الباحث القرآني

. لِما أوْرَدَ سُبْحانَهُ عَلى الكُفّارِ المُعاصِرِينَ لِمُحَمَّدٍ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ أنْواعَ الدَّلائِلِ الَّتِي هي أوْضَحُ مِنَ الشَّمْسِ، أكَدَّ ذَلِكَ بِذِكْرِ القَصَصِ عَلى طَرِيقَةِ التَّفَنُّنِ في الكَلامِ، ونَقْلِهِ مِن أُسْلُوبٍ إلى أُسْلُوبٍ لِتَكُونَ المَوْعِظَةُ أظْهَرَ والحُجَّةُ أبْيَنَ، والقَبُولُ أتَمَّ، فَقالَ: ﴿ولَقَدْ أرْسَلْنا نُوحًا إلى قَوْمِهِ إنِّي لَكم نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [هود: ٢٥] . قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو والكِسائِيُّ بِفَتْحِ الهَمْزَةِ عَلى تَقْدِيرِ حَرْفِ الجَرِّ: أيْ أرْسَلْناهُ بِأنِّي: أيْ أرْسَلْناهُ مُتَلَبِّسًا بِذَلِكَ الكَلامِ، وهو أنِّي لَكم نَذِيرٌ مُبِينٌ. وقَرَأ الباقُونَ بِالكَسْرِ عَلى إرادَةِ القَوْلِ: أيْ قائِلًا إنِّي لَكم، والواوُ في ولَقَدْ لِلِابْتِداءِ، واللّامُ هي المُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ، واقْتَصَرَ عَلى النِّذارَةِ دُونَ البِشارَةِ، لِأنَّ دَعْوَتَهُ كانَتْ لِمُجَرَّدِ الإنْذارِ، أوْ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَعْمَلُوا بِما بَشَّرَهم بِهِ. وجُمْلَةُ ﴿أنْ لا تَعْبُدُوا إلّا اللَّهَ﴾ بَدَلٌ مِن إنِّي لَكم نَذِيرٌ مُبِينٌ: أيْ أرْسَلْناهُ بِأنْ لا تَعْبُدُوا إلّا اللَّهَ، أوْ تَكُونُ أنْ مُفَسِّرَةً مُتَعَلِّقَةً بِأرْسَلْنا، أوْ بِنَذِيرٍ، أوْ بِمُبِينٍ، وجُمْلَةُ ﴿إنِّي أخافُ عَلَيْكم عَذابَ يَوْمٍ ألِيمٍ﴾ تَعْلِيلِيَّةٌ. والمَعْنى: نَهَيْتُكم عَنْ عِبادَةِ غَيْرِ اللَّهِ لِأنِّي أخافُ عَلَيْكم، وفِيها تَحْقِيقٌ لِمَعْنى الإنْذارِ، واليَوْمُ الألِيمُ: هو يَوْمُ القِيامَةِ، أوْ يَوْمُ الطُّوفانِ، ووَصْفُهُ بِالألِيمِ مِن بابِ الإسْنادِ المَجازِيِّ مُبالَغَةً. ثُمَّ ذَكَرَ ما أجابَ بِهِ قَوْمُهُ عَلَيْهِ وهَذا الجَوابُ يَتَضَمَّنُ الطَّعْنَ مِنهم في نُبُوَّتِهِ مِن ثَلاثِ جِهاتٍ قالَ: ﴿فَقالَ المَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ﴾ والمَلَأُ الأشْرافُ كَما تَقَدَّمَ غَيْرُ مَرَّةٍ، ووَصْفُهم بِالكُفْرِ ذَمًّا لَهم، وفِيهِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ بَعْضَ أشْرافِ قَوْمِهِ لَمْ يَكُونُوا كَفَرَةً ﴿ما نَراكَ إلّا بَشَرًا مِثْلَنا﴾ هَذِهِ الجِهَةُ الأُولى مِن جِهاتِ طَعْنِهِمْ في نُبُوَّتِهِ: أيْ نَحْنُ وأنْتَ مُشْتَرِكُونَ في البَشَرِيَّةِ فَلَمْ يَكُنْ لَكَ عَلَيْنا مَزِيَّةٌ تَسْتَحِقُّ بِها النُّبُوَّةَ دُونَنا، والجِهَةُ الثّانِيَةُ: ﴿وما نَراكَ اتَّبَعَكَ إلّا الَّذِينَ هم أراذِلُنا﴾ ولَمْ يَتَّبِعْكَ أحَدٌ مِنَ الأشْرافِ، فَلَيْسَ لَكَ مَزِيَّةٌ عَلَيْنا بِاتِّباعِ هَؤُلاءِ الأراذِلِ لَكَ، والأراذِلُ جَمْعُ أرْذَلَ وأرْذَلُ جَمْعُ رَذْلٍ مِثْلُ أكالِبَ وأكْلُبٍ وكَلْبٍ، وقِيلَ: الأراذِلُ جَمْعُ الأرْذَلِ كالأساوِدِ جَمْعُ أسْوَدٍ، وهُمُ السَّفَلَةُ. قالَ النَّحّاسُ: الأراذِلُ: الفُقَراءُ والَّذِينَ لا حَسَبَ لَهم، والحَسَبُ الصِّناعاتُ. قالَ الزَّجّاجُ: نَسَبُوهم إلى الحِياكَةِ، ولَمْ يَعْلَمُوا أنَّ الصِّناعاتِ لا أثَرَ لَها في الدِّيانَةِ. وقالَ ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الأعْرابِيِّ: السَّفَلَةُ هو الَّذِي يُصْلِحُ الدُّنْيا بِدِينِهِ، قِيلَ لَهُ: فَمَن سَفَلَةُ السَّفَلَةِ ؟ قالَ: الَّذِي يُصْلِحُ دُنْيا غَيْرِهِ بِفَسادِ دِينِهِ. والظّاهِرُ مِن كَلامِ أهْلِ اللُّغَةِ أنَّ السَّفَلَةَ هو الَّذِي يَدْخُلُ في الحِرَفِ الدَّنِيَّةِ، والرُّؤْيَةُ في المَوْضِعَيْنِ إنْ كانَتِ القَلْبِيَّةَ فَ بَشَرًا في الأوَّلِ واتَّبَعَكَ في الثّانِي هُما المَفْعُولُ الثّانِي، وإنْ كانَتِ البَصَرِيَّةَ فَهُما مُنْتَصِبانِ عَلى الحالِ وانْتِصابُ ﴿بادِيَ الرَّأْيِ﴾ عَلى الظَّرْفِيَّةِ والعامِلُ فِيهِ اتَّبَعَكَ. والمَعْنى: في ظاهِرِ الرَّأْيِ مِن غَيْرِ تَعَمُّقٍ، يُقالُ: بَدا يَبْدُو: إذا ظَهَرَ. قالَ الأزْهَرِيُّ: مَعْناهُ فِيما يَبْدُو لَنا مِنَ الرَّأْيِ. والوَجْهُ الثّالِثُ: مِن جِهاتِ قَدْحِهِمْ في نُبُوَّتِهِ ﴿وما نَرى لَكم عَلَيْنا مِن فَضْلٍ﴾ خاطَبُوهُ في الوَجْهَيْنِ الأوَّلَيْنِ مُنْفَرِدًا وفي هَذا الوَجْهِ خاطَبُوهُ مَعَ مُتَّبِعِيهِ أيْ: ما نَرى لَكَ ولِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الأراذِلِ عَلَيْنا مِن فَضْلٍ يَتَمَيَّزُونَ بِهِ وتَسْتَحِقُّونَ ما تَدَّعُونَهُ، ثُمَّ أضْرَبُوا عَنِ الثَّلاثَةِ المَطاعِنِ وانْتَقَلُوا إلى ظَنِّهِمُ المُجَرَّدِ عَنِ البُرْهانِ الَّذِي لا مُسْتَنَدَ لَهُ إلّا (p-٦٥٥)مُجَرَّدُ العَصَبِيَّةِ والحَسَدِ واسْتِبْقاءِ ما هم فِيهِ مِنَ الرِّياسَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَقالُوا: ﴿بَلْ نَظُنُّكم كاذِبِينَ﴾ فِيما تَدَّعُونَهُ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ هَذا خِطابًا لِلْأراذِلِ وحْدَهم، والأوَّلُ أوْلى، لِأنَّ الكَلامَ مَعَ نُوحٍ لا مَعَهم إلّا بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لَهُ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحانَهُ ما أجابَ بِهِ نُوحٌ عَلَيْهِمْ، فَقالَ: ﴿قالَ ياقَوْمِ أرَأيْتُمْ إنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّي﴾ أيْ أخْبِرُونِي إنْ كُنْتُ عَلى بُرْهانٍ مِن رَبِّي في النُّبُوَّةِ يَدُلُّ عَلى صِحَّتِها ويُوجِبُ عَلَيْكم قَبُولَها مَعَ كَوْنِ ما جَعَلْتُمُوهُ قادِحًا لَيْسَ بِقادِحٍ في الحَقِيقَةِ، فَإنَّ المُساواةَ في صِفَةِ البَشَرِيَّةِ لا تَمْنَعُ المُفارَقَةَ في صِفَةِ النُّبُوَّةِ، واتِّباعُ الأراذِلِ كَما تَزْعُمُونَ لَيْسَ مِمّا يَمْنَعُ مِنَ النُّبُوَّةِ فَإنَّهم مِثْلُكم في البَشَرِيَّةِ والعَقْلِ والفَهْمِ، فاتِّباعُهم لِي حُجَّةٌ عَلَيْكم لا لَكم، ويَجُوزُ أنْ يُرِيدَ بِالبَيِّنَةِ المُعْجِزَةَ ﴿وآتانِي رَحْمَةً مِن عِنْدِهِ﴾ هي النُّبُوَّةُ، وقِيلَ الرَّحْمَةُ المُعْجِزَةُ، والبَيِّنَةُ النُّبُوَّةُ. قِيلَ: ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ الرَّحْمَةُ هي البَيِّنَةُ نَفْسُها، والأوْلى تَفْسِيرُ الرَّحْمَةِ بِغَيْرِ ما فُسِّرَتْ بِهِ البَيِّنَةُ، والإفْرادُ في فَعَمِيَتْ عَلى إرادَةِ كُلِّ واحِدَةٍ مِنهُما، أوْ عَلى إرادَةِ البَيِّنَةِ، لِأنَّها هي الَّتِي تَظْهَرُ لِمَن تَفَكَّرَ وتَخْفى عَلى مَن لَمْ يَتَفَكَّرْ، ومَعْنى عَمِيَتْ خَفِيَتْ، وقِيلَ: الرَّحْمَةُ هي عَلى الخَلْقِ، وقِيلَ: هي الهِدايَةُ إلى مَعْرِفَةِ البُرْهانِ، وقِيلَ: الإيمانُ، يُقالُ: عَمِيتُ عَنْ كَذا، وعَمِيَ عَلَيَّ كَذا: إذا لَمْ أفْهَمْهُ. قِيلَ: وهو مِن بابِ القَلْبِ، لِأنَّ البَيِّنَةَ أوِ الرَّحْمَةَ لا تَعْمى وإنَّما يُعْمى عَنْها فَهو كَقَوْلِهِمْ: أدْخَلَتْ القَلَنْسُوَةُ رَأْسِي. وقَرَأ الأعْمَشُ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ وحَفْصٌ فَعُمِّيَتْ بِضَمِّ العَيْنِ وتَشْدِيدِ المِيمِ عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ: أيْ فَعَمّاها اللَّهُ عَلَيْكم، وفي قِراءَةِ أُبِيٍّ فَعَمّاها عَلَيْكم والِاسْتِفْهامُ في ﴿أنُلْزِمُكُمُوها﴾ لِلْإنْكارِ: أيْ لا يُمْكِنُنِي أنْ أضْطَرَّكم إلى المَعْرِفَةِ بِها والحالُ أنَّكم لَها كارِهُونَ، والمَعْنى أخْبِرُونِي إنْ كُنْتُ عَلى حُجَّةٍ ظاهِرَةِ الدَّلالَةِ عَلى صِحَّةِ نُبُوَّتِي إلّا أنَّها خافِيَةٌ عَلَيْكم أيُمْكِنُنا أنْ نَضْطَرَّكم إلى العِلْمِ بِها، والحالُ أنَّكم لَها كارِهُونَ غَيْرُ مُتَدَبِّرِينَ فِيها، فَإنَّ ذَلِكَ لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلّا اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ. وحَكى الكِسائِيُّ والفَرّاءُ إسْكانَ المِيمِ الأُولى في أنُلْزِمُكُمُوها تَخْفِيفًا كَما في قَوْلِ الشّاعِرِ: ؎فاليَوْمَ أشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ إثْمًا مِنَ اللَّهِ ولا واغِلِ فَإنَّ إسْكانَ الباءِ في أشْرَبْ لِلتَّخْفِيفِ. وقَدْ قَرَأ أبُو عَمْرٍو كَذَلِكَ. قَوْلُهُ: ﴿ويا قَوْمِ لا أسْألُكم عَلَيْهِ مالًا إنْ أجْرِيَ إلّا عَلى اللَّهِ﴾ فِيهِ التَّصْرِيحُ مِنهُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِأنَّهُ لا يَطْلُبُ عَلى تَبْلِيغِ الرِّسالَةِ مالًا حَتّى يَكُونَ بِذَلِكَ مَحَلًّا لِلتُّهْمَةِ، ويَكُونَ لِقَوْلِ الكافِرِينَ مَجالٌ بِأنَّهُ إنَّما ادَّعى ما ادَّعى طَلَبًا لِلدُّنْيا، والضَّمِيرُ في عَلَيْهِ راجِعٌ إلى ما قالَهُ لَهم فِيما قَبْلَ هَذا. وقَوْلُهُ: ﴿وما أنا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ كالجَوابِ عَمّا يُفْهَمُ مِن قَوْلِهِمْ: ﴿وما نَراكَ اتَّبَعَكَ إلّا الَّذِينَ هم أراذِلُنا﴾ مِنَ التَّلْمِيحِ مِنهم إلى إبْعادِ الأراذِلِ عَنْهُ، وقِيلَ إنَّهم سَألُوهُ طَرْدَهم تَصْرِيحًا لا تَلْمِيحًا، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّهم مُلاقُو رَبِّهِمْ﴾ أيْ لا أطْرُدُهم، فَإنَّهم مُلاقُونَ يَوْمَ القِيامَةِ رَبَّهم فَهو يُجازِيهِمْ عَلى إيمانِهِمْ لِأنَّهم طَلَبُوا بِإيمانِهِمْ ما عِنْدَهُ سُبْحانَهُ، وكَأنَّهُ قالَ هَذا عَلى وجْهِ الإعْظامِ لَهم، ويُحْتَمَلُ أنَّهُ قالَهُ خَوْفًا مِن مُخاصَمَتِهِمْ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِمْ بِسَبَبِ طَرْدِهِ لَهم، ثُمَّ بَيَّنَ لَهم ما هم عَلَيْهِ في هَذِهِ المَطالِبِ الَّتِي طَلَبُوها مِنهُ والعِلَلِ الَّتِي اعْتَلُّوا بِها عَنْ إجابَتِهِ فَقالَ: ﴿ولَكِنِّي أراكم قَوْمًا تَجْهَلُونَ﴾ كُلَّ ما يَنْبَغِي أنْ يُعْلَمَ، ومِن ذَلِكَ اسْتِرْذالُهم لِلَّذَيْنِ اتَّبَعُوهُ وسُؤالُهم لَهُ أنْ يَطْرُدَهم. ثُمَّ أكَّدَ عَدَمَ جَوازِ طَرْدِهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿ويا قَوْمِ مَن يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إنْ طَرَدْتُهُمْ﴾ أيْ يَمْنَعُنِي مِن عَذابِ اللَّهِ وانْتِقامِهِ إنْ طَرَدْتُهم ؟ فَإنَّ طَرْدَهم بِسَبَبِ سَبْقِهِمْ إلى الإيمانِ والإجابَةِ إلى الدَّعْوَةِ الَّتِي أرْسَلَ اللَّهُ رَسُولَهُ لِأجْلِها ظُلْمٌ عَظِيمٌ لا يَقَعُ مِن أنْبِياءِ اللَّهِ المُؤَيَّدِينَ بِالعِصْمَةِ، ولَوْ وقَعَ ذَلِكَ مِنهم فَرْضًا وتَقْدِيرًا لَكانَ فِيهِ مِنَ الظُّلْمِ ما لا يَكُونُ لَوْ فَعَلَهُ غَيْرُهم مِن سائِرِ النّاسِ. وقَوْلُهُ: ﴿أفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى مُقَدَّرٍ، كَأنَّهُ قِيلَ: أتَسْتَمِرُّونَ عَلى ما أنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الجَهْلِ بِما ذُكِرَ أفَلا تَذَكَّرُونَ مِن أحْوالِهِمْ ما يَنْبَغِي تَذَكُّرُهُ وتَتَفَكَّرُونَ فِيهِ حَتّى تَعْرِفُوا ما أنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الخَطَأِ، وما هم عَلَيْهِ مِنَ الصَّوابِ. قَوْلُهُ: ﴿ولا أقُولُ لَكم عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ﴾ بَيَّنَ لَهم أنَّهُ كَما لا يَطْلُبُ مِنهم شَيْئًا مِن أمْوالِهِمْ عَلى تَبْلِيغِ الرِّسالَةِ، كَذَلِكَ لا يَدَّعِي أنَّ عِنْدَهُ خَزائِنَ اللَّهِ حَتّى يَسْتَدِلُّوا بِعَدَمِها عَلى كَذِبِهِ، كَما قالُوا: ﴿وما نَرى لَكم عَلَيْنا مِن فَضْلٍ﴾ والمُرادُ بِخَزائِنِ اللَّهِ: خَزائِنُ رِزْقِهِ ﴿ولا أعْلَمُ الغَيْبَ﴾ أيْ ولا أدَّعِي أنِّي أعْلَمُ بِغَيْبِ اللَّهِ، بَلْ لَمْ أقُلْ لَكم إلّا أنِّي نَذِيرٌ مُبِينٌ، إنِّي أخافُ عَلَيْكم عَذابَ يَوْمٍ ألِيمٍ ولا أقُولُ لَكم إنِّي مَلَكٌ حَتّى تَقُولُوا ما نَراكَ إلّا بَشَرًا مِثْلَنا. وقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذا مَن قالَ إنَّ المَلائِكَةَ أفْضَلُ مِنَ الأنْبِياءِ، والأدِلَّةُ في هَذِهِ المَسْألَةِ مُخْتَلِفَةٌ، ولَيْسَ لِطالِبِ الحَقِّ إلى تَحْقِيقِها حاجَةٌ، فَلَيْسَتْ مِمّا كَلَّفَنا اللَّهُ بِعِلْمِهِ ﴿ولا أقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أعْيُنُكُمْ﴾ أيْ تَحْتَقِرُ، والِازْدِراءُ مَأْخُوذٌ مَن أزْرى عَلَيْهِ: إذا عابَهُ، وزَرى عَلَيْهِ: إذا احْتَقَرَهُ، وأنْشَدَ الفَرّاءُ: ؎يُباعِدُهُ الصَّدِيقُ وتَزْدَرِيهِ ∗∗∗ خَلِيلَتُهُ ويَنْهَرُهُ الصَّغِيرُ والمَعْنى: إنِّي لا أقُولُ لِهَؤُلاءِ المُتَّبِعِينَ لِي المُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ الَّذِينَ تَعِيبُونَهم وتَحْتَقِرُونَهم ﴿لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا﴾ بَلْ قَدْ آتاهُمُ الخَيْرَ العَظِيمَ بِالإيمانِ بِهِ واتِّباعِ نَبِيِّهِ، فَهو مُجازِيهِمُ الجَزاءَ العَظِيمَ في الآخِرَةِ ورافِعُهم في الدُّنْيا إلى أعْلى مَحَلٍّ، ولا يَضُرُّهُمُ احْتِقارُكم لَهم شَيْئًا ﴿اللَّهُ أعْلَمُ بِما في أنْفُسِهِمْ﴾ مِنَ الإيمانِ بِهِ والإخْلاصِ لَهُ فَمُجازِيهِمْ عَلى ذَلِكَ، لَيْسَ لِي ولا لَكم مِن أمْرِهِمْ شَيْءٌ ﴿إنِّي إذًا لَمِنَ الظّالِمِينَ﴾ لَهم إنْ فَعَلْتُ ما تُرِيدُونَهُ بِهِمْ، أوْ مِنَ الظّالِمِينَ لِأنْفُسِهِمْ إنْ فَعَلْتُ ذَلِكَ بِهِمْ. ثُمَّ جاوَبُوهُ بِغَيْرِ ما تَقَدَّمَ مِن كَلامِهِمْ وكَلامِهِ عَجْزًا عَنِ القِيامِ بِالحُجَّةِ وقُصُورًا عَنْ رُتْبَةِ المُناظَرَةِ وانْقِطاعًا عَنِ المُباراةِ بِقَوْلِهِمْ: ﴿يانُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأكْثَرْتَ جِدالَنا﴾ أيْ خاصَمْتَنا بِأنْواعِ الخِصامِ، ودَفَعْتَنا بِكُلِّ حاجَةٍ لَها مَدْخَلٌ في المَقامِ، ولَمْ يَبْقَ لَنا في هَذا البابِ مَجالٌ، فَقَدْ ضاقَتْ عَلَيْنا المَسالِكُ وانْسَدَّتْ أبْوابُ الحِيَلِ ﴿فَأْتِنا بِما تَعِدُنا﴾ مِنَ العَذابِ الَّذِي تُخَوِّفُنا مِنهُ وتَخافُهُ عَلَيْنا ﴿إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ﴾ فِيما تَقُولُهُ لَنا. فَأجابَ بِأنَّ ذَلِكَ لَيْسَ (p-٦٥٦)إلَيْهِ وإنَّما هو بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وإرادَتِهِ، و﴿قالَ إنَّما يَأْتِيكم بِهِ اللَّهُ إنْ شاءَ﴾ فَإنْ قَضَتْ مَشِيئَتُهُ وحِكْمَتُهُ بِتَعْجِيلِهِ عَجَّلَهُ لَكم، وإنْ قَضَتْ مَشِيئَتُهُ وحِكْمَتُهُ بِتَأْخِيرِهِ أخَّرَهُ ﴿وما أنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ بِفائِتِينَ عَمّا أرادَهُ اللَّهُ بِكم بِهَرَبٍ أوْ مُدافَعَةٍ. ﴿ولا يَنْفَعُكم نُصْحِي﴾ الَّذِي أبْذُلُهُ لَكم وأسْتَكْثِرُ مِنهُ قِيامًا مِنِّي بِحَقِّ النَّصِيحَةِ لِلَّهِ بِإبْلاغِ رِسالَتِهِ، ولَكم بِإيضاحِ الحَقِّ وبَيانِ بُطْلانِ ما أنْتُمْ عَلَيْهِ ﴿إنْ أرَدْتُ أنْ أنْصَحَ لَكُمْ﴾ وجَوابُ هَذا الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، والتَّقْدِيرُ: إنْ أرَدْتُ أنْ أنْصَحَ لَكم لا يَنْفَعُكم نُصْحِي، كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ ما قَبْلَهُ ﴿إنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أنْ يُغْوِيَكُمْ﴾ أيْ إنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ إغْواءَكم فَلا يَنْفَعُكُمُ النُّصْحُ مِنِّي، فَكانَ جَوابُ هَذا الشَّرْطِ مَحْذُوفًا كالأوَّلِ، وتَقْدِيرُهُ ما ذَكَرْنا، وهَذا التَّقْدِيرُ إنَّما هو عَلى مَذْهَبِ مَن يَمْنَعُ مِن تَقَدُّمِ الجَزاءِ عَلى الشَّرْطِ، وأمّا عَلى مَذْهَبِ مَن يُجِيزُهُ، فَجَزاءُ الشَّرْطِ الأوَّلِ ولا يَنْفَعُكم نُصْحِي، وجَزاءُ الشَّرْطِ الثّانِي الجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ الأُولى وجَزاؤُها. قالَ ابْنُ جَرِيرٍ: مَعْنى يُغْوِيَكم يُهْلِكَكم بِعَذابِهِ، وظاهِرُ لُغَةِ العَرَبِ أنَّ الإغْواءَ الإضْلالُ، فَمَعْنى الآيَةِ: لا يَنْفَعُكم نُصْحِي إنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أنْ يُضِلَّكم عَنْ سَبِيلِ الرَّشادِ ويَخْذُلَكم عَنْ طَرِيقِ الحَقِّ. وحُكِيَ عَنْ طَيٍّ أصْبَحَ فُلانٌ غاوِيًا: أيْ مَرِيضًا، ولَيْسَ هَذا المَعْنى هو المُرادُ في الآيَةِ. وقَدْ ورَدَ الإغْواءُ بِمَعْنى الإهْلاكِ، ومِنهُ ﴿فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ [مريم: ٥٩] وهو غَيْرُ ما في هَذِهِ الآيَةِ هو رَبُّكم فَإلَيْهِ الإغْواءُ وإلَيْهِ الهِدايَةُ وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ فَيُجازِيكم بِأعْمالِكم إنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وإنْ شَرًّا فَشَرٌّ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿وما نَراكَ اتَّبَعَكَ إلّا الَّذِينَ هم أراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ﴾ قالَ: فِيما ظَهَرَ لَنا. وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ عَنْ عَطاءٍ مِثْلَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ في قَوْلِهِ: ﴿إنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّي﴾ قالَ: قَدْ عَرَفْتُها وعَرَفْتُ بِها أمْرَهُ، وأنَّهُ لا إلَهَ إلّا هو، ﴿وآتانِي رَحْمَةً مِن عِنْدِهِ﴾ قالَ: الإسْلامُ الهُدى والإيمانُ والحُكْمُ والنُّبُوَّةُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿أنُلْزِمُكُمُوها﴾ قالَ: أما واللَّهِ لَوِ اسْتَطاعَ نَبِيُّ اللَّهِ لَألْزَمَها قَوْمَهُ، ولَكِنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعْ ذَلِكَ ولَمْ يُمْكِنْهُ. وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ كانَ يَقْرَأُ أنُلْزِمُكُمُوها مِن شَطْرِ أنْفُسِنا وأنْتُمْ لَها كارِهُونَ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أبِي العالِيَةِ قالَ في قِراءَةِ أُبَيٍّ " أنُلْزِمُكُمُوها مِن شَطْرِ أنْفُسِنا وأنْتُمْ لَها كارِهُونَ " . وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أنَّهُ قَرَأ أنُلْزِمُكُمُوها مِن شَطْرِ قُلُوبِنا. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ في قَوْلِهِ: ﴿وما أنا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، قالَ: قالُوا لَهُ يا نُوحُ إنْ أحْبَبْتَ أنْ نَتَّبِعَكَ فاطْرُدْهم، وإلّا فَلَنْ نَرْضى أنْ نَكُونَ نَحْنُ وهم في الأرْضِ سَواءً، وفي قَوْلِهِ: ﴿إنَّهم مُلاقُو رَبِّهِمْ﴾ قالَ: فَيَسْألُهم عَنْ أعْمالِهِمْ ﴿ولا أقُولُ لَكم عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ﴾ الَّتِي لا يُفْنِيها شَيْءٌ، فَأكُونُ إنَّما دَعْوَتُكم لِتَتَّبِعُونِي عَلَيْها، لا أُعْطِيكم بِمَلْكِهِ لِي عَلَيْها ﴿ولا أعْلَمُ الغَيْبَ﴾ لا أقُولُ: اتَّبَعُونِي عَلى عِلْمِي بِالغَيْبِ ﴿ولا أقُولُ إنِّي مَلَكٌ﴾ نَزَلْتُ مِنَ السَّماءِ بِرِسالَةٍ، ما أنا إلّا بَشَرٌ مِثْلُكم. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ولا أقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أعْيُنُكم. قالَ: حَقَّرْتُمُوهم. وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ في قَوْلِهِ: ﴿لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا﴾ قالَ: يَعْنِي إيمانًا. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ في قَوْلِهِ: ﴿فَأْتِنا بِما تَعِدُنا﴾ قالَ: تَكْذِيبًا بِالعَذابِ وأنَّهُ باطِلٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب