الباحث القرآني
القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[ ١١ ] ﴿لَهُ مُعَقِّباتٌ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ومِن خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِن أمْرِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأنْفُسِهِمْ وإذا أرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وما لَهم مِن دُونِهِ مِن والٍ﴾
﴿لَهُ مُعَقِّباتٌ﴾ أيْ: لِمَن أسَرَّ أوْ جَهَرَ أوِ اسْتَخْفى أوْ سَرَبَ، مَلائِكَةٌ يَتَعاقَبُونَ عَلَيْهِ (p-٣٦٥٣)﴿مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ومِن خَلْفِهِ﴾ أيْ: مِن جَوانِبِهِ كُلِّها، أوْ مِن أعْمالِهِ، ما قَدَّمَ وأخَّرَ ﴿يَحْفَظُونَهُ مِن أمْرِ اللَّهِ﴾ أيْ يُراقِبُونَ ما يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ وما يَأْتِي مِن عَمَلٍ، خَيْرًا أوْ شَرًّا، بِأمْرِهِ وإذْنِهِ، أوْ مِن أجْلِ أمْرِهِ لَهم بِحِفْظِهِ. فَـ (مِن) تَعْلِيلِيَّةٌ أوْ بِمَعْنى باءِ السَّبَبِيَّةِ، ولا فَرْقَ بَيْنَ العِلَّةِ والسَّبَبِ عِنْدَ النُّحاةِ، وإنْ فَرَّقَ بَيْنَهُما أهْلُ المَعْقُولِ.
وفِي (الصَّحِيحِ): ««يَتَعاقَبُونَ فِيكم مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ ومَلائِكَةٌ بِالنَّهارِ. ويَجْتَمِعُونَ في صَلاةِ الصُّبْحِ وصَلاةِ العَصْرِ. فَيَصْعَدُ إلَيْهِ الَّذِينَ باتُوا فِيكم فَيَسْألُهُمْ، وهو أعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبادِي؟ فَيَقُولُونَ: أتَيْناهم وهم يُصَلُّونَ وتَرَكْناهم وهم يُصَلُّونَ»» .
وفِي الحَدِيثِ الآخَرِ: ««إنَّ مَعَكم مَن لا يُفارِقُكم إلّا عِنْدَ الخَلاءِ، وعِنْدَ الجِماعِ، فاسْتَحْيُوهم وأكْرِمُوهم»» .
و(المُعَقِّباتُ) جَمْعُ مُعَقِّبَةٍ مِن (عَقَّبَ) مُبالَغَةً في (عَقَبَ) فالتَّفْعِيلُ لِلْمُبالَغَةِ والزِّيادَةِ في التَّعْقِيبِ فَهو تَكْثِيرٌ لِلْفِعْلِ أوِ الفاعِلِ، لا لِلتَّعْدِيَةِ؛ لِأنَّ ثُلاثِيَّهُ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ. أصْلُ مَعْنى (العَقِبِ) مُؤَخِّرُ الرِّجْلِ، ثُمَّ تُجُوِّزَ بِهِ عَنْ كَوْنِ الفِعْلِ بِغَيْرِ فاصِلٍ ومُهْلَةٍ، كَأنَّ أحَدَهم يَطَأُ عَقِبَ الآخَرِ. قالَ الرّاغِبُ: عَقَبَهُ إذا تَلاهُ نَحْوَ دَبَرَهُ وقَفاهُ. وقِيلَ: هو مِنِ (اعْتَقَبَ) أُدْغِمَتِ التّاءُ في القافِ؛ ورَدُّوهُ بِأنَّ التّاءَ لا تُدْغَمُ في القافِ مِن كَلِمَةٍ أوْ كَلِمَتَيْنِ. وقَدْ قالَ أهْلُ التَّصْرِيفِ: إنَّ القافَ والكافَ، كُلٌّ مِنهُما يُدْغَمُ في الآخَرِ ولا يُدْغَمانِ في غَيْرِهِما. والتّاءُ في (مُعَقِّبَةٍ) واحِدَةِ (المُعَقِّباتِ) لِلْمُبالَغَةِ لا لِلتَّأْنِيثِ؛ لِأنَّ المَلائِكَةَ لا تُوصَفُ بِهِ. مِثْلَ نَسّابَةٍ وعَلّامَةٍ. (p-٣٦٥٤)أوْ هي صِفَةُ جَماعَةٍ وطائِفَةٍ. و﴿مِن بَيْنِ يَدَيْهِ﴾ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ صِفَةُ ﴿مُعَقِّباتٌ﴾ أوْ ظَرْفُ لَغْوٍ مُتَعَلِّقٌ بِها. و(مِن) لِابْتِداءِ الغايَةِ أوْ حالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي في الظَّرْفِ الواقِعِ خَبَرًا. والكَلامُ عَلى هَذِهِ الأوْجُهِ يَتِمُّ عِنْدَ قَوْلِهِ ﴿ومِن خَلْفِهِ﴾ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِـ ﴿يَحْفَظُونَهُ﴾ أيْ: مُعَقِّباتٌ يَحْفَظُونَهُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ومِن خَلْفِهِ، أيْ تَحْفَظُ ما قَدَّمَ وأخَّرَ مِنَ الأعْمالِ، كِنايَةً عَنْ حِفْظِ جَمِيعِ أعْمالِهِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ﴿يَحْفَظُونَهُ﴾ صِفَةً لِـ ﴿مُعَقِّباتٌ﴾ أوْ حالًا مِنَ الظَّرْفِ قَبْلَهُ، بِمَعْنى أنَّ المُعَقِّباتِ مُحِيطَةٌ بِجَمِيعِ جَوانِبِهِ.
تَنْبِيهاتٌ:
الأوَّلُ: ما قَدَّمْناهُ في مَعْنى الآيَةِ هو الأشْهَرُ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: هو السُّلْطانُ الَّذِي لَهُ حَرَسٌ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ومِن خَلْفِهِ.
قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أيْ يَحْفَظُونَهُ في تَوَهُّمِهِ وتَقْدِيرِهِ مِن أمْرِ اللَّهِ. أيْ مِن قَضاياهُ ونَوازِلِهِ، أوْ عَلى التَّهَكُّمِ بِهِ.
قالَ الرّازِيُّ: وهَذا القَوْلُ اخْتارَهُ أبُو مُسْلِمٍ الأصْفَهانِيُّ. والمَعْنى: أنَّهُ يَسْتَوِي في عِلْمِ اللَّهِ تَعالى السِّرُّ والجَهْرُ، والمُسْتَخْفِي بِظُلْمَةِ اللَّيْلِ والسّارِبُ المُسْتَظْهِرُ بِالأعْوانِ والأنْصارِ، وهُمُ المُلُوكُ والأُمَراءُ. فَمَن لَجَأ إلى اللَّيْلِ فَلَنْ يَفُوتَ اللَّهَ أمْرُهُ، ومَن سارَ نَهارًا بِالمُعَقِّباتِ، وهُمُ الحُرّاسُ والأعْوانُ الَّذِينَ يَحْفَظُونَهُ؛ لَمْ يُنْجِهِ حَرَسُهُ مِنَ اللَّهِ تَعالى! والمُعَقِّبُ العَوْنُ؛ لِأنَّهُ إذا أبْصَرَ هَذا ذاكَ فَلا بُدَّ أنْ يُبْصِرَ ذاكَ هَذا، فَتَصِيرُ بَصِيرَةُ كُلِّ واحِدٍ مِنهم مُعاقِبَةً لِبَصِيرَةِ الآخَرِ، فَهَذِهِ المُعَقِّباتُ لا تُخَلِّصُ مِن قَضاءِ اللَّهِ ومِن قَدَرِهِ! وهم وإنْ ظَنُّوا أنَّهم يُخَلِّصُونَ مَخْدُومَهم مِن أمْرِ اللَّهِ ومِن قَضائِهِ، فَإنَّهم لا يَقْدِرُونَ عَلى ذَلِكَ البَتَّةَ!. والمَقْصُودُ مِن هَذِهِ الجُمْلَةِ: بَعْثُ السَّلاطِينِ والأُمَراءِ والكُبَراءِ عَلى أنْ يَطْلُبُوا الخَلاصَ مِنَ المَكارِهِ، عَنْ حِفْظِ اللَّهِ وعِصْمَتِهِ، ولا يُعَوِّلُوا في دَفْعِها عَلى الأعْوانِ والأنْصارِ، ولِذَلِكَ قالَ تَعالى بَعْدُ: ﴿وإذا أرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا﴾ الآيَةَ.
(p-٣٦٥٥)الثّانِي: قَدَّمْنا أنَّ الضَّمِيرَ في ﴿لَهُ مُعَقِّباتٌ﴾ لِمَن أسَرَّ أوْ جَهَرَ.. إلَخْ. وأرْجَعَهُ بَعْضُهم لِلَّهِ، وما بَعْدَهُ (لِمَن). قالَ الشِّهابُ: فِيهِ تَفْكِيكٌ لِلضَّمائِرِ مِن غَيْرِ داعٍ. وقِيلَ: الضَّمِيرُ (لِمَنِ) الأخِيرِ، وقِيلَ: لِلنَّبِيِّ لِأنَّهُ مَعْلُومٌ مِنَ السِّياقِ.
الثّالِثُ: أشارَ الرّازِيُّ في مَعْنى الآيَةِ الأشْهَرِ إلى سِرِّ اخْتِصاصِ الحَفَظَةِ بِبَنِي آدَمَ، ما مُلَخَّصُهُ: إنَّهم يَدْعُونَ إلى الخَيْراتِ والطّاعاتِ بِما يَجِدُهُ المَرْءُ مِنَ الدَّواعِي القَلْبِيَّةِ إلَيْها، وإنَّ الإنْسانَ إذا عَلِمَ أنَّ المَلائِكَةَ تُحْصِي عَلَيْهِ أعْمالَهُ كانَ إلى الحَذَرِ مِنَ المَعاصِي أقْرَبُ؛ لِأنَّ مَن آمَنَ يَعْتَقِدُ جَلالَةَ المَلائِكَةِ وعُلُوَّ مَراتِبِهِمْ، فَإذا حاوَلَ الإقْدامَ عَلى مَعْصِيَةٍ واعْتَقَدَ أنَّهم يُشاهِدُونَها؛ زَجَرَهُ الحَياءُ مِنهم عَنِ الإقْدامِ عَلَيْها، كَما يَزْجُرُهُ عَنْهُ إذا حَضَرَهُ مَن يُعَظِّمُهُ مِنَ البَشَرِ. وإذا عَلِمَ أنَّ المَلائِكَةَ تُحْصِي عَلَيْهِ تِلْكَ الأعْمالَ؛ كانَ ذَلِكَ أيْضًا رادِعًا لَهُ عَنْها. وإذا عَلِمَ أنَّ المَلائِكَةَ يَكْتُبُونَها كانَ الرَّدْعُ أكْمَلَ.!
﴿إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ﴾ أيْ: مِنَ العافِيَةِ والنِّعْمَةِ: ﴿حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأنْفُسِهِمْ﴾ أيْ: مِنَ الأعْمالِ الصّالِحَةِ أوْ مَلَكاتِها، الَّتِي هي فِطْرَةُ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها إلى أضْدادِها: ﴿وإذا أرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا﴾ أيْ: لِسُوءِ اخْتِيارِهِمْ واسْتِحْقاقِهِمْ لِذَلِكَ ﴿فَلا مَرَدَّ لَهُ﴾ أيْ: فَلا رَدَّ لِقَضائِهِ فِيهِمْ ﴿وما لَهم مِن دُونِهِ مِن والٍ﴾ أيْ: يَلِي أمْرَهم فَيَدْفَعُ عَنْهُمُ السُّوءَ الَّذِي أرادَهُ اللَّهُ بِهِمْ بِما قَدَّمَتْ أيْدِيهِمْ مِن تَغْيِيرِ ما بِهِمْ. وفِيهِ دَلالَةٌ عَلى أنَّ تَخَلُّفَ مُرادِهِ تَعالى مُحالٌ. وإيذانٌ بِأنَّهم بِما باشَرُوهُ مِن إنْكارِ البَعْثِ واسْتِعْجالِ السَّيِّئَةِ واقْتِراحِ الآيَةِ، قَدْ غَيَّرُوا ما بِأنْفُسِهِمْ مِنَ الفِطْرَةِ، واسْتَحَقُّوا لِذَلِكَ حُلُولَ غَضَبِ اللَّهِ تَعالى وعَذابِهِ -أفادَهُ أبُو السُّعُودِ-.
تَنْبِيهٌ:
فِي هَذِهِ الآيَةِ وعِيدٌ شَدِيدٌ وإنْذارٌ رَهِيبٌ قاطِعٌ، بِأنَّهُ إذا انْحَرَفَ الآخِذُونَ بِالدِّينِ والمُنْتَمُونَ إلَيْهِ عَنْ جادَّتِهِ المُسْتَقِيمَةِ، ومالُوا مَعَ الأهْواءِ، وتَرَكُوا التَّمَسُّكَ بِآدابِهِ وسُنَّتِهِ القَوِيمَةِ؛ حَلَّ بِهِمْ ما يَنْقُلُهم إلى المِحَنِ والبَلايا، ويُفَرِّقُ كَلِمَتَهُمْ، ويُوهِي قُوَّتَهُمْ، ويُسَلِّطُ عَدُوَّهُمْ!.
(p-٣٦٥٦)وفِي حَدِيثٍ قُدْسِيٍّ عِنْدَ ابْنِ أبِي حاتِمٍ: ««لَيْسَ مِن أهْلِ قَرْيَةٍ ولا أهْلِ بَيْتٍ يَكُونُونَ عَلى طاعَةِ اللَّهِ، فَيَتَحَوَّلُونَ مِنها إلى مَعْصِيَةِ اللَّهِ، إلّا حَوَّلَ اللَّهُ عَنْهم ما يُحِبُّونَ إلى ما يَكْرَهُونَ»» .
ولِابْنِ أبِي شَيْبَةَ: ««ما مِن قَرْيَةٍ ولا أهْلِ بَيْتٍ، كانُوا عَلى ما كَرِهَتْ مِن مَعْصِيَتِي، ثُمَّ تَحَوَّلُوا عَنْها إلى ما أحْبَبْتُ مِن طاعَتِي، إلّا تَحَوَّلَتْ لَهم عَمّا يَكْرَهُونَ مِن عَذابِي، إلى ما يُحِبُّونَ مِن رَحْمَتِي»» .
وقالَ القاشانِيُّ: لا بُدَّ في تَغْيِيرِ النِّعَمِ إلى النِّقَمِ، مِنِ اسْتِحْقاقٍ جَلِيٍّ أوْ خَفِيٍّ.
وعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ: إنَّ الفَأْرَةَ مَزَّقَتْ خُفِّي، وما أعْلَمُ ذَلِكَ إلّا بِذَنْبٍ أحْدَثْتُهُ، وإلّا ما سَلَّطَها اللَّهُ عَلَيَّ! وتَمَثَّلَ بِقَوْلِ الشّاعِرِ:
؎لَوْ كُنْتُ مِن مازِنٍ لَمْ تَسْتَبِحْ إبِلِي
أقُولُ: المَنقُولُ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ مَحْمُولٌ عَلى شِدَّةِ الخَوْفِ مِنهُ تَعالى، وإلّا فالتَّحْقِيقُ الفَرْقُ بَيْنَ ما يَنالُ الشَّخْصُ والقَوْمُ، كَما أشارَتْ لَهُ الآيَةُ. وقَدْ جَوَّدَ الكَلامَ في ذَلِكَ، الإمامُ مُفْتِي مِصْرَ في (رِسالَةِ التَّوْحِيدِ) في بَحْثِ الدِّينِ الإسْلامِيِّ فَقالَ:
كَشَفَ الإسْلامُ عَنِ العَقْلِ غُمَّةً مِنَ الوَهْمِ فِيما يَعْرِضُ مِن حَوادِثِ الكَوْنِ الكَبِيرِ (العالَمِ) والكَوْنِ الصَّغِيرِ (الإنْسانِ). فَقَرَّرَ أنَّ آياتِ اللَّهِ الكُبْرى في صُنْعِ العالَمِ إنَّما يَجْرِي أمْرُها عَلى السُّنَنِ الإلَهِيَّةِ، الَّتِي قَدَّرَها اللَّهُ في عِلْمِهِ الأزَلِيِّ، لا يُغَيِّرُها شَيْءٌ مِنَ الطَّوارِئِ الجُزْئِيَّةِ. غَيْرَ أنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يَغْفُلَ شَأْنَ اللَّهِ فِيها. بَلْ يَنْبَغِي أنْ يُحْيِيَ ذِكْرَهُ عِنْدَ رُؤْيَتِها، فَقَدْ جاءَ عَلى لِسانِ النَّبِيِّ ﷺ: ««إنَّ الشَّمْسَ والقَمَرَ آيَتانِ مِن آياتِ اللَّهِ لا يَخْسِفانِ لِمَوْتِ أحَدٍ ولا لِحَياتِهِ، (p-٣٦٥٧)فَإذا رَأيْتُمْ ذَلِكَ فاذْكُرُوا اللَّهَ»» . وفِيهِ التَّصْرِيحُ بِأنَّ جَمِيعَ آياتِ الكَوْنِ تَجْرِي عَلى نِظامٍ واحِدٍ لا يَقْضِي فِيها إلّا العِنايَةُ الأزَلِيَّةُ عَلى السُّنَنِ الَّتِي أقامَتْهُ عَلَيْها. ثُمَّ أماطَ اللِّثامَ عَنْ حالِ الإنْسانِ في النِّعَمِ الَّتِي يَتَمَتَّعُ بِها الأشْخاصُ أوِ الأُمَمُ، والمَصائِبُ الَّتِي يَرْزَؤُنَ بِها؛ فَفَصَلَ بَيْنَ الأمْرَيْنِ (الأشْخاصِ والأُمَمِ) فَصْلًا لا مَجالَ مَعَهُ لِلْخَلْطِ بَيْنَهُما.
فَأمّا النِّعَمُ الَّتِي يُمَتِّعُ اللَّهُ بِها بَعْضَ الأشْخاصِ في هَذِهِ الحَياةِ، والرَّزايا الَّتِي يَرْزَأُ بِها في نَفْسِهِ؛ فَكَثِيرٌ مِنها كالثَّرْوَةِ والجاهِ، والقُوَّةِ والبَنِينَ، أوِ الفَقْرِ والضِّعَةِ والضَّعْفِ والفَقْدِ، وقَدْ لا يَكُونُ كاسِبُها أوْ جالِبُها ما عَلَيْهِ الشَّخْصُ في سِيرَتِهِ مِنِ اسْتِقامَةٍ وعِوَجٍ أوْ طاعَةٍ وعِصْيانٍ. وكَثِيرًا ما أمْهَلَ اللَّهُ بَعْضَ الطُّغاةِ البُغاةِ، أوِ الفَجَرَةِ الفَسَقَةِ، وتَرَكَ لَهم مَتاعَ الحَياةِ الدُّنْيا؛ إنْظارًا لَهم حَتّى يَتَلَقّاهم ما أعَدَّ لَهم مِنَ العَذابِ المُقِيمِ في الحَياةِ الأُخْرى!. وكَثِيرًا ما امْتَحَنَ اللَّهُ الصّالِحِينَ مِن عِبادِهِ، وأثْنى عَلَيْهِمْ في الِاسْتِسْلامِ لِحُكْمِهِ، وهُمُ الَّذِينَ إذا أصابَتْهم مُصِيبَةٌ، عَبَّرُوا عَنْ إخْلاصِهِمْ في التَّسْلِيمِ بِقَوْلِهِ: ﴿إنّا لِلَّهِ وإنّا إلَيْهِ راجِعُونَ﴾ [البقرة: ١٥٦] ! فَلا غَضَبَ زَيْدٍ، ولا رِضا عَمْرٍو، ولا إخْلاصَ سَرِيرَةٍ، ولا فَسادَ عَمَلٍ مِمّا يَكُونُ لَهُ دَخْلٌ في هَذِهِ الرَّزايا، ولا في تِلْكَ النِّعَمِ الخاصَّةِ، اللَّهُمَّ إلّا فِيما ارْتِباطُهُ بِالعَمَلِ ارْتِباطَ المُسَبَّبِ بِالسَّبَبِ عَلى جارِي العادَةِ، كارْتِباطِ الفَقْرِ بِالإسْرافِ، والذُّلِّ بِالجُبْنِ، وضَياعِ السُّلْطانِ بِالظُّلْمِ. وكارْتِباطِ الثَّرْوَةِ بِحُسْنِ التَّدْبِيرِ في الأغْلَبِ، والمَكانَةِ عِنْدَ النّاسِ بِالسَّعْيِ في مَصالِحِهِمْ عَلى الأكْثَرِ، وما يُشْبِهُ ذَلِكَ مِمّا هو مُبِينٌ في عِلْمٍ آخَرَ...!.
أمّا شَأْنُ الأُمَمِ فَلَيْسَ عَلى ذَلِكَ؛ فَإنَّ الرُّوحَ الَّذِي أوْدَعَهُ اللَّهُ جَمِيعَ شَرائِعِهِ الإلَهِيَّةِ: مِن تَصْحِيحِ الفِكْرِ، وتَسْدِيدِ النَّظَرِ، وتَأْدِيبِ الأهْواءِ، وتَحْدِيدِ مَطامِحِ الشَّهَواتِ، والدُّخُولِ (p-٣٦٥٨)إلى كُلِّ أمْرٍ مِن بابِهِ، وطَلَبِ كُلِّ رَغِيبَةٍ مِن أسْبابِها، وحِفْظِ الأمانَةِ، واسْتِشْعارِ الأُخُوَّةِ، والتَّعاوُنِ عَلى البِرِّ، والتَّناصُحِ في الخَيْرِ والشَّرِّ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِن أُصُولِ الفَضائِلِ، ذَلِكَ الرُّوحُ هو مَصْدَرُ حَياةِ الأُمَمِ، ومَشْرِقُ سَعادَتِها في هَذِهِ الدُّنْيا قَبْلَ الآخِرَةِ: ﴿ومَن يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنها﴾ [آل عمران: ١٤٥] ولَنْ يَسْلُبَ اللَّهُ عَنْها نِعْمَتَهُ ما دامَ هَذا الرُّوحُ فِيها. يَزِيدُ اللَّهُ النِّعَمَ بِقُوَّتِهِ ويَنْقُصُها بِضَعْفِهِ، حَتّى إذا فارَقَها ذَهَبَتِ السَّعادَةُ عَلى أثَرِهِ وتَبِعَتْهُ الرّاحَةُ إلى مَقَرِّهِ! واسْتَبْدَلَ اللَّهُ عِزَّةَ القَوْمِ بِالذُّلِّ، وكُثُرَهم بِالقُلِّ، ونَعِيمَهم بِالشَّقاءِ، وراحَتَهم بِالعَناءِ، وسَلَّطَ عَلَيْهِمُ الظّالِمِينَ أوِ العادِلِينَ فَأخَذَهم بِهِمْ وهم في غَفْلَةٍ ساهُونَ: ﴿وإذا أرَدْنا أنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْها القَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيرًا﴾ [الإسراء: ١٦] أمَرْناهم بِالحَقِّ فَفَسَقُوا عَنْهُ إلى الباطِلِ، ثُمَّ لا يَنْفَعُهُمُ الأنِينُ، ولا يُجْدِيهِمُ البُكاءُ، ولا يَفِيدُهم ما بَقِيَ مِن صُوَرِ الأعْمالِ، ولا يُسْتَجابُ مِنهُمُ الدُّعاءُ، ولا كاشِفَ لَما نَزَلَ بِهِمْ إلّا أنْ يَلْجَأُوا إلى ذَلِكَ الرُّوحِ الأكْرَمِ فَيَسْتَنْزِلُوهُ مِن سَماءِ الرَّحْمَةِ، بِرُسُلِ الفِكْرِ والذِّكْرِ والصَّبْرِ والشُّكْرِ: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأنْفُسِهِمْ﴾ ﴿سُنَّةَ اللَّهِ في الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ولَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا﴾ [الأحزاب: ٦٢] وما أجَلَّ ما قالَهُ العَبّاسُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ في اسْتِسْقائِهِ. اللَّهُمَّ! إنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ بَلاءٌ إلّا بِذَنْبٍ ولَمْ يُرْفَعْ إلّا بِتَوْبَةٍ..!.
(p-٣٦٥٩)عَلى هَذِهِ السُّنَنِ، جَرى سَلَفُ الأُمَّةِ، فَبَيْنَما كانَ المُسْلِمُ يَرْفَعُ رُوحَهُ بِهَذِهِ العَقائِدِ السّامِيَةِ، ويَأْخُذُ نَفْسَهُ بِما يُتْبِعُها مِنَ الأعْمالِ الجَلِيلَةِ؛ كانَ غَيْرُهُ يَظُنُّ أنَّهُ يُزَلْزِلُ الأرْضَ بِدُعائِهِ، ويَشُقُّ الفَلَكَ بِبُكائِهِ، وهو ولِعٌ بِأهْوائِهِ، ماضٍ في غَلْوائِهِ، وما كانَ يُغْنِي عَنْهُ ظَنُّهُ مِنَ الحَقِّ شَيْئًا..!.
ولَمّا خَوَّفَ تَعالى العِبادَ بِإنْزالِ ما لا مَرَدَّ لَهُ؛ أتْبَعَهُ بِبَيانِ آياتِ قُدْرَتِهِ وقَهْرِهِ وجَلالِهِ. فَقالَ سُبْحانَهُ:
{"ayah":"لَهُۥ مُعَقِّبَـٰتࣱ مِّنۢ بَیۡنِ یَدَیۡهِ وَمِنۡ خَلۡفِهِۦ یَحۡفَظُونَهُۥ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُغَیِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ یُغَیِّرُوا۟ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ وَإِذَاۤ أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوۡمࣲ سُوۤءࣰا فَلَا مَرَدَّ لَهُۥۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَالٍ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق