الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِما أراكَ اللَّهُ﴾ الآيَةَ. فِيهِ إخْبارٌ أنَّهُ أنْزَلَ الكِتابَ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِما عَرَّفَهُ اللَّهُ مِنَ الأحْكامِ والتَّعَبُّدِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيمًا﴾ رُوِيَ أنَّهُ نَزَلَ في رِجْلٍ سَرَقَ دِرْعًا، فَلَمّا خافَ أنْ تَظْهَرَ عَلَيْهِ رَمى بِها في دارِ يَهُودِيٍّ، فَلَمّا وُجِدَتِ الدِّرْعُ أنْكَرَ اليَهُودِيُّ أنْ يَكُونَ أخَذَها، وذَكَرَ السّارِقُ أنَّ اليَهُودِيَّ أخَذَها، فَأعانَ قَوْمٌ مِنَ المُسْلِمِينَ هَذا الآخِذَ عَلى اليَهُودِيِّ، فَمالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلى قَوْلِهِمْ، فَأطْلَعَهُ اللَّهُ عَلى الآخِذِ وبَرَّأ اليَهُودِيَّ مِنهُ ونَهاهُ عَنْ مُخاصَمَةِ اليَهُودِيِّ وأمَرَهُ بِالِاسْتِغْفارِ مِمّا كانَ مِنهُ مِن مُعاوَنَتِهِ الَّذِينَ كانُوا يَتَكَلَّمُونَ عَنِ السّارِقِ. وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ لِأحَدٍ أنْ يُخاصِمَ عَنْ غَيْرِهِ في إثْباتِ حَقٍّ أوْ نَفْيِهِ وهو غَيْرُ عالِمٍ بِحَقِيقَةِ أمْرِهِ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ عاتَبَ نَبِيَّهُ عَلى مِثْلِهِ وأمَرَهُ بِالِاسْتِغْفارِ مِنهُ. وهَذِهِ الآيَةُ وما بَعْدَها مِنَ النَّهْيِ عَنِ المُجادَلَةِ عَنِ الخَوَنَةِ إلى آخِرِ ما ذُكِرَ كُلُّهُ تَأْكِيدٌ لِلنَّهْيِ عَنْ مَعُونَةِ مَن لا يَعْلَمُهُ حِقًّا. * * * وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِما أراكَ اللَّهُ﴾ رُبَّما احْتَجَّ (p-٢٦٥)بِهِ مَن يَقُولُ إنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَكُنْ يَقُولُ شَيْئًا مِن طَرِيقِ الِاجْتِهادِ، وإنَّ أقْوالَهُ وأفْعالَهُ كُلَّها كانَتْ تَصْدُرُ عَنِ النُّصُوصِ، وإنَّهُ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما يَنْطِقُ عَنِ الهَوى﴾ [النجم: ٣] ﴿إنْ هو إلا وحْيٌ يُوحى﴾ [النجم: ٤] ولَيْسَ في الآيَتَيْنِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَكُنْ يَقُولُ شَيْئًا مِن طَرِيقِ الِاجْتِهادِ وذَلِكَ؛ لِأنّا نَقُولُ: إنَّ ما صَدَرَ عَنِ اجْتِهادٍ فَهو مِمّا أراهُ اللَّهُ وعَرَّفَهُ إيّاهُ ومِمّا أوْحى بِهِ إلَيْهِ أنْ يَفْعَلَهُ، فَلَيْسَ في الآيَةِ دَلالَةٌ عَلى نَفْيِ الِاجْتِهادِ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ في الأحْكامِ. وقَدْ قِيلَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيمًا﴾ إنَّهُ جائِزٌ أنْ يَكُونَ النَّبِيُّ ﷺ دَفَعَ عَنْهم، وجائِزٌ أنْ يَكُونَ هَمَّ بِالدَّفْعِ عَنْهم مَيْلًا مِنهُ إلى المُسْلِمِينَ دُونَ اليَهُودِيِّ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ أنَّهم غَيْرُ مُحِقِّينَ؛ وإذا كانَ ظاهِرُ الحالِ وُجُودَ الدِّرْعِ عِنْدَ اليَهُودِيِّ فَكانَ اليَهُودِيُّ أوْلى بِالتُّهْمَةِ والمُسْلِمُ أوْلى بِبَراءَةِ السّاحَةِ، فَأمَرَهُ اللَّهُ تَعالى بِتَرْكِ المَيْلِ إلى أحَدِ الخَصْمَيْنِ والدَّفْعِ عَنْهُ وإنْ كانَ مُسْلِمًا والآخَرُ يَهُودِيًّا، فَصارَ ذَلِكَ أصْلًا في أنَّ الحاكِمَ لا يَكُونُ لَهُ مَيْلٌ إلى أحَدِ الخَصْمَيْنِ عَلى الآخَرِ وإنْ كانَ أحَدُهُما ذا حُرْمَةٍ لَهُ والآخَرُ عَلى خِلافِهِ. وهَذا يَدُلُّ أيْضًا عَلى أنَّ وُجُودَ السَّرِقَةِ في يَدِ إنْسانٍ لا يُوجِبُ الحُكْمَ عَلَيْهِ بِها؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى نَهاهُ عَنِ الحُكْمِ عَلى اليَهُودِيِّ بِوُجُودِ السَّرِقَةِ عِنْدَهُ؛ إذْ كانَ جاحِدًا أنْ يَكُونَ هو الآخِذَ. ولَيْسَ ذَلِكَ مِثْلَ ما فَعَلَهُ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلامُ حِينَ جَعَلَ الصّاعَ في رَحْلِ أخِيهِ، ثُمَّ أخَذَهُ بِالصّاعِ واحْتَبَسَهُ عِنْدَهُ؛ لِأنَّهُ إنَّما حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِما كانَ عِنْدَهم أنَّهُ جائِزٌ، وكانُوا يَسْتَرِقُّونَ السّارِقَ، فاحْتَبَسَهُ عِنْدَهُ؛ وكانَ لَهُ أنْ يَتَوَصَّلَ إلى ذَلِكَ ولَمْ يَسْتَرِقَّهُ، ولا قالَ إنَّهُ سَرَقَ، وإنَّما قالَ ذَلِكَ رَجُلٌ غَيْرُهُ ظَنَّهُ سارِقًا. وقَدْ نَهى اللَّهُ عَنِ الحُكْمِ بِالظَّنِّ والهَوى بِقَوْلِهِ: ﴿اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ﴾ [الحجرات: ١٢] وقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إيّاكم والظَّنَّ فَإنَّهُ أكْذَبُ الحَدِيثِ» . وقَوْلُهُ: ﴿ولا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيمًا﴾ وقَوْلُهُ: ﴿ولا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أنْفُسَهُمْ﴾ [النساء: ١٠٧] جائِزٌ أنْ يَكُونَ صادَفَ مَيْلًا مِنَ النَّبِيِّ ﷺ عَلى اليَهُودِيِّ بِوُجُودِ الدِّرْعِ المَسْرُوقَةِ في دارِهِ، وجائِزٌ أنْ يَكُونَ هَمَّ بِذَلِكَ، فَأعْلَمَهُ اللَّهُ بَراءَةَ ساحَةِ اليَهُودِيِّ ونَهاهُ عَنْ مُجادَلَتِهِ عَنِ المُسْلِمِينَ الَّذِينَ كانُوا يُجادِلُونَ عَنِ السّارِقِ. وقَدْ كانَتْ هَذِهِ الطّائِفَةُ شاهِدَةً لِلْخائِنِ بِالبَراءَةِ سائِلَةً لِلنَّبِيِّ ﷺ أنْ يَقُومَ بِعُذْرِهِ في أصْحابِهِ وأنْ يُنْكِرَ ذَلِكَ عَلى مَنِ ادَّعى عَلَيْهِ، فَجائِزٌ أنْ يَكُونَ النَّبِيُّ ﷺ أظْهَرَ مُعاوَنَتَهُ لِما ظَهَرَ مِن هَذِهِ الطّائِفَةِ مِنَ الشَّهادَةِ بِبَراءَتِهِ وأنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ يُتَّهَمُ بِمِثْلِهِ، فَأعْلَمَهُ اللَّهُ باطِنَ أُمُورِهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿ولَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ ورَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنهم أنْ يُضِلُّوكَ﴾ [النساء: ١١٣] بِمَسْألَتِهِمْ مَعُونَةَ هَذا الخائِنِ. وقَدْ قِيلَ (p-٢٦٦)إنَّ هَذِهِ الطّائِفَةَ الَّتِي سَألَتِ النَّبِيَّ ﷺ ذَلِكَ وأعانُوا الخائِنَ كانُوا مُسْلِمِينَ ولَمْ يَكُونُوا أيْضًا عَلى يَقِينٍ مِن أمْرِ الخائِنِ وسَرِقَتِهِ، ولَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمُ الحُكْمُ جائِزًا عَلى اليَهُودِيِّ بِالسَّرِقَةِ لِأجْلِ وُجُودِ الدِّرْعِ في دارِهِ فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ الحُكْمُ عَلى ظاهِرِ الحالِ ضَلالًا إذا كانَ في الباطِنِ خِلافُهُ، وإنَّما عَلى الحاكِمِ الحُكْمُ بِالظّاهِرِ دُونَ الباطِنِ ؟ قِيلَ لَهُ: لا يَكُونُ الحُكْمُ بِظاهِرِ الحالِ ضَلالًا وإنَّما الضَّلالُ إبْراءُ الخائِنِ مِن غَيْرِ حَقِيقَةِ عِلْمٍ، فَإنَّما اجْتَهَدُوا أنْ يُضِلُّوهُ عَنْ هَذا المَعْنى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب