الباحث القرآني

﴿اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وما تَغِيضُ الأرْحامُ وما تَزْدادُ وكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ﴾ ﴿عالِمُ الغَيْبِ والشَّهادَةِ الكَبِيرُ المُتَعالِ﴾ ﴿سَواءٌ مِنكم مَن أسَرَّ القَوْلَ ومَن جَهَرَ بِهِ ومَن هو مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وسارِبٌ بِالنَّهارِ﴾ ﴿لَهُ مُعَقِّباتٌ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ومِن خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِن أمْرِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأنْفُسِهِمْ وإذا أرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وما لَهم مِن دُونِهِ مِن والٍ﴾ مُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها هو ما نَبَّهَ عَلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ مِن أنَّهُ تَعالى لَمّا طَلَبَ الكُفّارُ أنْ يُنَزَّلَ عَلى الرَّسُولِ ﷺ آيَةٌ - وكَمْ آيَةٍ نَزَلَتْ - أرْدَفَ ذَلِكَ بِذِكْرِ آياتِ (p-٣٦٩)عِلْمِهِ الباهِرِ، وقُدْرَتِهِ النّافِذَةِ، وحِكْمَتِهِ البَلِيغَةِ، وأنَّ ما نَزَلَ عَلَيْهِ مِنَ الآياتِ كافِيَةٌ لِمَن تَبَصَّرَ، فَلا يَقْتَرِحُونَ غَيْرَها، وأنَّ نُزُولَ الآياتِ إنَّما هو عَلى ما يُقَدِّرُهُ اللَّهُ تَعالى. وقِيلَ: مُناسَبَةُ ذَلِكَ أنَّهُ لَمّا تَقَدَّمَ إنْكارُهُمُ البَعْثَ لِتَفَرُّقِ الأجْزاءِ واخْتِلاطِ بَعْضِها بِبَعْضٍ، بِحَيْثُ لا يَتَهَيَّأُ الِامْتِيازُ بَيْنَها، نَبَّهَ عَلى إحاطَةِ عِلْمِهِ، وأنَّ مَن كانَ عالِمًا بِجَمِيعِ المَعْلُوماتِ هو قادِرٌ عَلى إعادَةِ ما أنْشَأ. وقِيلَ: مُناسَبَةُ ذَلِكَ أنَّهم لَمّا اسْتَعْجَلُوا بِالسَّيِّئَةِ نَبَّهَ عَلى عِلْمِهِ بِجَمِيعِ المَعْلُوماتِ، وأنَّهُ إنَّما نَزَلَ العَذابُ بِحَسَبِ ما يَعْلَمُ كَوْنَهُ مَصْلَحَةً. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَصَّ في هَذا المَثَلِ المُنَبِّهِ عَلى قُدْرَةِ اللَّهِ القاضِيَةَ بِتَجْوِيزِ البَعْثِ، فَمِن ذَلِكَ الواحِدَةُ مِنَ الجِنْسِ الَّتِي هي مَفاتِيحُ الغَيْبِ؛ يَعْنِي: الَّتِي لا يَعْلَمُها إلّا هو، وما تَحْمِلُهُ الإناثُ مِنَ النُّطْفَةِ مِن كُلِّ نَوْعٍ مِنَ الحَيَوانِ. وهَذا البَدْءُ يُبَيِّنُ أنَّهُ لا يَتَعَذَّرُ عَلى القادِرِ عَلَيْها الإعادَةُ، و(اللَّهُ يَعْلَمُ) كَلامٌ مُسْتَأْنَفٌ؛ مُبْتَدَأٌ وخَبَرٌ، ومَن فَسَّرَ الهادِيَ بِاللَّهِ جازَ أنْ يَكُونَ (اللَّهُ) خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ؛ أيْ: هو اللَّهُ تَعالى، ثُمَّ ابْتَدَأ إخْبارًا عَنْهُ فَقالَ: (يَعْلَمُ) . و(يَعْلَمُ) هُنا مُتَعَدِّيَةٌ إلى واحِدٍ؛ لِأنَّهُ لا يُرادُ هُنا النِّسْبَةُ، إنَّما المُرادُ تَعَلُّقٌ بِالمُفْرَداتِ، و(ما) جَوَّزُوا أنْ تَكُونَ بِمَعْنى الَّذِي، والعائِدُ عَلَيْها في صَلاتِها مَحْذُوفٌ، ويَكُونُ (تَغِيضُ) مُتَعَدِّيًا و(أنْ) تَكُونُ مَصْدَرِيَّةً، فَيَكُونُ ”تَغِيضُ، وتَزْدادُ“ لازِمانِ. وسَماعُ تَعْدِيَتِهِما ولُزُومِهِما ثابِتٌ مِن كَلامِ العَرَبِ. و(أنْ) تَكُونُ اسْتِفْهامًا مُبْتَدَأً، و(تَحْمِلُ) خَبَرُهُ و(يَعْلَمُ) مُتَعَلِّقُهُ، والجُمْلَةُ في مَوْضِعِ المَفْعُولِ. و(تَحْمِلُ) هُنا مِن حَمْلِ البَطْنِ، لا مِنَ الحَمْلِ عَلى الظَّهْرِ. وفي مُصْحَفِ أُبَيٍّ: ﴿ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى﴾ و”ما تَضَعُ، وتَحْمِلُ“ عَلى التَّفْسِيرِ؛ لِأنَّها زِيادَةٌ لَمْ تَثْبُتْ في سَوادِ المُصْحَفِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: (تَغِيضُ) تَنْقُصُ مِنَ الخِلْقَةِ، و(تَزْدادُ) تَتِمُّ. وقالَ مُجاهِدٌ: غَيْضُ الرَّحِمِ أنْ يَنْهَرِقَ دَمًا عَلى الحَمْلِ، فَيَضْعُفُ الوَلَدُ في البَطْنِ ويُسْحَبُ، فَإذا بَقِيَ الوَلَدُ في بَطْنِها بَعْدَ تِسْعَةِ أشْهُرٍ مُدَّةً كَمُلَ فِيها مِن خَمْسَةٍ وصَحِبَهُ ما نَقَصَ مِن هِراقَةِ الدَّمِ، انْتَهى كَلامُ ابْنِ عَبّاسٍ. وقالَ عِكْرِمَةُ: تَغِيضُ بِطَهُورِ الحَيْضِ في الحَبَلِ، وتَزْدادُ بِدَمِ النِّفاسِ بَعْدَ الوَضْعِ. وقالَ قَتادَةُ: الغَيْضُ: السَّقْطُ، والزِّيادَةُ: البَقاءُ فَوْقَ تِسْعَةِ أشْهُرٍ. وقالَ الضَّحّاكُ: غِيضَ الرَّحِمُ: أنْ تُسْقِطَ المَرْأةُ الوَلَدَ، والزِّيادَةُ: أنْ تَضَعَهُ لِمُدَّةٍ كامِلَةٍ تامَّةٍ. وعَنِ الضَّحّاكِ أيْضًا: الغَيْضُ: النَّقْصُ مِن تِسْعَةِ أشْهُرٍ، والزِّيادَةُ: إلى سَنَتَيْنِ. وقِيلَ: مِن عَدَدِ الأوْلادِ، فَقَدْ تَحْمِلُ واحِدًا، وقَدْ تَحْمِلُ أكْثَرَ. وقالَ الجُمْهُورُ: غَيْضُ الرَّحِمِ: الدَّمُ عَلى الحَمْلِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إنْ كانَتْ ”ما“ مَوْصُولَةً فالمَعْنى: أنْ يَعْلَمَ ما تَحْمِلُ مِنَ الوَلَدِ عَلى أيِّ حالٍ هو مِن ذُكُورَةٍ وأُنُوثَةٍ، وتَمامٍ وخَدْجٍ، وحُسْنٍ وقُبْحٍ، وطُولٍ وقِصَرٍ وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأحْوالِ الحاضِرَةِ المُتَرَقِّيَةِ. ويَعْلَمُ ما تُغِيضُهُ الأرْحامُ؛ تَنْقُصُهُ، و(ما تَزْدادُ) أيْ: تَأْخُذُهُ زائِدًا، تَقُولُ: أخَذْتُ مِنهُ حَقِّي وازْدَدْتُ مِنهُ كَذا، ومِنهُ: ﴿وازْدادُوا تِسْعًا﴾ [الكهف: ٢٥] ويُقالُ: زِدْتُهُ فَزادَ بِنَفْسِهِ وازْدادَ. وما تَنْقُصُهُ الرَّحِمُ وتَزْدادُ عَدَدُ الوَلَدِ، فَإنَّها تَشْتَمِلُ عَلى واحِدٍ، وقَدْ تَشْتَمِلُ عَلى اثْنَيْنِ وثَلاثَةٍ وأرْبَعَةٍ. ويُرْوى أنْ شَرِيكًا كانَ رابِعَ أرْبَعَةٍ في بَطْنِ أُمِّهِ. ومِنهُ جَسَدُ الوَلَدِ، فَإنَّهُ يَكُونُ تامًّا وُمُخْدَجًا، ومِنهُ مُدَّةُ وِلادَتِهِ فَإنَّها تَكُونُ أقَلَّ مِن تِسْعَةِ أشْهُرٍ، فَما زادَ عَلَيْها إلى سَنَةٍ عِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ، وإلى أرْبَعٍ عِنْدَ الشّافِعِيِّ، وإلى خَمْسٍ عِنْدَ مالِكٍ. وقِيلَ: إنَّ الضَّحّاكَ وُلِدَ لِسَنَتَيْنِ، وهَرَمَ بْنَ حِبّانَ بَقِيَ في بَطْنِ أُمِّهِ أرْبَعَ سِنِينَ ولِذَلِكَ سُمِّيَ هَرَمًا، ومِنهُ الدَّمُ فَإنَّهُ يَقِلُّ ويَكْثُرُ. وإنْ كانَتْ مَصْدَرِيَّةً فالمَعْنى: أنَّهُ يَعْلَمُ حَمْلَ كُلِّ أُنْثى، ويَعْلَمُ غَيْضَ الأرْحامِ وازْدِيادَها، فَلا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ مِن أوْقاتِهِ وأحْوالِهِ. ويَجُوزُ أنْ يُرادَ غُيُوضُ ما في الأرْحامِ وزِيادَتُهُ، فَأسْنَدَ الفِعْلَ إلى الأرْحامِ وهو لِما فِيها، عَلى أنَّ الفِعْلَ غَيْرُ مُتَعَدٍّ ويُعَضِّدُهُ قَوْلُ الحَسَنِ: الغَيْضُوضَةُ أنْ يَقَعَ لِثَمانِيَةِ أشْهُرٍ أوْ أقَلَّ مِن ذَلِكَ، والِازْدِيادُ أنْ يَزِيدَ عَلى تِسْعَةِ أشْهُرٍ. وعَنْهُ: الغَيْضُ الَّذِي يَكُونُ سَقْطًا لِغَيْرِ تَمامٍ، والِازْدِيادُ ولَدُ التَّمامِ، انْتَهى. وهو جَمْعُ ما قالَهُ المُفَسِّرُونَ مُفَرَّقًا. وبِمِقْدارٍ يُقَدَّرُ، ويُطْلَقُ المِقْدارُ عَلى القَدْرِ، وعَلى ما يُقَدَّرُ بِهِ الشَّيْءُ. والظّاهِرُ عُمُومُ قَوْلِهِ: ﴿وكُلُّ شَيْءٍ (p-٣٧٠)عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ﴾ أيْ: بِحَدٍّ لا يَتَجاوَزُهُ ولا يَقْتَصِرُ عَنْهُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: وكُلُّ شَيْءٍ مِنَ الثَّوابِ والعِقابِ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ؛ أيْ: بِقَدْرِ الطّاعَةِ والمَعْصِيَةِ. وقالَ الضَّحّاكُ: مِنَ الغَيْضِ والِازْدِيادِ. وقالَ قَتادَةُ: مِنَ الرِّزْقِ والأجَلِ. وقِيلَ: صِحَّةُ الجَنِينِ ومَرَضُهُ، ومَوْتُهُ، وحَياتُهُ، ورِزْقُهُ، وأجَلُهُ. والأحْسَنُ حَمْلُ هَذِهِ الأقْوالِ عَلى التَّمْثِيلِ لا عَلى التَّخْصِيصِ؛ لِأنَّهُ لا دَلِيلَ عَلَيْهِ. والمُرادُ مِنَ العِنْدِيَّةِ العِلْمُ أيْ: هو تَعالى عالِمٌ بِكَمِّيَّةِ كُلِّ شَيْءٍ، وكَيْفِيَّتِهِ عَلى الوَجْهِ المُفَصَّلِ المُبِينِ، فامْتَنَعَ وُقُوعُ اللَّبْسِ في تِلْكَ المَعْلُوماتِ. وقِيلَ المُرادُ بِالعِنْدِيَّةِ أنَّهُ تَعالى خَصَّصَ كُلُّ حادِثٍ بِوَقْتِهِ بِعَيْنِهِ، وحالَةٍ مُعَيَّنَةٍ بِمَشِيئَتِهِ الأزَلِيَّةِ وإرادَتِهِ السَّرْمَدِيَّةِ. ولَمّا ذَكَرَ أنَّهُ عالِمٌ بِأشْياءَ خَفِيَّةٍ لا يَعْلَمُها إلّا هو، وكانَتْ أشْياءُ جُزْئِيَّةٌ مِن خَفايا عِلْمِهِ، ذَكَرَ أنَّ عِلْمَهُ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ الأشْياءِ، فَعِلْمُهُ تَعالى مُتَعَلِّقٌ بِما يُشاهِدُهُ العالِمُ تَعَلُّقُهُ بِما يَغِيبُ عَنْهم. وقِيلَ: الغائِبُ المَعْدُومُ، والشّاهِدُ المَوْجُودُ. وقِيلَ: الغائِبُ ما غابَ عَنِ الحِسِّ، والشّاهِدُ ما حَضَرَ لِلْحِسِّ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: ﴿عالِمُ الغَيْبِ﴾ بِالنَّصْبِ، (الكَبِيرُ) العَظِيمُ الشَّأْنِ الَّذِي كُلُّ شَيْءٍ دُونَهُ، (المُتَعالِ) المُسْتَعْلِي عَلى كُلِّ شَيْءٍ بِقُدْرَتِهِ، أوِ الَّذِي كَبُرَ عَنْ صِفاتِ المُحْدِثِينَ وتَعالى عَنْها. وأثْبَتَ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عُمَرَ في رِوايَةٍ ياءَ المُتَعالِ وقْفًا ووَصْلًا، وهو الكَثِيرُ في لِسانِ العَرَبِ، وحَذَفَها الباقُونَ وصْلًا ووَقْفًا؛ لِأنَّها كَذَلِكَ رُسِمَتْ في الخَطِّ. واسْتَشْهَدَ سِيبَوَيْهِ بِحَذْفِها في الفَواصِلِ ومِنَ القَوافِي، وأجازَ غَيْرُهُ حَذْفَها مُطْلَقًا. ووَجْهُ حَذْفِها مَعَ أنَّها تُحْذَفُ مَعَ التَّنْوِينِ، وإنْ تَعاقَبَ التَّنْوِينُ، فَحُذِفَتْ مَعَ المُعاقَبِ إجْراءً لَهُ مَجْرى المُعاقَبِ. ولَمّا ذَكَرَ أنَّهُ تَعالى عالِمُ الغَيْبِ والشَّهادَةِ عَلى العُمُومِ، ذَكَرَ تَعالى تَعَلُّقَ عِلْمِهِ بِشَيْءٍ خاصٍّ مِن أحْوالِ المُكَلَّفِينَ، فَقالَ: ﴿سَواءٌ مِنكُمْ﴾ الآيَةَ. والمَعْنى: سَواءٌ في عِلْمِهِ المُسِرُّ القَوْلِ، والجاهِرُ بِهِ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِن أقْوالِهِ. و(سَواءٌ) تَقَدَّمَ الكَلامُ فِيهِ وفي مَعانِيهِ، وهو هُنا بِمَعْنى مُسْتَوٍ، وهو لا يُثَنّى في أشْهَرِ اللُّغاتِ. وحَكى أبُو زَيْدٍ تَثْنِيَتَهُ فَتَقُولُ: هُما سَواآنِ. وقِيلَ: هو عَلى حَذْفٍ؛ أيْ: سَواءٌ مِنكم سَرَّ مَن أسَرَّ القَوْلَ، وجَهَرَ مَن جَهَرَ بِهِ، وأعْرَبُوا (سَواءٌ) خَبَرَ مُبْتَدَأٍ أوْ مَن أسَرَّ، والمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مُبْتَدَأٌ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ (سَواءٌ) مُبْتَدَأً؛ لِأنَّهُ مَوْصُوفٌ بِقَوْلِهِ: مِنكم، و(مَنَ) المَعْطُوفُ الخَبَرُ. وكَذا أعْرَبَ سِيبَوَيْهِ قَوْلَ العَرَبِ: سَواءٌ عَلَيْهِ الخَيْرُ والشَّرُّ. وقَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ: إنَّ سِيبَوَيْهِ ضَعَّفَ ذَلِكَ بِأنَّهُ ابْتِداءٌ بِنَكِرَةٍ، وهو لا يَصِحُّ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: (مُسْتَخْفٍ) مُسْتَتِرٍ، و(سارِبٌ) ظاهِرٌ. وقالَ مُجاهِدٌ: مُسْتَخْفٍ بِالمَعاصِي. وتَفْسِيرُ الأخْفَشِ وقُطْرُبٍ: المُسْتَخْفِي هُنا بِالظّاهِرِ، وإنْ كانَ مَوْجُودًا في اللُّغَةِ يَنْبُو عَنْهُ اقْتِرانُهُ بِاللَّيْلِ، واقْتِرانُ السّارِبِ بِالنَّهارِ. وتَقابَلَ الوَصْفانِ في قَوْلِهِ: ﴿ومَن هو مُسْتَخْفٍ﴾ إذْ قابَلَ ﴿مَن أسَرَّ القَوْلَ﴾ وفي قَوْلِهِ: ﴿سارِبٌ بِالنَّهارِ﴾ إذْ قابَلَ ﴿ومَن جَهَرَ بِهِ﴾ والمَعْنى - واللَّهُ أعْلَمُ - إنَّهُ تَعالى مُحِيطٌ عِلْمُهُ بِأقْوالِ المُكَلَّفِينَ وأفْعالِهِمْ، لا يَعْزُبُ عَنْهُ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ. وظاهِرُ التَّقْسِيمِ يَقْتَضِي تَكْرارَ ”مَن“ لَكِنَّهُ حُذِفَ لِلْعِلْمِ بِهِ، إذْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: ﴿مَن أسَرَّ القَوْلَ ومَن جَهَرَ بِهِ﴾ لَكِنَّ ذَلِكَ لا يَجُوزُ عَلى مَذْهَبِ البَصْرِيِّينَ، وأجازَهُ الكُوفِيُّونَ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ: ﴿وسارِبٌ﴾ مَعْطُوفًا عَلى (مَن) لا عَلى (مُسْتَخْفٍ) فَيَصِحُّ التَّقْسِيمُ. كَأنَّهُ قِيلَ: سَواءٌ شَخْصٌ هو مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ، وشَخْصٌ هو سارِبٌ بِالنَّهارِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى (مُسْتَخْفٍ) . وأُرِيدَ بِـ (مَنِ) اثْنانِ، وحَمَلَ عَلى المَعْنى في تَقْسِيمِ خَبَرِ المُبْتَدَأِ الَّذِي هو هو، وعَلى لَفْظِ ”مَن“ في إفْرادِ ”هو“ . والمَعْنى: سَواءٌ اللَّذانِ هُما مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ والسّارِبُ بِالنَّهارِ، هو رَجُلٌ واحِدٌ يَسْتَخْفِي بِاللَّيْلِ ويَسْرِبُ بِالنَّهارِ، ولِيَرى تَصَرُّفَهُ في النّاسِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَهَذا قِسْمٌ واحِدٌ، جَعَلَ اللَّهُ نَهارَ راحَتِهِ. والمَعْنى: هَذا والَّذِي أمْرُهُ كُلُّهُ واحِدٌ بَرِيءٌ مِنَ الرَّيْبِ، سَواءٌ في اطِّلاعِ اللَّهِ تَعالى عَلى الكُلِّ. ويُؤَيِّدُ هَذا التَّأْوِيلَ عَطْفُ السّارِبِ دُونَ تَكْرارِ ”مَن“ ولا يَأْتِي حَذْفُها إلّا في الشِّعْرِ. وتَحْتَمِلُ الآيَةُ أنْ تَتَضَمَّنَ ثَلاثَةَ أصْنافٍ. فالَّذِي يُسِرُّ طَرَفٌ، والَّذِي يَجْهَرُ طَرَفٌ (p-٣٧١)مُضادٌّ لِلْأوَّلِ، والثّالِثُ مُتَوَسِّطٌ مُتَلَوِّنٌ يَعْصِي بِاللَّيْلِ مُسْتَخْفِيًا ويُظْهِرُ البَراءَةَ بِالنَّهارِ، انْتَهى. وقِيلَ: ومَن هو مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ بِظُلْمَتِهِ، يُرِيدُ إخْفاءَ عَمَلِهِ فِيهِ كَما قالَ: أزُورُهم وسَوادُ اللَّيْلِ يَشْفَعُ لِي. وقالَ: ؎وكَمْ لِظَلامِ اللَّيْلِ عِنْدِي مِن يَدٍ والظّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ في ”لَهُ“ عَلى ”مَن“ كَأنَّهُ قِيلَ لِمَن أسَرَّ، ومَن جَهَرَ، ومَنِ اسْتَخْفى، ومَن سَرَبَ مُعَقِّباتٌ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هو عائِدٌ عَلى مَن قَوْلُهُ: ﴿ومَن هو مُسْتَخْفٍ﴾ وكَذَلِكَ في باقِي الضَّمائِرِ الَّتِي في الآيَةِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والمُعَقِّباتُ عَلى هَذا حَرَسُ الرَّجُلِ وجَلاوِزَتُهُ الَّذِينَ يَحْفَظُونَهُ، قالَ: والآيَةُ عَلى هَذا في الرُّؤَساءِ الكافِرِينَ. واخْتارَ هَذا القَوْلَ الطَّبَرِيُّ، وهو قَوْلُ عِكْرِمَةَ وجَماعَةٍ. وقالَ الضَّحّاكُ: هو السُّلْطانُ المُحْرَسُ مِن أمْرِ اللَّهِ وذَكَرَ الماوَرْدِيُّ أنَّ الكَلامَ عَلى هَذا التَّأْوِيلِ نَفى تَقْرِيرَهُ (لا يَحْفَظُونَهُ مِن أمْرِ اللَّهِ) انْتَهى. وحَذَفَ ”لا“ لا في الجَوابِ قَسَمٌ بَعِيدٌ. قالَ الَمَهَدَوِيُّ: ومَن جَعَلَ المُعَقِّباتِ الحَرَسَ فالمَعْنى: يَحْفَظُونَهُ مِنَ اللَّهِ عَلى ظَنِّهِ وزَعْمِهِ. وقِيلَ: الضَّمِيرُ في ”لَهُ“ عائِدٌ عَلى اللَّهِ تَعالى؛ أيْ: لِلَّهِ مُعَقِّباتٌ مَلائِكَةٌ مِن بَيْنِ يَدَيِ العَبْدِ ومِن خَلْفِهِ، والمُعَقِّباتُ عَلى هَذا: المَلائِكَةُ الحَفَظَةُ عَلى العِبادِ وأعْمالِهِمْ، والحَفَظَةُ لَهم أيْضًا. ورُوِيَ فِيهِ حَدِيثٌ عَنْ عُثْمانَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وهو قَوْلُ مُجاهِدٍ والنَّخَعِيِّ. وقِيلَ: الضَّمِيرُ في ”لَهُ“ عائِدٌ عَلى الرَّسُولِ ﷺ وإنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ قَرِيبٌ، وقَدْ جَرى ذِكْرُهُ في قَوْلِهِ: ﴿ويَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ﴾ [يونس: ٢٠] والمَعْنى: أنَّ اللَّهَ تَعالى جَعَلَ لِنَبِيِّهِ حَفَظَةً مِن مُتَمَرِّدِي الجِنِّ والإنْسِ. قالَ أبُو زَيْدٍ: الآيَةُ في النَّبِيِّ ﷺ نَزَلَتْ في حِفْظِ اللَّهِ لَهُ مِن أرْبَدَ بْنِ قَيْسٍ، وعامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ، مِنَ القِصَّةِ الَّتِي سَنُشِيرُ إلَيْها بَعْدُ في ذِكْرِ الصَّواعِقِ. والقَوْلُ الأوَّلُ في عَوْدِ الضَّمِيرِ هو الأوْلى الَّذِي يَنْبَغِي أنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ وعَلَيْهِ يُفَسَّرُ. ويَقُولُ: لَمّا تَقَدَّمَ أنَّ مَن أسَرَّ القَوْلَ ومَن جَهَرَ بِهِ، ومَنِ اسْتَخْفى بِاللَّيْلِ وسَرَبَ بِالنَّهارِ، مُسْتَوٍ في عِلْمِ اللَّهِ تَعالى لا يَخْفى عَلَيْهِ مِن أحْوالِهِمْ شَيْءٌ، ذَكَرَ أيْضًا أنَّ لِذَلِكَ المَذْكُورِ مُعَقِّباتٍ: جَماعاتٍ مِنَ المَلائِكَةِ تَعْقُبُ في حِفْظِهِ وكَلاءَتِهِ. ومُعَقِّبٌ: وزْنُهُ مُفَعِّلٌ، مِن عَقَّبَ الرَّجُلُ إذا جاءَ عَلى عَقِبِ الآخَرِ، لِأنَّ بَعْضَهم يَعْقُبُ بَعْضًا، أوْ لِأنَّهم يَعْقُبُونَ ما يَتَكَلَّمُونَ بِهِ فَيَكْتُبُونَهُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: والأصْلُ مُعْتَقِباتٌ، فَأُدْغِمَتِ التّاءُ في القافِ كَقَوْلِهِ: ﴿وجاءَ المُعَذِّرُونَ﴾ [التوبة: ٩٠] يَعْنِي المُعْتَذِرُونَ. ويَجُوزُ (مُعِقِّباتٌ) بِكَسْرِ العَيْنِ، ولَمْ يُقْرَأْ بِهِ، انْتَهى. وهَذا وهْمٌ فاحِشٌ، لا تُدْغَمُ التّاءُ في القافِ، ولا القافُ في التّاءِ، لا مِن كَلِمَةٍ ولا مِن كَلِمَتَيْنِ. وقَدْ نَصَّ التَّصْرِيفِيُّونَ عَلى أنَّ القافَ والكافَ يُدْغَمُ كُلٌّ مِنهُما في الآخَرِ، ولا يُدْغَمانِ في غَيْرِهِما، ولا يُدْغَمُ غَيْرُهُما فِيهِما. وأمّا تَشْبِيهُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وجاءَ المُعَذِّرُونَ﴾ [التوبة: ٩٠] فَلا يَتَعَيَّنُ أنْ يَكُونَ أصْلُهُ ”المُعْتَذِرُونَ“، وقَدْ تَقَدَّمَ في (بَراءَةٌ) تَوْجِيهُهُ، وأنَّهُ لا يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ فِيهِ. وأمّا قَوْلُهُ: ويَجُوزُ ”مُعِقِّباتٌ“ بِكَسْرِ العَيْنِ، فَهَذا لا يَجُوزُ لِأنَّهُ بَناهُ عَلى أنَّ أصْلَهُ مُعْتَقِباتٌ، فَأُدْغِمَتِ التّاءُ في القافِ. وقَدْ ذَكَرْنا أنَّ ذَلِكَ وهْمٌ فاحِشٌ، والمُعَقِّباتُ جَمْعُ مُعَقِّبَةٍ. وقِيلَ: الهاءُ في مُعَقِّبَةٍ لِلْمُبالَغَةِ، فَيَكُونُ كَرِجْلٍ نَسّابَةٍ. وقِيلَ: جَمْعُ مُعَقِّبَةٌ، وهي الجَماعَةُ الَّتِي تَأْتِي بَعْدَ الأُخْرى، جُمِعَتْ بِاعْتِبارِ كَثْرَةِ الجَماعاتِ، ومُعَقِّبَةٌ لَيْسَتْ جَمْعُ مُعَقِّبٍ كَما ذَكَرَ الطَّبَرِيُّ. وشَبَّهَ ذَلِكَ بِرَجُلٍ ورِجالٍ ورِجالاتٍ، ولَيْسَ الأمْرُ كَما ذَكَرَ؛ لِأنَّ ذَلِكَ كَجَمَلٍ وجِمالٍ وجَمالاتٍ، ومُعَقِّبَةٌ ومُعَقِّباتٌ إنَّما هي كَضارِبٍ وضارِباتٍ قالَهُ: ابْنُ عَطِيَّةَ. ويَنْبَغِي أنْ يُتَأوَّلَ كَلامُ الطَّبَرِيِّ عَلى أنَّهُ أرادَ بِقَوْلِهِ: جَمْعُ مُعَقِّبٍ، أنَّهُ أطْلَقَ مِن حَيْثُ الِاسْتِعْمالِ عَلى جَمْعِ مُعَقِّبٍ، وإنْ كانَ أصْلُهُ أنْ يُطْلَقَ عَلى مُؤَنَّثِ مُعَقِّبٌ، وصارَ مِثْلَ الوارِدَةِ لِلْجَماعَةِ الَّذِينَ يَرِدُونَ، وإنْ كانَ أصْلُهُ أنْ يُطْلَقَ عَلى مُؤَنَّثٍ وارِدٍ، مِن حَيْثُ أنْ يُجْمَعَ جُمُوعَ التَّكْسِيرِ لِلْعامِلِ يَجُوزُ أنْ يُعامَلَ مُعامَلَةَ المُفْرَدَةِ المُؤَنَّثَةِ في الأخْبارِ، وفي عَوْدِ الضَّمِيرِ لِقَوْلِهِ: العُلَماءُ قائِلَةٌ كَذا، وقَوْلُهُمُ الرِّجالُ وأعْضادُها، وتَشْبِيهُ الطَّبَرِيِّ ذَلِكَ بِرَجُلٍ ورِجالاتٍ مِن حَيْثُ المَعْنى، لا مِن حَيْثُ (p-٣٧٢)صِناعَةِ النَّحْوِيِّينَ، فَبَيَّنَ أنَّ مُعَقِّبَةً مِن حَيْثُ أُرِيدَ بِهِ الجَمْعُ كَرِجالٍ مِن حَيْثُ وُضِعَ لِلْجَمْعِ، وأنْ مُعَقِّباتٍ مِن حَيْثُ اسْتُعْمِلَ جَمْعًا لِمُعَقِّبَةٍ المُسْتَعْمَلِ لِلْجَمْعِ كَرِجالاتِ الَّذِي هو جَمْعُ رِجالٍ. وقَرَأ عُبَيْدُ بْنُ زِيادٍ عَلى المِنبَرِ لَهُ (المَعاقِبُ) وهي قِراءَةُ أُبَيٍّ وإبْراهِيمَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقُرِئَ (لَهُ مَعاقِيبُ) . قالَ أبُو الفَتْحِ: هو تَكْسِيرُ مُعْقِبٍ بِسُكُونِ العَيْنِ وكَسْرِ القافِ، كَمُطْعِمٍ ومُطاعِمَ، ومُقْدِمٍ ومَقادِيمَ، وكانَ مُعَقِّبًا جَمْعٌ عَلى مُعاقَبَةٍ، ثُمَّ جُعِلَتِ الياءُ في مَعاقِيبَ عِوَضًا مِنَ الهاءِ المَحْذُوفَةِ في مُعاقَبَةٍ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَمْعُ مُعَقِّبٍ أوْ مُعَقِّبَةٍ، والياءُ عِوَضٌ مِن حَذْفِ أحَدِ القافَيْنِ في التَّكْسِيرِ. وقُرِئَ لَهُ (مُعْتَقِباتٌ) مِنِ اعْتَقَبَ. وقَرَأ أُبَيٌّ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ، ورَقِيبٌ مِن خَلْفِهِ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ: ورُقَباءُ مِن خَلْفِهِ، وذَكَرَ عَنْهُ أبُو حاتِمٍ أنَّهُ قَرَأ (مُعَقِّباتٌ مِن خَلْفِهِ ورَقِيبٌ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ) . ويَنْبَغِي حَمْلُ هَذِهِ القِرَآتِ عَلى التَّفْسِيرِ، لا أنَّها قُرْآنٌ لِمُخالَفَتِها سَوادَ المُصْحَفِ الَّذِي أجْمَعَ عَلَيْهِ المُسْلِمُونَ. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿مِن أمْرِ اللَّهِ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: ﴿يَحْفَظُونَهُ﴾ . قِيلَ: (مِن) لِلسَّبَبِ كَقَوْلِكَ: كَسَرْتُهُ مِن عُرًى، ويَكُونُ مَعْناها ومَعْنى الباءِ سَواءٌ، كَأنَّهُ قِيلَ: يَحْفَظُونَهُ بِأمْرِ اللَّهِ وبِإذْنِهِ، فَحِفْظُهم إيّاهُ مُتَسَبَّبٌ عَنْ أمْرِ اللَّهِ لَهم بِذَلِكَ. قالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: يَحْفَظُونَ عَلَيْهِ عَمَلَهُ، فَحُذِفَ المُضافُ. وقالَ قَتادَةُ: يَكْتُبُونَ أقْوالَهُ وأفْعالَهُ. وقِراءَةُ عَلِيٍّ وابْنِ عَبّاسٍ وعِكْرِمَةَ وزَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ وجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ: (يَحْفَظُونَهُ بِأمْرِ اللَّهِ)، يُؤَيِّدُ تَأْوِيلَ السَّبَبِيَّةِ في (مِن) وفي هَذا التَّأْوِيلِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَحْفَظُونَهُ مِن أجْلِ أمْرِ اللَّهِ تَعالى؛ أيْ: مِن أجْلِ أنَّ اللَّهَ تَعالى أمَرَهم بِحِفْظِهِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وقَتادَةُ: مَعْنى مِن أمْرِ اللَّهِ، بِأمْرِ اللَّهِ أيْ: يَحْفَظُونَهُ بِما أمَرَ اللَّهُ، وهَذا تَحَكُّمٌ في التَّأْوِيلِ، انْتَهى. ولَيْسَ بِتَحَكُّمٍ، ووُرُودُ ”مِن“ لِلسَّبَبِ ثابِتٌ مِن لِسانِ العَرَبِ. وقِيلَ: يَحْفَظُونَهُ مِن بَأْسِ اللَّهِ ونِقْمَتِهِ، كَقَوْلِكَ: حَرَسْتُ زَيْدًا مِنَ الأسَدِ، ومَعْنى ذَلِكَ: إذا أذِنَ اللَّهُ لَهم في دُعائِهِمْ أنْ يُمْهِلَهُ رَجاءَ أنْ يَتُوبَ عَلَيْهِ ويُنِيبَ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ مَن يَكْلَؤُكم بِاللَّيْلِ والنَّهارِ مِنَ الرَّحْمَنِ﴾ [الأنبياء: ٤٢] يَصِيرُ مَعْنى الكَلامِ إلى التَّضْمِينِ أيْ: يَدْعُونَ لَهُ بِالحِفْظِ مِن نَقَماتِ اللَّهِ رَجاءَ تَوْبَتِهِ. ومَن جَعَلَ المُعَقِّباتِ الحَرَسَ، وجَعَلَها في رُؤَساءِ الكُفّارِ فَيَحْفَظُونَهُ مَعْناهُ: في زَعْمِهِ وتَوَهُّمِهِ مِن هَلاكِ اللَّهِ، ويَدْعُونَ قَضاءَهُ في ظَنِّهِ، وذَلِكَ لِجَهالَتِهِ بِاللَّهِ تَعالى، أوْ يَكُونُ ذَلِكَ عَلى مَعْنى التَّهَكُّمِ بِهِ، وحَقِيقَةُ التَّهَكُّمِ هو أنْ يُخْبِرَ بِشَيْءٍ ظاهِرُهُ مَثَلًا الثُّبُوتُ في ذَلِكَ الوَصْفِ، وفي الحَقِيقَةِ هو مُنْتَصِفٌ، ولِذَلِكَ حَمَلَ بَعْضُهم (يَحْفَظُونَهُ) عَلى أنَّهُ مُرادٌ بِهِ: لا يَحْفَظُونَهُ، فَحَذَفَ (لا) . وعَلى هَذا التَّأْوِيلِ في ”مِن“ تَكُونُ مُتَعَلِّقَةً - كَما ذَكَرْنا - بِيَحْفَظُونَهُ، وهي في مَوْضِعِ نَصْبٍ. وقالَ الفَرّاءُ وجَماعَةٌ: في الكَلامِ تَقْدِيمٌ وتَأْخِيرٌ أيْ: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِن أمْرِ اللَّهِ يَحْفَظُونَهُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ومِن خَلْفِهِ. ورُوِيَ هَذا عَنْ مُجاهِدٍ، والنَّخَعِيُّ، وابْنُ جُرَيْجٍ، فَيَكُونُ مِن أمْرِ اللَّهِ في مَوْضِعِ رَفْعٍ؛ لِأنَّهُ صِفَةٌ لِمَرْفُوعٍ، ويَتَعَلَّقُ إذْ ذاكَ بِمَحْذُوفٍ أيْ: كائِنَةٌ مِن أمْرِ اللَّهِ تَعالى، ولا يَحْتاجُ في هَذا المَعْنى إلى تَقْدِيرِ تَقْدِيمٍ وتَأْخِيرٍ، بَلْ وُصِفَتِ المُعَقِّباتُ بِثَلاثِ صِفاتٍ في الظّاهِرِ: أحَدُها: مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ومِن خَلْفِهِ أيْ: كائِنَةٌ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ. والثّانِيَةُ: يَحْفَظُونَهُ؛ أيْ: حافِظاتٌ لَهُ. والثّالِثَةُ: كَوْنُها مِن أمْرِ اللَّهِ، وإنْ جَعْلَنا مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ومِن خَلْفِهِ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: (يَحْفَظُونَهُ) فَيَكُونُ إذْ ذاكَ مُعَقِّباتٌ وُصِفَتْ بِصِفَتَيْنِ: إحْداهُما: يَحْفَظُونَهُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ومِن خَلْفِهِ. والثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿مِن أمْرِ اللَّهِ﴾ أيْ: كائِنَةٌ مِن أمْرِ اللَّهِ. غايَةُ ما في ذَلِكَ أنَّهُ بُدِئَ بِالوَصْفِ بِالجُمْلَةِ قَبْلَ الوَصْفِ بِالجارِّ والمَجْرُورِ، وذَلِكَ شائِعٌ فَصِيحٌ، وكانَ الوَصْفُ بِالجُمْلَةِ الدّالَّةِ عَلى الدَّيْمُومَةِ، في الحِفْظِ آكَدَ، فَلِذَلِكَ قَدَّمَ الوَصْفَ بِها. وذَكَرَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ في المَلائِكَةِ المُوَكَّلِينَ عَلَيْنا، وفي الكَتَبَةِ مِنهم أقْوالًا عَنِ المُنَجِّمِينَ وأصْحابِ الطَّلْمَساتِ، وناسٍ سَمّاهم حُكَماءُ الإسْلامِ يُوقِفُ عَلى ذَلِكَ مِن تَفْسِيرِهِ. ولَمّا ذَكَرَ تَعالى إحاطَةَ عِلْمِهِ بِخَفايا الأشْياءِ وجَلاياها، وأنَّ المَلائِكَةَ تُعَقِّبُ عَلى المُكَلَّفِينَ لِضَبْطِ ما يَصْدُرُ مِنهم، وإنْ كانَ الصّادِرُ مِنهم (p-٣٧٣)خَيْرًا وشَرًّا، ذَكَرَ تَعالى أنَّ ما خَوَّلَهم فِيهِ مِنَ النِّعَمِ وأسْبَغَ عَلَيْهِمْ مِنَ الإحْسانِ لا يُزِيلُهُ عَنْهم إلى الِانْتِقامِ مِنهم إلّا بِكُفْرِ تِلْكَ النِّعَمِ، وإهْمالِ أمْرِهِ بِالطّاعَةِ، واسْتِبْدالِها بِالمَعْصِيَةِ. فَكانَ في ذِكْرِ ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلى لُزُومِ الطّاعَةِ، وتَحْذِيرٌ لِوَبالِ المَعْصِيَةِ. والظّاهِرُ أنْ لا يَقَعَ تَغَيُّرُ النِّعَمِ بِقَوْمٍ حَتّى يَقَعَ تَغْيِيرٌ مِنهم بِالمَعاصِي. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا المَوْضِعُ مُئَوَّلٌ؛ لِأنَّهُ صَحَّ الخَبَرُ بِما قَدَّرَتِ الشَّرِيعَةُ مِن أخْذِ العامَّةِ بِذُنُوبِ الخاصَّةِ وبِالعَكْسِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ﴾ [الأنفال: ٢٥] الآيَةَ، وسُؤالُهم لِلرَّسُولِ ﷺ: أنَهْلَكُ وفِينا الصّالِحُونَ ؟ قالَ: «نَعَمْ إذا كَثُرَ الخَبَثُ في أشْياءَ كَثِيرَةٍ» فَمَعْنى الآيَةِ: حَتّى يَقَعَ تَغْيِيرٌ إمّا مِنهم، وإمّا مِنَ النّاظِرِ لَهم، أوْ مِمَّنْ هو مِنهم تَسَبَّبَ، كَما غَيَّرَ اللَّهُ تَعالى المُنْهَزِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ بِسَبَبِ تَغْيِيرِ الرُّماةِ ما بِأنْفُسِهِمْ، إلى غَيْرِ هَذا في أمْثَلِهِ الشَّرِيعَةِ. فَلَيْسَ مَعْنى الآيَةِ أنَّهُ لَيْسَ يَنْزِلُ بِأحَدٍ عُقُوبَةٌ إلّا بِأنْ يَتَقَدَّمَ مِنهُ ذَنْبٌ، بَلْ قَدْ تَنْزِلُ المَصائِبُ بِذُنُوبِ الغَيْرِ. وثَمَّ أيْضًا مَصائِبُ يَزِيدُ اللَّهُ بِها أجْرَ المُصابِ، فَتِلْكَ لَيْسَتْ تَغْيِيرًا، انْتَهى. وفي الحَدِيثِ: «إذا رَأوُا الظّالِمَ ولَمْ يَأْخُذُوا عَلى يَدَيْهِ يُوشِكُ أنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقابٍ» وقِيلَ: هَذا يَرْجِعُ إلى قَوْلِهِ: ﴿ويَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الحَسَنَةِ﴾ [الرعد: ٦] فَبَيَّنَ تَعالى أنَّهُ لا يَنْزِلُ بِهِمْ عَذابُ الِاسْتِئْصالِ إلّا والمَعْلُومُ مِنهُمُ الإصْرارُ عَلى الكُفْرِ والمَعاصِي، إلّا أنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعالى أنَّ فِيهِمْ أوْ في عَقِبِهِمْ مَن يُؤْمِنُ، فَإنَّهُ تَعالى لا يُنْزِلُ بِهِمْ عَذابَ الِاسْتِئْصالِ. و”ما“ مَوْصُولَةٌ صِلَتُها (بِقَوْمٍ)، وكَذا (ما بِأنْفُسِهِمْ) . وفي ”ما“ إبْهامٌ لا يَتَغَيَّرُ المُرادُ مِنها إلّا بِسِياقِ الكَلامِ واعْتِقادِ مَحْذُوفٍ يَتَبَيَّنُ بِهِ المَعْنى، والتَّقْدِيرُ: لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ مِن نِعْمَةٍ وخَيْرٍ إلى ضِدِّ ذَلِكَ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأنْفُسِهِمْ مِن طاعَتِهِ إلى تَوالِي مَعْصِيَتِهِ. والسُّوءُ يَجْمَعُ كُلَّ ما يَسُوءُ مِن مَرَضٍ وخَيْرٍ وعَذابٍ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ البَلاءِ. ولَمّا كانَ سِياقُ الكَلامِ في الِانْتِقامِ مِنَ العُصاةِ اقْتَصَرَ عَلى قَوْلِهِ: (سُوءًا)، وإلّا فالسُّوءُ والخَيْرُ إذا أرادَ اللَّهُ تَعالى شَيْئًا مِنها فَلا مَرَدَّ لَهُ، فَذَكَرَ السُّوءَ مُبالَغَةً في التَّخْوِيفِ، وقالَ السُّدِّيُّ: ﴿مِن والٍ﴾ مِن مُلْجِئٍ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِمَّنْ يَلِي أمْرَهم، ويَدْفَعُ عَنْهم. وقِيلَ: مِن ناصَرٍ يَمْنَعُ مِن عَذابِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب