الباحث القرآني
سورةُ المائدةِ مَدَنِيَّةٌ، وجُلُّ أحكامِها في الفروعِ، ولذا بدَأَ اللهُ بخطابِ المؤمِنينَ فيها خاصَّةً دون غيرِهم، وسورةُ المائدة سورةٌ طويلةٌ نزَلَتْ دَفْعَةً واحدةً لا مُقسَّمةً، ولا يشابِهُها بهذا مِن الطِّوالِ فيما أعلَمُ شيءٌ.
وقد روى أحمدُ في «المُسنَدِ»، مِن حديثِ أسماءَ بنتِ يَزِيدَ، قالتْ: «إنِّي لآَخِذَةٌ بِزِمامِ العَضْباءِ ـ ناقَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ ـ إذْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ المائِدَةُ كُلُّها، فَكادَتْ مِن ثِقَلِها تَدُقُّ بِعَضُدِ النّاقَةِ» [[أخرجه أحمد (٢٧٥٧٥) (٦ /٤٥٥).]].
وجاء نحوُهُ مِن حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو[[أخرجه أحمد (٦٦٤٣) (٢ /١٧٦).]]، وحديثِ أُمِّ عمرٍو، عن عمَّتِها[[أخرجه البيهقي في «دلائل النبوة» (٧ /١٤٥).]]، وجاء أنّها آخِرُ سورةٍ نزلَتْ على رسولِ اللهِ ﷺ، مِن حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو[[أخرجه الترمذي (٣٠٦٣) (٥ /٢٦١).]]، وعائشةَ[[أخرجه أحمد (٢٥٥٤٧) (٦ /١٨٨)، والنسائي في «السنن الكبرى» (١١٠٧٣) (١٠ /٧٩).]]، وغيرِهما.
ومِن خصائصِها عن الطِّوالِ: أنّها نزلَتْ كامِلةً، وأنّ المنسوخَ منها قليلٌ، حتى قال الحسنُ: «لم يُنسَخْ منها شيءٌ»[[أخرجه ابن المنذر في «الأوسط» (٦/٥٨٨).]]، وقيل: بنسخِ آيةٍ أو آيتَيْنِ منها، على ما يأتي تفصيلُه.
وقد قال أحمدُ بنُ حنبلٍ: «في المائدة ثمانِيَ عَشْرَةَ فريضةً حلالٍ وحرامٍ يُعْمَلُ بها، وليس فيها شيْءٌ لا يُعمَلُ به إلا آيةُ: ﴿ياأَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ ولا الشَّهْرَ الحَرامَ﴾»[[«بدائع الفوائد» (٣ /٩٩).]].
وإنما كانت سورة المائدةِ محكمةً، لأنها آخِرُ سورةٍ نزلتْ كاملة، كما قال أحمدُ: «إنّ أوَّلَ شيْءٍ نزَلَ مِن القرآن: (اقرأ)، وآخر شيْءٍ نزَلَ من القرآن: المائدةُ»[[«طبقات الحنابلة» (١ /٥٨).]].
قال تعالى: ﴿ياأَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أوْفُوا بِالعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعامِ إلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وأَنْتُمْ حُرُمٌ إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ ﴾ [المائدة: ١].
الخطابُ في الآيةِ للمؤمِنينَ، ولذا قال ابنُ مسعودٍ: «إذا سمِعتَ اللهَ يقولُ: ﴿ياأَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا﴾، فأَرْعِها سَمْعَك، فإنّما هو خيرٌ يأمُرُ به، أو شرٌّ يَنْهى عنه»[[«تفسير ابن أبي حاتم» (١ /١٩٦).]].
أنواع العقود والعهود:
وأولُ أمرٍ بدَأَ به هو الوفاءُ بالعقودِ، وهي العهودُ والمواثيقُ التي تكونُ بينَ الناسِ أفرادًا وجماعاتٍ ودُوَلًا، فالعقودُ هي العهودُ، والمرادُ بالعهودِ في الآيةِ نوعانِ، وكلُّها خصَّها اللهُ بالذِّكْرِ في كتابِه:
الأولُ: العهودُ التي أخَذَها اللهُ على الناسِ في كتابِهِ مِن أوامِرَ ونَواهٍ وتشريعاتٍ، وسُمِّيَتْ عهودًا وعقودًا باعتبارِ الميثاقِ الأولِ الذي أخَذَهُ اللهُ عليهم بعدَما أخرَجَهُمْ مِن ظَهْرِ أبيهِم آدمَ، فَقَرَّرَهم بربوبيَّتِهِ وحقِّه، وأشهَدَهُمْ على ذلك، وكذلك باعتبارِ الخَلْقِ، فالخلقُ في طوعِ الخالقِ، لأنّه يَمْلِكُهم وما يَمْلِكونَ، فيجبُ إنْ أمَرَهُمْ أنْ يأتَمِرُوا، وإنْ نَهاهُم أنْ يَنْتَهُوا، ولو لم يُعاهِدْهُمُ ابتداءً على كلِّ أمرٍ ونهيٍ بخصوصِه، فبمجرَّدِ الأمرِ والنهيِ يجبُ عليهم الوفاءُ، وذلك أنّ مالكَ الشيءِ يَملِكُ ما دونَهُ، فإنّ السيِّدَ يَملِكُ عَبْدَهُ وأَمَتَه، ومِن مُقتضى مِلْكِهِ طاعتُهُمْ له عندَ الأمرِ أو النهيِ.
وأولُ العهودِ والعقودِ التي يجبُ الوفاءُ بها: توحيدُ اللهِ وعدمُ الإشراكِ معه في عبادتِهِ شيئًا، وهو العهدُ الذي أخَذَهُ على جميعِ الأُمَمِ، كما في قولِهِ تعالى: ﴿ألَمْ أعْهَدْ إلَيْكُمْ يابَنِي آدَمَ أنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [يس: ٦٠]، وقولِهِ في البقرةِ والرعدِ: ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثاقِهِ﴾ [البقرة: ٢٧]، ﴿والَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثاقِهِ﴾ [الرعد: ٢٥]، ومَدَحَ المُوفِينَ بعهدِهِ: ﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ ولا يَنْقُضُونَ المِيثاقَ ﴾ [الرعد: ٢٠].
ويدخُلُ في ذلك: امتثالُ كلِّ أمرٍ واجتنابُ كلِّ نهيٍ، ولو أنشَأَهُ الإنسانُ على نفسِه كالوفاءِ بالنَّذْرِ واليمينِ، لأنّ كلَّ ذلك عقدٌ بينَ العبدِ وربِّه.
وهذا النوعُ هو المقصودُ الأوَّلُ بالخطابِ في الآيةِ، والنوعُ الثاني التالي داخِلٌ فيه تَبَعًا، لأنّ مُقتضى حقِّ اللهِ: العدلُ مع خَلْقِهِ، وعدَمُ ظُلْمِهم، كما روى عليُّ بنُ أبي طَلْحةَ، عن ابنِ عبّاسٍ، قولَه: ﴿أوْفُوا بِالعُقُودِ﴾، يعني: «ما أحَلَّ وما حَرَّمَ، وما فرَضَ، وما حَدَّ في القرآنِ كلِّه، فلا تَغدِرُوا ولا تَنكُثُوا، ثمَّ شدَّدَ ذلك، فقال: ﴿والَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثاقِهِ ويَقْطَعُونَ ما أمَرَ اللَّهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ﴾، إلى قولِهِ: ﴿سُوءُ الدّارِ ﴾ [الرعد: ٢٥]»[[«تفسير الطبري» (٨ /٩).]].
الثاني: العهودُ التي تكونُ بين الناسِ، لأنّ أمْرَ الناسِ لا يستقيمُ في دمائِهم وأموالِهم وأعراضِهم إلاَّ بإعطاءِ الحقوقِ وحِفْظِها، ولا تُحفَظُ الحقوقُ إلاَّ بالعهودِ والعقودِ والمواثيقِ، فيجبُ الوفاءُ بها مع كلِّ مَن أُبرِمَتْ معه، مسلِمًا كان أو كافرًا.
وهذا النوعُ كقولِهِ تعالى: ﴿وأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذا عاهَدْتُّمْ ولا تَنْقُضُوا الأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها﴾ [النحل: ٩١]، وقولِهِ تعالى: ﴿والَّذِينَ هُمْ لأَماناتِهِمْ وعَهْدِهِمْ راعُونَ ﴾ [المؤمنون: ٨، والمعارج: ٣٢]، وقولِهِ تعالى في مالِ اليتيمِ: ﴿ولا تَقْرَبُوا مالَ اليَتِيمِ إلاَّ بِالَّتِي هِيَ أحْسَنُ حَتّى يَبْلُغَ أشُدَّهُ وأَوْفُوا بِالعَهْدِ إنَّ العَهْدَ كانَ مَسْؤُولًا ﴾ [الإسراء: ٣٤].
ويكونُ هذا العهدُ فيما بينَ المؤمِنينَ أفرادًا وجماعاتٍ، ويكونُ بينَ المشرِكينَ أفرادًا وجماعاتٍ، وفي المؤمِنينَ أفرادًا، كما في مالِ اليتيمِ، وفي البُيُوعِ، وفي الأماناتِ والرَّهْنِ والوعودِ والنُّصْرةِ والإعانةِ، فالوفاءُ بذلك واجبٌ حسَبَ القدرةِ، وهو مِن العباداتِ.
العقُود بين المسلِمِين والكفّار:
ويكونُ بينَ المؤمِنينَ والكفارِ أفرادًا وجماعاتٍ، بينَ الأفرادِ، كمعاملاتِ المسلِمِ للكافرِ بعقودِه، كالبيعِ والشراءِ والأمانِ، كما قال تعالى في أولِ براءةَ: ﴿بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ إلى الَّذِينَ عاهَدْتُّمْ مِنَ المُشْرِكِينَ ﴾ [التوبة: ١]، فالأصلُ: وجوبُ الوفاءِ بعهدِهم، كما في قولِه: ﴿إلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُّمْ مِنَ المُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا ولَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أحَدًا فَأَتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ﴾ [التوبة: ٤].
خيارُ المَجْلِسِ:
ولا دليلَ في هذه الآيةِ: ﴿أوْفُوا بِالعُقُودِ﴾ على نفيِ خِيارِ المَجْلِسِ، لعمومِ الآيةِ وخصوصِ الحديثِ الواردِ في الخِيارِ، كما في «الصحيحَيْنِ»، مِن حديثِ ابنِ عمرَ مرفوعًا: (البَيِّعانِ بِالخِيارِ ما لَمْ يَتَفَرَّقا) [[أخرجه البخاري (٢١٠٩) (٣ /٦٤)، ومسلم (١٥٣١) (٣ /١١٦٣).]]، وعادةُ القرآنِ: العمومُ والغائيَّةُ، والسُّنَّةُ: أوليَّةٌ تفصيليَّةٌ، والقولُ بالخيارِ لا يَتعارَضُ مع الوفاءِ بالعهدِ والعقدِ، وإنّما يقيِّدُهُ ويبيِّنُهُ ويفصِّلُهُ، فمِن مقتضَياتِ وجوبِ الوفاءِ بالعهدِ والعقدِ: العملُ بشرطِهِ، والتفرُّقُ بِرِضًا عليه.
وكلَّما عَظُمَ أثرُ العقدِ، اشتَدَّ الأمرُ بالوفاءِ به، ولو كان أحدُ الطرَفيْنِ كافِرًا أو محارِبًا، فمَن وفى بعهدِهِ، وجَبَ الوفاءُ له.
وقد عاهَدَ بعضُ الصحابةِ قريشًا: ألاَّ يُقاتِلُوا مع النبيِّ ﷺ في بَدْرٍ، فمَنَعَهُمُ النبيُّ ﷺ مِن القتالِ، للعهدِ الذي جعَلُوهُ معهم، ففي «صحيحِ مسلمٍ»، عن حُذَيْفَةَ بنِ اليَمانِ، قال: «ما مَنَعَنِي أنْ أشْهَدَ بَدْرًا إلاَّ أنِّي خَرَجْتُ أنا وأبي حُسَيْلٌ، قالَ: فَأَخَذَنا كُفّارُ قُرَيْشٍ، قالُوا: إنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمَّدًا؟! فَقُلْنا: ما نُرِيدُهُ، ما نُرِيدُ إلاَّ المَدِينَةَ، فَأَخَذُوا مِنّا عَهْدَ اللهِ ومِيثاقَهُ، لَنَنْصَرِفَنَّ إلى المَدِينَةِ، ولا نُقاتِلُ مَعَهُ، فَأَتَيْنا رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَأَخْبَرْناهُ الخَبَرَ، فَقالَ: (انْصَرِفا، نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، ونَسْتَعِينُ اللهَ عَلَيْهِمْ) [[أخرجه مسلم (١٧٨٧) (٣ /١٤١٤).]].
وقد اجتمَعَتْ بطونُ قريشٍ في بيتِ عبدِ اللهِ بنِ جُدْعانَ، فتعاهَدُوا على ألاَّ يَجِدُوا بمكَّةَ مظلومًا مِن أهلِها أو غيرِهم إلاَّ قاموا معه حتى تُرَدَّ عليه مَظْلَمَتُهُ، وسُمِّيَ ذلك الحِلْفُ: حِلْفَ الفُضُولِ، وقد قال في هذا الحِلْفِ الرسولُ ﷺ: (لَقَدْ شَهِدتُّ فِي دارِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جُدْعانَ حِلْفًا ما أُحِبُّ أنَّ لِي بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ، ولَوْ أُدْعى بِهِ فِي الإسْلامِ، لأَجَبْتُ) [[أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (٦ /٣٦٧)، وابن هشام في «السيرة» (١ /١٣٤).]].
ما يحِلُّ مِن البهائِمِ:
وقولُهُ تعالى: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعامِ إلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ﴾: العربُ تسمِّي الإبلَ والبَقَرَ والغَنَمَ أنعامًا، ولكنَّ المرادَ بالآيةِ: عمومُ البهائمِ، الإنسيَّةِ، كالإبلِ والبقرِ والغنمِ، والوحشيَّةِ، كالغَزالِ وحِمارِ الوحشِ، لأنّ اللهَ استثنى بعدَ ذلك مِن الأنعامِ أوصافًا يدخُلُ فيها الإبلُ والبقرُ والغنمُ وغيرُها، وذلك في قولِه: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾، وهذا استثناءٌ مِن بهيمةِ الأنعامِ، والأنعامُ الإنسيَّةُ لا تُصادُ.
وفي هذه الآيةِ: دليلٌ على إباحةِ كلِّ بهيمةٍ مِن كلِّ نوعٍ، وعلى كلِّ صورةٍ، وعلى كلِّ سنٍّ صغيرِها وكبيرِها، ولا يُستثنى مِن أحوالها إلاَّ ما دَلَّ الدليلُ على استثنائِهِ، كالدمِ والمَيْتَةِ وما ذُبِحَ لغيرِ اللهِ منها.
حكمُ جنين البهيمةِ:
وقد استدَلَّ جماعةٌ مِن الصحابةِ بعمومِ هذه الآيةِ على حِلِّ الجنينِ في بطنِ أُمِّهِ لو وُجِدَ ميِّتًا في بطنِها بعدَ ذَكاتِها، وهو قولُ ابنِ عمرَ وابنِ عبّاسٍ.
أحوالُ موتِ الجنين في بطنِ أمِّه:
والجنينُ في بطنِ أمِّه يأخُذُ حُكْمَها إنْ كان ميِّتًا في بطنِها، وهو بموتِهِ في بطنِها معها على حالَتيْنِ:
الحالةُ الأُولـى: إنْ كانتْ أُمُّهُ لا تَحِلُّ بموتِها بخَنْقٍ أو وقْذٍ أو نَطْحٍ أو تَرَدٍّ أو ذبحٍ لغيرِ اللهِ، فجَنِينُها مُحرَّمٌ مِثْلُها، فهو عضوٌ منها يحرُمُ كحُرْمةِ يدِها ورِجْلِها وأَلْيَتِها.
الحالةُ الثانيةُ: إنْ كانتْ أمُّه ماتتْ بصورةٍ مباحةٍ، كالمُذَكّاةِ ذَكاةً شرعيَّةً، أو وُجِدَ في بطنِ الصَّيْدِ المَرْمِيِّ بسهمٍ جنينٌ، كالغزالِ وحِمارِ الوحشِ ونحوِهما، فهو حلالٌ، لأنّ موتَ أمِّه بسببٍ حلالٍ.
وإنّما أخَذَ الجنينُ حُكْمَ أمِّه بموتِهِ معها، لأنّه كحُكْمِ أحدِ أعضائِها، ولا يُوجَدُ في الجنينِ حياةٌ يستقِلُّ بها عن أمِّه، وإلاَّ لم يَمُتْ بموتِها، فهو حيٌّ كبقيَّةِ أعضائِها، وليس فيه مِن الدمِ ما يُحتاجُ لإراقتِهِ عندَ الذبحِ، وقد رُوِيَ عن ابنِ عمرَ: «هو بمنزِلةِ رِئَتِها وكَبِدِها»[[«تفسير الطبري» (٨ /١٤).]].
وقد جاء في «السُّنَنِ»، مِن حديثِ جابرٍ[[أخرجه أبو داود (٢٨٢٨) (٣ /١٠٣).]]، وأبي سعيدٍ[[أخرجه أحمد (١١٢٦٠) (٣ /٣١)، وأبو داود (٢٨٢٧) (٣ /١٠٣)، والترمذي (١٤٧٦) (٤ /٧٢)، وابن ماجه (٣١٩٩) (٢ /١٠٦٧).]]، قال ﷺ: (ذَكاةُ الجَنِينِ ذَكاةُ أُمِّهِ).
وإنْ مات الجنينُ في بطنِ أمِّه وهي حيَّةٌ، فهو محرَّمٌ، سواءٌ سقَطَ مِن بَطْنِها ميِّتًا، أو شُقَّ بطنُها بجراحةٍ ثمَّ أُخرِجَ منها وهي حيَّةٌ، فحُكْمُهُ كحُكْمِ العضوِ المقطوعِ منها وهي حيَّةٌ، كقَطْعِ الأَلْيَةِ واليدِ والرِّجْلِ، فلا يجوزُ أكْلُه، لِما في الحديثِ: (ما قُطِعَ مِنَ البَهِيمَةِ وهِيَ حَيَّةٌ، فَهُوَ مَيْتَةٌ)[[أخرجه أحمد (٢١٩٠٣) (٥ /٢١٨)، وأبو داود (٢٨٥٨) (٣ /١١١)، والترمذي (١٤٨٠) (٤ /٧٤).]]، ويُستثنى مِن هذا: ما قُطِعَ مِن البهيمةِ وهي حيَّةٌ تُطلَبُ لكونِها صيدًا هاربًا، أو مِن بهيمةِ الأنعامِ التي توحَّشتْ، فرُمِيَتْ بسهمٍ أو سيفٍ فقُطِعَتْ يدُها أو رِجْلُها وبَقِيَتْ حيَّةً، ثمَّ ماتتْ بذبحٍ أو بسببِ السهمِ، فنزَفَ دمُها، فما قُطِعَ منها قبلَ التمكُّنِ منها يَتْبَعُ حُكْمَها اللاحقَ على الصحيحِ.
وإنْ خرَجَ الجنينُ حيًّا، استقَلَّ بالحُكْمِ بنفسِهِ كبقيَّةِ البهائمِ.
وقولُه تعالى في الآيةِ: ﴿إلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ﴾ دليلٌ على وجودِ التحريمِ في بهيمةِ الأنعامِ، وأنّ اللهَ تلاهُ على الأُمَّةِ، وذلك في سورةِ البقرةِ: ﴿إنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ والدَّمَ ولَحْمَ الخِنْزِيرِ وما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ ولا عادٍ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [١٧٣]، ونحوُها في سورةِ النحلِ [١١٥]، وفي هذه السورةِ المائدةِ بعدَ آياتٍ [٣]، وفي سورةِ الأنعامِ [١٤٥].
وأكثرُ الأنواعِ التي تلاها اللهُ محرَّمةً مِن بهيمةِ الأنعامِ هي في سورةِ المائدةِ كما يأتي.
وهذا الاستثناءُ في الآيةِ: ﴿إلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ﴾ تَبِعَهُ استثناءٌ آخَرُ في قولِه: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ ونَصْبُ (غَيْرَ) على الحالِ، وهذا الاستثناءُ دليلٌ على دخولِ بقيَّةِ البهائمِ في اسمِ الأنعامِ.
ولمّا أدخَلَ اللهُ في الأنعامِ المباحةِ الإنسيَّ والوحشيَّ جميعًا، استثنى مِن كلِّ نوعٍ شيئًا:
أمّا الإنسيُّ، فاستثنى ما يُتلى عليكم على ما تقدَّم.
وأمّا الوحشيُّ، فاستثنى مِن حِلِّه صَيْدَه للمُحْرِمِ.
وقولُه: ﴿إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ ﴾ يَقْضِي ويفصِّلُ ما يُريدُهُ لكم وعليكم، ولكنَّه لا يَظلِمُ في حُكْمِه، ولا يجورُ في قضائِه.
ويُشيرُ اللهُ في ختمِ الآيةِ إلى إضمارِ تعليلِ الحُكمِ، تنبيهًا إلى أنّ حقَّه التسليمُ والانقيادُ والطاعةُ، وعدمُ تعليقِ التسليمِ ببيانِ التعليلِ، كحالِ المُنافِقينَ.
سببُ إضمارِ حِكمةِ التشريعِ:
واللهُ يُضمِرُ الحُكْمَ لحِكَمٍ وعِلَلٍ كثيرةٍ، مِن أعظمِها عِلَّتانِ:
الأُولى: للاختبارِ والامتحانِ وتمييزِ أصحابِ الإيمانِ واليقينِ مِن أصحابِ الشكِّ والنِّفاقِ، وأشَدُّ العِلَلِ كشفًا لخفيِّ النِّفاقِ: العِلةُ الخفيَّةُ في الأمرِ الثقيلِ، والاتِّباعُ لهذا النوعِ مِن الأمرِ أعظَمُ، وامتثالُهُ مرتبةٌ عظيمةٌ، وأعلاها مرتبةُ الصِّدِّيقِينَ.
الثانيةُ: قصورُ العقولِ عن استيعابِها، فإنْ كانتِ العِلَلُ كثيرةً متجدِّدةً في الأزمنةِ، تَغِيبُ في موضعٍ وزمانٍ وتَقْوى في غيرِه، أو دقيقةً ولِدِقَّتِها لا تستوعبُها العقولُ، فاللهُ يكتُمُها رحمةً بالناسِ، حتى لا يَرُدُّوها بضعفِ عقلِهم عن استيعابِها.
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَوۡفُوا۟ بِٱلۡعُقُودِۚ أُحِلَّتۡ لَكُم بَهِیمَةُ ٱلۡأَنۡعَـٰمِ إِلَّا مَا یُتۡلَىٰ عَلَیۡكُمۡ غَیۡرَ مُحِلِّی ٱلصَّیۡدِ وَأَنتُمۡ حُرُمٌۗ إِنَّ ٱللَّهَ یَحۡكُمُ مَا یُرِیدُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق