﴿لَهُ﴾ الضَّمِيرُ راجِعٌ إلى مَن تَقَدَّمَ مِمَّنْ أسَرَّ بِالقَوْلِ وجَهَرَ بِهِ إلى آخِرِهِ بِاعْتِبارِ تَأْوِيلِهِ بِالمَذْكُورِ وإجْرائِهِ مَجْرى اسْمِ الإشارَةِ وكَذا المَذْكُورَةُ بَعْدَهُ ﴿مُعَقِّباتٌ﴾ مَلائِكَةٌ تَعْتَقِبُ في حِفْظِهِ وكَلاءَتِهِ جَمْعُ مُعَقِّبَةٍ مِن عَقَّبَ مُبالَغَةً في عَقَبَهُ إذا جاءَ عَلى عَقِبِهِ وأصْلُهُ مِنَ العَقِبِ وهو مُؤَخَّرُ الرِّجْلِ ثُمَّ تَجَوَّزَ بِهِ عَنْ كَوْنِ الفِعْلِ بِغَيْرِ فاصِلٍ ومُهْلَةٍ (p-112)كَأنَّ أحَدَهم يَطَأُ عَقِبَ الآخَرِ فالتَّفْعِيلُ لِلتَّكْثِيرِ وهو إمّا في الفاعِلِ أوْ في الفِعْلِ لا لِلتَّعْدِيَةِ لِأنَّ ثُلاثِيَّةَ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ إطْلاقُ المُعَقِّباتِ عَلى المَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ بِاعْتِبارِ أنَّهم يَعْقُبُونَ أقْوالَ الشَّخْصِ وأفْعالَهُ أيْ يَتَّبِعُونَها ويَحْفَظُونَها بِالكِتابَةِ وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إنَّ أصْلَهُ مُعْتَقِباتٌ فَهو مِن بابِ الِافْتِعالِ فَأُدْغِمَتِ التّاءُ في القافِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وجاءَ المُعَذِّرُونَ﴾ أيِ المُعْتَذِرُونَ وتُعُقِّبَ بِأنَّهُ وهْمٌ فاحِشٌ فَإنَّ التّاءَ لا تُدْغَمُ في القافِ مِن كَلِمَةٍ أوْ كَلِمَتَيْنِ وقَدْ نَصَّ الصَّرْفِيُّونَ عَلى أنَّ القافَ والكافَ كُلٌّ مِنهُما لا يُدْغَمُ في الآخَرِ ولا يُدْغَمانِ في غَيْرِهِما والتّاءُ في مُعَقِّبَةٍ لِلْمُبالَغَةِ كَتاءِ نَسّابَةٍ لِأنَّ المَلائِكَةَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ غَيْرُ مُؤَنَّثِينَ وقِيلَ: هي لِلتَّأْنِيثِ بِمَعْنى أنَّ مُعَقِّبَةً صِفَةُ جَماعَةٍ مِنهم فَمَعْنى مُعَقِّباتٍ جَماعاتٌ كُلُّ جَماعَةٍ مِنها مُعَقِّبَةٌ ولَيْسَ مُعَقِّبَةٌ جَمْعَ مُعَقِّبٍ وذَكَرَ الطَّبَرِيُّ أنَّهُ جَمْعُهُ وشَبَّهَ ذَلِكَ بِرَجُلٍ ورِجالٍ ورِجالاتٍ وهو كَما تَرى لَكِنْ أوَّلَهُ أبُو حَيّانَ بِأنَّهُ أرادَ بِقَوْلِهِ: جَمْعُ مُعَقِّبٍ أنَّهُ أُطْلِقَ مِن حَيْثُ الِاسْتِعْمالِ عَلى جَمْعِ مُعَقِّبٍ وإنْ كانَ أصْلُهُ أنْ يُطْلَقَ عَلى مُؤَنَّثِ مُعَقِّبٍ فَصارَ مِثْلَ الوارِدَةِ لِلْجَماعَةِ الَّذِينَ يَرِدُونَ وإنْ كانَ أصْلُهُ أنْ يُطْلَقَ عَلى مُؤَنَّثٍ وارِدٍ وتَشْبِيهُ ذَلِكَ بِما ذُكِرَ مِن حَيْثُ المَعْنى لا مِن حَيْثُ صِناعَةِ النَّحْوِ فَبَيَّنَ أنَّ مُعَقِّبَةً مِن حَيْثُ أُرِيدَ بِهِ الجَمْعُ كَرِجالٍ مِن حَيْثُ وُضِعَ لِلْجَمْعِ وإنَّ مُعَقِّباتٍ مِن حَيْثُ اسْتُعْمِلَ جَمْعًا لِمُعَقِّبَةٍ المُسْتَعْمَلِ في الجَمْعِ كَرِجالاتٍ الَّذِي هو جَمْعُ رِجالٍ.
وقَرَأ أُبَيٌّ وإبْراهِيمُ ( مَعاقِيبُ ) وهو جَمْعٌ كَما قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ جَمْعُ مُعَقِّبٍ أوْ مُعَقِّبَةٍ بِتَشْدِيدِ القافِ فِيهِما والياءُ عِوَضٌ مِن حَذْفِ إحْدى القافَيْنِ في التَّكْسِيرِ وقالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: إنَّهُ تَكْسِيرُ مُعَقِّبٍ كَمُطَعِّمٍ ومَطاعِيمَ ومُقَدِّمٍ ومَقادِيمَ كَأنَّهُ جُمِعَ عَلى مَعاقِبَةَ ثُمَّ حُذِفَتِ الهاءُ مِنَ الجَمْعِ وعُوِّضَتِ الياءُ عَنْها ولَعَلَّهُ الأظْهَرُ وقُرِئَ ( مُعْتَقِباتٌ ) مَنِ اعْتَقَبَ ﴿مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ومِن خَلْفِهِ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ صِفَةً لِمُعَقِّباتٍ أوْ حالًا مِنَ الضَّمِيرِ في الظَّرْفِ الواقِعِ خَبَرًا لَهُ فالمَعْنى أنَّ المُعَقِّباتِ مُحِيطَةٌ بِجَمِيعِ جَوانِبِهِ أوْ هو مُتَعَلِّقٌ بِمُعَقِّباتٍ و( مِن ) لِابْتِداءِ الغايَةِ فالمَعْنى أنَّ المُعَقِّباتِ تَحْفَظُ ما قُدِّمَ وأُخِّرَ مِنَ الأعْمالِ أيْ تَحْفَظُ جَمِيعَ أعْمالِهِ وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَحْفَظُونَهُ﴾ والجُمْلَةُ صِفَةُ ﴿مُعَقِّباتٌ﴾ أوْ حالٌ مِنَ الضَّمِيرِ في الظَّرْفِ.
وقَرَأ أُبَيٌّ ( مِن بَيْنَ يَدَيْهِ ورَقِيبٌ مِن خَلْفِهِ ) وابْنُ عَبّاسٍ ( ورُقَباءُ مِن خَلْفِهِ ) ورَوى مُجاهِدٌ عَنْهُ أنَّهُ قَرَأ ( لَهُ مُعَقِّباتٌ مِن خَلْفِهِ ورَقِيبٌ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ يَحْفَظُونَهُ ) .
﴿مِن أمْرِ اللَّهِ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِما عِنْدَهُ و( مِن ) لِلسَّبَبِيَّةِ أيْ يَحْفَظُونَهُ مِنَ المَضارِّ بِسَبَبِ أمْرِ اللَّهِ تَعالى لَهم بِذَلِكَ ويُؤَيِّدُ ذَلِكَ أنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ وابْنَ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما وزَيْدَ بْنَ عَلِيٍّ وجَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ وعِكْرِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم قَرَؤُوا ( بِأمْرِ اللَّهِ ) بِالباءِ وهي ظاهِرَةٌ في السَّبَبِيَّةِ.
وجُوِّزَ أنْ يَتَعَلَّقَ بِذَلِكَ أيْضًا لَكِنْ عَلى مَعْنى يَحْفَظُونَهُ مِن بَأْسِهِ تَعالى مَتى أذْنَبَ بِالِاسْتِمْهالِ أوِ الِاسْتِغْفارِ لَهُ أيْ يَحْفَظُونَهُ بِاسْتِدْعائِهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعالى أنْ يُمْهِلَهُ ويُؤَخِّرَ عِقابَهُ لِيَتُوبَ أوْ يَطْلُبُونَ مِنَ اللَّهِ تَعالى أنْ يَغْفِرَ لَهُ ولا يُعَذِّبَهُ أصْلًا وقالَ في البَحْرِ: إنَّ مَعْنى الكَلامِ يَصِيرُ عَلى هَذا الوَجْهِ إلى التَّضْمِينِ أيْ يَدْعُونَ لَهُ بِالحِفْظِ مِن نِقْماتِ اللَّهِ تَعالى.
وقالَ الفَرّاءُ وجَماعَةٌ: في الكَلامِ تَقْدِيمٌ وتَأْخِيرٌ أيْ لَهُ مُعَقِّباتٌ مِن أمْرِ اللَّهِ يَحْفَظُونَهُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ومِن (p-113)خَلْفِهِ ورُوِيَ هَذا عَنْ مُجاهِدٍ والنَّخَعِيِّ وابْنِ جُرَيْجٍ فَيَكُونُ ﴿مِن أمْرِ اللَّهِ﴾ مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ وقَعَ صِفَةً لِمُعَقِّباتٍ أيْ كائِنَةً مِن أمْرِهِ تَعالى وقِيلَ: إنَّهُ لا يُحْتاجُ في هَذا المَعْنى إلى دَعْوى تَقْدِيمٍ وتَأْخِيرٍ بِأنْ يُقالَ: إنَّهُ سُبْحانَهُ وصَفَ المُعَقِّباتِ بِثَلاثِ صِفاتٍ إحْداها كَوْنُها كائِنَةً مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ومِن خَلْفِهِ وثانِيَتُها كَوْنُها حافِظَةً لَهُ وثالِثَتُها كَوْنُها كائِنَةً مِن أمْرِهِ سُبْحانَهُ وإنْ جُعِلَ ﴿مِن بَيْنِ يَدَيْهِ﴾ مُتَعَلِّقًا بِيَحْفَظُونَهُ يَكُونُ هُناكَ صِفَتانِ الجُمْلَةُ والجارُّ والمَجْرُورُ وتَقْدِيمُ الوَصْفِ بِالجُمْلَةِ عَلى الوَصْفِ بِهِ سائِغٌ شائِعٌ في الفَصِيحِ وكَأنَّ الوَصْفَ بِالجُمْلَةِ الدّالَّةِ عَلى الدَّيْمُومَةِ في الحِفْظِ لِكَوْنِهِ آكَدَ قُدِّمَ عَلى الوَصْفِ الآخَرِ وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ وابْنُ جَرِيرٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ المُرادَ بِالمُعَقِّباتِ الحَرَسُ الَّذِينَ يَتَّخِذُهُمُ الأُمَراءُ لِحِفْظِهِمْ مِنَ القَتْلِ ونَحْوِهِ ورُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عِكْرِمَةَ ومَعْنى ﴿يَحْفَظُونَهُ مِن أمْرِ اللَّهِ﴾ أنَّهم يَحْفَظُونَهُ مِن قَضاءِ اللَّهِ تَعالى وقَدَرِهِ ويَدْفَعُونَ عَنْهُ ذَلِكَ في تَوَهُّمِهِ لِجَهْلِهِ بِاللَّهِ تَعالى ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مِن بابِ الِاسْتِعارَةِ التَّهَكُّمِيَّةِ عَلى حَدِّ ما اشْتُهِرَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَبَشِّرْهم بِعَذابٍ ألِيمٍ﴾ فَهو مُسْتَعارٌ لِضِدِّهِ وحَقِيقَتُهُ لا يَحْفَظُونَهُ وعَلى ذَلِكَ يُخَرَّجُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إنَّ المُرادَ لا يَحْفَظُونَهُ لا عَلى أنَّ هُناكَ نَفْيًا مُقَدَّرًا كَما يُتَوَهَّمُ والأكْثَرُونَ عَلى أنَّ المُرادَ بِالمُعَقِّباتِ المَلائِكَةُ.
وفِي الصَّحِيحِ يَتَعاقَبُ فِيكم مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ ومَلائِكَةٌ بِالنَّهارِ ويَجْتَمِعُونَ في صَلاةِ الصُّبْحِ وصَلاةِ العَصْرِ وذَكَرُوا أنَّ مَعَ العَبْدِ غَيْرَ المَلائِكَةِ الكِرامِ الكاتِبِينَ مَلائِكَةً حَفَظَةً فَقَدْ أخْرَجَ أبُو داوُدَ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي الدُّنْيا وغَيْرُهم عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ قالَ: لِكُلِّ عَبْدٍ حَفَظَةٌ يَحْفَظُونَهُ لا يَخِرُّ عَلَيْهِ حائِطٌ أوْ يَتَرَدّى في بِئْرٍ أوْ تُصِيبُهُ دابَّةٌ حَتّى إذا جاءَ القَدَرُ الَّذِي قُدِّرَ لَهُ خَلَّتْ عَنْهُ الحَفَظَةُ فَأصابَهُ ما شاءَ اللَّهُ تَعالى أنْ يُصِيبَهُ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي الدُّنْيا والطَّبَرانِيُّ والصّابُونِيُّ عَنْ أبِي أُمامَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ «وُكِلَ بِالمُؤْمِنِ ثَلاثُمِائَةٍ وسِتُّونَ مَلَكًا يَدْفَعُونَ عَنْهُ ما لَمْ يُقَدَّرْ عَلَيْهِ مِن ذَلِكَ لِلْبَصَرِ سَبْعَةُ أمْلاكٍ يَذُبُّونَ عَنْهُ كَما يُذَبُّ عَنْ قَصْعَةِ العَسَلِ مِنَ الذُّبابِ في اليَوْمِ الصّائِفِ وما لَوْ بَدا لَكم لَرَأيْتُمُوهُ عَلى كُلِّ سَهْلٍ وجَبَلٍ كُلُّهم باسِطٌ يَدَيْهِ فاغِرٌ فاهُ وما لَوْ وُكِلَ العَبْدُ فِيهِ إلى نَفْسِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ لاخْتَطَفَتْهُ الشَّياطِينُ».
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ كِنانَةَ العَدَوِيِّ قالَ: «دَخَلَ عُثْمانُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ عَلى رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ أخْبِرْنِي عَنِ العَبْدِ كَمْ مَعَهُ مِن مَلَكٍ فَقالَ: مَلَكٌ عَنْ يَمِينِكَ عَلى حَسَناتِكَ وهو أمِيرٌ عَلى الَّذِي عَلى الشِّمالِ إذا عَمِلْتَ حَسَنَةً كُتِبَتْ عَشْرًا فَإذا عَمِلْتَ سَيِّئَةً قالَ الَّذِي عَلى الشِّمالِ لِلَّذِي عَلى اليَمِينِ: أأكْتَبُ قالَ: لا لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعالى ويَتُوبُ فَإذا قالَ ثَلاثًا قالَ: نَعَمِ اكْتُبْ أراحَنا اللَّهُ تَعالى مِنهُ فَبِئْسَ القَرِينُ ما أقَلَّ مُراقَبَتَهُ لِلَّهِ سُبْحانَهُ وأقَلَّ اسْتِحْياءَهُ مِنهُ تَعالى يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ وعَلا: ﴿ما يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ ومَلَكانِ مِن بَيْنِ يَدَيْكَ ومَلَكانِ مِن خَلْفِكَ يَقُولُ اللَّهُ تَعالى: ﴿لَهُ مُعَقِّباتٌ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ومِن خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِن أمْرِ اللَّهِ﴾ ومَلَكٌ قابِضٌ عَلى ناصِيَتِكَ فَإذا تَواضَعْتَ لِلَّهِ تَعالى رَفَعَكَ وإذا تَجَبَّرْتَ عَلى اللَّهِ تَعالى قَصَمَكَ ومَلَكٌ قائِمٌ عَلى فِيكَ لا يَدَعُ أنْ تَدْخُلَ الحَيَّةُ فِيهِ ومَلَكانِ عَلى عَيْنِكَ فَهَؤُلاءِ عَشْرَةُ أمْلاكٍ يَنْزِلُونَ عَلى كُلِّ بَنِي آدَمَ في النَّهارِ ويَنْزِلُ مِثْلُهم في اللَّيْلِ».
والأخْبارُ في هَذا البابِ كَثِيرَةٌ واسْتُشْكِلَ أمْرُ الحِفْظِ بِأنَّ المُقَدَّرَ لا بُدَّ مِن أنْ يَكُونَ وغَيْرَ المُقَدَّرِ لا يَكُونُ (p-114)بُدًّا فالحِفْظُ مِن أيِّ شَيْءٍ وأُجِيبَ بِأنَّ مِنَ القَضاءِ والقَدَرِ ما هو مُعَلَّقٌ فَيَكُونُ الحِفْظُ مِنهُ ولِهَذا حَسُنَ تَعاطِي الأسْبابِ وإلّا فَمِثْلُ ذَلِكَ وارِدٌ فِيها بِأنْ يُقالَ: إنَّ الأمْرَ الَّذِي نُرِيدُ أنْ تَتَعاطاهُ إمّا أنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا وُجُودُهُ فَلا بُدَّ أنْ يَكُونَ أوْ مُقَدَّرًا عَدَمُهُ فَلا بُدَّ أنْ لا يَكُونَ فَما الفائِدَةُ في تَعاطِيهِ والتَّشَبُّثِ بِأسْبابِهِ وتُعُقِّبَ هَذا أنْ ما ذُكِرَ إنَّما حَسُنَ مِنّا لِجَهْلِنا بِأنَّ ما نَطْلُبُهُ مِنَ المُعَلَّقِ أوْ مِن غَيْرِهِ والمَسْألَةُ المُسْتَشْكَلَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ اللَّهَ تَعالى جَعَلَ في المَحْسُوساتِ أسْبابًا مَحْسُوسَةً ورَبَطَ بِها مُسَبِّباتِها حَسْبَما تَقْضِيهِ حِكْمَتُهُ الباهِرَةُ ولَوْ شاءَ لَأوْجَدَ المُسَبِّباتِ مِن غَيْرِ أسْبابٍ لِغِناهُ جَلَّ شَأْنُهُ الذّاتِيِّ ولا مانِعَ مِن أنْ يَجْعَلَ في الأُمُورِ الغَيْرِ مَحْسُوسَةٍ أسْبابًا يَرْبُطُ بِها المُسَبِّباتِ كَذَلِكَ وحِينَئِذٍ يُقالُ: إنَّهُ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ جَعَلَ أُولَئِكَ الحَفَظَةَ أسْبابًا لِلْحِفْظِ كَما جَعَلَ في المَحْسُوسِ نَحْوَ الجَفْنِ لِلْعَيْنِ سَبَبًا لِحِفْظِها مَعَ أنَّهُ لَيْسَ سَبَبًا إلّا لِلْحِفْظِ مِمّا لَمْ يُبْرَمْ مِن قَضائِهِ وقَدَّرَهُ جَلَّ جَلالُهُ والوُقُوفُ عَلى الحِكَمِ بِأعْيانِها مِمّا لَمْ نُكَلَّفْ بِهِ والعِلْمُ بِأنَّ أفْعالَهُ تَعالى لا تَخْلُو عَنِ الحِكَمِ والمَصالِحِ عَلى الإجْمالِ مِمّا يَكْفِي المُؤْمِنُ ويُقالُ نَحْوَ هَذا في أمْرِ الكِرامِ الكاتِبِينَ فَهم مَوْجُودُونَ بِالنَّصِّ وقَدْ جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَعالى حَفَظَةً لِأعْمالِ العَبْدِ كاتِبِينَ لَها ونَحْنُ نُؤْمِنُ بِذَلِكَ وإنْ لَمْ نَعْلَمْ ما قَلَمُهم وما مِدادُهم وما قِرْطاسُهم وكَيْفَ كِتابَتُهم وأيْنَ مَحَلُّهم وما حِكْمَةُ ذَلِكَ مَعَ أنَّ عِلْمَهُ تَعالى كافٍ في الثَّوابِ والعِقابِ عَلَيْها وكَذا تَذَكُّرُ الإنْسانِ لَها وعِلْمُهُ بِها يَوْمَ القِيامَةِ كافٍ في دَفْعِ ما عَسى أنْ يَخْتَلِجَ في صَدْرِهِ عِنْدَ مُعايَنَةِ ما يَتَرَتَّبُ عَلَيْها ومِنَ النّاسِ مَن خاضَ في بَيانِ الحِكْمَةِ وهو أسْهَلُ مِن بَيانِ ما مَعَها.
وذَكَرَ الإمامُ الرّازِيُّ في جَوابِ السُّؤالِ عَنْ فائِدَةِ جَعْلِ المَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ مُوَكَّلِينَ عَلَيْنا كَلامًا طَوِيلًا فَقالَ: اعْلَمْ أنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ لِأنَّ المُنَجِّمِينَ اتَّفَقُوا عَلى أنَّ التَّدْبِيرَ في كُلِّ يَوْمٍ لِكَوْكَبٍ عَلى حِدَةٍ وكَذا القَوْلُ في كُلِّ لَيْلَةٍ ولا شَكَّ أنَّ لِتِلْكَ الكَواكِبِ أرْواحًا عِنْدَهم فَتِلْكَ التَّدْبِيراتُ المُخْتَلِفَةُ لِتِلْكَ الأرْواحِ في الحَقِيقَةِ وكَذا القَوْلُ في تَدْبِيرِ الهِيلاجِ والكَدَخْداهُ عَلى ما يَقُولُونَ وأمّا أصْحابُ الطَّلْسَماتِ فَهَذا الكَلامُ مَشْهُورٌ عَلى ألْسِنَتِهِمْ فَإنَّهم يَقُولُونَ: أخْبَرَنا الطَّبّاعُ التّامُّ بِكَذا ومُرادُهم بِهِ أنَّ لِكُلِّ إنْسانٍ رُوحًا فَلَكِيَّةً تَتَوَلّى صَلاحَ مُهِمّاتِهِ ودَفْعَ بَلِيّاتِهِ وآفاتِهِ وإذا كانَ هَذا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ قُدَماءِ الفَلاسِفَةِ وأصْحابِ الأحْكامِ فَكَيْفَ يُسْتَبْعَدُ مَجِيئُهُ في الشَّرْعِ.
وتَمامُ التَّحْقِيقِ فِيهِ أنَّ الأرْواحَ البَشَرِيَّةَ مُخْتَلِفَةٌ في جَواهِرِها وطَبائِعِها فَبَعْضُها خَيِّرَةٌ وبَعْضُها شِرِّيرَةٌ وبَعْضُها حُرَّةٌ وبَعْضُها نَذْلَةٌ وبَعْضُها قَوِيَّةُ القَهْرِ وبَعْضُها ضَعِيفَةٌ وكَما أنَّ الأمْرَ في الأرْواحِ البَشَرِيَّةِ كَذَلِكَ فَكَذَلِكَ القَوْلُ في الأرْواحِ الفَلَكِيَّةِ ولا شَكَّ أنَّ الأرْواحَ الفَلَكِيَّةَ في كُلِّ بابٍ وصِفَةٍ أقْوى مِنَ الأرْواحِ البَشَرِيَّةِ وكُلُّ طائِفَةٍ مِنَ الأرْواحِ البَشَرِيَّةِ تَكُونُ مُتَشارِكَةً في طَبِيعَةٍ خاصَّةٍ وصْفَةٍ مَخْصُوصَةٍ وتَكُونُ في مَرْتَبَةِ رُوحٍ مِنَ الأرْواحِ الفَلَكِيَّةِ مُشاكَلَةً لَها في الطَّبِيعَةِ والخاصِّيَّةِ فَتَكُونُ تِلْكَ الأرْواحُ البَشَرِيَّةُ كَأنَّها أوْلادٌ لِذَلِكَ الرُّوحِ الفَلَكِيِّ وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ فَإنَّ ذَلِكَ الرُّوحَ الفَلَكِيَّ يَكُونُ مُعَيَّنًا عَلى مُهِمّاتِها ومُرْشِدًا لَها إلى مَصالِحِها وعاصِمًا إيّاها عَنْ صُنُوفِ الآفاتِ وهَذا كَلامٌ ذَكَرَهُ مُحَقِّقُو الفَلاسِفَةِ وبِذَلِكَ يُعْلَمُ أنَّ ما ورَدَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ أمْرٌ مَقْبُولٌ عِنْدَ الكُلِّ فَلا يُمْكِنُ اسْتِنْكارُهُ. اهَـ.
ولَعَلَّ مَقْصُودَهُ بِذَلِكَ تَنْظِيرُ أمْرِ الحَفَظَةِ مَعَ العَبْدِ بِأمْرِ الأرْواحِ الفَلَكِيَّةِ مَعَهُ عَلى زَعْمِ الفَلاسِفَةِ في الجُمْلَةِ وإلّا فَما يَقُولُهُ المُسْلِمُونَ في أمْرِهِمْ وما يَقُولُهُ الفَلاسِفَةُ في أمْرِ تِلْكَ الأرْواحِ أمْرٌ آخَرُ وهَيْهاتَ هَيْهاتَ أنْ نَقُولَ بِما قالُوا فَإنَّهُ بَعِيدٌ عَمّا جاءَ عَنِ الشّارِعِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِمَراحِلَ ثُمَّ ذَكَرَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ مِن فَوائِدِ الحَفَظَةِ لِلْأعْمالِ (p-115)أنَّ العَبْدَ إذا عَلِمَ أنَّ المَلائِكَةَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ يَحْضُرُونَهُ ويُحْصُونَ عَلَيْهِ أعْمالَهُ وهم هم كانَ أقْرَبَ إلى الحَذَرِ عَنِ ارْتِكابِ المَعاصِي كَمَن يَكُونُ بَيْنَ يَدَيْ أُناسٍ أجِلّاءَ مِن خُدّامِ المَلَكِ مُوَكَّلِينَ عَلَيْهِ فَإنَّهُ لا يَكادُ يُحاوِلُ مَعْصِيَةً بَيْنِهِمْ وقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ غَيْرُهُ ولا يَخْلُو عَنْ حُسْنٍ ثُمَّ نُقِلَ عَنِ المُتَكَلِّمِينَ في فائِدَةِ الصُّحُفِ المَكْتُوبَةِ أنَّها وزْنُها يَوْمَ القِيامَةِ فَمَن ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهو في عِيشَةٍ راضِيَةٍ وأمّا مَن خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ ويَظْهَرُ كُلٌّ مِنَ الأمْرَيْنِ لِلْخَلائِقِ.
وتَعَقَّبَهُ القاضِي بِأنَّ ذَلِكَ بَعِيدٌ لِأنَّ الأدِلَّةَ قَدْ دَلَّتْ عَلى أنَّ كُلَّ واحِدٍ قَبْلَ مَماتِهِ عِنْدَ المُعايَنَةِ يَعْلَمُ أنَّهُ مِنَ السُّعَداءِ أوْ مِنَ الأشْقِياءِ والعِياذُ بِاللَّهِ تَعالى فَلا يَجُوزُ تَوَقُّفُ حُصُولِ المَعْرِفَةِ عَلى المِيزانِ ثُمَّ أجابَ بِأنَّهُ لا يَمْتَنِعُ أيْضًا ما ذَكَرْناهُ لِأمْرٍ يَرْجِعُ إلى حُصُولِ سُرُورِ العَبْدِ عِنْدَ الخَلْقِ العَظِيمِ بِظُهُورِ أنَّهُ مِن أوْلِياءِ اللَّهِ تَعالى لَهم وحُصُولُ ضِدَّ ذَلِكَ لِمَن كانَ مِن أعْداءِ اللَّهِ تَعالى ولا يَخْفى أنَّ هَذا بُنِيَ عَلى أنَّ الَّذِي يُوزَنُ هو الصُّحُفُ وهو أحَدُ أقْوالٍ في المَسْألَةِ نَعَمْ ذَهَبَ إلَيْهِ جَمْعٌ مِنَ الأجِلَّةِ لِحَدِيثِ البِطاقَةِ والسِّجِلّاتِ المَشْهُورِ وكَذا عَلى أنَّ الكِتابَةَ عَلى مَعْناها الظّاهِرِ وهو الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ أهْلُ الحَدِيثِ بَلْ وغَيْرُهم فِيما أعْلَمُ ونُقِلَ عَنْ حُكَماءِ الإسْلامِ مَعْنًى آخَرَ فَقالَ: إنَّ الكِتابَةَ عِبارَةٌ عَنْ نُقُوشٍ مَخْصُوصَةٍ وُضِعَتْ بِالِاصْطِلاحِ لِتَعْرِيفِ بَعْضِ المَعانِي المَخْصُوصَةِ فَلَوْ قَدَّرْنا كَوْنَ تِلْكَ النُّقُوشِ دالَّةً عَلى تِلْكَ المَعانِي بِأعْيانِها وذَواتِها كانَتْ تِلْكَ الكِتابَةُ أقْوى وأكْمَلَ وحِينَئِذٍ نَقُولُ: إنَّ الإنْسانَ إذا أتى بِعَمَلٍ مِنَ الأعْمال مَرّاتٍ كَثِيرَةً مُتَوالِيَةً حَصَلَ في نَفْسِهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ مَلَكَةٌ قَوِيَّةٌ راسِخَةٌ فَإنْ كانَتْ تِلْكَ المَلَكَةُ مَلَكَةً في أعْمالٍ نافِعَةٍ في السَّعاداتِ الرُّوحانِيَّةِ عَظُمَ ابْتِهاجُهُ بَعْدَ المَوْتِ وإنْ كانَتْ تِلْكَ المَلَكَةُ مَلَكَةً ضارَّةً في الأحْوالِ الرُّوحانِيَّةِ عَظُمَ تَضَرُّرُهُ بِها بَعْدُ ثُمَّ قالَ: إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: إنَّ التَّكْرِيرَ الكَثِيرَ إنْ كانَ سَبَبًا لِحُصُولِ تِلْكَ المَلَكَةِ الرّاسِخَةِ كانَ لِكُلِّ واحِدٍ مِن تِلْكَ الأعْمالِ أثَرٌ في حُصُولِ تِلْكَ المَلَكَةِ وذَلِكَ الأثَرِ وإنْ كانَ غَيْرَ مَحْسُوسٍ إلّا أنَّهُ حاصِلٌ في الحَقِيقَةِ وإذا عُرِفَ هَذا ظَهَرَ أنَّهُ لا يَحْصُلُ لَلْأنِسانِ لَمْحَةٌ ولا حَرَكَةٌ ولا سُكُونٌ إلّا ويَحْصُلُ مِنهُ في جَوْهَرِ نَفْسِهِ أثَرٌ مِن آثارِ السَّعادَةِ أوْ آثارِ الشَّقاوَةِ قَلَّ أوْ كَثُرَ وهَذا هو المُرادُ مِن كَتْبِ الأعْمالِ عِنْدَ حُكَماءِ الإسْلامِ واللَّهُ تَعالى العالِمُ بِحَقائِقِ الأُمُورِ. انْتَهى. وقَدْ رَأيْتُ ذَلِكَ لِبَعْضِ الصُّوفِيَّةِ.
وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّهُ خِلافُ ما نَطَقَتْ بِهِ الآياتُ والأخْبارُ ونَحْنُ في أمْثالِ هَذِهِ الأُمُورِ لا نَعْدِلُ عَنِ الظّاهِرِ ما أمْكَنَ والحَقُّ أبْلَجُ وما بَعْدَ الحَقِّ إلّا الضَّلالُ هَذا ومِنَ النّاسِ مَن جَعَلَ ضَمِيرَ ( لَهُ ) لِمَنِ الأخِيرِ والأوَّلُ أوْلى ومِنهم مَن جَعَلَهُ لِلَّهِ تَعالى وما بَعْدَهُ لِمَن وفِيهِ تَفْكِيكٌ لِلضَّمائِرِ مِن غَيْرِ داعٍ ومِنهم مَن جَعَلَهُ لِلنَّبِيِّ ﷺ وهو عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مَعْلُومٌ مِنَ السِّياقِ وقَدْ تَقَدَّمَ الإخْبارُ عَنْهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ويَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ﴾ الآيَةَ واسْتُدِلَّ عَلى ذَلِكَ بِما أخْرَجَهُ ابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ والطَّبَرانِيُّ في الكَبِيرِ وابْنُ مَرْدُوَيْهِ وأبُو نُعَيْمٍ في الدَّلائِلِ مِن طَرِيقِ عَطاءِ بْنِ يَسارٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ «أنَّ أرْبَدَ بْنَ قَيْسٍ وعامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ قَدِما المَدِينَةَ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فانْتَهَيا إلَيْهِ وهو عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ جالِسٌ فَجَلَسا بَيْنَ يَدَيْهِ فَقالَعامِرٌ: ما تَجْعَلُ لِي إنْ أسْلَمْتُ قالَ النَّبِيُّ ﷺ لَكَ ما لِلْمُسْلِمِينَ وعَلَيْكَ ما عَلَيْهِمْ قالَ: أتَجْعَلُ لِي إنْ أسْلَمْتُ الأمْرَ بَعْدَكَ فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: لَيْسَ ذَلِكَ لَكَ ولا لِقَوْمِكَ ولَكِنْ لَكَ أعِنَّةُ الخَيْلِ قالَ: فاجْعَلْ لِيَ الوَبَرَ ولَكَ المَدَرُ فَقالَ ﷺ: لا فَلَمّا قَفّى مِن عِنْدِهِ قالَ: لَأمْلَأنَّها عَلَيْكَ خَيْلًا ورَجُلًا فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: يَمْنَعُكَ اللَّهُ تَعالى. وفي رِوايَةٍ وأبْناءَ قَيْلَةَ يُرِيدُ الأوْسَ والخَزْرَجَ فَلَمّا خَرَجا قالَ عامِرٌ: يا أرْبَدُ (p-116)إنِّي سَأُلْهِي مُحَمَّدًا عَنْكَ بِالحَدِيثِ فاضْرِبْهُ بِالسَّيْفِ فَإنَّ النّاسَ إذا قَتَلْتَهُ لَمْ يَزِيدُوا عَلى أنْ يَرْضَوْا بِالدِّيَةِ ويَكْرَهُوا الحَرْبَ فَسَنُعْطِيهِمُ الدِّيَةَ فَقالَ أرْبَدُ: أفْعَلُ فَأقْبَلا راجِعَيْنِ فَقالَ عامِرٌ: يا مُحَمَّدُ قُمْ مَعِي أُكَلِّمْكَ فَقامَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مَعَهُ فَخَلَيا إلى الجِدارِ ووَقَفَ عامِرٌ يُكَلِّمُهُ وسَلَّ أرْبَدُ السَّيْفَ فَلَمّا وضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ يَبِسَتْ عَلى قائِمَةٍ فَلَمْ يَسْتَطِعْ سَلَّهُ وأبْطَأ عَلى عامِرٍ فالتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَرَأى أرْبَدَ وما يَصْنَعُ فانْصَرَفَ عَنْهُما وقالَ عامِرٌ لِأرْبَدَ: ما لَكَ قالَ: وضَعْتُ يَدِي عَلى قائِمِ سَيْفِي فَيَبِسَتْ فَلَمّا خَرَجا حَتّى إذا كانا بِالرَّقْمِ نَزَلا فَخَرَجَ إلَيْهِما سَعْدُ بْنُ مُعاذٍ وأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَوَقَعَ بِهِما أُسَيْدٌ قالَ: أشْخِصا يا عَدُوَّيِ اللَّهِ تَعالى لَعَنَكُمُ اللَّهُ تَعالى فَقالَ عامِرٌ: مَن هَذا يا سَعْدُ فَقالَ: هَذا أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرِ الكَتائِبِ فَقالَ: أما واللَّهِ إنْ كانَ حُضَيْرٌ صَدِيقًا لِي ثُمَّ إنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ أرْسَلَ عَلى أرْبَدَ صاعِقَةً فَقَتَلَتْهُ وخَرَجَ عامِرٌ حَتّى إذا كانَ بِوادِي الجَرِيدِ أرْسَلَ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ قُرْحَةً فَأدْرَكَهُ المَوْتُ وفي رِوايَةٍ أنَّهُ كانَ يَصِيحُ يا لَعامِرُ أغُدَّةٌ كَغُدَّةِ البَعِيرِ ومَوْتٌ في بَيْتِ سَلُولِيَّةَ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى فِيهِما ﴿اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى﴾ إلى قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿لَهُ مُعَقِّباتٌ﴾ إلى آخِرِهِ» ثُمَّ قالَ: المُعَقِّباتُ مِن أمْرِ اللَّهِ يَحْفَظُونَ مُحَمَّدًا ﷺ وجاءَ في رِوايَةٍ أُخْرى عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أنَّهُ قالَ: هَذِهِ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ خاصَّةً والأكْثَرُونَ عَلى اعْتِبارِ العُمُومِ وسَبَبُ النُّزُولِ لا يَأْبى ذَلِكَ واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ ثُمَّ إنَّهُ سُبْحانَهُ بَعْدَ أنْ ذَكَرَ إحاطَةَ عِلْمِهِ بِالعِبادِ وأنَّ لَهم مُعَقِّباتٍ يَحْفَظُونَهم مِن أمْرِهِ جَلَّ شَأْنُهُ نَبَّهَ عَلى لُزُومِ الطّاعَةِ ووَبالِ المَعْصِيَةِ فَقالَ عَزَّ مِن قائِلٍ: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ﴾ مِنَ النِّعْمَةِ والعافِيَةِ ﴿حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأنْفُسِهِمْ﴾ ما اتَّصَفَتْ بِهِ ذَواتُهم مِنَ الأحْوالِ الجَمِيلَةِ لا ما أضْمَرُوهُ ونَوَوْهُ فَقَطْ والمُرادُ بِتَغْيِيرِ ذَلِكَ تَبْدِيلُهُ بِخِلافِهِ لا مُجَرَّدَ تَرْكِهِ وجاءَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ مَرْفُوعًا «يَقُولُ اللَّهُ تَعالى: وعِزَّتِي وجَلالِي وارْتِفاعِي فَوْقَ عَرْشِي ما مِن أهْلِ قَرْيَةٍ ولا أهْلِ بَيْتٍ ولا رَجُلٍ بِبادِيَةٍ كانُوا عَلى ما كَرِهْتُ مِن مَعْصِيَتِي ثُمَّ تَحَوَّلُوا عَنْها إلى ما أحْبَبْتُ مِن طاعَتِي إلّا تَحَوَّلْتُ لَهم عَمّا يَكْرَهُونَ مِن عَذابِي إلى ما يُحِبُّونَ مِن رَحْمَتِي وما مِن أهْلِ قَرْيَةٍ ولا أهْلِ بَيْتٍ ولا رَجُلٍ بِبادِيَةٍ كانُوا عَلى ما أحْبَبْتُ مِن طاعَتِي ثُمَّ تَحَوَّلُوا عَنْها إلى ما كَرِهْتُ مِن مَعْصِيَتِي إلّا تَحَوَّلْتُ لَهم عَمّا يُحِبُّونَ مِن رَحْمَتِي إلى ما يَكْرَهُونَ مِن عَذابِي» أخْرَجَهُ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وأبُو الشَّيْخِ وابْنُ مَرْدُوَيْهِ.
واسْتُشْكِلَ ظاهِرُ الآيَةِ حَيْثُ أفادَتْ أنَّهُ لا يَقَعُ تَغْيِيرُ النِّعَمِ بِقَوْمٍ حَتّى يَقَعَ تَغْيِيرٌ مِنهم بِالمَعاصِي مَعَ أنَّ ذَلِكَ خِلافُ ما قَرَّرَتْهُ الشَّرِيعَةُ مِن أخْذِ العامَّةِ بِذُنُوبِ الخاصَّةِ ومِنهُ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿واتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكم خاصَّةً﴾ وقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وقَدْ سُئِلَ: «أنَهْلَكُ وفِينا الصّالِحُونَ ؟ نَعَمْ إذا كَثُرَ الخَبَثُ» وقَوْلُهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «إذا رَأوُا الظّالِمَ ولَمْ يَأْخُذُوا عَلى يَدَيْهِ يُوشِكُ أنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ سُبْحانَهُ بِعِقابٍ» في أشْياءَ كَثِيرَةٍ وأيْضًا قَدْ يُنْزِلُ اللَّهُ تَعالى بِالعَبْدِ مَصائِبَ يَزِيدُ بِها أجْرُهُ وقَدْ يُسْتَدْرَجُ المُذْنِبُ بِتَرْكِ ذَلِكَ.
وأوَّلَها ابْنُ عَطِيَّةَ لِذَلِكَ بِأنَّ المُرادَ حَتّى يَقَعَ تَغْيِيرٌ ما مِنهم أوْ مِمَّنْ هو مِنهم كَما غَيَّرَ سُبْحانَهُ بِالمُنْهَزِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ بِسَبَبِ تَغْيِيرِ الرُّماةِ ما بِأنْفُسِهِمْ والحَقُّ أنَّ المُرادَ أنَّ ذَلِكَ عادَةُ اللَّهِ تَعالى الجارِيَةُ في الأكْثَرِ لا أنَّهُ سُبْحانَهُ لا يُصِيبُ قَوْمًا إلّا بِتَقَدُّمِ ذَنْبٍ مِنهم فَلا إشْكالَ قِيلَ: ولَكَ أنْ تَقُولَ: إنَّ قَوْلَهُ سُبْحانَهُ: .
﴿وإذا أرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ﴾ تَتْمِيمٌ لِتَدارُكِ ما ذُكِرَ وفِيهِ تَأمُّلٌ والسُّوءُ يَجْمَعُ كُلَّ ما يَسُوءُ مِن مَرَضٍ وفَقْرٍ وغَيْرِهِما مِن أنْواعِ البَلاءِ و﴿مَرَدَّ﴾ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ أيْ فَلا رَدَّ لَهُ والعامِلُ في ( إذا ) ما دَلَّ (p-117)عَلَيْهِ الجَوابُ لِأنَّ مَعْمُولَ المَصْدَرِ وكَذا ما بَعْدَ الفاءِ لا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ والتَّقْدِيرُ كَما قالَ أبُو البَقاءِ وقَعَ أوْ لَمْ يَرِدْ أوْ نَحْوَ ذَلِكَ والظّاهِرُ أنَّ إذا لِلْكُلِّيَّةِ وقَدْ جاءَتْ كَذَلِكَ في أكْثَرِ الآياتِ ﴿وما لَهم مِن دُونِهِ﴾ سُبْحانَهُ ﴿مِن والٍ﴾ . (11) . يَلِي أُمُورَهم مِن ضُرٍّ ونَفْعٍ ويَدْخُلُ في ذَلِكَ دُخُولًا أوَّلِيًّا دَفَعَ السُّوءَ عَنْهم وقِيلَ: الأوَّلُ إشارَةٌ إلى نَفْيِ الدّافِعِ بِالدّالِّ وهَذا إشارَةٌ إلى نَفْيِ الرّافِعِ بِالرّاءِ لِئَلّا يَتَكَرَّرَ ولا حاجَةَ إلى ذَلِكَ كَما لا يَخْفى واسْتُدِلَّ بِالآيَةِ عَلى أنَّ خِلافَ مُرادِ اللَّهِ تَعالى مُحالٌ واعْتُرِضَ بِأنَّها تَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى إذا أرادَ بِقَوْمٍ سُوءًا وجَبَ وُقُوعُهُ ولا تَدُلُّ عَلى أنَّ كُلَّ مُرادٍ لَهُ تَعالى كَذَلِكَ ولا عَلى اسْتِحالَةِ خِلافِهِ بَلْ عَلى عَدَمِ وُقُوعِهِ وأُجِيبَ بِأنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ إرادَةِ السُّوءِ وإرادَةِ غَيْرِهِ لَكِنِ اقْتَصَرَ عَلى إرادَةِ الأوَّلِ لِأنَّ الكَلامَ في الِانْتِقامِ مِنَ الكُفّارِ وهو أبْلَغُ في تَخْوِيفِهِمْ فَإذا امْتَنَعَ رَدُّ السُّوءِ فَغَيْرُهُ كَذَلِكَ والمُرادُ بِالِاسْتِحالَةِ عَدَمُ الإمْكانِ الوُقُوعِيِّ لا الذّاتِيِّ ولا يَخْفى أنَّ هَذا خِلافُ الظّاهِرِ ومِن أعْجَبِ ما قِيلَ: إنَّ الجُمْهُورَ احْتَجُّوا بِالآيَةِ عَلى أنَّ المَعاصِيَ مِمّا يَشْمَلُها السُّوءُ وأنَّها بِخُلُقِهِ تَعالى ومِنَ النّاسِ مَن جَعَلَ الآيَةَ مُتَعَلِّقَةً بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ويَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ﴾ إلى آخِرِهِ وبَيَّنَ ذَلِكَ أبُو حَيّانَ بِما لا يَرْتَضِيهِ إنْسانٌ وقِيلَ: إنَّ فِيها إيذانًا بِأنَّهم بِما باشَرُوهُ مِن إنْكارِ البَعْثِ واسْتِعْجالِ السَّيِّئَةِ واقْتِراحِ الآيَةِ قَدْ غَيَّرُوا ما في أنْفُسِهِمْ مِنَ الفِطْرَةِ فاسْتَحَقُّوا لِذَلِكَ حُلُولَ غَضَبِ اللَّهِ تَعالى هَذا ووَقَفَ ابْنُ كَثِيرٍ عَلى ( هادٍ ) وكَذا ( واقٍ ) حَيْثُ وقَعَ وعَلى ( والٍ ) هُنا و( باقٍ ) في النَّحْلِ بِإثْباتِ الياءِ وباقِي السَّبْعَةِ وقَفُوا بِحَذْفِها وفي الإقْناعِ لِأبِي جَعْفَرِ بْنِ الباذِشِ عَنِ ابْنِ مُجاهِدٍ الوَقْفُ في جَمِيعِ البابِ لِابْنِ كَثِيرٍ بِالياءِ وهَذا لا يَعْرِفُهُ المَكِّيُّونَ وفِيهِ أيْضًا عَنْ أبِي يَعْقُوبَ الأزْرَقِ عَنْ ورْشٍ أنَّهُ خَيَّرَهُ في الوَقْفِ في جَمِيعِ البابِ بَيْنَ أنْ يَقِفَ بِالياءِ وأنْ يَقِفَ بِحَذْفِها كَذا في البَحْرِ وفِيهِ أنَّهُ أثْبَتَ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو في رِوايَةٍ ياءَ ( المُتَعالِ ) وقْفًا ووَصْلًا وهو الكَثِيرُ في لِسانِ العَرَبِ وحَذَفَها الباقُونَ وصْلًا ووَقْفًا لِأنَّها كَذَلِكَ رُسِمَتْ في الإمامِ.
واسْتَشْهَدَ سِيبَوَيْهِ لِحَذْفِها في الفَواصِلِ والقَوافِي وأجازَ غَيْرُهُ حَذْفَها مُطْلَقًا ووَجْهُ حَذْفِها مَعَ أنَّها تُحْذَفُ مَعَ التَّنْوِينِ وألْ مُعاقَبَةً لَهُ إجْراءَ المُعاقَبِ مَجْرى
{"ayah":"لَهُۥ مُعَقِّبَـٰتࣱ مِّنۢ بَیۡنِ یَدَیۡهِ وَمِنۡ خَلۡفِهِۦ یَحۡفَظُونَهُۥ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُغَیِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ یُغَیِّرُوا۟ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ وَإِذَاۤ أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوۡمࣲ سُوۤءࣰا فَلَا مَرَدَّ لَهُۥۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَالٍ"}