قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَهُ مُعَقِّباتٌ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ومِن خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِن أمْرِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأنْفُسِهِمْ وإذا أرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وما لَهم مِن دُونِهِ مِن والٍ﴾
اعْلَمْ أنَّ الضَّمِيرَ في ”لَهُ“ عائِدٌ إلى ”مَن“ في قَوْلِهِ: ﴿سَواءٌ مِنكم مَن أسَرَّ القَوْلَ ومَن جَهَرَ بِهِ﴾ وقِيلَ عَلى اسْمِ اللَّهِ في ﴿عالِمُ الغَيْبِ والشَّهادَةِ﴾، والمَعْنى: لِلَّهِ مُعَقِّباتٌ، وأمّا المُعَقِّباتُ فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ أصْلُ هَذِهِ الكَلِمَةِ مُعْتَقِباتٍ، فَأُدْغِمَتِ التّاءُ في القافِ كَقَوْلِهِ: ﴿وجاءَ المُعَذِّرُونَ مِنَ الأعْرابِ﴾ [التَّوْبَةِ: ٩٠] والمُرادُ المُعْتَذِرُونَ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مِن: عَقَبَهُ إذا جاءَ عَلى عَقِبِهِ فاسْمُ المُعَقِّبِ مِن كُلِّ شَيْءٍ ما خَلَفَ يَعْقُبُ ما قَبْلَهُ، (p-١٦)والمَعْنى في كِلا الوجه يْنِ واحِدٌ.
إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: في المُرادِ بِالمُعَقِّباتِ قَوْلانِ:
الأوَّلُ: وهو المَشْهُورُ الَّذِي عَلَيْهِ الجُمْهُورُ أنَّ المُرادَ مِنهُ المَلائِكَةُ الحَفَظَةُ، وإنَّما صَحَّ وصْفُهم بِالمُعَقِّباتِ، إمّا لِأجْلِ أنَّ مَلائِكَةَ اللَّيْلِ تَعْقُبُ مَلائِكَةَ النَّهارِ وبِالعَكْسِ، وإمّا لِأجْلِ أنَّهم يَتَعَقَّبُونَ أعْمالَ العِبادِ ويَتْبَعُونَها بِالحِفْظِ والكَتْبِ، وكُلُّ مَن عَمِلَ عَمَلًا ثُمَّ عادَ إلَيْهِ فَقَدْ عَقَّبَ، فَعَلى هَذا المُرادُ مِنَ المُعَقِّباتِ مَلائِكَةُ اللَّيْلِ ومَلائِكَةُ النَّهارِ. رُوِيَ عَنْ عُثْمانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: «يا رَسُولَ اللَّهِ أخْبِرْنِي عَنِ العَبْدِ كَمْ مَعَهُ مِن مَلَكٍ؟ فَقالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: مَلَكٌ عَنْ يَمِينِكَ يَكْتُبُ الحَسَناتِ، وهو أمِينٌ عَلى الَّذِي عَلى الشِّمالِ، فَإذا عَمِلْتَ حَسَنَةً كُتِبَتْ عَشْرًا، وإذا عَمِلْتَ سَيِّئَةً قالَ الَّذِي عَلى الشِّمالِ لِصاحِبِ اليَمِينِ: أكْتُبُ؟ فَيَقُولُ: لا لَعَلَّهُ يَتُوبُ، فَإذا قالَ ثَلاثًا، قالَ: نَعَمْ اكْتُبْ أراحَنا اللَّهُ مِنهُ، فَبِئْسَ القَرِينُ ما أقَلَّ مُراقَبَتَهُ لِلَّهِ تَعالى واسْتِحْياءَهُ مِنّا، ومَلَكانِ مِن بَيْنِ يَدَيْكَ ومِن خَلْفِكَ، فَهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَهُ مُعَقِّباتٌ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ومِن خَلْفِهِ﴾، ومَلَكٌ قابِضٌ عَلى ناصِيَتِكَ، فَإذا تَواضَعْتَ لِرَبِّكَ رَفَعَكَ، وإنْ تَجَبَّرْتَ قَصَمَكَ، ومَلَكانِ عَلى شَفَتِكَ يَحْفَظانِ عَلَيْكَ الصَّلاةَ عَلَيَّ، ومَلَكٌ عَلى فِيكَ لا يَدْعُ أنْ تَدْخُلَ الحَيَّةُ في فِيكَ، ومَلَكانِ عَلى عَيْنَيْكَ، فَهَؤُلاءِ عَشَرَةُ أمْلاكٍ عَلى كُلِّ آدَمِيٍّ تُبَدَّلُ مَلائِكَةُ اللَّيْلِ بِمَلائِكَةِ النَّهارِ، فَهم عِشْرُونَ مَلَكًا عَلى كُلِّ آدَمِيٍّ» . وعَنْهُ ﷺ: «يَتَعاقَبُ فِيكم مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ ومَلائِكَةٌ بِالنَّهارِ، ويَجْتَمِعُونَ في صَلاةِ الصُّبْحِ وصَلاةِ العَصْرِ» . وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿وقُرْآنَ الفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كانَ مَشْهُودًا﴾ [الإسْراءِ: ٧٨] قِيلَ: تَصْعَدُ مَلائِكَةُ اللَّيْلِ، وهي عَشَرَةٌ وتَنْزِلُ مَلائِكَةُ النَّهارِ، وقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هو مِثْلُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿عَنِ اليَمِينِ وعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ﴾ [ق: ١٧] صاحِبُ اليَمِينِ يَكْتُبُ الحَسَناتِ، والَّذِي عَنْ يَسارِهِ يَكْتُبُ السَّيِّئاتِ. وقالَ مُجاهِدٌ: ما مِن عَبْدٍ إلّا ولَهُ مَلَكٌ يَحْفَظُهُ مِنَ الجِنِّ والإنْسِ والهَوامِّ في نَوْمِهِ ويَقَظَتِهِ. وفي الآيَةِ سُؤالاتٌ:
السُّؤالُ الأوَّلُ: المَلائِكَةُ ذُكُورٌ، فَلِمَ ذَكَرَ في جَمْعِها جَمْعَ الإناثِ وهو المُعَقِّباتُ؟
والجَوابُ: فِيهِ قَوْلانِ:
الأوَّلُ: قالَ الفَرّاءُ: المُعَقِّباتُ ذُكْرانٌ جَمْعُ مَلائِكَةٍ مُعَقِّبَةٍ، ثُمَّ جُمِعَتْ مُعَقِّبَةٌ بِمُعَقِّباتٍ، كَما قِيلَ: ابْناواتُ سَعْدٍ ورِجالاتُ بَكْرٍ جَمْعُ رِجالٍ، والَّذِي يَدُلُّ عَلى التَّذْكِيرِ قَوْلُهُ: ﴿يَحْفَظُونَهُ﴾ .
والثّانِي وهو قَوْلُ الأخْفَشِ: إنَّما أُنِّثَتْ لِكَثْرَةِ ذَلِكَ مِنها، نَحْوَ: نَسّابَةٌ، وعَلّامَةٌ، وهو ذَكَرٌ.
السُّؤالُ الثّانِي: ما المُرادُ مِن كَوْنِ أُولَئِكَ المُعَقِّباتِ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ومِن خَلْفِهِ؟
والجَوابُ: أنَّ المُسْتَخْفِيَ بِاللَّيْلِ والسّارِبَ بِالنَّهارِ قَدْ أحاطَ بِهِ هَؤُلاءِ المُعَقِّباتُ، فَيَعُدُّونَ عَلَيْهِ أعْمالَهُ وأقْوالَهُ بِتَمامِها، ولا يَشِذُّ مِن تِلْكَ الأعْمالِ والأقْوالِ مِن حِفْظِهِمْ شَيْءٌ أصْلًا، وقالَ بَعْضُهم: بَلِ المُرادُ يَحْفَظُونَهُ مِن جَمِيعِ المَهالِكِ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ومِن خَلْفِهِ؛ لِأنَّ السّارِبَ بِالنَّهارِ إذا سَعى في مُهِمّاتِهِ فَإنَّما يَحْذَرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ومِن خَلْفِهِ.
السُّؤالُ الثّالِثُ: ما المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿مِن أمْرِ اللَّهِ﴾ .
والجَوابُ: ذَكَرَ الفَرّاءُ فِيهِ قَوْلَيْنِ:
القَوْلُ الأوَّلُ: أنَّهُ عَلى التَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ، والتَّقْدِيرُ: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِن أمْرِ اللَّهِ يَحْفَظُونَهُ.
القَوْلُ الثّانِي: أنَّ فِيهِ إضْمارًا؛ أيْ ذَلِكَ الحِفْظُ مِن أمْرِ اللَّهِ؛ أيْ مِمّا أمَرَ اللَّهُ بِهِ، فَحُذِفَ الِاسْمُ وأُبْقِيَ خَبَرُهُ (p-١٧)كَما يُكْتَبُ عَلى الكِيسِ ألْفانِ، والمُرادُ الَّذِي فِيهِ ألْفانِ.
والقَوْلُ الثّالِثُ: ذَكَرَهُ ابْنُ الأنْبارِيِّ أنَّ كَلِمَةَ ”مِن“ مَعْناها الباءُ، والتَّقْدِيرُ: يَحْفَظُونَهُ بِأمْرِ اللَّهِ وبِإعانَتِهِ، والدَّلِيلُ عَلى أنَّهُ لا بُدَّ مِنَ المَصِيرِ إلَيْهِ أنَّهُ لا قُدْرَةَ لِلْمَلائِكَةِ ولا لِأحَدٍ مِنَ الخَلْقِ عَلى أنْ يَحْفَظُوا أحَدًا مِن أمْرِ اللَّهِ ومِمّا قَضاهُ عَلَيْهِ.
السُّؤالُ الرّابِعُ: ما الفائِدَةُ في جَعْلِ هَؤُلاءِ المَلائِكَةِ مُوَكَّلِينَ عَلَيْنا؟
والجَوابُ: أنَّ هَذا الكَلامَ غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ، وذَلِكَ لِأنَّ المُنَجِّمِينَ اتَّفَقُوا عَلى أنَّ التَّدْبِيرَ في كُلِّ يَوْمٍ لِكَوْكَبٍ عَلى حِدَةٍ، وكَذا القَوْلُ في كُلِّ لَيْلَةٍ، ولا شَكَّ أنَّ تِلْكَ الكَواكِبَ لَها أرْواحٌ عِنْدَهم، فَتِلْكَ التَّدْبِيراتُ المُخْتَلِفَةُ في الحَقِيقَةِ لِتِلْكَ الأرْواحِ، وكَذا القَوْلُ في تَدْبِيرِ القَمَرِ والهِيلاجِ والكَدَخْدا عَلى ما يَقُولُهُ المُنَجِّمُونَ، وأمّا أصْحابُ الطَّلْسَماتِ فَهَذا الكَلامُ مَشْهُورٌ في ألْسِنَتِهِمْ ولِذَلِكَ تَراهم يَقُولُونَ: أخْبَرَنِي الطِّباعِيُّ التّامُّ، ومُرادُهم بِالطِّباعِيِّ التّامِّ أنَّ لِكُلِّ إنْسانٍ رُوحًا فَلَكِيَّةً يَتَوَلّى إصْلاحَ مُهِمّاتِهِ ودَفْعَ بَلِيّاتِهِ وآفاتِهِ، وإذا كانَ هَذا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ قُدَماءِ الفَلاسِفَةِ وأصْحابِ الأحْكامِ، فَكَيْفَ يُسْتَبْعَدُ مَجِيئُهُ مِنَ الشَّرْعِ؟ وتَمامُ التَّحْقِيقِ فِيهِ أنَّ الأرْواحَ البَشَرِيَّةَ مُخْتَلِفَةٌ في جَواهِرِها وطَبائِعِها فَبَعْضُها خِيِّرَةٌ، وبَعْضُها شِرِّيرَةٌ، وبَعْضُها مُعَزَّةٌ، وبَعْضُها مُذَلَّةٌ، وبَعْضُها قَوِيَّةُ القَهْرِ والسُّلْطانِ، وبَعْضُها ضَعِيفَةٌ سَخِيفَةٌ، وكَما أنَّ الأمْرَ في الأرْواحِ البَشَرِيَّةِ كَذَلِكَ، فَكَذا القَوْلُ في الأرْواحِ الفَلَكِيَّةِ، ولا شَكَّ أنَّ الأرْواحَ الفَلَكِيَّةَ في كُلِّ بابٍ وكُلِّ صِفَةٍ أقْوى مِنَ الأرْواحِ البَشَرِيَّةِ، وكُلُّ طائِفَةٍ مِنَ الأرْواحِ البَشَرِيَّةِ تَكُونُ مُتَشارِكَةً في طَبِيعَةٍ خاصَّةٍ وصْفَةٍ مَخْصُوصَةٍ، لِما أنَّها تَكُونُ في تَرْبِيَةِ رُوحٍ مِنَ الأرْواحِ الفَلَكِيَّةِ مُشاكِلَةً لَها في الطَّبِيعَةِ والخاصِّيَّةِ، وتَكُونُ تِلْكَ الأرْواحُ البَشَرِيَّةُ كَأنَّها أوْلادٌ لِذَلِكَ الرُّوحِ الفَلَكِيِّ، ومَتى كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ كانَ ذَلِكَ الرُّوحُ الفَلَكِيُّ مُعِينًا لَها عَلى مُهِمّاتِها ومُرْشِدًا لَها إلى مَصالِحِها وعاصِمًا لَها عَنْ صُنُوفِ الآفاتِ، فَهَذا كَلامٌ ذَكَرَهٌ مُحَقِّقُو الفَلاسِفَةِ، وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ عَلِمْنا أنَّ الَّذِي ورَدَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ أمْرٌ مَقْبُولٌ عِنْدَ الكُلِّ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ اسْتِنْكارُهُ مِنَ الشَّرِيعَةِ؟ ثُمَّ في اخْتِصاصِ هَؤُلاءِ المَلائِكَةِ وتَسَلُّطِهِمْ عَلى بَنِي آدَمَ فَوائِدُ كَثِيرَةٌ سِوى الَّتِي مَرَّ ذِكْرُها مِن قَبْلُ.
الأوَّلُ: أنَّ الشَّياطِينَ يَدْعُونَ إلى الشُّرُورِ والمَعاصِي، وهَؤُلاءِ المَلائِكَةِ يَدْعُونَ إلى الخَيْراتِ والطّاعاتِ.
والثّانِي: قالَ مُجاهِدٌ: ما مِن عَبْدٍ إلّا ومَعَهُ مَلَكٌ يَحْفَظُهُ مِنَ الجِنِّ والإنْسِ والهَوامِّ في نَوْمِهِ ويَقَظَتِهِ.
الثّالِثُ: أنّا نَرى أنَّ الإنْسانَ قَدْ يَقَعُ في قَلْبِهِ داعٍ قَوِيٌّ مِن غَيْرِ سَبَبٍ، ثُمَّ يَظْهَرُ بِالآخِرَةِ أنَّ وُقُوعَ تِلْكَ الدّاعِيَةِ في قَلْبِهِ كانَ سَبَبًا مِن أسْبابِ مَصالِحِهِ وخَيْراتِهِ، وقَدْ يَنْكَشِفُ أيْضًا بِالآخِرَةِ أنَّهُ كانَ سَبَبًا لِوُقُوعِهِ في آفَةٍ أوْ في مَعْصِيَةٍ، فَيَظْهَرُ أنَّ الدّاعِيَ إلى الأمْرِ الأوَّلِ كانَ مُرِيدًا لِلْخَيْرِ والرّاحَةِ، وإلى الأمْرِ الثّانِي كانَ مُرِيدًا لِلْفَسادِ والمِحْنَةِ، والأوَّلُ هو المَلَكُ الهادِي والثّانِي هو الشَّيْطانُ المُغْوِي.
الرّابِعُ: أنَّ الإنْسانَ إذا عَلِمَ أنَّ المَلائِكَةَ تُحْصِي عَلَيْهِ أعْمالَهُ كانَ إلى الحَذَرِ مِنَ المَعاصِي أقْرَبَ؛ لِأنَّ مَن آمَنَ يَعْتَقِدُ جَلالَةَ المَلائِكَةِ وعُلُوَّ مَراتِبِهِمْ، فَإذا حاوَلَ الإقْدامَ عَلى مَعْصِيَةٍ واعْتَقَدَ أنَّهم يُشاهِدُونَها زَجَرَهُ الحَياءُ مِنهم عَنِ الإقْدامِ عَلَيْها كَما يَزْجُرُهُ عَنْها إذا حَضَرَهُ مَن يَعِظُهُ مِنَ البَشَرِ، وإذا عَلِمَ أنَّ المَلائِكَةَ تُحْصِي عَلَيْهِ تِلْكَ الأعْمالَ كانَ ذَلِكَ أيْضًا رادِعًا لَهُ عَنْها، وإذا عَلِمَ أنَّ المَلائِكَةَ يَكْتُبُونَها كانَ الرَّدْعُ أكْمَلَ.
السُّؤالُ الخامِسُ: ما الفائِدَةُ في كَتَبَةِ أعْمالِ العِبادِ؟ قُلْنا هاهُنا مَقاماتٌ:
المَقامُ الأوَّلُ: أنَّ تَفْسِيرَ الكِتْبَةِ بِالمَعْنى المَشْهُورِ مِنَ الكِتْبَةِ. قالَ المُتَكَلِّمُونَ: الفائِدَةُ في تِلْكَ (p-١٨)الصُّحُفِ وزْنُها لِيُعْرَفَ رُجْحانُ إحْدى الكِفَّتَيْنِ عَلى الأُخْرى، فَإنَّهُ إذا رُجَحَتْ كِفَّةُ الطّاعاتِ ظَهَرَ لِلْخَلائِقِ أنَّهُ مِن أهْلِ الجَنَّةِ، وإنْ كانَ بِالضِّدِّ فَبِالضِّدِّ، قالَ القاضِي: هَذا بَعِيدٌ لِأنَّ الأدِلَّةَ قَدْ دَلَّتْ عَلى أنَّ كُلَّ واحِدٍ قَبْلَ مَماتِهِ عِنْدَ المُعايَنَةِ يَعْلَمُ أنَّهُ مِنَ السُّعَداءِ أوْ مِنَ الأشْقِياءِ فَلا يَتَوَقَّفُ حُصُولُ تِلْكَ المَعْرِفَةِ عَلى المِيزانِ، ثُمَّ أجابَ القاضِي عَنْ هَذا الكَلامِ، وقالَ: لا يَمْتَنِعُ أيْضًا ما رَوَيْنا لِأمْرٍ يَرْجِعُ إلى حُصُولِ سُرُورِهِ عِنْدَ الخُلُقِ العَظِيمِ أنَّهُ مِن أوْلِياءِ اللَّهِ في الجَنَّةِ، وبِالضِّدِّ مِن ذَلِكَ في أعْداءِ اللَّهِ.
والمَقامُ الثّانِي: وهو قَوْلُ حُكَماءِ الإسْلامِ أنَّ الكِتابَةَ عِبارَةٌ عَنْ نُقُوشٍ مَخْصُوصَةٍ وُضِعَتْ بِالِاصْطِلاحِ لِتَعْرِيفِ المَعانِي المَخْصُوصَةِ، فَلَوْ قَدَّرْنا كَوْنَ تِلْكَ النُّقُوشِ دالَّةً عَلى تِلْكَ المَعانِي لِأعْيانِها وذَواتِها كانَتْ تِلْكَ الكِتْبَةُ أقْوى وأكْمَلَ.
إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: إنَّ الإنْسانَ إذا أتى بِعَمَلٍ مِنَ الأعْمالِ مَرّاتٍ وكَرّاتٍ كَثِيرَةً مُتَوالِيَةً حَصَلَ في نَفْسِهِ بِسَبَبِ تَكَرُّرِها مَلَكَةٌ قَوِيَّةٌ راسِخَةٌ، فَإنْ كانَتْ تِلْكَ المَلَكَةُ مَلَكَةً سارَّةً بِالأعْمالِ النّافِعَةِ في السَّعاداتِ الرُّوحانِيَّةِ عَظُمَ ابْتِهاجُهُ بِها بَعْدَ المَوْتِ؛ وإنْ كانَتْ تِلْكَ المَلَكَةُ مَلَكَةً ضارَّةً في الأحْوالِ الرُّوحانِيَّةِ عَظُمَ تَضَرُّرُهُ بِها بَعْدَ المَوْتِ.
إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: إنَّ التَّكْرِيرَ الكَثِيرَ لَمّا كانَ سَبَبًا لِحُصُولِ تِلْكَ المَلَكَةِ الرّاسِخَةِ كانَ لِكُلِّ واحِدٍ مِنَ الأعْمالِ المُتَكَرِّرَةِ أثَرٌ في حُصُولِ تِلْكَ المَلَكَةِ الرّاسِخَةِ، وذَلِكَ الأثَرُ وإنْ كانَ غَيْرَ مَحْسُوسٍ إلّا أنَّهُ حاصِلٌ في الحَقِيقَةِ، وإذا عَرَفْتَ هَذا ظَهَرَ أنَّهُ لا يَحْصُلُ لِلْإنْسانِ لَمْحَةٌ ولا حَرَكَةٌ ولا سُكُونٌ، إلّا ويَحْصُلُ مِنهُ في جَوْهَرِ نَفْسِهِ أثَرٌ مِن آثارِ السَّعادَةِ، أوْ آثارِ الشَّقاوَةِ قَلَّ أوْ كَثُرَ، فَهَذا هو المُرادُ مِن كَتَبَةِ الأعْمالِ عِنْدَ هَؤُلاءِ، واللَّهُ أعْلَمُ بِحَقائِقِ الأُمُورِ، وهَذا كُلُّهُ إذا فَسَّرْنا قَوْلَهُ تَعالى: ﴿لَهُ مُعَقِّباتٌ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ومِن خَلْفِهِ﴾ بِالمَلائِكَةِ.
القَوْلُ الثّانِي: وهو أيْضًا مَنقُولٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، واخْتارَهُ أبُو مُسْلِمٍ الأصْفَهانِيُّ المُرادُ: أنَّهُ يَسْتَوِي في عِلْمِ اللَّهِ تَعالى السِّرُّ والجَهْرُ، والمُسْتَخْفِي بِظُلْمَةِ اللَّيْلِ، والسّارِبُ بِالنَّهارِ المُسْتَظْهِرُ بِالمُعاوِنِينَ والأنْصارِ وهُمُ المُلُوكُ والأُمَراءُ، فَمَن لَجَأ إلى اللَّيْلِ فَلَنْ يَفُوتَ اللَّهَ أمْرُهُ، ومَن سارَ نَهارًا بِالمُعَقِّباتِ وهُمُ الأحْراسُ والأعْوانُ الَّذِينَ يَحْفَظُونَهُ لَمْ يَنَجِّهِ أحْراسُهُ مِنَ اللَّهِ تَعالى، والمُعَقِّبُ العَوْنُ؛ لِأنَّهُ إذا أبْصَرَ هَذا ذاكَ فَلا بُدَّ أنْ يُبْصِرَ ذاكَ هَذا، فَتَصِيرُ بَصِيرَةُ كُلِّ واحِدٍ مِنهم مُعاقِبَةً لِبَصِيرَةِ الآخِرَةِ، فَهَذِهِ المُعَقِّباتُ لا تُخَلِّصُ مِن قَضاءِ اللَّهِ ومِن قَدَرِهِ، وهم إنْ ظَنُّوا أنَّهم يُخَلِّصُونَ مَخْدُومَهم مِن أمْرِ اللَّهِ ومِن قَضائِهِ فَإنَّهم لا يَقْدِرُونَ عَلى ذَلِكَ البَتَّةَ، والمَقْصُودُ مِن هَذا الكَلامِ بَعْثُ السَّلاطِينِ والأُمَراءِ والكُبَراءِ عَلى أنْ يَطْلُبُوا الخَلاصَ مِنَ المَكارِهِ عَنْ حِفْظِ اللَّهِ وعِصْمَتِهِ ولا يُعَوِّلُوا في دَفْعِها عَلى الأعْوانِ والأنْصارِ، ولِذَلِكَ قالَ تَعالى بَعْدَهُ: ﴿وإذا أرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وما لَهم مِن دُونِهِ مِن والٍ﴾ .
أما قوله تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأنْفُسِهِمْ﴾ فَكَلامُ جَمِيعِ المُفَسِّرِينَ يَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ لا يُغَيِّرُ ما هم فِيهِ مِنَ النِّعَمِ بِإنْزالِ الِانْتِقامِ إلّا بِأنْ يَكُونَ مِنهُمُ المَعاصِي والفَسادُ، قالَ القاضِي: والظّاهِرُ لا يَحْتَمِلُ إلّا هَذا المَعْنى؛ لِأنَّهُ لا شَيْءَ مِمّا يَفْعَلُهُ تَعالى سِوى العِقابِ إلّا وقَدْ يَبْتَدِئُ بِهِ في الدُّنْيا مِن دُونِ تَغْيِيرٍ يَصْدُرُ مِنَ العَبْدِ فِيما تَقَدَّمَ؛ لِأنَّهُ تَعالى ابْتَدَأ بِالنِّعَمِ دِينًا ودُنْيا ويُفَضِّلُ في ذَلِكَ مَن شاءَ عَلى مَن يَشاءُ، فالمُرادُ مِمّا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعالى التَّغْيِيرُ بِالهَلاكِ والعِقابِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَبَعْضُهم قالَ هَذا الكَلامَ راجِعٌ إلى قَوْلِهِ: (p-١٩)﴿ويَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الحَسَنَةِ﴾ فَبَيَّنَ تَعالى أنَّهُ لا يُنْزِلُ بِهِمْ عَذابَ الِاسْتِئْصالِ إلّا والمَعْلُومُ مِنهُمُ الإصْرارُ عَلى الكُفْرِ والمَعْصِيَةِ، حَتّى قالُوا: إذا كانَ المَعْلُومُ أنَّ فِيهِمْ مَن يُؤْمِنُ أوْ في عَقِبِهِ مَن يُؤْمِنُ، فَإنَّهُ تَعالى لا يُنْزِلُ عَلَيْهِمْ عَذابَ الِاسْتِئْصالِ، وقالَ بَعْضُهم: بَلِ الكَلامُ يَجْرِي عَلى إطْلاقِهِ، والمُرادُ مِنهُ أنَّ كُلَّ قَوْمٍ بالَغُوا في الفَسادِ وغَيَّرُوا طَرِيقَتَهم في إظْهارِ عُبُودِيَّةِ اللَّهِ تَعالى، فَإنَّ اللَّهَ يُزِيلُ عَنْهُمُ النِّعَمَ ويُنْزِلُ عَلَيْهِمْ أنْواعًا مِنَ العَذابِ، وقالَ بَعْضُهم: إنَّ المُؤْمِنَ الَّذِي يَكُونُ مُخْتَلِطًا بِأُولَئِكَ الأقْوامِ، فَرُبَّما دَخَلَ في ذَلِكَ العَذابِ، رُوِيَ عَنْ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إنَّ النّاسَ إذا رَأوُا الظّالِمَ، فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلى يَدَيْهِ، يُوشِكُ أنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ تَعالى بِعِقابٍ» واحْتَجَّ أبُو عَلِيٍّ الجُبّائِيُّ والقاضِي بِهَذِهِ الآيَةِ في مَسْألَتَيْنِ:
المسألة الأُولى: أنَّهُ تَعالى لا يُعاقِبُ أطْفالَ المُشْرِكِينَ بِذُنُوبِ آبائِهِمْ؛ لِأنَّهم لَمْ يُغَيِّرُوا ما بِأنْفُسِهِمْ مِن نِعْمَةٍ، فَيُغَيِّرُ اللَّهُ حالَهم مِنَ النِّعْمَةِ إلى العَذابِ.
المسألة الثّانِيَةُ: قالُوا: الآيَةُ تَدُلُّ عَلى بُطْلانِ قَوْلِ المُجْبِرَةِ إنَّهُ تَعالى يَبْتَدِئُ العَبْدَ بِالضَّلالِ والخِذْلانِ أوَّلَ ما يَبْلُغُ، وذَلِكَ أعْظَمُ مِنَ العِقابِ، مَعَ أنَّهُ ما كانَ مِنهُ تَغْيِيرٌ.
والجَوابُ: أنَّ ظاهِرَ هَذِهِ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّ فِعْلَ اللَّهِ في التَّغْيِيرِ مُؤَخَّرٌ عَنْ فِعْلِ العَبْدِ، إلّا أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وما تَشاءُونَ إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ﴾ [الإنْسانِ: ٣٠] يَدُلُّ عَلى أنَّ فِعْلَ العَبْدِ مُؤَخَّرٌ عَنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعالى، فَوَقَعَ التَّعارُضُ.
وأما قوله: ﴿وإذا أرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ﴾ فَقَدِ احْتَجَّ أصْحابُنا بِهِ عَلى أنَّ العَبْدَ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ في الفِعْلِ، قالُوا: وذَلِكَ لِأنَّهُ إذا كَفَرَ العَبْدُ فَلا شَكَّ أنَّهُ تَعالى يَحْكُمُ بِكَوْنِهِ مُسْتَحِقًّا لِلذَّمِّ في الدُّنْيا والعِقابِ في الآخِرَةِ، فَلَوْ كانَ العَبْدُ مُسْتَقِلًّا بِتَحْصِيلِ الإيمانِ لَكانَ قادِرًا عَلى رَدِّ ما أرادَهُ اللَّهُ تَعالى، وحِينَئِذٍ يَبْطُلُ قَوْلُهُ: ﴿وإذا أرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ﴾ فَثَبَتَ أنَّ الآيَةَ السّابِقَةَ وإنْ أشْعَرَتْ بِمَذْهَبِهِمْ، إلّا أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مِن أقْوى الدَّلائِلِ عَلى مَذْهَبِنا، قالَ الضَّحّاكُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: لَمْ تُغْنِ المُعَقِّباتُ شَيْئًا، وقالَ عَطاءٌ عَنْهُ: لا رادَّ لِعَذابِي ولا ناقِضَ لِحُكْمِي: ﴿وما لَهم مِن دُونِهِ مِن والٍ﴾ أيْ لَيْسَ لَهم مِن دُونِ اللَّهِ مَن يَتَوَلّاهم، ويَمْنَعُ قَضاءَ اللَّهِ عَنْهم، والمَعْنى: ما لَهم والٍ يَلِي أمْرَهم، ويَمْنَعُ العَذابَ عَنْهم.
{"ayah":"لَهُۥ مُعَقِّبَـٰتࣱ مِّنۢ بَیۡنِ یَدَیۡهِ وَمِنۡ خَلۡفِهِۦ یَحۡفَظُونَهُۥ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُغَیِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ یُغَیِّرُوا۟ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ وَإِذَاۤ أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوۡمࣲ سُوۤءࣰا فَلَا مَرَدَّ لَهُۥۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَالٍ"}