(سُورَةُ المائِدَةِ مَدَنِيَّةٌ وهي مِائَةٌ وعِشْرُونَ آيَةً)
﷽
﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أوْفُوا بِالعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكم بَهِيمَةُ الأنْعامِ إلّا ما يُتْلى عَلَيْكم غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وأنْتُمْ حُرُمٌ إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ﴾ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ ولا الشَّهْرَ الحَرامَ ولا الهَدْيَ ولا القَلائِدَ ولا آمِّينَ البَيْتَ الحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِن رَبِّهِمْ ورِضْوانًا وإذا حَلَلْتُمْ فاصْطادُوا ولا يَجْرِمَنَّكم شَنَآنُ قَوْمٍ أنْ صَدُّوكم عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ أنْ تَعْتَدُوا وتَعاوَنُوا عَلى البِرِّ والتَّقْوى ولا تَعاوَنُوا عَلى الإثْمِ والعُدْوانِ واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقابِ﴾ [المائدة: ٢] ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ والدَّمُ ولَحْمُ الخِنْزِيرِ وما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ والمُنْخَنِقَةُ والمَوْقُوذَةُ والمُتَرَدِّيَةُ والنَّطِيحَةُ وما أكَلَ السَّبُعُ إلّا ما ذَكَّيْتُمْ وما ذُبِحَ عَلى النُّصُبِ وأنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ ذَلِكم فِسْقٌ اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكم فَلا تَخْشَوْهم واخْشَوْنِ اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكم دِينَكم وأتْمَمْتُ عَلَيْكم نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ في مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإثْمٍ فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة: ٣] البَهِيمَةُ: كُلُّ ذاتِ أرْبَعٍ في البَرِّ والبَحْرِ قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ؛ وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: البَهِيمَةُ في كَلامِ العَرَبِ ما أُبْهِمَ مِن جِهَةِ نَقْصِ النُّطْقِ والفَهْمِ. انْتَهى. وما كانَ عَلى فَعِيلٍ أوْ فَعِيلَةٍ وعَيْنُهُ حَرْفُ حَلْقٍ اسْمًا كانَ أوْ صِفَةً، فَإنَّهُ يَجُوزُ كَسْرُ أوَّلِهِ إتْباعًا لِحَرَكَةِ عَيْنِهِ وهي لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ، تَقُولُ: رِئِيٍّ وبِهِيمَةٍ، وسِعِيدٍ وصِغِيرٍ، وبِحِيرَةٍ وبِخِيلٍ. الصَّيْدُ: مَصْدَرُ صادَ يَصِيدُ ويُصادُ، ويُطْلَقُ عَلى المَصِيدِ. وقالَ داوُدُ بْنُ عَلِيٍّ الأصْبَهانِيُّ: الصَّيْدُ ما كانَ مُمْتَنِعًا ولَمْ يَكُنْ لَهُ مالِكٌ وكانَ حَلالًا أكْلُهُ، وكَأنَّهُ فَسَّرَ الصَّيْدَ الشَّرْعِيَّ. القِلادَةُ في الهَدْيِ: ما قُلِّدَ بِهِ مِن نَعْلٍ، أوْ عُرْوَةٍ مُزادَةٍ، أوْ لِحاءِ شَجَرٍ أوْ غَيْرِهِ، وكانَ الحَرَمِيُّ رُبَّما قَلَّدَ رِكابَهُ بِلِحاءِ شَجَرِ الحَرَمِ، فَيَعْتَصِمُ بِذَلِكَ مِنَ السُّوءِ.
الآمُّ: القاصِدُ أمَمْتُ الشَّيْءَ قَصَدْتُهُ. جَرَمَهُ عَلى كَذا حَمَلَهُ، قالَهُ الكِسائِيُّ وثَعْلَبٌ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ والفَرّاءُ: جَرَمَهُ كَسَبَهُ، ويُقالُ: فُلانٌ جَرِيمَةُ أهْلِهِ؛ أيْ: كاسِبُهم، والجارِمُ الكاسِبُ. وأجْرَمَ فُلانٌ: اكْتَسَبَ الإثْمَ. وقالَ الكِسائِيُّ أيْضًا: جَرَمَ وأجْرَمَ؛ أيْ: كَسَبَ غَيْرَهُ، وجَرَمَ يَجْرِمُ جَرْمًا إذا قَطَعَ. قالَ الرُّمّانِيُّ: وهو الأصْلُ، فَجَرَمَ حَمَلَ عَلى الشَّيْءِ لِقَطْعِهِ مِن غَيْرِهِ، وجَرَمَ كَسَبَ لِانْقِطاعِهِ إلى الكَسْبِ، وجَرَمَ بِمَعْنى حَقَّ؛ لِأنَّ الحَقَّ يُقْطَعُ عَلَيْهِ. قالَ الخَلِيلُ: لا جَرَمَ أنَّ لَهُمُ النّارَ؛ أيْ: لَقَدْ حَقَّ. الشَّنَآنُ: البُغْضُ، وهو أحَدُ مَصادِرِ شَنِئَ. يُقالُ: شَنِئَ يَشْنَأُ شَنْئًا وشَنَآنًا مُثَلَّثَيِ الشِّينِ فَهَذِهِ سِتَّةٌ: وشَناءً، وشَناءَةً، وشِناءً، وشَنْأةً، ومَشْنَأةً، ومَشْنِئَةً، ومِشْنِئَةً، وشَنانًا، وشِنانًا. فَهَذِهِ سِتَّةَ عَشَرَ مَصْدَرًا وهي أكْثَرُ ما حُفِظَ لِلْفِعْلِ. وقالَ سِيبَوَيْهِ: كُلُّ بِناءٍ كانَ مِنَ المَصادِرِ عَلى فَعَلانٍ، بِفَتْحِ العَيْنِ، لَمْ يَتَعَدَّ فِعْلُهُ إلّا أنْ يَشِذَّ شَيْءٌ كالشَّنَآنِ.
المُعاوَنَةُ: المُساعَدَةُ. المُنْخَنِقَةُ: هي الَّتِي تَحْتَبِسُ نَفَسَها حَتّى تَمُوتَ، سَواءٌ أكانَ حَبْسُها بِحَبْلٍ أمْ يَدٍ أمْ غَيْرِ ذَلِكَ. الوَقْذُ: ضَرْبُ الشَّيْءِ حَتّى يَسْتَرْخِيَ ويُشْرِفَ عَلى المَوْتِ. وقِيلَ: المَوْقُوذَةُ المَضْرُوبَةُ بِعَصا أوْ حَجَرٍ لا حَدَّ لَهُ، فَتَمُوتُ بِلا ذَكاةٍ. ويُقالُ: وقَذَهُ النُّعاسُ غَلَبَهُ، ووَقَذَهُ الحُكْمُ سَكَّنَهُ. التَّرَدِّي: السُّقُوطُ في بِئْرٍ أوِ التَّهَوُّرُ مِن جَبَلٍ. ويُقالُ: رَدى وتَرَدّى؛ أيْ: هَلَكَ، ويُقالُ: ما أدْرِي أيْنَ رَدى أيْ: ذَهَبَ. النَّطِيحَةُ: هي الَّتِي يَنْطَحُها غَيْرُها فَتَمُوتُ بِالنَّطْحِ، وهي فَعِيلَةٌ بِمَعْنى مَفْعُولَةٍ، صِفَةٌ جَرَتْ مَجْرى الأسْماءِ فَوَلِيَتِ العَوامِلَ، ولِذَلِكَ ثَبَتَ فِيها الهاءُ. السَّبُعُ: كُلُّ ذِي نابٍ وظُفُرٍ مِنَ الحَيَوانِ كالأسَدِ، والنَّمِرِ، والدُّبِّ، والذِّئْبِ، والثَّعْلَبِ، والضَّبُعِ، ونَحْوِها. وقَدْ أُطْلِقَ عَلى ذَواتِ المَخالِبِ مِنَ الطَّيْرِ سِباعٌ؛ قالَ الشّاعِرُ:
وسِباعُ الطَّيْرِ تَغْدُو بِطانًا تَتَخَطّاهم فَما تَسْتَقِلُّ
ومِنَ العَرَبِ مَن يَخُصُّ السَّبُعَ بِالأسَدِ، وسُكُونُ الباءِ لُغَةٌ نَجْدِيَّةٌ، وسُمِعَ فَتْحُها، ولَعَلَّ ذَلِكَ لُغَةٌ. التَّذْكِيَةُ: الذَّبْحُ، وتَذْكِيَةُ النّارِ رَفْعُها، وذَكّى الرَّجُلُ وغَيْرُهُ أسَنَّ؛ قالَ الشّاعِرُ:
عَلى أعْراقِهِ تَجْرِي المَذاكِي ∗∗∗ ولَيْسَ عَلى تَقَلُّبِهِ وجَهْدِهِ
النُّصُبُ: قِيلَ جَمْعُ نِصابٍ، وهي حِجارَةٌ مَنصُوبَةٌ حَوْلَ الكَعْبَةِ كانَ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ يُعَظِّمُونَها ويَذْبَحُونَ عَلَيْها لِآلِهَتِهِمْ، ولَها أيْضًا، وتُلَطَّخُ بِالدِّماءِ، ويُوضَعُ عَلَيْها اللَّحْمُ قِطَعًا قِطَعًا لِيَأْكُلَ مِنها النّاسُ. وقِيلَ: النُّصُبُ مُفْرَدٌ. قالَ الأعْشى:
وذا النُّصُبِ المَنصُوبِ لا تَقْرَبَنَّهُ
. الأزْلامُ: القِداحُ واحِدُها زَلَمٌ وزُلَمٌ، بِضَمِّ الزّايِ وفَتْحِها، وهي السِّهامُ؛ كانَ أحَدُهم إذا أرادَ سَفَرًا أوْ غَزْوًا أوْ تِجارَةً أوْ نِكاحًا أوْ أمْرًا مِن مَعاظِمِ الأُمُورِ ضَرَبَ بِالقِداحِ، وهي مَكْتُوبٌ عَلى بَعْضِها نَهانِي رَبِّي، وعَلى بَعْضِها أمَرَنِي رَبِّي، وبَعْضُها غُفْلٌ، فَإنْ خَرَجَ الآمِرُ مَضى لِطِلْبَتِهِ، وإنْ خَرَجَ النّاهِي أمْسَكَ، وإنْ خَرَجَ الغُفْلُ أعادَ الضَّرْبَ. اليَأْسُ: قَطْعُ الرَّجاءِ. يُقالُ: يَئِسَ يَيْأسُ ويَيْئِسُ، ويُقالُ: أيِسَ وهو مَقْلُوبٌ مِن يَئِسَ، ودَلِيلُ القَلْبِ تَخَلُّفُ الحُكْمِ عَمّا ظاهِرُهُ أنَّهُ مُوجِبٌ لَهُ. ألا تَرى أنَّهم لَمْ يَقْلِبُوا ياءَهُ ألِفًا لِتَحَرُّكِها وانْفِتاحِ ما قَبْلَها فَلَمْ يَقُولُوا ”آسَ“ كَما قالُوا هابَ.
المَخْمَصَةُ: المَجاعَةُ الَّتِي يَخْمُصُ فِيها البُطُونُ؛ أيْ: تَضْمُرُ، والخَمْصُ ضُمُورُ البَطْنِ والخِلْقَةِ، مِنهُ حَسَنَةٌ في النِّساءِ، ومِنهُ يُقالُ: خَمْصانَةٌ، وبَطْنٌ خَمِيصٌ، ومِنهُ أخْمَصُ القَدَمِ. ويُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا في الجُوعِ والغَرَثِ. قالَ الأعْشى:
تَبِيتُونَ في المَشْتى مِلاءً بُطُونُكم ∗∗∗ وجاراتُكم غَرْثى يَبِتْنَ خَمائِصا
وقالَ آخَرُ:
كُلُوا في بَعْضِ بَطْنِكم تَعِفُّوا ∗∗∗ فَإنَّ زَمانَكم زَمَنٌ خَمِيصُ
﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أوْفُوا بِالعُقُودِ﴾ هَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ، نَزَلَتْ مُنْصَرِفَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنَ الحُدَيْبِيَةِ، ومِنها ما نَزَلَ في حَجَّةِ الوَداعِ، ومِنها ما نَزَلْ عامَ الفَتْحِ. وكُلُّ ما نَزَلَ بَعْدَ الهِجْرَةِ بِالمَدِينَةِ، أوْ في سَفَرٍ، أوْ بِمَكَّةَ، فَهو مَدَنِيٌّ. وذَكَرُوا فَضائِلَ هَذِهِ السُّورَةِ وأنَّها تُسَمّى: المائِدَةَ، والعُقُودَ، والمُنْقِذَةَ، والمُبَعْثِرَةَ. ومُناسَبَةُ افْتِتاحِها لِما قَبْلَها هو أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ اسْتِفْتاءَهم في الكَلالَةِ وأفْتاهم فِيها، ذَكَرَ أنَّهُ يُبَيِّنُ لَهم كَراهَةَ الضَّلالِ، فَبَيَّنَ في هَذِهِ السُّورَةِ أحْكامًا كَثِيرَةً هي تَفْصِيلٌ لِذَلِكَ المُجْمَلِ. قالُوا: وقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ السُّورَةُ ثَمانِيَةَ عَشَرَ فَرِيضَةً لَمْ يُبَيِّنْها في غَيْرِها، وسَنُبَيِّنُها أوَّلًا فَأوَّلًا إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى. وذَكَرُوا أنَّ الكِنْدِيَّ الفَيْلَسُوفَ قالَ لَهُ أصْحابُهُ: أيُّها الحَكِيمُ اعْمَلْ لَنا مِثْلَ هَذا القُرْآنِ، فَقالَ: نَعَمْ، أعْمَلُ مِثْلَ بَعْضِهِ، فاحْتَجَبَ أيّامًا كَثِيرَةً ثُمَّ خَرَجَ فَقالَ: واللَّهِ ما أقْدِرُ، ولا يُطِيقُ هَذا أحَدٌ، إنِّي فَتَحْتُ المُصْحَفَ فَخَرَجَتْ سُورَةُ المائِدَةِ، فَنَظَرْتُ فَإذا هو قَدْ نَطَقَ بِالوَفاءِ، ونَهى عَنِ النَّكْثِ، وحَلَّلَ تَحْلِيلًا عامًّا، ثُمَّ اسْتَثْنى اسْتِثْناءً، ثُمَّ أخْبَرَ عَنْ قُدْرَتِهِ وحِكْمَتِهِ في سَطْرَيْنِ، ولا يَقْدِرُ أحَدٌ أنْ يَأْتِيَ بِهَذا إلّا في أجْلادٍ. انْتَهى.
والظّاهِرُ أنَّ النِّداءَ لِأُمَّةِ الرَّسُولِ المُؤْمِنِينَ. وقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هم أهْلُ الكِتابِ. وأمَرَ تَعالى المُؤْمِنِينَ بِإيفاءِ العُقُودِ وهي جَمْعُ عَقْدٍ، وهو العَهْدُ؛ قالَهُ الجُمْهُورُ، وابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، وابْنُ جُبَيْرٍ، وقَتادَةُ، والضَّحّاكُ، والسُّدِّيُّ. وقالَ الزَّجّاجُ: العُقُودُ أوْكَدُ مِنَ العُهُودِ، وأصْلُهُ في الأجْرامِ، ثُمَّ تَوَسَّعَ فَأطْلَقَ في المَعانِي، وتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقالَ: هو العَهْدُ المُوَثَّقُ شُبِّهَ بِعَقْدِ الحَبْلِ ونَحْوِهِ. قالَ الحُطَيْئَةُ:
قَوْمٌ إذا عَقَدُوا عَقْدًا لِجارِهِمُ ∗∗∗ شَدُّوا العِناجَ وشَدُّوا فَوْقَهُ الكَرَبا
والظّاهِرُ عُمُومُ المُؤْمِنِينَ في المُخْلِصِ والمُظْهِرِ، وعُمُومُ العُقُودِ في كُلِّ رَبْطٍ يُوافِقُ الشَّرْعَ سَواءٌ كانَ إسْلامِيًّا أمْ جاهِلِيًّا،
«وقَدْ سَألَ فُراتُ بْنُ حَنانٍ العِجْلِيُّ رَسُولَ اللَّهِ، ﷺ، عَنْ حِلْفِ الجاهِلِيَّةِ فَقالَ: ”لَعَلَّكَ تَسْألُ عَنْ حِلْفِ تَيْمِ اللَّهِ“ قالَ: نَعَمْ يا نَبِيَّ اللَّهِ. قالَ: ”لا يَزِيدُهُ الإسْلامُ إلّا شِدَّةً“» .
«وقالَ، ﷺ، في حِلْفِ الفُضُولِ وكانَ شَهِدَهُ في دارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعانَ: ”ما أُحِبُّ أنَّ لِي بِهِ حُمُرَ النَّعَمِ ولَوِ أُدْعى بِهِ في الإسْلامِ لَأجَبْتُ“» وكانَ هَذا الحِلْفُ أنَّ قُرَيْشًا تَعاقَدُوا عَلى أنْ لا يَجِدُوا مَظْلُومًا بِمَكَّةَ مِن أهْلِها أوْ مِن غَيْرِ أهْلِها إلّا قامُوا مَعَهُ حَتّى تُرَدَّ مَظْلَمَتُهُ، وسَمَّتْ ذَلِكَ الحِلْفَ حِلْفَ الفُضُولِ. وكانَ الوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ أمِيرًا عَلى المَدِينَةِ، فَتَحامَلَ عَلى الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ في مالٍ فَقالَ: لَتُنْصِفَنِّي مِن حَقِّي وإلّا أخَذْتُ بِسَيْفِي، ثُمَّ لَأقُومَنَّ في مَسْجِدِ الرَّسُولِ، ﷺ، ثُمَّ لَأدْعُوَنَّ بِحِلْفِ الفُضُولِ. فَقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: لَئِنْ دَعانِي لَآخُذَنَّ سَيْفِي ثُمَّ لَأقُومَنَّ مَعَهُ حَتّى يَنْتَصِفَ مِن خَصْمِهِ، أوْ نَمُوتَ جَمِيعًا. وبَلَغَتِ المِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عُثْمانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التَّيْمِيَّ فَقالا مِثْلَ ذَلِكَ، وبَلَغَ ذَلِكَ الوَلِيدَ فَأنْصَفَهُ.
ويَنْدَرِجُ في هَذا العُمُومِ كُلُّ عَقْدٍ مَعَ إنْسانٍ كَأمانٍ، ودِيَةٍ، ونِكاحٍ، وبَيْعٍ، وشَرِكَةٍ، وهِبَةٍ، ورَهْنٍ، وعِتْقٍ، وتَدْبِيرٍ، وتَخْيِيرٍ، وتَمْلِيكٍ، ومُصالَحَةٍ، ومُزارَعَةٍ، وطَلاقٍ، وشِراءٍ، وإجارَةٍ، وما عَقَدَهُ مَعَ نَفْسِهِ لِلَّهِ تَعالى مِن طاعَةٍ: كَحَجٍ، وصَوْمٍ، واعْتِكافٍ، وقِيامٍ، ونَذْرٍ وشِبْهِ ذَلِكَ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ: هي العُهُودُ الَّتِي أخَذَها اللَّهُ عَلى عِبادِهِ فِيما أحَلَّ وحَرَّمَ، وهَذا القَوْلُ بَدَأ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقالَ: هي العُهُودُ الَّتِي عَقَدَها اللَّهُ عَلى عِبادِهِ وألْزَمَها إيّاهم مِن واجِبِ التَّكْلِيفِ، وإنَّهُ كَلامٌ قُدِّمَ مُجْمَلًا ثُمَّ عُقِّبَ بِالتَّفْصِيلِ. وقالَ قَتادَةُ: هو الحِلْفُ الَّذِي كانَ بَيْنَهم في الجاهِلِيَّةِ، قالَ: ورُوِيَ لَنا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، ﷺ، أنَّهُ قالَ: ”أوْفُوا بِعَقْدِ الجاهِلِيَّةِ ولا تُحْدِثُوا عَقْدًا في الإسْلامِ“ . وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ وابْنُ زَيْدٍ وغَيْرُهُما: هي كُلُّ ما رَبَطَهُ المَرْءُ عَلى نَفْسِهِ مِن بَيْعٍ أوْ نِكاحٍ أوْ غَيْرِهِ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ أيْضًا، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدَةَ: العُقُودُ خَمْسٌ: عُقْدَةُ الإيمانِ، وعُقْدَةُ النِّكاحِ، وعُقْدَةُ العَهْدِ، وعُقْدَةُ البَيْعِ، وعُقْدَةُ الحِلْفِ. وقِيلَ: هي عُقُودُ الأماناتِ والبِياعاتِ ونَحْوِها، وقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هي الَّتِي أخَذَها اللَّهُ عَلى أهْلِ الكِتابِ أنْ يَعْمَلُوا بِها بِما جاءَهم بِهِ الرَّسُولُ. وقالَ ابْنُ شِهابٍ: قَرَأْتُ الكِتابَ الَّذِي كَتَبَهُ الرَّسُولُ، ﷺ، لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ حِينَ بَعَثَهُ إلى نَجْرانَ وفي صَدْرِهِ: ”هَذا بَيانٌ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ
﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أوْفُوا بِالعُقُودِ﴾ إلى قَوْلِهِ
﴿إنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحِسابِ﴾ [المائدة: ٤]“ وقِيلَ: العُقُودُ هُنا الفَرائِضُ.
* * *﴿أُحِلَّتْ لَكم بَهِيمَةُ الأنْعامِ﴾ قِيلَ: هَذا تَفْصِيلٌ بَعْدَ إجْمالٍ. وقِيلَ: اسْتِئْنافُ تَشْرِيعٍ بَيَّنَ فِيهِ فَسادَ تَحْرِيمِ لُحُومِ السَّوائِبِ، والوَصائِلِ، والبَحائِرِ، والحَوامِّ، وأنَّها حَلالٌ لَهم. وبَهِيمَةُ الأنْعامِ مِن بابِ إضافَةِ الشَّيْءِ إلى جِنْسِهِ فَهو بِمَعْنى مِن، لِأنَّ البَهِيمَةَ أعَمُّ، فَأُضِيفَتْ إلى أخَصٍّ. فَبَهِيمَةُ الأنْعامِ هي كُلُّها قالَهُ: قَتادَةُ، والضَّحّاكُ، والسُّدِّيُّ، والرَّبِيعُ، والحَسَنُ. وهي الثَّمانِيَةُ الأزْواجِ الَّتِي ذَكَرَها اللَّهُ تَعالى. وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: هي الإبِلُ، والبَقَرُ، والغَنَمُ، والوُحُوشُ كُلُّها. وقالَ قَوْمٌ مِنهُمُ الضَّحّاكُ والفَرّاءُ: بَهِيمَةُ الأنْعامِ وحْشِيُّها كالظِّباءِ، وبَقَرِ الوَحْشِ وحُمُرِهِ. وكَأنَّهم أرادُوا ما يُماثِلُ الأنْعامَ ويُدانِيها مِن جِنْسِ الأنْعامِ البَهائِمِ، والأضْرارِ وعَدَمِ الأنْيابِ، فَأُضِيفَتْ إلى الأنْعامِ لِمُلابَسَةِ الشَّبَهِ، وتَقَدَّمَ الكَلامُ في مَدْلُولِ لَفْظِ الأنْعامِ. وقالَ ابْنُ عُمَرَ وابْنُ عَبّاسٍ: بَهِيمَةُ الأنْعامِ هي الأجِنَّةُ الَّتِي تَخْرُجُ عِنْدَ ذَبْحِ أُمَّهاتِها فَتُؤْكَلُ دُونَ ذَكاةٍ، وهَذا فِيهِ بُعْدٌ. وقِيلَ: بَهِيمَةُ الأنْعامِ هي الَّتِي تَرْعى مِن ذَواتِ الأرْبَعِ، وكانَ المُفْتَرِسُ مِنَ الحَيَوانِ كالأسَدِ وكُلُّ ذِي نابٍ قَدْ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الإبْهامِ فَصارَ لَهُ نَظَرٌ ما.
﴿إلّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ﴾ هَذا اسْتِثْناءٌ مِن بَهِيمَةِ الأنْعامِ؛ والمَعْنى: إلّا ما يُتْلى عَلَيْكم تَحْرِيمُهُ مِن نَحْوِ قَوْلِهِ:
﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ﴾ [المائدة: ٣] . وقالَ القُرْطُبِيُّ: ومَعْنى
﴿يُتْلى عَلَيْكُمْ﴾ يُقْرَأُ في القُرْآنِ والسُّنَّةِ، ومِنهُ (كُلُّ ذِي نابٍ مِنَ السِّباعِ حَرامٌ) . وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: ظاهِرُ هَذا الِاسْتِثْناءِ مُجْمَلٌ، واسْتِثْناءُ الكَلامِ المُجْمَلِ مِنَ الكَلامِ المُفَصَّلِ يَجْعَلُ ما بَقِيَ بَعْدَ الِاسْتِثْناءِ مُجْمَلًا، إلّا أنَّ المُفَسِّرِينَ أجْمَعُوا عَلى أنَّ المُرادَ مِن هَذا الِاسْتِثْناءِ هو المَذْكُورُ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ وهو قَوْلُهُ:
﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ﴾ [المائدة: ٣] إلى قَوْلِهِ:
﴿وما ذُبِحَ عَلى النُّصُبِ﴾ [المائدة: ٣] ووَجْهُ هَذا أنَّ قَوْلَهُ:
﴿أُحِلَّتْ لَكم بَهِيمَةُ الأنْعامِ﴾، يَقْتَضِي إحْلالَها لَهم عَلى جَمِيعِ الوُجُوهِ. فَبَيَّنَ تَعالى أنَّها إنْ كانَتْ مَيْتَةً أوْ مَذْبُوحَةً عَلى غَيْرِ اسْمِ اللَّهِ، أوْ مُنْخَنِقَةً أوْ مَوْقُوذَةً أوْ مُتَرَدِّيَةً أوْ نَطِيحَةً، أوِ افْتَرَسَها السَّبُعُ فَهي مُحَرَّمَةٌ. انْتَهى كَلامُهُ. ومَوْضِعُ (ما) نَصْبٌ عَلى الِاسْتِثْناءِ، ويَجُوزُ الرَّفْعُ عَلى الصِّفَةِ لِـ (بَهِيمَةُ) . قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وأجازَ بَعْضُ الكُوفِيِّينَ أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى البَدَلِ، وعَلى أنْ تَكُونَ ”إلّا“ عاطِفَةً، وذَلِكَ لا يَجُوزُ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ إلّا مِن نَكِرَةٍ أوْ ما قارَبَها مِن أسْماءِ الأجْناسِ نَحْوَ قَوْلِكَ: جاءَ الرَّجُلُ إلّا زَيْدٌ، كَأنَّكَ قُلْتَ: غَيْرَ زَيْدٍ. انْتَهى. وهَذا الَّذِي حَكاهُ عَنْ بَعْضِ الكُوفِيِّينَ مِن أنَّهُ في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى البَدَلِ لا يَصِحُّ البَتَّةَ، لِأنَّ الَّذِي قَبْلَهُ مُوجَبٌ. فَكَما لا يَجُوزُ: قامَ القَوْمُ إلّا زَيْدٌ، عَلى البَدَلِ، كَذَلِكَ لا يَجُوزُ البَدَلُ في:
﴿إلّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ﴾ . وأمّا كَوْنُ (إلّا) عاطِفَةً فَهو شَيْءٌ ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الكُوفِيِّينَ كَما ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ. وقَوْلُهُ: وذَلِكَ لا يَجُوزُ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ، ظاهِرُهُ الإشارَةُ إلى وجْهَيِ الرَّفْعِ، البَدَلِ والعَطْفِ. وقَوْلُهُ: إلّا مِن نَكِرَةٍ، هَذا اسْتِثْناءٌ مُبْهَمٌ لا يُدْرى مِن أيِّ شَيْءٍ هو. وكِلا وجْهَيِ الرَّفْعِ لا يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ اسْتِثْناءً مِنهُ، لِأنَّ البَدَلَ مِنَ المُوجَبِ لا يُجِيزُهُ أحَدٌ عَلِمْناهُ لا بَصَرِيٌ ولا كُوفِيٌّ. وأمّا العَطْفُ فَلا يُجِيزُهُ بَصْرِيٌّ البَتَّةَ، وإنَّما الَّذِي يُجِيزُهُ البَصْرِيُّونَ أنْ يَكُونَ نَعْتًا لِما قَبْلَهُ في مِثْلِ هَذا التَّرْكِيبِ. وشَرَطَ فِيهِ بَعْضُهم ما ذُكِرَ مِن أنَّهُ يَكُونُ مِنَ المَنعُوتِ نَكِرَةٌ، أوْ ما قارَبَها مِن أسْماءِ الأجْناسِ، فَلَعَلَّ ابْنَ عَطِيَّةَ اخْتَلَطَ عَلَيْهِ البَدَلُ والنَّعْتُ ولَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُما في الحُكْمِ. ولَوْ فَرَضْنا تَبَعِيَّةَ ما بَعْدَ (إلّا) لِما قَبْلَها في الإعْرابِ عَلى طَرِيقَةِ البَدَلِ حَتّى يُسَوِّغَ ذَلِكَ، لَمْ يُشْتَرَطْ تَنْكِيرُ ما قَبْلَ (إلّا) ولا كَوْنُهُ مُقارِبًا لِلنَّكِرَةِ مِن أسْماءِ الأجْناسِ، لِأنَّ البَدَلَ والمُبْدَلَ مِنهُ يَجُوزُ اخْتِلافُهُما بِالتَّنْكِيرِ والتَّعْرِيفِ.
﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وأنْتُمْ حُرُمٌ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ (غَيْرَ) بِالنَّصْبِ، واتَّفَقَ جُمْهُورُ مَن وقَفْنا عَلى كَلامِهِ مِنَ المُعْرِبِينَ والمُفَسِّرِينَ عَلى أنَّهُ مَنصُوبٌ عَلى الحالِ. ونَقَلَ بَعْضُهُمُ الإجْماعَ عَلى ذَلِكَ، واخْتَلَفُوا في صاحِبِ الحالِ. فَقالَ الأخْفَشِ: هو ضَمِيرُ الفاعِلِ في أوْفُوا. وقالَ الجُمْهُورُ والزَّمَخْشَرِيُّ وابْنُ عَطِيَّةَ وغَيْرُهُما: هو الضَّمِيرُ المَجْرُورُ في أُحِلَّ لَكم. وقالَ بَعْضُهم: هو الفاعِلُ المَحْذُوفُ مِن أُحِلَّ القائِمُ مَقامَهُ المَفْعُولُ بِهِ، وهو اللَّهُ تَعالى. وقالَ بَعْضُهم: هو ضَمِيرُ المَجْرُورِ في (عَلَيْكم) . ونَقَلَ القُرْطُبِيُّ عَنِ البَصْرِيِّينَ أنَّ قَوْلَهُ:
﴿إلّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ﴾، هو اسْتِثْناءٌ مِن بَهِيمَةِ الأنْعامِ. وأنَّ قَوْلَهُ:
﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ﴾، اسْتِثْناءٌ آخَرُ مِنهُ. فالِاسْتِثْناءانِ مَعْناهُما مِن بَهِيمَةِ الأنْعامِ، وفي المُسْتَثْنى مِنهُ، والتَّقْدِيرُ: إلّا ما يُتْلى عَلَيْكم إلّا الصَّيْدَ وأنْتُمْ مُحْرِمُونَ، بِخِلافِ قَوْلِهِ:
﴿إنّا أُرْسِلْنا إلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ﴾ [الذاريات: ٣٢] عَلى ما يَأْتِي بَيانُهُ وهو قَوْلٌ مُسْتَثْنًى مِمّا يَلِيهِ مِنَ الِاسْتِثْناءِ. قالَ: ولَوْ كانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ إباحَةُ الصَّيْدِ في الإحْرامِ، لِأنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنَ المَحْظُورِ إذا كانَ إلّا ما يُتْلى عَلَيْكم مُسْتَثْنًى مِنَ الإباحَةِ، وهَذا وجْهٌ ساقِطٌ، فَإذا مَعْناهُ: أُحِلَّتْ لَكم بَهِيمَةُ الأنْعامِ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وأنْتُمْ حُرُمٌ إلّا ما يُتْلى عَلَيْكم سِوى الصَّيْدِ. انْتَهى. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقَدْ خَلَطَ النّاسُ في هَذا المَوْضِعِ في نَصْبِ (غَيْرَ)، وقَدَّرُوا تَقْدِيماتٍ وتَأْخِيراتٍ، وذَلِكَ كُلُّهُ غَيْرُ مَرْضِيٍّ، لِأنَّ الكَلامَ عَلى اطِّرادِهِ مُتَمَكِّنٌ، اسْتِثْناءٌ بَعْدَ اسْتِثْناءٍ. انْتَهى كَلامُهُ. وهو أيْضًا مِمَّنْ خَلَطَ عَلى ما سَنُوَضِّحُهُ.
فَأمّا قَوْلُ الأخْفَشِ: فَفِيهِ الفَصْلُ بَيْنَ ذِي الحالِ والحالِ بِجُمْلَةٍ اعْتِراضِيَّةٍ، بَلْ هي مُنْشِئَةٌ أحْكامًا، وذَلِكَ لا يَجُوزُ. وفِيهِ تَقْيِيدُ الإيفاءِ بِالعُقُودِ بِانْتِفاءِ إحْلالِ المُوفِينَ الصَّيْدَ وهم حُرُمٌ، وهم مَأْمُورُونَ بِإيفاءِ العُقُودِ بِغَيْرِ قَيْدٍ، ويَصِيرُ التَّقْدِيرُ: أوْفُوا بِالعُقُودِ في حالِ انْتِفاءِ كَوْنِكم مُحَلِّينَ الصَّيْدَ وأنْتُمْ حُرُمٌ، وهم قَدْ أُحِلَّتْ لَهم بَهِيمَةُ الأنْعامِ أنْفِسِها. وإنْ أُرِيدَ بِهِ الظِّباءُ وبَقَرُ الوَحْشِ وحُمُرُهُ فَيَكُونَ المَعْنى: وأُحِلَّ لَكم هَذِهِ في حالِ انْتِفاءِ كَوْنِكم مُحَلِّينَ الصَّيْدَ وأنْتُمْ حُرُمٌ، وهَذا تَرْكِيبٌ قَلِقٌ مُعَقَّدٌ، يُنَزَّهُ القُرْآنُ أنْ يَأْتِيَ فِيهِ مِثْلُ هَذا. ولَوْ أُرِيدَ بِالآيَةِ هَذا المَعْنى لَجاءَ عَلى أفْصَحِ تَرْكِيبٍ وأحْسَنِهِ. وأمّا قَوْلُ مَن جَعَلَهُ حالًا مِنَ الفاعِلِ، وقَدَّرَهُ: وأحَلَّ اللَّهُ لَكم بَهِيمَةَ الأنْعامِ غَيْرَ مُحِلٍّ لَكُمُ الصَّيْدَ وأنْتُمْ حُرُمٌ، قالَ كَما تَقُولُ: أحْلَلْتُ لَكَ كَذا غَيْرَ مُبِيحِهِ لَكَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَهو فاسِدٌ. لِأنَّهم نَصُّوا عَلى أنَّ الفاعِلَ المَحْذُوفَ في مِثْلِ هَذا التَّرْكِيبِ يَصِيرُ نِسْيًا مَنسِيًّا، ولا يَجُوزُ وُقُوعُ الحالِ مِنهُ. لَوْ قُلْتَ: أُنْزِلَ المَطَرُ لِلنّاسِ مُجِيبًا لِدُعائِهِمْ، إذِ الأصْلُ أنْزَلَ اللَّهُ المَطَرَ مُجِيبًا لِدُعائِهِمْ لَمْ يَجُزْ، وخُصُوصًا عَلى مَذْهَبِ الكُوفِيِّينَ ومَن وافَقَهم مِنَ البَصْرِيِّينَ، لِأنَّ صِيغَةَ الفِعْلِ المَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ صِيغَةٌ وُضِعَتْ أصْلًا كَما وُضِعَتْ صِيغَتُهُ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، ولَيْسَتْ مُغَيَّرَةً مِن صِيغَةٍ بُنِيَتْ لِلْفاعِلِ، ولِأنَّهُ يَتَقَيَّدُ إحْلالُهُ تَعالى بَهِيمَةَ الأنْعامِ إذا أُرِيدَ بِها ثَمانِيَةُ الأزْواجِ بِحالِ انْتِفاءِ إحْلالِهِ الصَّيْدَ وهم حُرُمٌ، وهو تَعالى قَدْ أحَلَّها في هَذِهِ الحالِ وفي غَيْرِها.
وأمّا ما نَقَلَهُ القُرْطُبِيُّ عَنِ البَصْرِيِّينَ، فَإنْ كانَ النَّقْلُ صَحِيحًا فَهو يَتَخَرَّجُ عَلى ما سَنُوَضِّحُهُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى، فَنَقُولُ: إنَّما عَرَضَ الإشْكالُ في الآيَةِ مِن جَعْلِهِمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ حالًا مِنَ المَأْمُورِينَ بِإيفاءِ العُقُودِ، أوْ مِنَ المُحَلَّلِ لَهم، أوْ مِنَ المُحَلِّلِ وهو اللَّهُ تَعالى، أوْ مِنَ المَتْلُوِّ عَلَيْهِمْ. وغَرَّهم في ذَلِكَ كَوْنُهُ كَتَبَ مُحِلِّي بِالياءِ، وقَدَّرُوهُ هم أنَّهُ اسْمُ فاعِلٍ مِن أحَلَّ، وأنَّهُ مُضافٌ إلى الصَّيْدِ، إضافَةَ اسْمِ الفاعِلِ المُتَعَدِّي إلى المَفْعُولِ، وأنَّهُ جَمْعٌ حُذِفَ مِنهُ النُّونُ لِلْإضافَةِ. وأصْلُهُ: غَيْرَ مُحِلِّينَ الصَّيْدِ وأنْتُمْ حُرُمٌ، إلّا في قَوْلِ مَن جَعَلَهُ حالًا مِنَ الفاعِلِ المَحْذُوفِ، فَلا يُقَدَّرُ فِيهِ حَذْفُ النُّونِ، بَلْ حَذْفُ التَّنْوِينِ. وإنَّما يَزُولُ الإشْكالُ ويَتَّضِحُ المَعْنى بِأنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: مُحِلِّي الصَّيْدِ، مِن بابِ قَوْلِهِمْ: حِسانُ النِّساءِ؛ والمَعْنى: النِّساءُ الحِسانُ، وكَذَلِكَ هَذا أصْلُهُ غَيْرَ الصَّيْدِ المُحِلِّ. والمُحِلُّ صِفَةٌ لِلصَّيْدِ لا لِلنّاسِ، ولا لِلْفاعِلِ المَحْذُوفِ. ووَصْفُ الصَّيْدِ بِأنَّهُ مُحِلٌّ عَلى وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ مَعْناهُ دَخَلَ في الحِلِّ، كَما تَقُولُ: أحَلَّ الرَّجُلُ؛ أيْ: دَخَلَ في الحِلِّ، وأحْرَمَ دَخَلَ في الحَرَمِ. والوَجْهُ الثّانِي: أنْ يَكُونَ مَعْناهُ صارَ ذا حِلٍّ؛ أيْ: حَلالًا بِتَحْلِيلِ اللَّهِ. وذَلِكَ أنَّ الصَّيْدَ عَلى قِسْمَيْنِ: حَلالٌ، وحَرامٌ. ولا يَخْتَصُّ الصَّيْدُ في لُغَةِ العَرَبِ بِالحَلالِ. ألا تَرى إلى قَوْلِ بَعْضِهِمْ: إنَّهُ لَيَصِيدُ الأرانِبَ حَتّى الثَّعالِبَ لَكِنَّهُ يَخْتَصُّ بِهِ شَرْعًا؛ وقَدْ تَجَوَّزَتِ العَرَبُ فَأطْلَقَتِ الصَّيْدَ عَلى ما لا يُوصَفُ بِحِلٍّ ولا حُرْمَةٍ؛ نَحْوَ قَوْلِهِ:
لَيْثٌ بِعَثَّرَ يَصْطادُ الرِّجالَ إذا ما كَذَّبَ اللَّيْثُ عَنْ أقْرانِهِ صَدَقا
وقالَ آخَرُ:
وقَدْ ذَهَبَتْ سَلْمى بِعَقْلِكَ كُلِّهِ ∗∗∗ فَهَلْ غَيْرُ صَيْدٍ أحْرَزَتْهُ حَبائِلُهْ
وقالَ آخَرُ:
ومَيٌّ تَصِيدُ قُلُوبَ الرِّجالِ ∗∗∗ وأفْلَتَ مِنها ابْنُ عُمَرٍ وحَجَرٍ
ومَجِيءُ أفْعَلَ عَلى الوَجْهَيْنِ المَذْكُورَيْنِ كَثِيرٌ في لِسانِ العَرَبِ. فَمِن مَجِيءِ أفْعَلَ لِبُلُوغِ المَكانِ ودُخُولِهِ قَوْلُهم: أحْرَمَ الرَّجُلُ، وأعْرَقَ، وأشْأمَ، وأيْمَنَ، وأتْهَمَ، وأنْجَدَ إذا بَلَغَ هَذِهِ المَواضِعَ وحَلَّ بِها. ومِن مَجِيءِ أفْعَلَ بِمَعْنى صارَ ذا كَذا قَوْلُهم: أعْشَبَتِ الأرْضُ، وأبْقَلَتْ، وأغَدَّ البَعِيرُ، وألْبَنَتِ الشّاةُ، وغَيْرُها، وأجْرَتِ الكَلْبَةُ، وأصْرَمَ النَّخْلُ، وأتْلَتِ النّاقَةُ، وأحْصَدَ الزَّرْعُ، وأجْرَبَ الرَّجُلُ، وأنْجَبَتِ المَرْأةُ. وإذا تَقَرَّرَ أنَّ الصَّيْدَ يُوصَفُ بِكَوْنِهِ مُحِلًّا بِاعْتِبارِ أحَدِ الوَجْهَيْنِ المَذْكُورَيْنِ مِن كَوْنِهِ بَلَغَ الحِلَّ، أوْ صارَ ذا حِلٍّ، اتَّضَحَ كَوْنُهُ اسْتِثْناءً مِنِ اسْتِثْناءٍ، إذْ لا يُمْكِنُ ذَلِكَ لِتَناقُصِ الحُكْمِ. لِأنَّ المُسْتَثْنى مِنَ المُحَلَّلِ مُحَرَّمٌ، والمُسْتَثْنى مِنَ المُحَرَّمِ مُحَلَّلٌ. بَلْ إنَّ كانَ المَعْنى بِقَوْلِهِ: بَهِيمَةُ الأنْعامِ، الأنْعامُ أنْفُسُها، فَيَكُونُ اسْتِثْناءً مُنْقَطِعًا. وإنْ كانَ المُرادُ الظِّباءَ وبَقَرَ الوَحْشِ وحُمُرَهُ ونَحْوَها، فَيَكُونَ اسْتِثْناءً مُتَّصِلًا عَلى أحَدِ تَفْسِيرَيِ المُحِلِّ، اسْتَثْنى الصَّيْدَ الَّذِي بَلَغَ الحِلَّ في حِلِّ كَوْنِهِمْ مُحْرِمِينَ؛ (فَإنْ قُلْتَ): ما فائِدَةُ الِاسْتِثْناءِ بِقَيْدِ بُلُوغِ الحِلِّ والصَّيْدِ الَّذِي في الحَرَمِ لا يَحِلُّ أيْضًا (قُلْتُ): الصَّيْدُ الَّذِي في الحَرَمِ لا يَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ ولا لِغَيْرِ المُحْرِمِ، وإنَّما يَحِلُّ لِغَيْرِ المُحْرِمِ الصَّيْدُ الَّذِي في الحِلِّ، فَنَبَّهَ بِأنَّهُ إذا كانَ الصَّيْدُ الَّذِي في الحِلِّ يَحْرُمُ عَلى المُحْرِمِ، وإنْ كانَ حَلالًا لِغَيْرِهِ، فَأحْرى أنْ يَحْرُمَ عَلَيْهِ الصَّيْدُ الَّذِي هو بِالحَرَمِ. وعَلى هَذا التَّفْسِيرِ يَكُونُ قَوْلُهُ:
﴿إلّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ﴾، إنْ كانَ المُرادُ بِهِ ما جاءَ بَعْدَهُ مِن قَوْلِهِ:
﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ﴾ [المائدة: ٣] . . . . . الآيَةَ، اسْتِثْناءً مُنْقَطِعًا، إذْ لا يَخْتَصُّ المَيْتَةَ، وما ذُكِرَ مَعَها بِالظِّباءِ وحُمُرِ الوَحْشِ وبَقَرِهِ ونَحْوِها، فَيَصِيرُ، لَكِنْ ما يُتْلى عَلَيْكم؛ أيْ: تَحْرِيمُهُ فَهو مُحَرَّمٌ. وإنْ كانَ المُرادُ بِبَهِيمَةِ الأنْعامِ الأنْعامَ والوُحُوشَ، فَيَكُونُ الِاسْتِثْناءانِ راجِعَيْنِ إلى المَجْمُوعِ عَلى التَّفْصِيلِ، فَيَرْجِعُ إلّا ما يُتْلى عَلَيْكم إلى ثَمانِيَةِ الأزْواجِ، ويَرْجِعُ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ إلى الوُحُوشِ، إذْ لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ الثّانِي اسْتِثْناءً مِنَ الِاسْتِثْناءِ الأوَّلِ. وإذا لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ، وأمْكَنَ رُجُوعُهُ إلى الأوَّلِ بِوَجْهٍ ما جازَ. وقَدْ نَصَّ النَّحْوِيُّونَ عَلى أنَّهُ إذا لَمْ يُمْكِنِ اسْتِثْناءُ بَعْضِ المُسْتَثْنَياتِ مِن بَعْضٍ، كانَتْ كُلُّها مُسْتَثْنَياتٍ مِنَ الِاسْمِ الأوَّلِ، نَحْوَ قَوْلِكَ: قامَ القَوْمُ إلّا زَيْدًا، إلّا عَمْرًا، إلّا بَكْرًا؛ (فَإنْ قُلْتَ): ما ذَكَرْتَهُ مِن هَذا التَّخْرِيجِ الغَرِيبِ وهو أنْ يَكُونَ المُحِلُّ مِن صِفَةِ الصَّيْدِ، لا مِن صِفَةِ النّاسِ، ولا مِن صِفَةِ الفاعِلِ المَحْذُوفِ، يُعَكِّرُ عَلَيْهِ كَوْنُهُ كُتِبَ في رَقْمِ المُصْحَفِ بِالياءِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ مِن صِفاتِ النّاسِ، إذْ لَوْ كانَ مِن صِفَةِ الصَّيْدِ لَمْ يُكْتَبْ بِالياءِ، وبِكَوْنِ الفَرّاءِ وأصْحابِهِ وقَفُوا عَلَيْهِ بِالياءِ يَأْبى ذَلِكَ. (قُلْتُ): لا يُعَكِّرُ عَلى هَذا التَّخْرِيجِ لِأنَّهم كَتَبُوا كَثِيرًا رَسْمَ المُصْحَفِ عَلى ما يُخالِفُ النُّطْقَ، نَحْوَ: بِأيْيدٍ بِياءَيْنِ بَعْدَ الألِفِ، وكَتْبُهم أُولَئِكَ بِواوٍ بَعْدَ الألِفِ، وبِنَقْصِهِمْ مِنهُ ألِفًا. وكِتابَتُهُمُ الصَّلِحَتِ ونَحْوِهِ بِإسْقاطِ الألِفَيْنِ، وهَذا كَثِيرٌ في الرَّسْمِ. وأمّا وقْفُهم عَلَيْهِ بِالياءِ فَلا يَجُوزُ، لِأنَّهُ لا يُوقَفُ عَلى المُضافِ دُونَ المُضافِ إلَيْهِ، وإنَّما قَصَدُوا بِذَلِكَ الِاخْتِبارَ، أوْ يَنْقَطِعُ النَّفَسُ، فَوَقَفُوا عَلى الرَّسْمِ كَما وقَفُوا عَلى
﴿سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ﴾ [العلق: ١٨] مِن غَيْرِ واوٍ إتْباعًا لِلرَّسْمِ. عَلى أنَّهُ يُمْكِنُ تَوْجِيهُ كِتابَتِهِ بِالياءِ، والوَقْفُ عَلَيْهِ بِياءٍ بِأنَّهُ جاءَ عَلى لُغَةِ الأزْدِ، إذْ يَقِفُونَ عَلى بِزَيْدٍ بِزَيْدِي بِإبْدالِ التَّنْوِينِ ياءً، فَكُتِبَ مُحِلِّي بِالياءِ عَلى الوَقْفِ عَلى هَذِهِ اللُّغَةِ، وهَذا تَوْجِيهُ شُذُوذٍ رَسْمِيٍّ، ورَسْمُ المُصْحَفِ مِمّا لا يُقاسُ عَلَيْهِ.
وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ: (غَيْرُ) بِالرَّفْعِ، وأحْسَنُ ما يُخَرَّجُ عَلَيْهِ أنْ يَكُونَ صِفَةً لِقَوْلِهِ:
﴿بَهِيمَةُ الأنْعامِ﴾، ولا يَلْزَمُ مِنَ الوَصْفِ بِـ (غَيْرِ) أنْ يَكُونَ ما بَعْدَها مُماثِلًا لِلْمَوْصُوفِ في الجِنْسِيَّةِ، ولا يَضُرُّ الفَصْلُ بَيْنَ النَّعْتِ والمَنعُوتِ بِالِاسْتِثْناءِ، وخُرِّجَ أيْضًا عَلى الصِّفَةِ لِلضَّمِيرِ في يُتْلى. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لِأنَّ
﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ﴾ هو في المَعْنى بِمَنزِلَةِ: غَيْرُ مُسْتَحَلٍّ إذا كانَ صَيْدًا. انْتَهى. ولا يُحْتاجُ إلى هَذا التَّكَلُّفِ عَلى تَخْرِيجِنا مُحِلِّي الصَّيْدِ وأنْتُمْ حُرُمٌ جُمْلَةً حالِيَّةً. وحُرُمٌ جَمْعُ حَرامٍ. ويُقالُ: أحْرَمَ الرَّجُلُ إذا دَخَلَ في الإحْرامِ بِحَجٍّ أوْ بِعُمْرَةٍ، أوْ بِهِما، فَهو مُحْرِمٌ وحَرامٌ، وأحْرَمَ الرَّجُلُ: دَخَلَ في الحَرَمِ. وقالَ الشّاعِرُ:
فَقُلْتُ لَها فِيئِي إلَيْكِ فَإنَّنِي ∗∗∗ حَرامٌ وإنِّي بَعْدَ ذاكَ لَبِيبُ
أيْ: مُلَبٍّ. ويَحْتَمِلُ الوَجْهَيْنِ قَوْلُهُ: وأنْتُمْ حُرُمٌ، إذِ الصَّيْدُ يَحْرُمُ عَلى مَن كانَ في الحَرَمِ، وعَلى مَن كانَ أحْرَمَ بِالحَجِّ والعُمْرَةِ، وهو قَوْلُ الفُقَهاءِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وأنْتُمْ حُرُمٌ، حالٌ عَنْ مَحَلِّ الصَّيْدِ كَأنَّهُ قِيلَ: أحْلَلْنا لَكم بَعْضَ الأنْعامِ في حالِ امْتِناعِكم مِنَ الصَّيْدِ وأنْتُمْ مُحْرِمُونَ؛ لِئَلّا يَتَحَرَّجَ عَلَيْكم. انْتَهى. وقَدْ بَيَّنّا فَسادَ هَذا القَوْلِ، بِأنَّ الأنْعامَ مُباحَةٌ مَطْلَقًا لا بِالتَّقْيِيدِ بِهَذِهِ الحالِ.
﴿إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يُحِلُّ ويُحَرِّمُ. وقِيلَ: يَحْكُمُ فِيما خَلَقَ بِما يُرِيدُ عَلى الإطْلاقِ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ جاءَتْ مُقَوِّيَةً لِهَذِهِ الأحْكامِ الشَّرْعِيَّةِ المُخالِفَةِ لِمَعْهُودِ أحْكامِ العَرَبِ مِنَ الأمْرِ بِإيفاءِ العُقُودِ وتَحْلِيلِ بَهِيمَةِ الأنْعامِ، والِاسْتِثْناءِ مِنها ما يُتْلى تَحْرِيمُهُ مُطْلَقًا في الحِلِّ والحَرَمِ إلّا في اضْطِرارٍ، واسْتِثْناءِ الصَّيْدِ في حالَةِ الإحْرامِ، وتَضَمُّنِ ذَلِكَ حِلَّهُ لِغَيْرِ المُحَرَّمِ، فَهَذِهِ خَمْسَةُ أحْكامٍ خَتَمَها بِقَوْلِهِ:
﴿إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ﴾ . فَمُوجِبُ الحُكْمِ والتَّكْلِيفِ هو إرادَتُهُ لا اعْتِراضَ عَلَيْهِ، ولا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، لا ما يَقُولُهُ المُعْتَزِلَةُ مِن مُراعاةِ المَصالِحِ. ولِذَلِكَ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ مِنَ الأحْكامِ، ويَعْلَمُ أنَّهُ حِكْمَةٌ ومَصْلَحَةٌ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقَدْ نَبَّهَ عَلى ما تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الآيَةُ مِنَ الأحْكامِ ما نَصُّهُ: هَذِهِ الآيَةُ مِمّا يَلُوحُ فَصاحَتُها وكَثْرَةُ مَعانِيها عَلى قِلَّةِ ألْفاظِها لِكُلِّ ذِي بَصَرٍ بِالكَلامِ، ولِمَن عِنْدَهُ أدْنى بَصِيرَةٍ. ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ الحِكايَةَ الَّتِي قَدَّمْناها عَنِ الكِنْدِيِّ وأصْحابِهِ، وفي مِثْلِ هَذا أقُولُ مِن قَصِيدَةٍ مَدَحْتُ بِها رَسُولَ اللَّهِ، ﷺ، مُعارِضًا لِقَصِيدَةِ كَعْبٍ مِنهُ في وصْفِ كِتابِ اللَّهِ تَعالى:
جارٍ عَلى مَنهَجِ الأعْرابِ أعْجَزَهم ∗∗∗ باقٍ مَدى الدَّهْرِ لا يَأْتِيهِ تَبْدِيلُ
بَلاغَةٌ عِنْدَها كَعَّ البَلِيغُ فَلَمْ ∗∗∗ يَنْبِسْ وفي هَدْيِهِ طاحَتْ أضالِيلُ
﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ﴾ [المائدة: ٢] خَرَجَ سُرَيْحٌ أحَدُ بَنِي ضُبَيْعَةَ إلى مَكَّةَ حاجًّا وساقَ الهَدْيَ. وفي رِوايَةٍ ومَعَهُ تِجارَةٌ، وكانَ قَبْلُ قَدْ قَدِمَ المَدِينَةَ وتَكَلَّمَ مَعَ الرَّسُولِ، ﷺ، وتَرَوّى في إسْلامِهِ، وقالَ الرَّسُولُ، عَلَيْهِ السَّلامُ،: ”
«لَقَدْ دَخَلَ بِوَجْهِ كافِرٍ وخَرَجَ بِعَقِبَيْ غادِرٍ“» فَمَرَّ بِسَرْحٍ بِالمَدِينَةِ فاسْتاقَهُ، فَلَمّا قَدِمَ مَكَّةَ عامَ الحُدَيْبِيَةِ أرادَ أهْلُ السَّرْحِ أنْ يُغِيرُوا عَلَيْهِ، واسْتَأْذَنُوا الرَّسُولَ، فَنَزَلَتْ. وقالَ السُّدِّيُّ: اسْمُهُ الحَطِيمُ بْنُ هِنْدٍ البَلَدِيُّ أحَدُ بَنِي ضُبَيْعَةَ، وأرادَ الرَّسُولُ أنْ يَبْعَثَ إلَيْهِ ناسًا مِن أصْحابِهِ فَنَزَلَتْ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتْ بِمَكَّةَ عامَ الفَتْحِ وحَجَّ المُشْرِكُونَ واعْتَمَرُوا فَقالَ المُسْلِمُونَ: يا رَسُولَ اللَّهِ إنْ هَؤُلاءِ مُشْرِكُونَ فَلَنْ نَدَعَهم إلّا أنْ نُغِيرَ عَلَيْهِمْ، فَنَزَلَ القُرْآنُ.
﴿ولا آمِّينَ البَيْتَ الحَرامَ﴾ [المائدة: ٢] .
والشَّعائِرُ جَمْعُ شَعِيرَةٍ أوْ شِعارَةٍ؛ أيْ: قَدْ أشْعَرَ اللَّهُ أنَّها حَدُّهُ وطاعَتُهُ، فَهي بِمَعْنى مَعالِمِ اللَّهِ، وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُها في
﴿إنَّ الصَّفا والمَرْوَةَ مِن شَعائِرِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٥٨] . قالَ الحَسَنُ: دِينُ اللَّهِ كُلُّهُ، يَعْنِي شَرائِعَهُ الَّتِي حَدَّها لِعِبادِهِ، فَهو عامٌّ في جَمِيعِ تَكالِيفِهِ تَعالى. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: ما حَرَّمَ عَلَيْكم في حالِ الإحْرامِ. وقالَ أيْضًا هو ومُجاهِدٌ: مَناسِكُ الحَجِّ. وقالَ زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ: شَعائِرُ الحَجِّ، وهي سِتٌّ: الصَّفا والمَرْوَةُ، والبُدْنُ، والجِمارُ، والمَشْعَرُ الحَرامُ، وعَرَفَةُ، والرُّكْنُ. وقالَ أيْضًا: المُحَرَّماتُ خَمْسٌ: الكَعْبَةُ الحَرامُ، والبَلَدُ الحَرامُ، والشَّهْرُ الحَرامُ، والمَسْجِدُ الحَرامُ، حَتّى يُحَلَّ. وقالَ ابْنُ الكَلْبِيِّ: كانَ عامَّةُ العَرَبِ لا يَعُدُّونَ الصَّفا والمَرْوَةَ مِنَ الشَّعائِرِ، وكانَتْ قُرَيْشٌ لا تَقِفُ بِعَرَفاتٍ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ. وقِيلَ: الأعْلامُ المَنصُوبَةُ المُتَفَرِّقَةُ بَيْنَ الحِلِّ والحَرَمِ نُهُوا أنْ يَتَجاوَزُوها إلى مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرامٍ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: هي الهَدايا تُطْعَنُ في سَنامِها وتُقَلَّدُ. قالَ: ويَدُلُّ عَلَيْهِ
﴿والبُدْنَ جَعَلْناها لَكم مِن شَعائِرِ اللَّهِ﴾ [الحج: ٣٦] وضُعِّفَ قَوْلُهُ بِأنَّهُ قَدْ عَطَفَ عَلَيْهِ والهَدْيَ والقَلائِدَ. وقِيلَ: هي ما حَرَّمَ اللَّهُ مُطْلَقًا، سَواءٌ كانَ في الإحْرامِ أوْ غَيْرِهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هي ما أُشْعِرَ؛ أيْ: جُعِلَ إشْعارًا وعَلَمًا لِلنُّسُكِ مِن مَواقِفِ الحَجِّ ومَرامِي الجِمارِ والطَّوافِ والأفْعالِ الَّتِي هي عَلاماتُ الحاجِّ، يَعْرِفُ بِها مِنَ الإحْرامِ والطَّوافِ والسَّعْيِ والحَلْقِ والنَّحْرِ. انْتَهى.
﴿ولا الشَّهْرَ الحَرامَ﴾ [المائدة: ٢] الظّاهِرُ أنَّهُ مُفْرَدٌ مَعْهُودٌ. فَقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هو شَهْرُ الحَجِّ. وقالَ عِكْرِمَةُ وقَتادَةُ: هو ذُو القَعْدَةِ مِن حَيْثُ كانَ أوَّلَ الأشْهُرِ الحُرُمِ. وقالَ الطَّبَرِيُّ وغَيْرُهُ: رَجَبٌ ويُضافُ إلى مُضَرَ لِأنَّها كانَتْ تُحَرِّمُ فِيهِ القِتالَ وتُعَظِّمُهُ، وتُزِيلُ فِيهِ السِّلاحَ والأسِنَّةَ مِنَ الرِّماحِ. وكانَتِ العَرَبُ مُجْمِعَةً عَلى تَعْظِيمِ ذِي القَعْدَةِ وذِي الحِجَّةِ، ومُخْتَلِفَةً في رَجَبٍ، فَشَدَّدَ تَعالى أمْرَهُ. فَهَذا وجْهُ التَّخْصِيصِ بِذِكْرِهِ. وقِيلَ: الشَّهْرُ مُفْرَدٌ مُحَلّى بِألِ الجِنْسِيَّةِ، فالمُرادُ بِهِ عُمُومُ الأشْهُرِ الحُرُمِ وهي: ذُو القَعْدَةِ، وذُو الحِجَّةِ، والمُحَرَّمُ، ورَجَبٌ؛ والمَعْنى: لا تُحِلُّوا بِقِتالٍ ولا غارَةٍ ولا نَهْبٍ. قالَ مُقاتِلٌ وكانَ جُنادَةُ بْنُ عَوْفٍ يَقُومُ في سُوقِ عُكاظٍ كُلَّ يَوْمٍ فَيَقُولُ: ألا إنِّي قَدْ حَلَّلْتُ كَذا وحَرَّمْتُ كَذا.
﴿ولا الهَدْيَ﴾ [المائدة: ٢] قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لا خِلافَ أنَّ الهَدْيَ ما هُدِيَ مِنَ النَّعَمِ إلى بَيْتِ اللَّهِ، وقُصِدَ بِهِ القُرْبَةُ، فَأمَرَ تَعالى أنْ لا يُسْتَحَلَّ، ولا يَغارَ عَلَيْهِ. انْتَهى. والخِلافُ عَنِ المُفَسِّرِينَ فِيهِ مَوْجُودٌ. قِيلَ: هو اسْمٌ لِما يُهْدى إلى بَيْتِ اللَّهِ مِن ناقَةٍ أوْ بَقَرَةٍ أوْ شاةٍ أوْ صَدَقَةٍ، وغَيْرِها مِنَ الذَّبائِحِ والصَّدَقاتِ. وقِيلَ: هو ما قُصِدَ بِهِ وجْهُ اللَّهِ، ومِنهُ في الحَدِيثِ: ”ثُمَّ كالمُهْدِي دَجاجَةً، ثُمَّ كالمُهْدِي بَيْضَةً“ فَسَمّى هَذِهِ هَدْيًا. وقِيلَ: الشَّعائِرُ البُدْنُ مِنَ الأنْعامِ، والهَدْيُ البَقَرُ والغَنَمُ والثِّيابُ وكُلُّ ما أُهْدِيَ؛ وقِيلَ: الشَّعائِرُ ما كانَ مُشْعَرًا بِإسالَةِ الدَّمِ مِن سَنامِهِ أوْ بِغَيْرِهِ مِنَ العَلائِمِ، والهَدْيُ ما لَمْ يُشْعَرِ اكْتُفِيَ فِيهِ بِالتَّقْلِيدِ. وقالَ مَن فَسَّرَ الشَّعائِرَ بِالمَناسِكِ: ذَكَرَ الهَدْيَ تَنْبِيهًا عَلى تَفْصِيلِها.