الباحث القرآني
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾.
﴿إِنَّا﴾ الضمير يعود على الرب عز وجل، ولم يقل: إني، تعظيمًا لشأنه جل وعلا، وتعظيمًا للمتحدَّث عنه وهو إنزال الكتاب؛ فالتعظيم هنا لعظمة المنزِّل ولعظمة المنزَل. وكذلك
﴿أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ﴾ (نا) هنا للتعظيم.
وقوله: ﴿إِلَيْكَ﴾ الخطاب للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إليه مباشرة، وإلى الناس بواسطة، كما قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾ [النساء ١٧٤]، فهو منزَّل إلى الرسول مباشرة، وإلينا بواسطة الرسول عليه الصلاة والسلام.
وقوله: ﴿الْكِتَابَ﴾ هو القرآن، وسمي بذلك لوجوه ثلاثة:
الوجه الأول: أنه مكتوب في اللوح المحفوظ.
والثاني: أنه مكتوب بأيدي الملائكة البررة، كما قال تعالى: ﴿فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (١٦)﴾ [عبس ١٢-١٦].
والوجه الثالث: أنه مكتوب بأيدي البشر؛ يكتبه الناس، وقد سهّل الله لهم ذلك، فكان يُكتب من عهد الرسول عليه الصلاة والسلام وإلى يومنا هذا.
وأصل الكَتْب من الجمع؛ لاجتماع الكلمات والحروف، ومنه: الكتيبة للطائفة المجتمعة في قتال الأعداء، و(كتاب) هنا بمعنى مكتوب؛ فهو (فِعَال) بمعنى (مَفْعُول).
﴿بِالْحَقِّ﴾ الباء هنا إما أن تكون للمصاحبة، وإما أن تكون للتعدية، وكلاهما صحيح، فهو نازل بحق ليس مكذوبًا، بل هو نزل من عند الله حقًّا، وهذا الإثبات نُزُلُه من عند الله، كذلك أيضًا هو نازل بالحق، فكل ما نزل به القرآن فهو حق إن كان خبرًا فهو صدق، وإن كان حُكمًا فهو عدل، فالحق وصف للقرآن في حد ذاته، وأنه صدق ومن عند الله، وفيما جاء به، فأخباره كلها صدق وأحكامه كلها عدل، ثم مع ذلك إذا تدبّره -القرآن- جاعلًا إياه دليلًا على الحق فإنه لا بد أن يهتدي للحق، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [القمر ١٧]، وتيسيره شامل لتيسير لفظه ومعناه والعمل به، لكن يحتاج إلى تذكُّر، إذن ﴿بِالْحَقِّ﴾ له معنيان؛ المعنى الأول؟
* طالب: (...).
* الشيخ: يعني أن ما جاء به فهو حق، إن كان خبرًا؟
* الطالب: (...).
* الشيخ: وإن كان حُكمًا؟
* الطالب: (...).
* الشيخ: طيب هذه واحدة، الثاني؟
* طالب: من عند الله عز وجل.
* الشيخ: يعني أنه نزل من عند الله حقًّا، مثل ما أقول لك مثلًا: حصل كذا بالتأكيد؛ يعني مؤكدًا، فيكون الحق هنا له معنيان:
المعنى الأول: أن نزوله من الله حق.
والمعنى الثاني: أن ما جاء به القرآن فهو حق.
قال: ﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ﴾، الخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام.
﴿لِتَحْكُمَ﴾ بأي دليل يحكم؟ بالقرآن؛ فالرسول ﷺ يستدل بالقرآن كما أننا نحن نستدل بالقرآن.
﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ﴾ تحكم بينهم في فصل الخصومات أو في بيان أحكام أعمالهم، أو هذا وهذا؟ هذا وهذا، فهو يحكم فيفصل بين الخصوم عليه الصلاة والسلام بما أراه الله، وكذلك يحكم بين الناس في أحكام أعمالهم، يقول: هذا حق، هذا باطل، هذا واجب، هذا محرّم، وما أشبه ذلك.
وقوله: ﴿بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ﴾ متعلّق بـ﴿تَحْكُمَ﴾ أي: تحكم بالذي أراك الله، و﴿أَرَاكَ اللَّهُ﴾ من الرأي أو من الرؤية، أو كلاهما؟
الظاهر كلاهما، يشمل هذا وهذا؛ فيشمل ما استنبطه النبي عليه الصلاة والسلام من القرآن، وإن لم تكن دلالته صريحة باللفظ، وهذا من الرأي، أو بما أراه الله بما تبيّن له من ألفاظ القرآن. ﴿بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ﴾ ويحتمل أن تكون الإراءة هنا بمعنى العلم؛ أي: بما أعلمك، فتشمل المعنيين.
﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ لما ذكر أن الله أنزله، أنزل عليك الكتاب بالحق، نهاه أن يكون خصيمًا للخائنين؛ أي: لذوي الخيانة، والخيانة هي الغدر في موضع الأمانة، هذه هي الخيانة؛ الغدر في موضع الأمانة، وهي صفة ذم بكل حال؛ بخلاف المكر والخديعة فإنها تكون أحيانًا مذمومة وأحيانًا محمودة، إذا كانت في موضع يحسن فيه المكر والخداع فهي محمودة، وإذا كانت في موضع لا يحسن فيه الخداع والمكر فهي مذمومة، أما الخيانة فلكونها غدرًا في موضع الاهتمام فهي مذمومة بكل حال؛ ولذلك يُوصف الله بالمكر والخداع، ولا يُوصف بالخيانة، واذكروا قول الله عز وجل: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ [النساء ١٤٢]، وقوله: ﴿فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ﴾ [الأنفال ٧١]، ولم يقل: فخانهم، وكان مقتضى المقابلة أن يقول: فخانهم، كما قال: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ [النساء ١٤٢]، لكن الخيانة لما كانت صفة ذم بكل حال صار الله تعالى منزَّهًا عنها.
﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ أي: مخاصِمًا، وهل يكون عليهم خصيمًا؟ نعم، يعني: ضدهم.
* في هذه الآية فوائد؛ منها: بيان عظمة الرب؛ لقوله: ﴿إِنَّا﴾..
منها: بيان عظمة الرب؛ لقوله: ﴿إِنَّا﴾، فإن قيل: هل تعظيم المتكلم نفسه صفة مدح أو صفة ذم؟
نقول: أما بالنسبة لله عز وجل فهي صفة مدح لا شك؛ لأنه جل وعلا هو المتكبر المتعالِ المستحق للحمد والمدح.
أما من الإنسان فهذا فيه تفصيل؛ قد يكون من المستحسَن أن تعبر عن نفسك بصيغة التعظيم إذا كان في ذلك إهانة للأعداء وبيان لمنزلتك؛ فإن التعظيم في هذا المكان أمر ممدوح، قال النبي ﷺ في مشية الخيلاء: «إِنَّهَا لَمِشْيَةٌ يُبْغِضُهَا اللَّهُ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْطِنِ»[[أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (٣ / ٢٣٣) من حديث معاوية بن معبد بن كعب بن مالك.]].
ولما كانت رسل قريش تأتي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام في صلح الحديبية كان المغيرة بن شعبة واقفًا على رأسه ومعه السيف[[أخرجه البخاري (٢٧٣٢) من حديث المسور بن مخرمة، ومروان.]]، وهذا تعظيم يُنهَى عنه، الرسول كان يأمر المصلين خلف مَن كان قاعدًا أن يصلوا قعودًا[[متفق عليه؛ البخاري (٦٨٩)، ومسلم (٤١١ / ٧٧) من حديث أنس بن مالك.]]، لكن في هذا المقام لإغاظة الأعداء كان ممدوحًا، كما أنه عليه الصلاة والسلام في تلك الحال كان إذا بصق البصاق يتلقاه الصحابة رضي الله عنهم بأيديهم يمسحون بذلك وجوههم وصدورهم، ولم يكونوا يفعلون هذا في كل حال، لكن إغاظة للكفار، وكانوا يقتتلون على وَضُوئِهِ.
وقد أثَّر هذا في رسول قريش، لما رجع إلى قريش ماذا قال؟ قال: دخلت على الملوك وكسرى وقيصر والنجاشي فلم أرَ أحدًا يعظمه أصحابه مثلما يعظم أصحاب محمد محمدًا[[أخرجه البخاري (٢٧٣٢) من حديث المسور بن مخرمة، ومروان.]]، عليه الصلاة والسلام، وكان لها تأثير، المهم أن من التواضع أن يذكر الإنسان نفسه بصيغة المفرد، لكن في مقام ينبغي فيه أن يكون معظِّمًا لنفسه معتدًّا بشخصه فإنه ينبغي أن يذكر اللفظ الدال على التعظيم.
* ومن فوائد الآية: علُوّ الله عز وجل؛ لقوله: ﴿أَنْزَلْنَا﴾، والنزول لا يكون إلا من علو، والقرآن كلام الله، فإذا كان القرآن نازلًا لزم أن يكون المتكلم به عاليًا.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن القرآن كلام الله غير مخلوق؛ لقوله: ﴿أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ﴾.
فإذا قال قائل: هذا الاستدلال ممنوع؛ لأن الله قال سبحانه وتعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾ [الفرقان ٤٨]، وقال: ﴿وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ [الزمر ٦]، وقال: ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾ [الحديد ٢٥]، وكل هذه مخلوقة، فلا يلزم من إنزال الله شيئًا أن يكون غير مخلوق؟
فالجواب أن يقال: هذه أعيان قائمة بنفسها منفصلة عن مُنْزِلها، أليس كذلك؟
* الطلبة: بلى.
* الشيخ: بلى، أما القرآن فهو كلام، والكلام ليس عينًا قائمة بنفسها، بل هو وصف للمتكلم، فإذا كان الله أنزله لزم أن يكون الله فوق، وبهذا بطلت شبهة الجهمية والمعتزلة الذين يقولون بخلق القرآن.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: المنْقَبَة العظيمة لمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لقوله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ [النساء ١٠٥].
* ومن فوائدها: جواز كتابة القرآن، وهذا أمر متفَّق عليه بين الأمة، بل قد تكون كتابته واجبة، ولكن على أي وجه يُكتب؟ أبالحروف اللاتينية، أم بالحروف العربية، وبالخط الكوفي، أو الخط الفارسي، أو بأي شيء؟
أحسن ما يُكتب به أن يكون على الحرف العثماني، هذا أحسن ما يكون، لكن هل يجوز أن يُكتب على غير هذا الوجه بالقواعد المعروفة عند الناس، مثل (الصلاة) نكتبها لام ألف بعدها هاء، الزكاة كذلك؟ أو أن نكتبها على الخط العثماني؟
للعلماء في ذلك قولان، بل ثلاثة:
الأول: أنه يجب أن يُكتب بالخط العثماني، وإن خالف القواعد المعروفة العرفية.
والثاني: يجب أن يُكتب حسب القواعد العرفية حتى لا يخفى على العامة؛ لأن العامة لولا أنهم يتلقون الزكاة من أفواه العلماء بهذا اللفظ لنطقوا بها حسب الكتابة أيش؟ (الزكوة)، وكذلك (...) وأمثاله، فيجب أن يُكتب بالخط العُرفي حتى لا يشتبه على الناس.
والقول الثالث: التفصيل؛ إذا كان المقصود التعليم فليُكتب بالخط العرفي؛ لأنه أقرب، وإذا كان المقصود التلاوة ونحن نتكلم أو نكتب لقوم يعرفون القرآن تلاوةً فيكون بالخط العثماني، ولم نرَ أحدًا جَوَّز أن يُكتب القرآن بشكل قصور أو سيارات، أو مثلًا إذا كتب (والطير) كتبها بصورة طائر، (الجبال) يكتبها بصورة جبل، ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ [القلم ١] يكتبها بصورة نون، هذا ما رأينا أحدًا فعله، وهو إلى الاستهزاء بكتاب الله أقرب منه إلى التعظيم، والتعظيم له حدود، لا بد أن يكون بالحدود الشرعية.
أرأيت لو قال قائل: أنا أريد أن أقدِّس الكتاب العزيز وأحمله في جيبي حتى في موضع قضاء الحاجة؛ لأني أنا أحب القرآن، خلُّوه معي دائمًا، ماذا يكون؟ يصح هذا ولّا ما يصح؟ لا يصح؛ لأن التعظيم في حدود، تكتب مثلًا على جدرانك: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١) اللَّهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص ١-٤] ما تقدر تقرؤها، إذا رآها الإنسان ما يقدر يقرؤها؛ لأنها مرسومة على شكل قصر، وربما تُكتب على شكل البيت الذي كُتبت في مجلسه، هذا لا يُقِرُّه عاقل.
لكن مع الأسف أن الناس الآن صاروا يتعبدون لله تعالى على غير بصيرة، ولا أظن إن شاء الله أن الحامل لهم على هذا امتهان القرآن، ولكن الحامل لهم على هذا محبة القرآن بما نظنه، والعلم عند الله، لكنهم أخطؤوا الطريق، وكم من إنسان أراد خيرًا لكن أخطأ في المنهج والمسير الموصِل إلى هذا الخير.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: وصف القرآن بما لا يدع مجالًا للشك أن التمسك به هو الخير للأمة؛ لقوله: ﴿بِالْحَقِّ﴾، فإذا أرادت الأمة العز والتمكين والنصر فلتكن قائمة بالقرآن الكريم؛ لأن القرآن نزل بالحق.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: إثبات العلل في أفعال الله الشرعية، والكونية، من أين تؤخذ؟ من قوله: ﴿لِتَحْكُمَ﴾؛ لأن اللام للتعليل، ولا شك أن تعليل أحكام الله عز وجل ثابتة ثبوتًا قطعيًّا لا إشكال فيه، وأنها من تمام صفاته.
وقد أنكر قوم أن يكون فعل الله تعالى أو حكمه لحكمة، وقالوا: إن أفعال الله ما لها حكمة؛ لأنه لا يُسأل عما يفعل، وهم يُسألون، ولأنه يفعل لمجرد مشيئة.
لكنهم أخطؤوا؛ أخطؤوا باستدلالهم، وأخطؤوا بحكمهم؛ لأننا لو رفعنا الحكمة عن أفعال الله وأحكامه لكانت أحكامه وأفعاله: لعبًا، ولهوًا، ولغوًا، والله عز وجل يقول: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾ [ص ٢٧]، ويقول عز وجل: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (٣٨) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الدخان ٣٨، ٣٩]، ويقول جل وعلا: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون ١١٥]، ويقول تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ [القيامة ٣٦]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الأفعال بلا حكمة لعب، ولهو، وسُدى، وعبث.
والغريب استدلالهم بالآية ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ﴾ [الأنبياء ٢٣]، أيضًا الآية دليل عليهم؛ لأنه لا يُسأل عما يفعل؛ لكمال حكمته، أفعاله كلها ما تحتاج إلى سؤال، معروف حكمتها واضحة، وقد تخفى علينا، لكن هذا هو الأصل، أما نحن فنُسأل.
وأما تعليلهم بأنه لو كان يفعل لحكمة لكانت أفعاله واجبة؛ لأن الحكيم يجب أن يَتْبَع ما تقتضيه الحكمة، فنقول: وليكن ذلك، وليكن هذا، لكن من الذي أوجب عليه هذه الأفعال؟ هو الله، ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنعام ٥٤] ﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى﴾ [الليل ١٢]، التزم الله بالهدى والبيان للناس، وأما الملك فقال: ﴿وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالْأُولَى﴾ [الليل ١٣].
* طالب: قلنا يا شيخ: الإنسان إذا فعل الحسنة فليغلِّب الرجاء، وإذا همَّ بالسيئة يغلب الخوف (...)؟
* الشيخ: كيف؟
* الطالب: (...).
* الشيخ: الإنسان حارث وهمام، كل إنسان حارث وهمام، لا بد أن يكون لك همة، ما يمكن الإنسان يجد من دون همة أبدًا.
* طالب: شيخ، حتى هذه المرات ما يكون لا عمل حسنة، ولا سيئة.
* الشيخ: ويش يزود؟
* الطالب: هل يغلِّب الرجاء هنا أم يساوي بينهم.
* الشيخ: لا بد بينظر، إذا كان عاقلًا بيحاسب نفسه، بينظر أيهما أكثر؛ حسناته أو سيئاته؟ لأنه حتى في حال الغفلة التي ذكرت سيكون غافلًا حتى عن الرجاء والخوف.
* طالب: هل نقول يا شيخ: إن الغاية الأولى من إنزال الكتاب على النبي ﷺ هي الحكم بين الناس؟
* الشيخ: لا؛ لأن هذا توطئة لما سيأتي، ولهذا قال: ﴿لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ﴾، ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص ٢٩]، لكن هذه توطئة لما سيأتي.
* طالب: إذا قلنا: تعدد غايات؟
* الشيخ: على كل حال، إذا قلنا: ﴿لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ﴾ [ص ٢٩] فإذا تدبروا آياته من جملة ذلك أن يحكموا بما تدبروه.
* طالب: بعض الآيات يأتي فيها الخطاب للمتكلم، مثل قوله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا﴾ [النساء ١٠٥]، وبعض الآيات يكون فيها للغائب ﴿قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ﴾ [المائدة ١١٥]، مما يجعل النصارى وغيرهم (...)؟
* الشيخ: لا أبدًا، هذا من بلاغة القرآن؛ لأن صيغة الخطاب بصيغة الغائب من المتكلم غالبًا تكون للعودة، كأن يقول الملك: الملك يأمر بكذا وكذا، وأيضًا موجود الآن في المراسم الملكية: نحن فلان بن فلان، ويكتب.
