قوله عزّ وجلّ:
﴿لَهُ مُعَقِّباتٌ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ومِن خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِن أمْرِ اللهِ إنَّ اللهِ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأنْفُسِهِمْ وإذا أرادَ اللهِ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وما لَهم مِن دُونِهِ مِن والٍ﴾ ﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفًا وطَمَعًا ويُنْشِئُ السَحابَ الثِقالَ﴾ ﴿وَيُسَبِّحُ الرَعْدُ بِحَمْدِهِ والمَلائِكَةُ مِن خِيفَتِهِ ويُرْسِلُ الصَواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مِن يَشاءُ وهم يُجادِلُونَ في اللهِ وهو شَدِيدُ المِحالِ﴾
اخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ في عَوْدِ الضَمِيرِ مِن "لَهُ" -فَقالَتْ فِرْقَةٌ: هو عائِدٌ عَلى اسْمِ اللهِ تَعالى المُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ، و"المُعَقِّباتُ" - عَلى هَذا- المَلائِكَةُ الحَفَظَةُ عَلى العِبادِ أعْمالَهُمْ، والحَفَظَةُ لَهم أيْضًا، قالَهُ الحَسَنُ، ورَوى فِيهِ عُثْمانُ بْنُ عَفّانَ حَدِيثًا، (p-١٨٥)وَهُوَ قَوْلُ مُجاهِدٍ، والنَخَعِيِّ، والضَمِيرُ -عَلى هَذا- في قَوْلِهِ: "يَدَيْهِ" وما بَعْدَهُ مِنَ الضَمائِرِ عائِدٌ عَلى العَبْدِ المَذْكُورِ في قَوْلِهِ: ﴿وَمَن هو مُسْتَخْفٍ بِاللَيْلِ﴾ [الرعد: ١٠]، و﴿مِن أمْرِ اللهِ﴾ يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ صِفَةً للْمُعَقِّباتِ، ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: يَحْفَظُونَهُ مِن كُلِّ ما جَرى القَدَرُ بِانْدِفاعِهِ، فَإذا جاءَ المَقْدُورُ الواقِعُ أسْلَمَ المَرْءَ إلَيْهِ.
وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا: الضَمِيرُ في "لَهُ" عائِدٌ عَلى المَذْكُورِ في قَوْلِهِ: ﴿وَمَن جَهَرَ بِهِ ومَن﴾ [الرعد: ١٠] وكَذا باقِي الضَمائِرِ الَّتِي في الآيَةِ، قالُوا: و"المُعَقِّباتُ" -عَلى هَذا- حَرَسُ الرَجُلِ وجَلاوِزَتُهُ الَّذِينَ يَحْفَظُونَهُ، قالُوا: والآيَةُ -عَلى هَذا- في الرُؤَساءِ الكافِرِينَ، واخْتارَ هَذا القَوْلَ الطَبَرِيُّ، وهو قَوْلُ عِكْرِمَةَ وجَماعَةٍ، قالَ عِكْرِمَةُ، هي المَواكِبُ خَلْفَهُ وأمامَهُ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
ويَصِحُّ عَلى التَأْوِيلِ الأوَّلِ الَّذِي قَبْلَ هَذا أنْ يَكُونَ الضَمِيرُ في "لَهُ" لِلْعَبْدِ المُؤْمِنِ عَلى مَعْنى: جَعَلَ اللهُ لَهُ، وهَذا التَأْوِيلُ عِنْدِي أقْوى، لِأنَّ غَرَضَ الآيَةِ إنَّما هو التَنْبِيهُ عَلى قُدْرَةِ اللهِ، فَذَكَرَ اسْتِواءَ مَن هو مُسْتَخْفٍ ومَن هو سارِبٌ وأنَّ لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنَ اللهِ تَحَفَظُهُ في كُلِّ حالٍ، ثُمَّ ذَكَرَ أنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ هَذِهِ الحالَةَ مِنَ الحِفْظِ لِلْعَبْدِ حَتّى يُغَيِّرَ ما بِنَفْسِهِ، وعَلى كِلا التَأْوِيلَيْنِ لَيْسَتِ الضَمائِرُ لِمُعَيَّنٍ مِنَ البَشَرِ.
وقالَ عَبْدُ الرَحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: الآيَةُ في النَبِيِّ ﷺ، ونَزَلَتْ في حِفْظِ اللهِ لَهُ مِن أرْبَدَ بْنِ رَبِيعَةَ، وعامِرِ بْنِ الطُفَيْلِ في القِصَّةِ الَّتِي تَأْتِي بَعْدَ هَذا في ذِكْرِ الصَواعِقِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذِهِ الآيَةُ وإنْ كانَتْ ألْفاظُها تَنْطَبِقُ عَلى مَعْنى القِصَّةِ فَيُضَعِّفُ القَوْلَ أنَّ النَبِيَّ ﷺ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ فَيَعُودَ الضَمِيرُ في "لَهُ" عَلَيْهِ.
و"المُعَقِّباتُ": الجَماعاتُ الَّتِي يُعْقُبُ بَعْضُها بَعْضًا، فَعَلى التَأْوِيلِ الأوَّلِ هي (p-١٨٦)المَلائِكَةُ، ويَنْظُرُ هَذا إلى قَوْلِ النَبِيِّ ﷺ: « "يَتَعاقَبُونَ فِيكم مَلائِكَةٌ بِاللَيْلِ ومَلائِكَةٌ بِالنَهارِ، ويَجْتَمِعُونَ في صَلاةِ المَغْرِبِ والصُبْحِ"،» وعَلى التَأْوِيلِ الثانِي هي الحَرَسُ والوَزَعَةُ الَّذِينَ لِلْمُلُوكِ. والمُعَقِّباتُ جَمْعُ مُعَقِّبَةٍ، وهي الجَماعَةُ الَّتِي تَأْتِي بَعْدَ الأُخْرى، والتَعْقِيبُ بِالجُمْلَةِ أنْ تَكُونَ حالٌ تَعْقُبُها حالٌ أُخْرى مِن نَوْعِها، وقَدْ تَكُونُ مِن غَيْرِ النَوْعِ، ومِنهُ مُعاقَبَةُ الرُكُوبِ، ومُعْقِبُ عُقْبَةِ القِدْرِ، والمُعاقَبَةُ في الأزْواجِ، ومِنهُ قَوْلُ سَلامَةَ بْنِ جَنْدَلٍ:
؎ وكَرُّنا الخَيْلَ في آثارِهِمْ رُجُعًا ∗∗∗ كُسَّ السَنابِكِ مِن بِدْءٍ وتَعْقِيبٍ
وقَرَأ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ زِيادٍ عَلى المِنبَرِ: "لَهُ المَعاقِيبُ"، قالَ أبُو الفَتْحِ: هو تَكْسِيرُ مُعْقِبٍ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
بِسُكُونِ العَيْنِ وكَسْرِ القافِ كَمُطْعِمٍ ومَطاعِيمُ ومُقْدِمٍ ومَقادِيمُ، وهي قِراءَةُ أبِي البَرَهْسَمِ، فَكَأنَّ مُعْقِبًا جُمِعَ عَلى مَعاقِبَةٍ ثُمَّ جُعِلَتِ الياءُ في مَعاقِيبَ عِوَضًا مِنَ الهاءِ المَحْذُوفَةِ في مَعاقِبَةٍ. والمُعَقِّبَةُ لَيْسَتْ جَمْعَ مُعَقِّبٍ كَما ذَكَرَ ذَلِكَ الطَبَرِيُّ وشَبَّهَ ذَلِكَ بِرَجُلٍ ورِجالٍ ورِجالاتٍ، ولَيْسَ الأمْرُ كَما ذَكَرَ لِأنَّ تِلْكَ كَجَمَلٍ وجِمالٍ وجِمالاتٍ، ومُعَقِّبَةٌ ومُعَقِّباتٌ إنَّما هي كَضارِبَةٌ وضارِباتٌ.
(p-١٨٧)وَفِي قِراءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: "مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ورَقِيبٌ مِن خَلْفِهِ"، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ: "وَرَقِيبًا مِن خَلْفِهِ"، وذَكَرَ عنهُ أبُو حاتِمٍ أنَّهُ قَرَأ: "مُعَقِّباتٌ مِن خَلْفِهِ ورَقِيبٌ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ يَحْفَظُونَهُ بِأمْرِ اللهِ".
وقَوْلُهُ: "يَحْفَظُونَهُ" يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أحَدُهُما أنْ يَكُونَ بِمَعْنى يَحْرُسُونَهُ ويَذُبُّونَ عنهُ: فالضَمِيرُ مَعْمُولُ الحِفْظِ، والمَعْنى الثانِي أنْ يَكُونَ بِمَعْنى حِفْظِ الأقْوالِ وتَحْصِيلِها، فَفي اللَفْظَةِ حِينَئِذٍ حَذْفُ مُضافٍ تَقْدِيرُهُ: يَحْفَظُونَ أعْمالَهُمْ، ويَكُونُ هَذا حِينَئِذٍ مِن بابِ ﴿واسْألِ القَرْيَةَ﴾ [يوسف: ٨٢]، وهَذا قَوْلُ ابْنِ جَرِيجٍ.
وقَوْلُهُ: ﴿مِن أمْرِ اللهِ﴾ -مَن جَعَلَ "يَحْفَظُونَهُ" بِمَعْنى يَحْرُسُونَهُ كانَ مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿مِن أمْرِ اللهِ﴾ يُرادُ بِهِ المُعَقِّباتُ، فَيَكُونُ في الآيَةِ تَقْدِيمٌ وتَأْخِيرٌ، أيْ: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِن أمْرِ اللهِ يَحْفَظُونَهُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ومِن خَلْفِهِ، قالَ أبُو الفَتْحِ: فَـ "مِن أمْرِ اللهِ" في مَوْضِعِ رَفْعٍ لِأنَّهُ صِفَةٌ لِمَرْفُوعٍ وهي "المُعَقِّباتُ"، ويُحْتَمَلُ هَذا التَأْوِيلُ في قَوْلِهِ: ﴿مِن أمْرِ اللهِ﴾ مَعَ التَأْوِيلِ الأوَّلِ في "يَحْفَظُونَهُ"، ومَن تَأوَّلَ الضَمِيرَ في "لَهُ" عائِدٌ عَلى العَبْدِ وجَعَلَ "المُعَقِّباتِ" الحَرَسَ وجَعَلَ الآيَةَ في رُؤَساءِ الكافِرِينَ جَعَلَ قَوْلَهُ: ﴿مِن أمْرِ اللهِ﴾ بِمَعْنى: يَحْفَظُونَهُ بِزَعْمِهِ مِن قَدَرِ اللهِ ويَدْفَعُونَهُ في ظَنِّهِ عنهُ، وذَلِكَ لِجَهالَتِهِ بِاللهِ تَعالى.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وبِهَذا التَأْوِيلِ جَعَلَها المُتَأوِّلُ في الكافِرِينَ، قالَ أبُو الفَتْحِ: فَـ ﴿مِن أمْرِ اللهِ﴾ -عَلى هَذا- في مَوْضِعِ نَصْبٍ، كَقَوْلِكَ: "حَفِظْتُ زَيْدًا مِنَ الأسَدِ"، فَـ "مِنَ الأسَدِ" مَعْمُولٌ لِـ "حَفِظْتُ". وقالَ قَتادَةُ: مَعْنى بِـ ﴿أمْرِ اللهِ﴾ أيْ يَحْفَظُونَهُ مِمّا أمَرَ اللهُ، وهَذا تَحَكُّمٌ في التَأْوِيلِ، وقالَ قَوْمٌ: المَعْنى: الحِفْظُ مِن أمْرِ اللهِ، وقَدْ تَقَدَّمَ نَحْوُ هَذا. وقَرَأ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ، وابْنُ عَبّاسٍ، وعِكْرِمَةُ، وجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ رَضِيَ اللهُ عنهُمْ-: "يَحْفَظُونَهُ بِأمْرِ اللهِ".
(p-١٨٨)ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى أنَّهُ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ بِأنْ يُعَذِّبَهم ويَمْتَحِنَهم مُعاقِبًا حَتّى يَقَعَ مِنهم تَكَسُّبٌ لِلْمَعاصِي وتَغْيِيرُ ما أُمِرُوا بِهِ مِن طاعَةِ اللهِ، وهَذا مَوْضِعُ تَأمُّلٍ، لِأنَّهُ يُداخِلُ هَذا الخَبَرَ ما قَرَّرَتِ الشَرِيعَةُ مِن أخْذِ العامَّةِ بِذُنُوبِ الخاصَّةِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكم خاصَّةً﴾ [الأنفال: ٢٥]، ومِنهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ -وَقَدْ قِيلَ لَهُ: «يا رَسُولَ اللهِ أنَهْلِكُ وفِينا الصالِحُونَ؟ - قالَ: (نَعَمْ، إذا كَثُرَ الخَبَثُ).» إلى أشْياءَ كَثِيرَةٍ مِن هَذا، فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿حَتّى يُغَيِّرُوا﴾ مَعْناهُ: حَتّى يَقَعَ تَغْيِيرٌ إمّا مِنهم وإمّا مِنَ الناظِرِ لَهم أو مِمَّنْ هو مِنهم بِسَبَبٍ، كَما غَيَّرَ اللهُ تَعالى بِالمُنْهَزِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ بِسَبَبِ تَغْيِيرِ الرُماةِ ما بِأنْفُسِهِمْ، إلى غَيْرِ هَذا مِن أمْثالِ الشَرِيعَةِ، فَلَيْسَ مَعْنى الآيَةِ أنَّهُ لَيْسَ يَنْزِلُ بِأحَدٍ عُقُوبَةٌ إلّا بِأنْ يَتَقَدَّمَ مِنهُ ذَنْبٌ، بَلْ قَدْ تَنْزِلُ المَصائِبُ بِذُنُوبِ الغَيْرِ، وثَمَّ أيْضًا مَصائِبُ يُرِيدُ اللهُ بِها أجْرَ المُصابِ فَتِلْكَ لَيْسَتْ تَغْيِيرًا.
ثُمَّ أخْبَرَ تَبارَكَ وتَعالى بِأنَّهُ إذا أرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ، ولا حِفْظَ مِنهُ، وهَذا أُجْرِيَ في مَقامِ التَنْبِيهِ عَلى عادَةِ اللهِ تَعالى وقُدْرَتِهِ، والشَرُّ والخَيْرُ بِمَنزِلَةٍ واحِدَةٍ إذا أرادَهُما اللهُ بِعَبْدٍ لَمْ يُرَدَّ، لَكِنَّهُ خَصَّ السُوءَ بِالذِكْرِ لِيَكُونَ في الآيَةِ تَخْوِيفٌ.
واخْتَلَفَ القُرّاءُ في "والٍ" - فَأمالَهُ بَعْضُهم ولَمْ يُمِلْهُ بَعْضُهُمْ، والوالِي: الَّذِي يَلِي أمْرَ الإنْسانِ كالوَلِيِّ، وهُما مِنَ الوِلايَةِ كَعَلِيمٍ وعالِمٍ مِنَ العِلْمِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ﴾ الآيَةَ. هَذِهِ آيَةُ تَنْبِيهٍ عَلى القُدْرَةِ، "والبَرْقَ" رُوِيَ فِيهِ عَنِ النَبِيِّ ﷺ أنَّهُ مِخْراقٌ بِيَدِ مَلَكٍ يَزْجُرُ بِهِ السَحابَ، وهَذا أصَحُّ ما رُوِيَ فِيهِ، (p-١٨٩)وَرُوِيَ عن بَعْضِ العُلَماءِ أنَّهُ قالَ: البَرْقُ: اصْطِكاكُ الأجْرامِ، وهَذا عِنْدِي مَرْدُودٌ، وقالَ أبُو الجَلْدِ في هَذِهِ الآيَةِ: البَرْقُ الماءُ، وذَكَرَهُ مَكِّيٌّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، ومَعْنى هَذا القَوْلِ: أنَّهُ لَمّا كانَ داعِيَةَ الماءِ، وكانَ خَوْفُ المُسافِرِينَ مِنَ الماءِ وطَمَعُ المُقِيمِ فِيهِ عَبَّرَ في هَذا القَوْلِ عنهُ بِالماءِ.
وقَوْلُهُ: ﴿خَوْفًا وطَمَعًا﴾، مَن قالَ ذَلِكَ في الماءِ فَهو عَلى ما تَقَدَّمَ، والظاهِرُ أنَّ الخَوْفَ إنَّما هو مِن صَواعِقِ البَرْقِ، والطَمَعَ في المَطَرِ الَّذِي يَكُونُ مَعَهُ، وهو قَوْلُ الحَسَنِ. و"السَحابُ" جَمْعُ سَحابَةٍ، وكَذَلِكَ جَمْعُ الصِفَةِ. و"الثِقالَ" مَعْناهُ: يَحْمِلُ الماءَ، وبِذَلِكَ فَسَّرَ قَتادَةُ ومُجاهِدٌ، والعَرَبُ تَصِفُها بِذَلِكَ، ومِنهُ قَوْلُ قَيْسِ بْنِ الخَطِيمِ:
؎ فَما رَوْضَةٌ مِن رِياضِ القَطا ∗∗∗ ∗∗∗ كَأنَّ المَصابِيحَ حُورانُها
؎ بِأحْسَنَ مِنها ولا مُزْنَةٌ ∗∗∗ ∗∗∗ دَلُوحٌ تَكَشَّفُ أدْجانُها
والدَلُوحُ: المُثْقَلَةُ. (p-١٩٠)وَ"الرَعْدُ" مَلَكٌ يَزْجُرُ السَحابَ بِصَوْتِهِ، وصَوْتُهُ- هَذا المَسْمُوعَ تَسْبِيحٌ، والرَعْدُ اسْمُ المَلَكِ، وقِيلَ: (الرَعْدُ) اسْمُ صَوْتِ المَلَكِ، ورُوِيَ عَنِ النَبِيِّ ﷺ أنَّهُ كانَ إذا سَمِعَ الرَعْدَ قالَ: « "اللهُمَّ لا تُهْلِكْنا بِغَضَبِكَ، ولا تَقْتُلْنا بِعَذابِكَ، وعافِنا قَبْلَ ذَلِكَ".»
ورُوِيَ عن عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ وغَيْرِهِ أنَّهم كانُوا إذا سَمِعُوا الرَعْدَ قالُوا: "سُبْحانَ مَن سَبَّحْتَ لَهُ"، ورُوِيَ عن أبِي هُرَيْرَةَ «أنَّ النَبِيَّ ﷺ كانَ إذا سَمِعَ الرَعْدَ قالَ: "سُبْحانَ مَن سَبَّحَ الرَعْدُ بِحَمْدِهِ"،» وقالَ ابْنُ أبِي زَكَرِياءَ: « "مَن قالَ إذا سَمِعَ الرَعْدَ: سُبْحانَ اللهِ وبِحَمْدِهِ لَمْ تُصِبْهُ صاعِقَةٌ"،» وقِيلَ في الرَعْدِ أيْضًا: إنَّهُ رِيحٌ يَخْتَنِقُ بَيْنَ السَحابِ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذا عِنْدِي فِيهِ نَظَرٌ، لِأنَّها نَزَعاتُ الطَبِيعِيِّينَ وغَيْرِهِمْ مِنَ المَلاحِدَةِ، ورُوِيَ أيْضًا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما أنَّ المَلَكَ إذا غَضِبَ وزَجَرَ السَحابَ اضْطَرَبَتْ مِن خَوْفِهِ فَيَكُونُ البَرْقُ، وتَحْتَكُّ فَتَكُونُ الصَواعِقُ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَيُرْسِلُ الصَواعِقَ﴾ الآيَةَ. قِيلَ: إنَّهُ أدْخَلَها في التَنْبِيهِ عَلى القُدْرَةِ بِغَيْرِ سَبَبٍ ساقَ ذَلِكَ، وقالَ ابْنُ جَرِيجٍ: كانَ سَبَبُ نُزُولِها قِصَّةَ أرْبَدَ أخِي لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةٍ، لِأُمِّهِ وعامِرِ بْنِ الطُفَيْلِ، وكانَ مِن أمْرِهِما فِيما رُوِيَ «أنَّهُما قَدِما عَلى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَدَعَواهُ أنْ يَجْعَلَ الأمْرَ بَعْدَهُ إلى عامِرِ بْنِ الطُفَيْلِ ويَدْخُلا في دِينِهِ فَأبى، فَقالَ عامِرٌ: فَتَكُونُ أنْتَ عَلى أهْلِ المَدَرِ وأنا عَلى أهْلِ الوَبَرِ -فَأبى، فَقالَ لَهُ عامِرٌ: فَماذا تُعْطِينِي؟ فَقالَ لَهُ النَبِيُّ ﷺ: "أُعْطِيكَ أعِنَّةَ الخَيْلِ فَإنَّكَ رَجُلٌ فارِسٌ، فَقالَ لَهُ عامِرٌ: واللهِ لَأمْلَأنَّها عَلَيْكَ خَيْلًا ورِجالًا حَتّى آخُذَكَ، فَقالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "يَأْبى اللهُ ذَلِكَ وأبْناءُ قَيْلَةَ، فَخَرَجا (p-١٩١)مِن عِنْدِهِ، فَقالَ أحَدُهُما لِصاحِبِهِ: لَوْ قَتَلْناهُ ما انْتَطَحَ فِيهِ عنزانِ، فَتَآمَرا في الرُجُوعِ لِذَلِكَ، فَقالَ عامِرٌ لِأرْبَدَ: أنا أشْغَلُهُ لَكَ بِالحَدِيثِ واضْرِبْهُ أنْتَ بِالسَيْفِ، فَجَعَلَ عامِرٌ يُحَدِّثُهُ وأرْبَدُ لا يَصْنَعُ شَيْئًا، فَلَمّا انْصَرَفا قالَ لَهُ عامِرٌ: واللهِ يا أرْبَدُ لا خِفْتُكَ أبَدًا، ولَقَدْ كُنْتُ أخافُكَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَقالَ لَهُ أرْبَدُ: واللهِ لَقَدْ أرَدْتُ إخْراجَ السَيْفِ فَما قَدَرْتُ عَلى ذَلِكَ، ولَقَدْ كُنْتُ أراكَ بَيْنِي وبَيْنَهُ أفَأضْرِبُكَ ؟ فَمَضَيا لِلْحَشْدِ عَلى النَبِيِّ ﷺ، فَأصابَتْ أرْبَدَ صاعِقَةٌ فَقَتَلَتْهُ،» فَفي ذَلِكَ يَقُولُ لَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ أخُوهُ:
؎ أخْشى عَلى أرْبَدَ الحُتُوفَ ولا ∗∗∗ ∗∗∗ أرْهَبُ نَوْءَ السِماكِ والأُسُدِ
؎ فَجَّعَنِي الرَعْدُ والصَواعِقُ بِالـ ∗∗∗ ∗∗∗ ـفارِسِ يَوْمَ الكَرِيهَةِ النَجُدِ
فَنَزَلَتِ الآيَةُ في ذَلِكَ، ورُوِيَ عن عَبْدِ الرَحْمَنِ بْنِ صُحارٍ العَبْدِيِّ أنَّهُ بَلَغَهُ أنَّ جَبّارًا مِن جَبابِرَةِ العَرَبِ بَعَثَ إلَيْهِ النَبِيُّ ﷺ لِيُسْلِمَ، فَقالَ: أخْبِرُونِي عن إلَهِ مُحَمَّدٍ، أمِن لُؤْلُؤٍ هو أو مِن ذَهَبٍ؟ فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ صاعِقَةٌ ونَزَلَتِ الآيَةُ فِيهِ، وقالَ مُجاهِدٌ: إنَّ بَعْضَ اليَهُودِ جاءَ إلى النَبِيِّ ﷺ يُناظِرُهُ، فَبَيْنَما هو كَذَلِكَ إذْ نَزَلَتْ صاعِقَةٌ فَأخَذَتْ قِحْفَ رَأْسِهِ فَنَزَلَتِ الآيَةُ فِيهِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَهم يُجادِلُونَ في اللهِ﴾، يَجُوزُ أنْ تَكُونَ إشارَةً إلى جِدالِ اليَهُودِيِّ المَذْكُورِ، وتَكُونَ الواوُ واوَ حالٍ، أو إلى جِدالِ الجَبّارِ المَذْكُورِ، ويَجُوزُ -إنْ كانَتِ الآيَةُ عَلى غَيْرِ سَبَبٍ- أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿وَهم يُجادِلُونَ في اللهِ﴾ إشارَةً إلى جَمِيعِ الكَفَرَةِ مِنَ العَرَبِ وغَيْرِهِمُ الَّذِينَ جُلِبَتْ لَهم هَذِهِ التَنْبِيهاتُ.
(p-١٩٢)و"المِحالِ": القُوَّةُ والإهْلاكُ، ومِنهُ قَوْلُ الأعْشى:
؎ فَرْعُ نَبْعٍ يَهْتَزُّ في غُصُنِ المَجْـ ∗∗∗ ∗∗∗ ـدِ عَظِيمُ النَدى شَدِيدُ المِحالِ
ومِنهُ قَوْلُ عَبْدِ المُطَّلِبِ:
؎ لا يَغْلِبَنَّ صَلِيبُهم ∗∗∗ ∗∗∗ ومِحالُهم عَدْوًا مِحالَكَ
وقَرَأ الأعْرَجُ، والضَحّاكُ: "المَحالِ" بِفَتْحِ المِيمِ بِمَعْنى المَحالَةِ، وهي الحِيلَةُ، ومِنهُ قَوْلُ العَرَبِ في "ذِكْرِ" المَثَلِ: "المَرْءُ يُعَزُّ لا مَحالَةَ"، وهَذا كالِاسْتِدْراجِ والمَكْرِ ونَحْوِهِ، وهَذِهِ اسْتِعاراتٌ في ذِكْرِ اللهِ تَعالى، والمِيمُ إذا كُسِرَتْ أصْلِيَّةٌ، وإذا فُتِحَتْ زائِدَةٌ، ويُقالُ: مَحَلَ الرَجُلُ بِالرَجُلِ: إذا مَكَرَ بِهِ وأخَذَهُ بِسِعايَةٍ شَدِيدَةٍ.
{"ayahs_start":11,"ayahs":["لَهُۥ مُعَقِّبَـٰتࣱ مِّنۢ بَیۡنِ یَدَیۡهِ وَمِنۡ خَلۡفِهِۦ یَحۡفَظُونَهُۥ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُغَیِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ یُغَیِّرُوا۟ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ وَإِذَاۤ أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوۡمࣲ سُوۤءࣰا فَلَا مَرَدَّ لَهُۥۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَالٍ","هُوَ ٱلَّذِی یُرِیكُمُ ٱلۡبَرۡقَ خَوۡفࣰا وَطَمَعࣰا وَیُنشِئُ ٱلسَّحَابَ ٱلثِّقَالَ","وَیُسَبِّحُ ٱلرَّعۡدُ بِحَمۡدِهِۦ وَٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ مِنۡ خِیفَتِهِۦ وَیُرۡسِلُ ٱلصَّوَ ٰعِقَ فَیُصِیبُ بِهَا مَن یَشَاۤءُ وَهُمۡ یُجَـٰدِلُونَ فِی ٱللَّهِ وَهُوَ شَدِیدُ ٱلۡمِحَالِ"],"ayah":"لَهُۥ مُعَقِّبَـٰتࣱ مِّنۢ بَیۡنِ یَدَیۡهِ وَمِنۡ خَلۡفِهِۦ یَحۡفَظُونَهُۥ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُغَیِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ یُغَیِّرُوا۟ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ وَإِذَاۤ أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوۡمࣲ سُوۤءࣰا فَلَا مَرَدَّ لَهُۥۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَالٍ"}