خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ أوْ تَصَدَّقْ بِهِ، وما جاءَكَ مِن هَذا المالِ وأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ ولا سائِلٍ، فَخُذْهُ، وما لا، فَلا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ)، رواهُ الشيخانِ، عن ابنِ عمرَ، عن أبيه[[أخرجه البخاري (١٤٧٣)، ومسلم (١٠٤٥).]].
وقد كان النبيُّ ﷺ لا يأخُذُ أجرًا مِن قريشٍ، ولا يَسْأَلُهم إيّاه، وقد كان يبذُلُ له أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ فيأخُذُهُ، لأنّ يدَهُ ليستْ كيَدِ كفارِ قريشٍ، وغايتَهُ ليستْ كغايتِهم، فإنّ يدَهُ مع يدِ النبيِّ ﷺ وغايتَهُ مع غايتِه، وقد كان يقولُ: (إنَّهُ لَيْسَ مِنَ النّاسِ أحَدٌ أمَنَّ عَلَيَّ فِي نَفْسِهِ ومالِهِ مِن أبِي بكْرِ بْنِ أبِي قُحافَةَ)[[أخرجه البخاري (٤٦٧).]].
وقد كان النبيُّ ﷺ بعدَما ظهَرَ أمرُهُ ونصرُهُ ودِينُهُ، وقَوِيَتْ شَوْكَتُه، أخَذَ بقَبُولِ الهدايا مِن الملوكِ، لأنّه لا مِنَّةَ لهم عليه، فيدُهُ فوقَهم عُلْيا، ففي مكةَ لم يكنْ يأخُذُ مالًا منهم، ومالُهُ حِينَها قليلٌ، ولمّا كَثُرَ ما في يدِه في المدينةِ، قَبِلَ الهديَّةَ، وهذا مِقْياسُ أهلِ الدِّينِ، وأمّا مقياسُ أهلِ الدُّنيا، فيَرَوْنَ الأخذَ إذا كانتِ اليدُ خاليةً، وتَدَعُ إذا كانتْ غنيَّةً، لأنّ اعتِبارَهم سلامةُ الدُّنيا، واعتبارُ الأنبياءِ سلامةُ الدِّينِ.
{"ayah":"وَیَـٰقَوۡمِ لَاۤ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَیۡهِ مَالًاۖ إِنۡ أَجۡرِیَ إِلَّا عَلَى ٱللَّهِۚ وَمَاۤ أَنَا۠ بِطَارِدِ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ۚ إِنَّهُم مُّلَـٰقُوا۟ رَبِّهِمۡ وَلَـٰكِنِّیۤ أَرَىٰكُمۡ قَوۡمࣰا تَجۡهَلُونَ"}