* طالب: أحسن الله إليك، إذا ذُكِرَ مثلًا، يعني النبي ﷺ، على صيغة الضمير ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ﴾، أو مثلًا: وأن احكم بينهم بما أراك الله.
* الشيخ: ﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ﴾ [النساء ١٠٥].
* الطالب: نعم، ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ [المائدة ٤٩] هل تتأكد الصلاة عليه من السامع كما تتأكد فيما لو ذُكِرَ مضمرًا، وهل يشمله..؟
* الشيخ: الظاهر أن المراد الاسم إذا ذُكِر اسمه، أما الضمير فلا أظن كذلك.
* طالب: شيخ، عفا الله عنك، هل نأخذ من هذه الآية ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ﴾، أن الأصل في أعمال النبي ﷺ الاجتهاد؟
* الشيخ: ما وصلنا لها.
* طالب: بعض الناس يقول يا شيخ: ألم تسمع الله إذ يقول؟ ما سمع الله يا شيخ.
* الشيخ: إي نعم، هذا من باب التجوُّز، مثل: ألم تر الله يقول كذا وكذا؟ (...)
* * *
* طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ﴿وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (١٠٦) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا﴾ [النساء ١٠٦، ١٠٧].
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم،لم نكمل فوائد الآية السابقة، وهي قوله تعالى: ﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ﴾.
* ففيها فوائد، منها: تفويض الأمر إلى النبي ﷺ في الحكم بين الناس بما أراه الله.
* ويتفرع على هذه الفائدة: أن له أن يجتهد، وهو كذلك، ثم إن لم يكن اجتهاده موافقًا للواقع فلا شيء عليه، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: «إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِيَ لَهُ بِنَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَإِنَّمَا أَقْتَطِعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ، فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٦٨٠)، ومسلم (١٧١٣ / ٤)، من حديث أم سلمة، دون قوله:«فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ».]].
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: نهي النبي ﷺ أن يكون مخاصِمًا للخائنين؛ لقوله: ﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾.
* ويتفرع على ذلك: أنه لا يحل للمحامين أن يتولوا مهنة المحاماة من أجل الانتصار لمن وَكَّلَهُم، لا للحق، كما هو شأن كثير من المحامين اليوم؛ تجده يحامي عن الشخص في المخاصمات لا من أجل أن يصل إليه الحق، ولكن من أجل أن يغلب فيُعطَى ما شُرِطَ له.
* ومن فوائد هذه الآية: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يعلم الغيب، وهذا يُعلم بسبب نزول الآية، وسبب نزول الآية أظن أنّا قلنا لكم؟ لا، طيب؛ «أن رجلًا من الأنصار قيل: إنه منافق -والله أعلم- سرق درعًا وأخفاه، ولما علم أن الناس علموا بذلك حمله ووضعه في بيت رجل آخر، قيل: إنه يهودي، وقيل: غير يهودي، من أجل أن يُتَّهم هذا الذي جُعِل في بيته، ولما أحسَّ قومه بأن الأمر بلغ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقالوا: إن صاحبنالم يسرق، وإنما السارق غيره، يريدون أن يبرئه النبي ﷺ من ذلك حتى يَبْرَأ؛ لأنهم قالوا له: إن لم تُبَرِّئه فإن الناس سوف يتكلمون فيه، لكن إذا جاءت براءته من عندك أسكتت الناس، فهَمَّ النبي ﷺ بذلك؛ لثقته بأصحابه، وعدم ثقته باليهود، على قول أكثر المفسرين أنه -أي الذي وُضِعت في بيته هذه السرقة- كان يهوديًّا، فأنزل الله عليه هذه الآيات»[[أخرجه الترمذي في (٣٠٣٦) من حديث قتادة بن النعمان.]]، ولهذا قال: ﴿لَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾، ومعنى ﴿خَصِيمًا﴾ أي: مخاصِمًا لهم، و(فَعِيل) تأتي بمعنى (مُفْعِل)، مثل قول الشاعر: ؎أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ ∗∗∗ يُؤَرِّقُنِي وَأَصْحَابِي هُجُوعُالسميع بمعنى الْمُسْمِع.
{"ayah":"إِنَّاۤ أَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِتَحۡكُمَ بَیۡنَ ٱلنَّاسِ بِمَاۤ أَرَىٰكَ ٱللَّهُۚ وَلَا تَكُن لِّلۡخَاۤىِٕنِینَ خَصِیمࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق