الباحث القرآني
طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (١) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [المائدة ١- ٢].
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ أولًا هذه السورة مدنية، وهي من آخر ما نزل من القرآن؛ ولذلك قال العلماء: ما كان فيها من حلال فأحلوه، وما كان فيها من حرام فحرموه، ولم يأت فيها حكم يكون منسوخًا، بل كل الأحكام التي فيها محكمة، وهي مدنية؛ لأنها نزلت بعد الهجرة، وكل ما نزل بعد الهجرة فإنه مدني وإن نزل بمكة، وإلا ففيها قول الله تبارك وتعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة ٣] هذا نزل في عرفة والنبي ﷺ واقف بها.
البسملة لا حاجة لتكرار الكلام عليها؛ لأنه سبق الكلام عليها، وأنها آية من كتاب الله مستقلة ليست من السورة التي قبلها ولا بعدها، يؤتى بها عند بدء كل سورة سوى سورة براءة.
وأنها متعلقة بمحذوف، ويقدر هذا المحذوف فعلًا متأخرًا مناسبًا للموضوع الذي تقدمته هذه البسملة، هذا أحسن ما قيل في متعلق البسملة، وعليه فإذا كنت تريد أن تقرأ تقول: إن الجار والمجرور متعلق بفعل محذوف تقديره: باسم الله أقرأ، يعني التقدير: باسم الله أقرأ، وإذا كنت تريد تتوضأ تقول تقديره: باسم الله أتوضأ، إذا كنت تريد أن تذبح مذكاة تقول: باسم الله أذبح، هذا التقدير.
يقول الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، واعلم أنه إذا صدر الكلام بهذه الجملة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فإنه كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «أَرْعِهَا سمعك» -يعني انتبه لها- «فإما خير تؤمر به، وإما شر تنهى عنه، وإما خبرٌ يكون فيه مصلحة لك»[[أخرجه ابن المبارك في الزهد (٣٦)، وسعيد بن منصور في السنن (٥٠) من حديث عبد الله بن مسعود.]]، مثل قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ [التوبة ٢٨] وما أشبه ذلك، المهم أنه لا بد أن تكون لخير، أو لشر، أو لخبر يتضمن خيرًا أو شرًّا.
واعلم أيضًا أنه إذا صدر الكلام بها فإنه يدل على أن ما بعدها من مقتضيات الإيمان؛ تصديقًا به إن كان خبرًا، وعملًا به إن كان طلبًا، وأن مخالفة ذلك نقص في الإيمان.
واعلم أيضًا أن الله تعالى يصدر الخطاب بها إغراء للمخاطب؛ لأنه إذا قيل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ كأنه يقول: إن إيمانكم يحملكم على أن تفعلوا كذا وكذا، أو أن تتركوا كذا وكذا، حسب السياق.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ أوفوا بها أي: ائتوا بها وافية كاملة من غير نقص، وقد بيَّن الله تعالى الوعيد على من يستوفي العقود تامة ولا يوفيها تامة في قوله تعالى: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾ [المطففين ١-٣].
إذن ﴿أَوْفُوا﴾ بمعنى أيش؟ ائتوا بها كاملة، ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ﴾ [الإسراء ٣٤]، ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ﴾ [الإسراء ٣٥] وما أشبه ذلك.
و(العقود) جمع (عقد)، وهو: ما أبرمه الإنسان مع غيره، وضد العقد الحَل، تقول: عقدت الحبل، وحَلَلْت الحبل، فالعقود إذن: ما أبرمه الإنسان مع غيره، وهي أنواع كثيرة منها: البيع، والإجارة والرهن، والوقف، والنكاح، وغير ذلك.
وقوله: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ هذا عام، أيُّ عقدٍ فإنه يجب الوفاء به، ولكن لا بد أن يقيد بما جاءت به الشريعة وهو ألا يكون العقد محرمًا، فإن كان العقد محرمًا فإن النصوص تدل على عدم الوفاء به، بل على تحريم الوفاء به؛ لقول النبي ﷺ: «مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِئَةَ شَرْطٍ»[[متفق عليه؛ البخاري (٢١٦٨)، ومسلم (١٥٠٤ / ٨) من حديث عائشة.]].
ثم قال: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ ﴿أُحِلَّتْ﴾ هذا فعل مبني لأيش؟ لما لم يسم فاعله، وفاعله معلوم ليس مجهولًا؛ لأن الفاعل هنا هو الله عز وجل، كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ [النحل ١١٦]، فالْمُحِل هنا هو الله.
وقوله: ﴿بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ البهيمة: ما لا ينطق، كل حيوان لا ينطق فهو بهيمة؛ وذلك لأن ما ينطق به يكون مبهمًا لا يعرف فهو بهيمة.
وقوله: ﴿الْأَنْعَامِ﴾ المراد بها ثلاثة أنواع: الإبل، والبقر، والغنم، فإضافة البهيمة إلى الأنعام من باب إضافة الشيء إلى جنسه، كما تقول: خاتمُ حديدٍ، وبابُ خشبٍ، وما أشبه ذلك، كأنه قال: البهيمة من الأنعام.
بهيمة الأنعام وهي الإبل. عندما نقول: وهي الإبل والبقر والغنم هل نحن نفسر البهيمة ولَّا الأنعام؟
* الطلبة: الأنعام.
* الشيخ: الأنعام يعني إبل والبقر والغنم.
﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ هذا استثناء من قوله: ﴿بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾؛ لأن بهيمة الأنعام مفرد مضاف فهو عام لكل شيء، ﴿بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ قال: ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ والمراد بذلك ما سيأتي في الآية التي بعدها في قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ﴾ إلى آخره، هذا الذي يتلى علينا.
﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ﴾ هذه استثناء من قوله: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾، ويحتمل أن تكون حالًا وهي الأقرب؛ لأنها مضافة إلى اسم الفاعل، يعني: أحلت لكم حال كونكم غير محلي الصيد وأنتم حرم.
وقوله: ﴿مُحِلِّي الصَّيْدِ﴾ أي: مستبيحيه، وذلك بصيده، ﴿وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ جملة حالية، و(الحُرُم) جمع (حرام)، وهو من تلبس بالإحرام لحج أو عمرة، أو دخل في حرم وإن لم يكن محرمًا، والحرم في مكة معروف بحدوده، وفي المدينة كذلك أيضًا، لكن المدينة ليست كمكة في التحريم بل هي أقل، كما سيذكر إن شاء الله.
﴿إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ الجملة كالتعليل لما قبلها، لما ذكر عز وجل الإحلال والتحريم قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ حكمًا شرعيًّا أو كونيًّا؟
* طلبة: كلاهما.
* الشيخ: نعم، يشمل الحكم الكوني والحكم الشرعي، فكل ما يريده الله عز وجل فإنه يحكم به؛ لأنه لا راد لحكمه، إن شاء حلل هذا وحرّم هذا، وإن شاء أوجب هذا ورخَّص في هذا، وكذلك أيضًا إن شاء حكم على عباده بالغنى والأمن، وإن شاء حكم بضد ذلك، فالأحكام الكونية والشرعية كلها بإرادة الله ولا أحد يعترض على حكم الله عز وجل، كما قال تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾ [يوسف ٤٠] يعني: ما الحكم إلا لله، ﴿أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾.
وقوله: ﴿مَا يُرِيدُ﴾ أي الإرادتين؟ نقول: هي الإرادة الكونية باعتبار كون الحكم كونيًّا، والشرعية باعتبار كون الحكم شرعيًّا، وحينئذٍ لا بد أن نفرق بين الإرادتين: الكونية والشرعية.
الفرق بينهما: أن الكونية بمعنى المشيئة، فتتعلق فيما يحبه الله وما لا يحبه الله، ويقع فيها ما أراد بكل حال، وأما الشرعية فهي التي بمعنى المحبة، فمعنى (يريد) أي يحب، وتتعلق فيما يحبه الله فقط، وقد يقع فيها المراد وقد لا يقع، فهذا هو الفرق بين الإرادتين الكونية والشرعية.
* في الآية الكريمة فوائد؛ منها: فضيلة الإيمان؛ وذلك من توجيه الخطاب -خطاب الله عز وجل- إلى المؤمنين.
* ومنها: أهمية ما يذكر بعد هذا النداء؛ لأنه يفرق في الكلام بين أن تقول: افعل كذا، أو أن تقول: يا فلان، افعل كذا، أيهما أشد؟ الثاني أشد؛ لأنك ناديته حتى ينتبه لك، ففيه أهمية ما ذكر بعد هذا النداء.
* ومن فوائد الآية الكريمة: وجوب الوفاء بالعقود؛ لقوله: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾، والأصل في الأمر الوجوب لا سيما إذا كان متعلقًا بحق الآخرين، والعقد متعلق بحق الآخرين؛ لأنه إبرام شيء بينك وبين الآخر، فإذن الأمر بالوفاء للوجوب.
* ومنها: أن جميع العقود حلال، وجه ذلك: أن الله أمر بها، والله تعالى أمر بالوفاء بها، والله تعالى لا يأمر بالوفاء بالفحشاء أبدًا، لكن هذا ليس على عمومه؛ إذ يستثنى منها ما حرمه الشرع كبيع الغرر، بيع حبل الحبلة، البيع بالربا، القمار، وما أشبه ذلك.
* ومنها: أن العقود تنعقد بما دل عليه من قول أو فعل، بلفظ أو إشارة أو كتابة، من أين تؤخذ هذه الفائدة؟ لأن الله أطلق العقد، فكل ما صار عقدًا بين الناس فهو عقد.
ويتفرع على هذا مسائل كثيرة؛ منها: جواز البيع بالمعاطاة، أتعرفون المعاطاة؟ المعاطاة: أن يأتي إنسان للخباز ويكون مكتوب في إعلان: الخبزة بريال، فيضع الريال في مكان الفلوس ويأخذ الخبزة، هذا بيع بأيش؟ بالمعاطاة ما فيه عقود، ما فيه بيع ولا اشتراء لكنه بالمعاطاة، وقد عرف الناس أنه عقد.
ومن ذلك أيضًا: الركوب في الحافلات، الإنسان يدخل، باب الحافلة مفتوح فيدخل ويسلم الأجرة للذي عند الباب، ولا يعقد الإجارة بصيغة، هذا أيضًا إجارة بالمعاطاة.
ومن ذلك أيضًا: أن النكاح ينعقد بما دل عليه وأنه لا يحتاج إلى لفظ: زوجتك، فإذا قال: ملكتك بنتي، فقال: قبلت، يصح العقد أو لا؟
* طلبة: يصح.
* الشيخ: نعم، يصح؛ لأن هذا هو المعروف، وقد جاء في حديث الواهبة نفسها عند البخاري لفظ: «مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٠٣٠)، ومسلم (١٤٢٥ / ٧٦) من حديث سهل بن سعد.]].
* ومن فوائد هذه الآية: وجوب الوفاء بالشروط المشترطة في العقد، يعني معناه: إذا عقد رجلان بينهما عقد بيع أو غيره واشترطا شروطًا، فالأصل أيش؟ وجوب الوفاء بالشرط؛ وذلك لأن قوله: ﴿بِالْعُقُودِ﴾ يشمل الوفاء بالعقد نفسه وبأوصافه التي هي شروطه؛ لأن الشروط في العقد في الحقيقة أوصاف للعقد، والأمر بالوفاء بالعقد أمر بالوفاء به وبما يتضمنه من الأوصاف.
فإذا اشترط المتعاقدان شرطًا وحصل نزاع هل يصح هذا الشرط أو لا يصح؟ فمن الصواب معه؟ الصواب مع من يقول: إنه يصح حتى يقيم المانع دليلًا على المنع، وعلى هذا فإننا نجري الناس على معاملاتهم حتى نتأكد أن فيها مخالفة للشرع، فالأصل إذن في المعاملات؟
* طالب: أن تجرى، وجوب الوفاء.
* الشيخ: نعم، الأصل أن تجعل على ما هي عليه حتى يقوم دليل على أنها محرمة.
هل يدخل في ذلك الوفاء بالعهود؟ نعم؛ لأن العهد عقد، كما جاء في آية أخرى: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء ٣٤].
وهل يدخل في ذلك الوعد؟ لو قلت لإنسان: سأمر عليك غدًا في الساعة الفلانية هل يجب عليك أن توفي بذلك؟
* طلبة: نعم.
* طالب: ليس بهذه الآية.
* الشيخ: الصحيح نعم، يجب عليك أن توفي به؛ لأن الوعد عهد، ولأن إخلاف الوعد من صفات المنافقين، والرسول عليه الصلاة والسلام لما قال: «إن المنافق إذا وعد أخلف»[[متفق عليه؛ البخاري (٦٠٩٥)، ومسلم (٥٩ / ١٠٧) من حديث أبي هريرة.]]، لا يريد أن يوصل إلى أفهامنا هذه الخصلة من خصال المنافقين، ولكن يريد منا أن نتجنبها ونحذرها؛ ولهذا كان القول الراجح أن الوفاء بالوعد واجب، وأنه لا يجوز للإنسان أن يخلف الوعد إلا لعذر شرعي.
والعجب أن بعض المغرورين بأخلاق الأمم الكافرة يقول لصاحبه إذا واعده: إنه وعد أيش؟ إنجليزي، مع أن الكفار من أبعد الناس عن الوفاء بالوعد، وكان على هذا أن يقول: إنه وعد..
* طالب: مسلم.
* الشيخ: إي نعم، مؤمن؛ لأن المؤمن هو الذي لا يخلف الوعد إلا لعذر شرعي.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن جميع بهائم الأنعام حلال؛ لقوله: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾، وغير بهيمة الأنعام هل هي حلال ولَّا غير حلال؟ نقول: إنها حلال، لكن لا بهذه الآية بل بقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة ٢٩].
وعلى هذا فإذا شككنا في هذا الحيوان الزاحف أو الطائر هل هو حلال أو حرام؟ فالأصل أنه حلال، من حرَّمه قلنا: هات الدليل، وإلا فإنه حلال.
إذا شككنا في الحلال هل ذكي ذكاة شرعية أم لا فما الأصل؟ الأصل عدمها، الأصل عدم الذكاة الشرعية؛ لأن الذكاة فعل لا بد من تحقق وجوده، فإذا وجدنا -مثلًا- عضوًا من شاة ولا ندري هل هو مذكى أو غير مذكى؟ فنقول: إنه لا يحل؛ لأن الأصل عدم التذكية ما لم يوجد ظاهر يغلب على هذا الأصل.
إن وجد ظاهر يغلب على هذا الأصل فإننا أيش؟ نأخذ به، فلو وجدنا رِجل شاة عند بيت من بيوت المسلمين فنحن لا نعلم هل ذكيت أم لا؟ فالأصل عدم الحل، لكن هنا ظاهر يغلب على الأصل وهو أن وجودها بين بيوت المسلمين يدل على أنها مذكاة، فيكون هذا الظاهر مغلَّبًا على الأصل؛ ولهذا قال العلماء رحمهم الله: لو وجد الإنسان شاة مذكاة في بلد أكثر أهله ممن تحل ذبيحته فهي حلال، مع أن فيه احتمالًا أن الذي ذبح غير من تحل ذبيحته لكن يغلب الظاهر لقوته.
* من فوائد هذه الآية: الإحالة على مذكور أو ما سيذكر، من أين تؤخذ؟
* طلبة: ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾.
* الشيخ: ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾، وهذا إحالة على ما سيذكر، وقد استعمل العلماء رحمهم الله هذا في مؤلفاتهم، وأكثر من رأيناه يستعمله مَن؟ ابن حجر، ابن حجر ما أكثر إحالته! ومع ذلك أحيانًا ينسى أن يوفي رحمه الله. إذن تجوز الإحالة على شيء مذكور أو سيذكر كما قال: ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الأصل في البهيمة -بهيمة الأنعام- الحل، كما قررناه قبل قليل، وجه ذلك الاستثناء من هذا الحكم: ﴿أُحِلَّتْ﴾ ﴿إِلَّا﴾.
وقد قال العلماء رحمهم الله: إن الاستثناء معيار العموم، معيار يعني ميزان، إذا وجدت شيئًا فيه استثناء فاعلم أن هذا الحكم عام؛ لأنه لما أخرج هذا الفرد من أفراده علم أن الحكم شامل لجميع الأفراد.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أنه لا يحل الصيد للمحرم؛ لقوله: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾، ولا لمن كان في الحرم؛ لأن من كان في الحرم فقد دخل في جوٍّ محرَّم، محرم فيه الصيد، فيحرم عليه الصيد.
لكن لو صاده صيدًا حلالًا، يعني أنهر الدم وسمى الله وقتله هل يحل أو لا يحل؟
* طلبة: لا يحل.
* طالب: يحل.
* الشيخ: انظر الآية: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾.
* طلبة: ما يحل.
* الشيخ: لا يحل؛ لأنه قال: غير محليه، فدل ذلك على أنهم إذا قتلوه فهو حرام، فلا يحل لهم أن يحللوه لأنفسهم؛ ولهذا عبَّر الله عن صيد الصيد عبَّر عنه بالقتل فقال تعالى في آية أخرى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ [المائدة ]، ومعلوم أنه لا يريد أن يقتل بغير الصيد الشرعي؛ لأن القتل بغير الصيد الشرعي منهي عنه، سواء كان الإنسان محرمًا أم غير محرم، لكن لما كان الصيد في حال الإحرام حرامًا صار هذا الصيد بمنزلة القتل فيكون المصيد حرامًا.
* ومن فوائد الآية الكريمة: تعظيم الإحرام، وأنه يحرم على المحرم الصيد؛ لئلا ينساب وراء الصيد فينسى الإحرام؛ إذ من المعلوم الآن في أهل الصيد أنهم شغوفون به، وأنه يأخذ بلبهم وعقولهم، حتى إنك ترى الصائد يلحق الصيد والحصى يدمي قدمه والشوك يخرقها ومع ذلك لا يبالي، لو أحل الصيد للمحرم لتلهى به عن أيش؟ عن إحرامه وغفل.
* ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات الحكم لله؛ لقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾.
* ومن فوائد الآية أيضًا: إثبات الإرادة لله في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: الإشارة إلى أنه لا يحل للإنسان أن يعترض على الأحكام الشرعية، لماذا؟ لأن الله ختمها بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾، ختم الآية لما ذكر أنواعًا من الأحكام قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾.
ثم قال الله عز وجل: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ نتكلم على البسملة، وإن كان هذا قد مر علينا كثيرًا، لكن لعل بعض الإخوة لم يكونوا حضروا.
البسملة: آية من كتاب الله عز وجل، تُبتدأ بها كل سورة ما عدا سورة (براءة) فإنها لم تبتدأ بالبسملة؛ لأن أي آية تنزل يبين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم موضعها، لكن في سورة (براءة) ما ذكر البسملة، فأبقاها الصحابة رضي الله عنهم بدون بسملة، لكن أشكل عليهم هل هي مستقلة أو من الأنفال؟ فوضعوا بينهما حاجزًا بدون بسملة، وأما من قال من العوام: إن الجن اختطفوها، فهذا لا أصل له إطلاقًا، ولا يجوز اعتقاده.
ولهذا يقول بعض العوام ورأيته أنا في بعض المصاحف: أعوذ بالله من النار، ومن غضب الجبار، ومن كيد الأشرار. بدل البسملة، وهذا حرام لا يجوز.
نقول: هكذا كتب الصحابة، وهم أسوتنا وقدوتنا.
هي بعض آية في سورة النمل؛ لأن الله تعالى ذكرها على سبيل الحكاية.
إذا جعلناها آية هل هي مستقلة أو تابعة لما بعدها؟
هي مستقلة، لا تابعة لما بعدها، فلا تُعد من آياتها، لكن اختلف الناس في البسملة في سورة الفاتحة، هل هي مستقلة أو من آيات الفاتحة؟
والصواب: أنها مستقلة؛ لدلالة السنة القولية والفعلية على ذلك: أما القولية: ففي الحديث القدسي أن الله تبارك وتعالى قال: «قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، فَإِذَا قَالَ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ قَالَ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي»[[أخرجه مسلم (٣٩٥ / ٣٨) من حديث أبي هريرة.]] وذكر الحديث، ولم يذكر البسملة.
وأما السنة الفعلية: فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان لا يجهر بالبسملة[[متفق عليه؛ البخاري (٧٤٣)، ومسلم (٣٣٩ / ٥٢) من حديث أنس.]]، هذا هو الثابت عنه، وتركه الجهر بالبسملة في الصلاة الجهرية، يدل على أنها ليست من الفاتحة، وإلا لجهر بها كما يجهر في بقية آياتها.
بقي أن يقال: البسملة مبدوءة بحرف الجر، والمعروف أن حروف الجر لا بد لها من عامل يسمى المتعلَّق، فأين متعلّقها؟
الجواب: متعلّقها محذوف، ويقدر بعدها، أما كونه محذوفًا فلأنه غير موجود، فلا بد أن يكون مقدّرًا.
وأما كونه يُقدّر بعدها فلوجهين:
الوجه الأول: التيمّن بالبداءة باسم الله.
والوجه الثاني: إفادة الحصر، كأنك تقول: لا أقرأ مثلًا إلا بـ (باسم الله)، إذن فيُقدّر متأخرًا أو سابقًا؟
متأخرًا، للوجهين اللذين ذكرناهما، وكيف نقدره؟ هل نقدره اسمًا أو فعلًا؟ وهل نقدره عامًّا أو خاصًّا؟
هذه أربعة احتمالات، هل نقدره فعلًا أو اسمًا؟
نقول: نقدره فعلًا؛ لأن الفعل هو الأصل في العمل، ولذلك لا تجد اسمًا يعمل عمل الفعل إلا بشروط، وإذا كان هو الأصل كان تقديره أولى من تقدير الاسم.
وهل نقدره عامًّا أو خاصًّا؟
نقول: نقدره خاصًّا؛ لأن الخاص أدل على المقصود من العام، فالآن نضرب أمثلة: إذا قدرنا: باسم الله ابتدائي، فهذا مخالف للأولى من وجهين، باسم الله ابتدائي، مخالف في الوجهين:
الأول: أنا قدرناه اسمًا.
والثاني: قدرناه عامًّا.
فإذا قال: باسم الله أبتدئ، فهو مخالف من وجه واحد، وهو تقديره عامًّا.
وإذا قلت: باسم الله قراءتي، من وجه واحد، وهو أنك قدرته اسمًا. وإذا قلت: باسم الله أقرأ، فهذا أحسن التقديرات؛ لأنه فعل، ومتأخر وخاص، فهو أدل، والدليل أنك تقدر الخاص الحديث: «مَنْ لَمْ يَذْبَحْ، فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ»[[متفق عليه؛ البخاري (٩٨٥)، ومسلم (١٩٦٠ / ١) من حديث جندب بن سفيان.]] هذا يدل على أنك تقدّر الفعل الخاص المناسب.
عند الوضوء: باسم الله؛ التقدير: أتوضأ، عند القراءة: باسم الله؛ أقرأ، عند الكتابة: باسم الله؛ أكتب.
أما اسم الله اسم مفرد مضاف إلى الله عز وجل فيقتضي البداءة بكل اسم من أسماء الله، فأنت إذا قلت: باسم الله، كأنما قلت: بكل اسم من أسماء الله.
و(الله) كلمة عظيمة جدًّا علم على الله جل وعلا، لا يسمى به غيره لا في الجاهلية، ولا في الإسلام، وهو أصل لجميع الأسماء، ولهذا لا تأتي الأسماء إلا بعده تابعة له؛ لأنه الأصل.
* طالب: (...) البداءة بـ(باسم الله) في أثناء السور؟
* الشيخ: البداءة بـ(باسم الله) في أثناء السورة ذكر بعض أهل العلم أنها سنة؛ يعني مستحبة، والصواب أنها ليست مستحبة؛ لأن الله تعالى قال: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [النحل ٩٨] فمثلًا إذا قلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم ﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [البقرة ٢٨٤] فقد زدت، يعني كأنما تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فقط، فإذا قال: أليس هذا فعلًا وينبغي أن أبدأ بكل فعل بالبسملة؟
قلنا: إذا قلت هذا فقل: بسم الله الرحمن الرحيم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لكن الصحيح أنه لا يستحب البداءة بها.
* طالب: لكن يا شيخ، في المدارس يلقى على الطلاب يعلمون ويكرر عليهم (...).
* الشيخ: نعم، يعلمون لئلا يتخذوها سنة.
* طالب: أحسن الله إليك، بعض المبتدعة يقولون: إن الله على كل شيء قدير. هل الله سبحانه وتعالى قادر على أن يخلق نفسه؟
* الشيخ: أعوذ بالله!
* الطالب: ومنهم: من يقول: هل الله قادر على المعدوم؟ مثل هذه الأسئلة؟
* الشيخ: ما يخالف، نقول: أما قادر على أن يخلق نفسه، فكيف يكون هذا؟ لأنه قبل نفسه معدوم، كيف يكون؟
وأما قدرته على المعدوم، فنعم، يقدر أن يخلق المعدوم قبل أن يكون، السماوات والأرض هل هي قديمة أزلية؟
أبدًا، ما هي أزلية موجودة بعد أن لم تكن، كل ما سوى الله فهو موجود بعد أن لم يكن، لكن يقولون: إن الشيطان قال له أبناؤه: إنك إذا مات العابد لا تهتم به، وإذا مات العالم فرحت فرحًا عظيمًا؟ قال: نعم؛ لأن العالم أشد عليّ ضررًا من العابد.
قال: إن موت العابد، إذا مات مات عن نفسه، لكن العالم هو الذي حَرْب له، فأفرح إذا مات، قالوا: طيب، نريد مثالًا، فأرسل إلى العابد، وقال له: هل يمكن أن يجعل الله السماوات والأرض في بيضة؟ ويش قال العابد؟
قال: ما يمكن، ما يصير، أرسل إلى العالم قال: هل يمكن أن يجعل الله السماوات والأرض في بيضة؟
قال: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس ٨٢] قال: يلا، هذا ابن حلال، هذا عابد يمكن يكون له مئة سنة، ووصف الله بالعجز، والعالم قال كلمة حقيقة: لو أراد الله عز وجل أن يجعل السماوات والأرض في بيضة. قال: كن فيكون. وإن كنا لا ندرك هذا بعقولنا، فالمهم أن الشيطان يورد على الإنسان مثل هذه الأشياء.
ولكن الإنسان إذا قال: آمنت بالله، وأنه على كل شيء قدير، وأن أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له: كن فيكون؛ زال هذا.
* طالب: الفرق بين المعدوم الممكن والمعدوم الممتنع؟
* الشيخ: أبدًا، كل هذا من طرق المتكلمين، ولا ينبغي أن يبحث فيها إطلاقًا.
* * *
* طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ﴾ [الأنعام ١ - ٣].
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، سبق في الدرس الماضي أن شرعنا في الكلام على البسملة، أليس كذلك؟
انتهينا إلى قوله تبارك وتعالى: ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ وذكرنا أن هذا الاسم العظيم هو أصل الأسماء، ولا يسمى به سوى الله عز وجل.
أما قوله: ﴿الرَّحْمَنِ﴾ فالرحمن مشتق من الرحمة، ولكنه على صيغة (فَعْلان)، وهذه الصيغة تدل على السعة والامتلاء، فيكون معناه: أنه ذو رحمة واسعة، ولهذا فسرها بعضهم بأن ﴿الرَّحْمَنِ﴾ ذو الرحمة العامة، ولكن الصواب: أنه ذو الرحمة الواسعة، يرحم من شاء عز وجل، فهي أدل على الوصف منها على الفعل، أدل على الوصف أنها وصف لله منها على الفعل.
أما ﴿الرَّحِيمِ﴾ فهي صيغة مبالغة من الرحمة أيضًا، لكنها أدل على الفعل منها على الوصف، فسبقت ﴿الرَّحْمَنِ﴾؛ لأنها وصف، وأتت ﴿الرَّحِيمِ﴾ لأنها فعل، فهو رحمان يرحم، وقد ذكر الله تبارك وتعالى أنه بالمؤمنين رحيم، والمراد الرحمة الخاصة.
إذن ﴿الرَّحْمَنِ﴾ تدل على أيش؟ على الوصف، و﴿الرَّحِيمِ﴾ على الفعل؛ يعني أنه يرحم.
قسم العلماء -رحمهم الله- الرحمة إلى قسمين: عامة، وخاصة؛ فأما العامة فهي الشاملة لجميع الخلق، المؤمن، والكافر، والبر والفاجر، والصغير، والكبير، والبهيم، والعاقل، كل الخلق تحت رحمة الله عز وجل، لا يشذ أحد عن هذه الرحمة العامة.
الرحمة الخاصة: هي التي تختص بالمؤمنين، فهي رحمة خاصة، والفرق بينهما أن الرحمة الخاصة تتصل برحمة الآخرة، فيكون لله عز وجل على المؤمنين رحمة في الدنيا ورحمة في الآخرة.
أما الرحمة العامة: فلا أثر لها إلا في الدنيا، ولذلك نقول: الكفار في الآخرة يعاملون بالعدل، لا يعاملون بالرحمة، البهائم، وغير العاقل كذلك يعاملون بالعدل؛ لأن الله يقضي بينهم بين البهائم، ثم يأمرهن أن يكن ترابًا، فيكن ترابًا، ولا نعيم.
فالرحمة إذن كم؟ نوعان أو قسمان: عامة: تشمل جميع الخلق، وخاصة: تختص بالمؤمنين.
الفرق بينهما؛ أن العامة إنما تكون في الدنيا فقط، والخاصة تكون في الدنيا والآخرة. اللهم ارحمنا برحمتك.
وذكر هذين الاسمين الكريمين عند البسملة التي تتقدم فعل العبد وقوله، إشارة إلى أن الله إذا لم يرحمك، فلن تستفيد من هذا الفعل ولا من هذا القول، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ»[[متفق عليه، البخاري (٥٦٧٣)، ومسلم (٢٨١٦ / ٧١) من حديث أبي هريرة.]].
قال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ (أل) هنا للاستغراق؛ أي: جميع الحمد من كل وجه ثابت لله عز وجل، و(اللام) في قوله: ﴿لِلَّهِ﴾ إما للاختصاص وإما للاستحقاق.
ولا تنافي بين المعنيين، وعلى هذا فتكون للاستحقاق والاختصاص؛ لأن (أل) في قوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ للعموم، ولا أحد يستحق الحمد على العموم إلا الله عز وجل، فتكون (اللام) للاستحقاق، وللاختصاص أيضًا، ولكن ما هو الحمد؟
الحمد كثير من الناس يفسره بـ(الثناء على الجميل الاختياري)، ولكن هذا ليس بصحيح؛ لأن الثناء يكون تكرار الحمد، والدليل على هذا قوله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: «إِذَا قَالَ الْعَبْدُ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ قَالَ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي وَإِذَا قَالَ: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ قَالَ: أَثْنَى عَلَيَّ»[[أخرجه مسلم (٣٩٥ / ٣٨) من حديث أبي هريرة.]]. وهذا يدل على أن الثناء هو تكرار الوصف الكامل، والاشتقاق يدل عليه؛ لأن الثناء من الثني، وهو إعادة الشيء، أو رد الشيء بعضه إلى بعض.
وأما قولهم: (على الجميل الاختياري) فهو بالنسبة لله عز وجل غير صحيح؛ لأن الله يحمد على ما يفعله عز وجل وهو يختار ما يشاء، ويحمد على كمال صفاته اللازمة التي لا تتعدى إلى أحد، فهو محمود على كمال حياته، ومحمود على كمال قيوميته؛ الأول: وصف لازم، والثاني: وصف متعدٍّ، ولازم أيضًا، كما سبق تفسيره.
إذن الصواب: أن حمد الله يكون على أفعاله التي يختارها، وعلى صفاته الكاملة اللازمة له، فبماذا نعرّفه؟
نقول: ﴿الْحَمْدُ﴾: وصف المحمود بالكمال حبًّا وتعظيمًا.
الحمد وصف المحمود بالكمال اللازم والمتعدي حبًّا وتعظيمًا؛ لأن الوصف بالكمال قد تصف شخصًا ما بالكمال لا محبة له، لكن رجاءً لما سيجازيك به، وقد تحبه، وقد تمدحه لا على سبيل المحبة والتعظيم، ولكن خوفًا من شره.
فالحمد إذن لا بد أن يقيّد بأنه على وجه المحبة والتعظيم، فإن لم يكن على وجه المحبة والتعظيم فهو مدح، وانظر إلى عمق اللغة العربية كيف فرقت بين حمد ومدح مع تساويهما في الحروف نوعًا وعددًا؟
الحروف: ثلاثة، هذا العدد، النوع: نفس الحرف (حاء، ميم، دال)، لكن اختلفت الترتيب في الحروف؛ حمد ومدح باختلاف هذا الترتيب اختلف معناهما، والنسبة بينهما الخصوص والعموم؛ فكل حمد مدح، وليس كل مدح حمدًا؛ لأن الحمد كما قلنا: لا بد أن يكون على وجه المحبة والتعظيم والمدح بخلاف ذلك، قد يمدح الرجل سلطانًا أو وزيرًا، أو ما أشبه ذلك لا محبة له ولا تعظيمًا له لكن يرجو نواله أو يخاف منه، أما الحمد فلا.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله الفروق بينهما في كتابه بدائع الفوائد الذي حثنا شيخنا عليه حين الطلب، وقال: إنه كتاب عظيم، وهو كذلك يشبهه من بعض الوجوه صيد الخاطر لابن الجوزي، لكن من حيث العمق والمعنى والفائدة لا سواء، ولا مقارنة، فهو -رحمه الله- بيّن بيانًا واضحًا الفروق بين الحمد والمدح، وبحث هذا المبحث حتى أنضجه طبخًا، وقال: إن شيخنا -يعني ابن تيمية رحمه الله- كان إذا بحث في مثل هذه الأمور أتى العجب العجاب، رحمه الله، ولكنه كما قيل:
؎تَأَلَّقَ الْبَرْقُ نَجْدِيًّا فَقُلْتُ لَهُ ∗∗∗ إِلَيْكَ عَنِّي فَإِنِّي عَنْكَ مَشْغُولُ
لأن شيخ الإسلام ما عنده تفرغ إلى أن يتكلم في مثل هذه الأمور، يتكلم بما هو أعظم، وقد جمع أخونا وزميلكم فريد بن عبد العزيز الزامل المباحث النحوية التي تكلم عليها شيخ الإسلام ابن تيمية، جمعها في رسالة، ولكنها لم تُطبع بعد، وهذا طيب، ومر علينا من هذا النوع في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم لما تكلم على قول الله تعالى: ﴿وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا﴾ [التوبة ٦٩] بحث بحثًا ما تجده في أي كتاب رحمه الله.
المهم نرجع إلى ما نحن بصدده، الحمد: هو وصف المحمود إيش بالكمال على وجه المحبة والتعظيم.
﴿لِلَّهِ﴾ قلنا: (اللام) للاستحقاق والاختصاص، لا أحد يستحق الحمد كله من كل وجه إلا الله عز وجل.
وهذا الحمد المذكور خاص بالله عز وجل، فهو جل وعلا مستحق لأن يحمد، والحمد الكامل مختص به.
أما (الله) فهي علم على الله عز وجل، والتعبير بها أحسن من التعبير بغيرها، بعض الناس الآن يعبّر فيقول: قال الحق كذا وكذا، قال الحق كذا وكذا، هذا صحيح أن الله هو الحق المبين، لكن اجعل عبارتك على عبارة السلف فهم يقولون: قال الله، أو يقولون: قال ربنا.
أما (قال الحق) فهذه يأتي بها الإنسان لأجل يفتح الأذهان بحيث يقول السامع: من هذا الحق؟
لكن نقول: قال الله، التي بُنيت عليها الألوهية والعبادة أحسن، ولكن لا بأس أن تقول: قال ربنا، أو قال ربكم، كما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يقول لأصحابه أحيانًا: «أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟»[[متفق عليه؛ البخاري (٨٤٦)، ومسلم (٧١ / ١٢٥) من حديث زيد بن خالد.]].
﴿اللَّهِ﴾: مشتقة من الألوهية، و(أَلِه) بمعنى: تعبّد، وليست بمعنى: تحيّر. كما زعمه بعضهم؛ لأن الإنسان إذا قال: الله، ما يجد تحيرًا، يجد ربًّا معروفًا عز وجل لا حيرة فيه، يقولون: أصلها (الإله)، لكن حُذفت الهمزة لكثرة الاستعمال.
وقالوا: إن نظيرها (الناس) وأصلها: (الأناس)، وكلمة (خير)، و(شر) وأصلها: (أخير)، و(أشر).
إذن ﴿اللَّهِ﴾ أصلها (الإله)، وهي من (أله) إذا تعبّد؛ ألهه أي: تعبد له، وهل هو مشتق أو جامد؟
الصواب: أنه مشتق، وأنه لا يوجد اسم من أسماء الله، ولا من أسماء الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولا من أسماء القرآن يكون جامدًا أبدًا؛ لأن الجامد معناه أنه لا معنى له إلا الدلالة على المعين فقط؛ لأن العلم كما قال ابن مالك:
؎اسْمٌ يُعَيِّنُ الْمُسَمَّى مُطْلَقَا ∗∗∗ عَلَمُهُ كَجَعْفَـــــــــــــــرٍوَخِرْنِقَــــــتا
فلو قلنا: إن أسماء الله، أو أسماء الرسول، أو أسماء الكتاب العزيز إنها جامدة؛ معناها أنها لا تدل إلا على تعيين المسمى فقط، ولكن نقول: هي مشتقة، تدل على تعيين المسمى، وعلى المعنى الذي اشتُقت منه، لا بد.
إذن ﴿اللَّهِ﴾ مشتقة من (الإله)، أو (الألوهية)، وهي التعبُّد لله عز وجل.
﴿الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ (الذي) وصف للفظ الجلالة ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾.
﴿خَلَقَ﴾ أي: أوجدها على تقدير مُحكم؛ لأن الأصل في الخلق في اللغة هو التقدير، كما قال الشاعر:
؎وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْ ∗∗∗ ضُ النَّاسِ يَخْــــــــــــــــــلُقُ ثُمَّ لَايَفْرِي
(يفري) يعني: يفعل.
(تَفْرِي مَا خَلَقْتَ) يعني: ما قدرته، ولا يمنعك أحد؛ فالخلق إذن هو الإيجاد على وجه التقدير المحكم.
وقوله: ﴿السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ مفعول ﴿خَلَقَ﴾، ولا مانع من أن نقول: إنها مفعول خلافًا لمن قال: إنه لا يصح أن تكون مفعولًا؛ لأن المفعول لا بد أن يرد الفعل عليه، وهو موجود، وخلق السماوات والأرض ورد عليها قبل أن تخلق، ولكن نقول: هذا تكلّف، والصواب الذي عليه أكثر المعربين: أن السماوات مفعول به.
﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ من (سما يسمو) إذا علا، وقد بين الله تعالى أنها سبع، وأنها طباق، وأنها شداد، وأنها مبنية بأيد؛ أي: بقوة.
وقوله: ﴿وَالْأَرْضَ﴾ معطوفة على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ وهي لفظ مفرد، لكنه لا يمنع التعدد إذا ثبت أنها متعددة.
انتبه لهذا القيد: لا يمنع التعدد إذا ثبت أنها إيش؟ متعددة، ولو لم يثبت أنها متعددة لقلنا: إنها واحدة؛ لأن هذا مقتضى اللفظ، لكن نقول: إن المراد بها الجنس وحينئذٍ لا ينافي التعدد، وهي متعددة بدلالة ظاهر القرآن، وصريح السنة؛ أما ظاهر القرآن فقد قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنّ﴾ [الطلاق ١٢] أي: في العدد، ولا يمكن أن يقول قائل: ﴿وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ في الكيفية، والصفة، هذا ما أحد يقوله؛ لأن الفرق بين السماء والأرض واضح، فيتعين أن يكون المراد العدد، وهو كذلك.
أما السنة فصريحة: قال النبي ﷺ: «مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا طَوَّقَهُ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ»[[أخرجه مسلم (١٦١٠ / ١٣٧) من حديث سعيد بن زيد.]]. فصار المراد بالأرض الجنس فلا ينافي التعدد، وقد ثبت تعدد الأرَضين بظاهر القرآن وصريح السنة أنها سبع.
﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ ﴿جَعَلَ﴾ بمعنى: خلق، ولكن إذا كانت بمعنى خلق، فما هي الحكمة في أن عُبّر عن الخلق بالجعل؟
قيل: إن الحكمة هي التفنن في العبارة؛ يعني تغيير اللفظ مع اتحاد المعنى أحيانًا يكون من البلاغة.
وقيل: إن الحكمة من ذلك أن النور لا يمكن أن يقوم إلا بغيره، النور لا يمكن أن يقوم إلا بغيره، مثلًا نور الشمس الآن، لا يمكن أن يتبين إلا إذا كان هناك جسم قابل له، ولذلك ما بيننا وبين الشمس ظلمة ما فيه نور؛ لأن النور لا يمكن أن يظهر أثره إلا أن يكون مقابلًا بجسم.
تجدون الآن الفرق بين أن تقابل الشمس جسمًا قابلًا للحرارة وجسمًا غير قابل، وقسمًا قابلًا لنصاعة البياض، وقسمًا غير قابل؛ لأن النور لا يمكن أن يكون قائمًا بنفسه، ولا يتبين إلا إذا كان منعكسًا على جسم، فهذا هو الحكمة من قوله: ﴿وَجَعَلَ﴾.
حكمة أخرى: أن الظلمات والنور تكون حسية ومعنوية.
طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ [المائدة ٧٣ - ٧٧].
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾ وظني أننا تكلمنا على الآية.
﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا﴾ فيها تأكيد؛ ثلاثة توكيدات؟
* طالب: (...).
* الشيخ: بارك الله فيك. لماذا يُؤَكِّد الله تعالى كلامه بالمؤكدات مع أنه عز وجل أصدق القائلين؟
* طالب: هذا خبر، والخبر فيه احتمال أن يُعَارض من قبل الكافرين؛ فجاء بهذا التوكيد حتى يُحَاجَّ على المخالف.
* الشيخ: لاحتمال المعارضة والتكذيب؛ طيب، لكن إذا قال: المكذب سيكذب ولو أُكِّد؟
* طالب: لا، فيه زيادة توكيد.
* طالب آخر: (...).
* الشيخ: لأن القرآن بلسان عربي مبين؛ فالأشياء المهمة يُقْسِم الله عليها وإن كانت ثابتة بخبره عز وجل.
مَن هؤلاء الثلاثة ﴿ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾.
* طالب: اليهود والنصارى (...).
* الشيخ: (...) ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾ ﴿إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾، مَن هم؟
* طالب: النصارى.
* الشيخ: مَنْ هم الثلاثة؟
* طالب: (...).
* الشيخ: طيب، يقولون: إن الله ثالث ثلاثة فيقولون بتعدد الآلهة؛ بماذا أبطل الله قولهم؟
* طالب: أبطل الله قولهم بقوله: ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾.
* الشيخ: ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾، وهذا هل هو حصر ولَّا خبر مجرد عن الحصر؟
* طالب: خبر.
* الشيخ: خبر مجرد عن الحصر.
* طالب: حصر.
* الشيخ: ما طريقه، يعني بماذا كان الحصر؟
* طالب: بـ (ما من إله إلا إله).
* الشيخ: الظاهر أنك ما قرأت البلاغة، قرأتها؟
* طالب: قليل.
* الشيخ: قليل، ما طريق الحصر؟
* طالب: النفي والإثبات.
* الشيخ: النفي والإثبات، صح، النفي والإثبات ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ﴾ وهذا الحصر مؤكد بـ(من) الزائدة؛ هل لديك علم في البلاغة أن جميع الحروف الزائدة مؤكِّدة؟
* طالب: نعم.
* الشيخ: نعم، صحيح كل الحروف الزائدة تعتبر مؤكدة.
* * *
قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
الإعراب أولًا: (وإن لم ينتهوا ليمسن): (إن) شرطية لا إشكال فيها مسلطة على فعل مضارع منفي، و﴿لَيَمَسَّنَّ﴾ هو جواب أيش؟
* طالب: جواب الشرط.
* الشيخ: جواب الشرط مشكل، إذا قلنا: إنه جواب الشرط فهو مشكل؛ لأن جواب الشرط لا يأتي بهذه الصيغة لكنه جواب قسم، جواب قسم مُقَدَّر مع لامه أيضًا، والتقدير: ولئن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم؛ لأن كلمة ﴿لَيَمَسَّنَّ﴾ لا تصح أن تكون جوابًا للشرط لوجود اللام الموطئة للقسم ووجود التوكيد في ﴿لَيَمَسَّنَّ﴾.
وقوله: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ هل هذا يتنافى مع قوله: ﴿لَقَدْ كَفَرَ﴾ ثم يقول: ﴿لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ﴾؟ لا؛ لأن المعنى: ليمسن الذين استمروا على كفرهم منهم عذاب أليم، وأما من تاب فيتوب الله عليه.
يقول الله عز وجل: ﴿وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ﴾ أي: من تعدد الآلهة، وأن الله تعالى ثالث ثلاثة ﴿لَيَمَسَّنَّ﴾ أي: ليصيبن ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ﴾ أي: الذين استمروا على الكفر لأنهم كافرون.
وقوله: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ عذاب فاعل (يمس)، و﴿أَلِيمٌ﴾ بمعنى مؤلم، وهو مؤلم -أعني عذاب الكافرين- مؤلم نفسيًّا وجسديًّا؛ أما نفسيًّا فإنهم يُوَبَّخون التوبيخ المهين حتى إنه يقال للواحد منهم تهكمًا: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾ [الدخان ٤٩] وهذا لا شك أنه أعظم إهانة يُعَذَّب ويُصَبُّ من فوق رأسه الحميم، ثم يقال: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾ هذه إهانة، عذاب عظيم، ويقول الله لهم: ﴿اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾ [المؤمنون ١٠٨] هذا عذاب يقطع القلوب.
أما العذاب الجسدي فلا تسأل، إذا استغاثوا واشتد طلبهم للماء يُغاثون بماء كالمهل يشوي الوجوه قبل أن يقع في الأمعاء، فإذا وقع في الأمعاء قطع أمعاءهم -نسأل الله العافية- إذن فهو مؤلم ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ [النساء ٥٦] لأن الجلد إذا نضج ما يحس لكنهم يبدلون جلودًا أخرى ﴿لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [النساء ٥٦]، إذن فهو أليم أَلَمَ قلب وألم جسد.
* في هذه الآية فوائد؛ منها: أن من قال بتعدد الآلهة فإنه كافر؛ لأنه مُكذِّب للسمع والعقل والفطرة، مكذب للسمع، الأدلة لا تحصى في إثبات توحيد الله، أليس كذلك؟
* الطلبة: بلى.
* الشيخ: لا تحصى، مكذب للعقل؛ لأنه لو تعددت الآلهة ما استقامت الدنيا ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء ٢٢] ﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ [المؤمنون ٩١] ولا يمكن أن تستقيم الحال مع تعدد المسؤولية، الآن فكر بها في نفسك لو كنتم في سفر، وكان المسؤول عن الجماعة متعددين هل يستقيم الأمر؟ لا، إلى أين نذهب، إلى فلان أو فلان أو فلان؟ ثم هل فلان ستتحد كلمتهم؟ لا، هذا دليل عقلي ﴿إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ ولا بد، والآن الكون كله منسجم لا يتصادم ولا يتناقض مما يدل على أن مدبره واحد سبحانه وتعالى، نقول هذا عن يقين ليس لأننا عشنا في بلد التوحيد، لكن لأننا نتيقن أنه لا يمكن أن تتعدد الآلهة.
الفطرة كل إنسان مولود على الفطرة، كل إنسان، كما قال عز وجل: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ [الروم ٣٠]، فتعدد الآلهة باطل بالسمع والعقل والفطرة.
* من فوائد هذه الآية الكريمة: إثبات أنه لا إله إلا الله؛ لقوله: ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ﴾ [آل عمران ٦٢].
فإن قال قائل: أليست توجد آلهة سوى الله بتسمية الله لها؟ قال الله تعالى: ﴿فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [هود ١٠١] وقال الله لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ﴿وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ﴾ [الإسراء ٣٩] وآيات متعددة تدل على وجود آلهة، وكيف يستقيم هذا مع هذا الحصر العظيم ﴿مَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ﴾؟
فالجواب سهل جدًّا، نقول: كل هذه الآلهة باطلة لا تُغْنِي شيئًا، ولهذا نقول: ما من إله هو موصوف بصفة محذوفة، والتقدير: وما من إله حق إلا الله، وحينئذ يزول الإشكال، ويدل على هذا قول الله تبارك وتعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ﴾ [الحج ٦٢].
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: فتح باب التوبة لكل من أساء وإن عظمت إساءته؛ لقوله: ﴿وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا﴾ إلى آخره، فالله تعالى حكى عنهم الكفر، ومع ذلك عرض عليهم أن ينتهوا عما يقولون؛ فيستفاد منه كرم الله عز وجل وجوده وإحسانه وأنه يعرض على أعدائه أن ينتهوا عما وصفوه به حتى لا يصيبهم العذاب الأليم.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: إثبات عدل الله عز وجل، وهو أنه لا يعذِّب إلا من استمر على كفره ومعصيته.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: التحذير البليغ عن الاستمرار على الكفر والشرك، وأن مَن استمر عليه فله العذاب الأليم.
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَوۡفُوا۟ بِٱلۡعُقُودِۚ أُحِلَّتۡ لَكُم بَهِیمَةُ ٱلۡأَنۡعَـٰمِ إِلَّا مَا یُتۡلَىٰ عَلَیۡكُمۡ غَیۡرَ مُحِلِّی ٱلصَّیۡدِ وَأَنتُمۡ حُرُمٌۗ إِنَّ ٱللَّهَ یَحۡكُمُ مَا یُرِیدُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق