يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿إِنّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ أَيْ: هُوَ حَقٌّ مِنَ اللَّهِ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ الْحَقَّ فِي خَبَرِهِ وَطَلَبِهِ.
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ﴾ احْتَجَّ بِهِ مَنْ ذَهَبَ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ إِلَى أَنَّهُ كَانَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِالِاجْتِهَادِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَبِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَة، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم سمع حَلَبَةَ خَصْمٍ بِبَابِ حُجْرَتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: "أَلَا إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ، وَلَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِي لَهُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنْ نَارٍ فَلْيَحْمِلَهَا [[في أ: "فليأخذها".]] أَوْ لِيَذَرْهَا" [[صحيح البخاري برقم (٢٤٥٨) وصحيح مسلم برقم (١٧١٣) .]] .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيع، حَدَّثَنَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: جَاءَ رَجُلَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ يَخْتَصِمَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي مَوَارِيثَ بَيْنَهُمَا قَدْ دَرَسَتْ، لَيْسَ عِنْدَهُمَا [[في أ: "بينهما".]] بَيِّنَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ ألْحَن بحُجَّتِه مِنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ، يَأْتِي بِهَا إِسْطَامًا فِي عُنُقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". فَبَكَى الرَّجُلَانِ وَقَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا: حَقِّي لِأَخِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَمَّا إِذَا قُلْتُمَا فَاذْهَبَا فَاقْتَسِمَا، ثُمَّ تَوَخَّيَا الْحَقَّ، ثُمَّ اسْتَهِمَا، ثُمَّ ليُحْللْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا [[في أ: "كل منهما".]] صَاحِبَهُ".
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، بِهِ. وَزَادَ: "إِنِّي إِنَّمَا أَقْضِي بينكما برأي فيما لم يَنْزِلْ عَلَيَّ فِيهِ" [[المسند (٦/٣٢٠) وسنن أبي داود برقم (٣٥٨٤) .]] .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَرْدُويه، مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ نَفَرًا مِنَ الْأَنْصَارِ غَزَوْا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ، فَسُرِقَتْ دِرْعٌ لِأَحَدِهِمْ، فَأُظِنَّ بِهَا رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَأَتَى صَاحِبُ الدِّرْعِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: إِنْ طُعْمةَ بْنَ أُبَيْرق سَرَقَ دِرْعِي، فَلَمَّا رَأَى السَّارِقُ [[في ر: "البارق".]] ذَلِكَ عَمَدَ إِلَيْهَا فَأَلْقَاهَا فِي بَيْتِ رَجُلٍ بَرِيءٍ، وَقَالَ لِنَفَرٍ مِنْ عَشِيرَتِهِ: إِنِّي غَيَّبْتُ الدِّرْعَ وَأَلْقَيْتُهَا فِي بَيْتِ فُلَانٍ، وَسَتُوجَدُ عِنْدَهُ. فَانْطَلِقُوا إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ ﷺ لَيْلًا فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّ صَاحِبَنَا بَرِيءٌ. وَإِنَّ صَاحِبَ الدِّرْعِ فُلَانٌ، وَقَدْ أحطنا بذلك علما، فاعذُرْ صاحبنا على رءوس النَّاسِ وَجَادِلْ عَنْهُ. فَإِنَّهُ إِلَّا [[في د: "إن لم".]] يَعْصِمْهُ اللَّهُ بِكَ يَهْلِكْ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فبرأه وعذرَه على رءوس النَّاسِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿إِنَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا [[في ر: "وأنزل الله الذكر في الكتاب".]] ﴾ [يَقُولُ: احْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فِي الْكِتَابِ] [[زيادة من أ.]] ﴿وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا. وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ [إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا] [[زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".]] ﴾ ثُمَّ قَالَ لِلَّذِينِ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مُسْتَخْفين بِالْكَذِبِ: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ [وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا. هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا] [[زيادة من ر، أ، و، وفي هـ: "الآيتين".]] ﴾ يَعْنِي: الَّذِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مُسْتَخْفِينَ يُجَادِلُونَ عَنِ الْخَائِنِينَ ثُمَّ قَالَ: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ [ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا] [[زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".]] ﴾ يَعْنِي: الَّذِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مُسْتَخْفِينَ بِالْكَذِبِ، ثُمَّ قَالَ: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ يَعْنِي: السَّارِقَ وَالَّذِينَ جَادَلُوا عَنِ السَّارِقِ. وَهَذَا سِيَاقٌ غَرِيبٌ [[ورواه الطبري في تفسيره (٩/١٨٣) وإسناده مسلسل بالضعفاء كما تقدم.]] وَكَذَا [[في أ: "وهكذا".]] ذَكَرَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا أُنْزِلَتْ [[في ر: "أن هذه الآية نزلت".]] فِي سَارِقِ بَنِي أُبَيْرِقٍ عَلَى اخْتِلَافِ سِيَاقَاتِهِمْ، وَهِيَ مُتَقَارِبَةٌ.
وَقَدْ رَوَى هَذِهِ الْقِصَّةَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ مُطَوَّلَةً، فَقَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَنْ جَامِعِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ:
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي شُعَيْبٍ أَبُو مُسْلِمٍ الحرَّاني، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الحرَّاني، حَدَّثَنَا محمد بن إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَر بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَتَادة بْنِ النُّعْمَانِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ أَهْلُ بَيْتٍ مِنَّا يُقَالُ لَهُمْ بَنُو أُبَيْرق: بِشْر وَبُشَيْرٌ ومُبَشّر، وَكَانَ بُشَير رَجُلًا مُنَافِقًا، يَقُولُ [[في أ: "منافقا فكان يقول".]] الشِّعْرَ يَهْجُو بِهِ أَصْحَابَ النَّبِيِّ ﷺ، ثُمَّ يُنْحِلُهُ بَعْضَ الْعَرَبِ، ثُمَّ يَقُولُ: قَالَ فُلَانٌ كَذَا وَكَذَا، وَقَالَ فُلَانٌ كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا سَمِعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ذَلِكَ الشِّعْرَ قَالُوا: وَاللَّهِ مَا يَقُولُ هَذَا الشِّعْرَ إِلَّا هَذَا الْخَبِيثُ؟ -أَوْ كَمَا قَالَ الرَّجُلُ -وَقَالُوا [[في أ: "وقال".]] ابْنُ الْأُبَيْرِقِ قَالَهَا. قَالُوا: وَكَانُوا أَهْلَ بَيْتِ حَاجَةٍ وَفَاقَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، وَكَانَ النَّاسُ إِنَّمَا طَعَامُهُمْ بِالْمَدِينَةِ التَّمْرُ وَالشَّعِيرُ، وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا كَانَ لَهُ يَسَارٌ فَقَدِمَتْ ضَافِطَةٌ [[في د: "غير"، وفي ر: "صافطة".]] مِنَ الشَّامِ مِنَ الدَّرْمَك ابْتَاعَ الرَّجُلُ مِنْهَا فَخَصَّ بِهَا نَفْسَهُ، وَأَمَّا الْعِيَالُ فَإِنَّمَا طَعَامُهُمُ التَّمْرُ وَالشَّعِيرُ، فَقَدِمَتْ ضَافطة [[في د: "غير"، وفي ر: "صافطة".]] مِنَ الشَّامِ، فَابْتَاعَ عَمِّي رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ حِمْلًا مِنَ الدَّرْمَكِ فَحَطَّهُ فِي مَشْربة لَهُ، وَفِي الْمَشْرَبَةِ سِلَاحٌ: دِرْعٌ وَسَيْفٌ، فَعُدى عَلَيْهِ مِنْ تَحْتِ الْبَيْتِ، فَنقّبت الْمَشْرَبَةُ وَأُخِذَ الطَّعَامُ وَالسِّلَاحُ. فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَانِي عَمِّي رِفَاعَةُ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، إِنَّهُ قَدْ عُدِيَ عَلَيْنَا فِي لَيْلَتِنَا هَذِهِ. فَنُقِبَتْ مَشْرَبَتُنَا وَذُهِبَ بِطَعَامِنَا وَسِلَاحِنَا. قَالَ: فَتَجَسَّسْنَا فِي الدَّارِ وَسَأَلْنَا، فَقِيلَ لَنَا: قَدْ رَأَيْنَا بَنِي أُبَيْرق اسْتَوْقَدُوا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وَلَا نَرَى فِيمَا نَرَى إِلَّا عَلَى بَعْضِ طَعَامِكُمْ.
قَالَ: وَكَانَ بَنُو أُبَيْرِقٍ قَالُوا -وَنَحْنُ نَسْأَلُ فِي الدَّارِ -: وَاللَّهِ مَا نَرَى صَاحِبَكُمْ إِلَّا لَبِيد بْنَ سَهْلٍ رَجُلًا مِنَّا لَهُ صَلَاحٌ وَإِسْلَامٌ. فَلَمَّا سَمِعَ لَبِيدٌ اخْتَرَطَ سَيْفَهُ وَقَالَ: أَنَا أَسْرِقُ؟ وَاللَّهِ [[في أ: "فوالله".]] لَيُخَالِطَنَّكُمْ هَذَا السَّيْفُ، أَوْ لَتُبَيِّنُنَّ هَذِهِ السَّرِقَةَ. قَالُوا: إِلَيْكَ عَنَّا أَيُّهَا الرَّجُلُ، فَمَا أَنْتَ بِصَاحِبِهَا. فَسَأَلْنَا فِي الدَّارِ حَتَّى لَمْ نَشُكَّ أَنَّهُمْ أَصْحَابُهَا.
فَقَالَ لِي عَمِّي: يَا ابْنَ أَخِي، لَوْ أتيتَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَذَكَرْتَ ذَلِكَ لَهُ. قَالَ قَتَادَةُ: فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَلْتُ: إِنَّ أَهْلَ بَيْتٍ مِنَّا أَهَّلُ جَفَاءٍ عَمَدُوا إِلَى عَمِّي رِفَاعَةَ بْنِ زَيْدٍ، فنَقَبوا مُشْرَبَةً لَهُ، وَأَخَذُوا سِلَاحَهُ وَطَعَامَهُ. فَلْيردوا عَلَيْنَا سِلَاحَنَا، فَأَمَّا الطَّعَامُ فَلَا حَاجَةَ لَنَا فِيهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ [[في د: "رسول الله".]] ﷺ "سآمُرُ فِي ذَلِكَ".
فَلَمَّا سَمِعَ بَنُو أُبَيْرق أَتَوْا رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: أُسَير بْنُ عمْرو [[في د، أ: "ابن عروة".]] فَكَلَّمُوهُ فِي ذَلِكَ، فَاجْتَمَعَ فِي ذَلِكَ أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ قَتَادَةَ [[في أ: "قدادة".]] بْنَ النُّعْمَانِ وَعَمَّهُ عَمِدَا إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ مِنَّا أَهْلِ إِسْلَامٍ وَصَلَاحٍ، يَرْمُونَهُمْ بِالسَّرِقَةِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا ثَبْتٍ. قَالَ قَتَادَةُ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَكَلَّمْتُهُ، فَقَالَ: "عَمَدْتَ إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ ذُكر مِنْهُمْ إِسْلَامٌ وَصَلَاحٌ، تَرْمِيهِمْ بِالسَّرِقَةِ عَلَى غَيْرِ ثَبَت وَلَا بَيِّنَةٍ؟ [[في أ: "ثبت وبينة".]] ؟
قَالَ: فَرَجَعْتُ ولَوَدِدت أَنِّي خَرَجْتُ مِنْ بَعْضِ مَالِي، وَلَمْ أُكَلِّمْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِي ذَلِكَ، فَأَتَانِي عَمِّي رِفَاعَةُ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، مَا صَنَعْتَ؟ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. فَلَمْ نَلْبَثْ أَنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ: ﴿إِنَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ بَنِي أُبَيْرِقٍ ﴿وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ﴾ مِمَّا قُلْتَ لِقَتَادَةَ ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا. وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ [إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا. يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ] [[زيادة من ر، أ.]] ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿رَحِيمًا﴾ أَيْ: لَوِ اسْتَغْفَرُوا اللَّهَ لَغَفَرَ لَهُمْ ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿إِثْمًا مُبِينًا﴾ قَوْلُهُمْ لِلَبِيدٍ: ﴿وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾
فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ أَتَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالسِّلَاحِ فردَّه إِلَى رِفَاعَةَ.
فَقَالَ قَتَادَةُ: لَمَّا أَتَيْتُ عَمِّي بِالسِّلَاحِ وَكَانَ شَيْخًا، قَدْ عَشَا أَوْ عَسَا -الشَّكُّ مِنْ أَبِي عِيسَى -فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكُنْتُ أَرَى إِسْلَامَهُ مَدْخُولًا فَلَمَّا أَتَيْتُهُ بِالسِّلَاحِ قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، هُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَعَرَفْتُ أَنَّ إِسْلَامَهُ كَانَ صَحِيحًا، فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ لَحِقَ بُشَيرٌ بِالْمُشْرِكِينَ، فَنَزَلَ عَلَى سُلافةَ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ سُمَية، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا. إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا﴾ فَلَمَّا نَزَلَ عَلَى سُلَافَةَ رَمَاهَا حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ بِأَبْيَاتٍ مِنْ [[في ر: "في".]] شِعْرِهِ، فَأَخَذَتْ رَحْلَهُ فَوَضَعَتْهُ عَلَى رَأْسِهَا، ثُمَّ خَرَجَتْ بِهِ فَرَمَتْ بِهِ فِي الْأَبْطَحِ، ثُمَّ قَالَتْ: أهديتَ لِي شِعْر حَسَّانَ؟ مَا كنتَ تَأْتِينِي بِخَيْرٍ.
لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ، ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَسْنَدَهُ غَيْرَ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ الْحَرَّانِيِّ: وَرَوَى يُونُسُ بْنُ بُكَير وَغَيْرُ وَاحِدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَر بْنِ قَتَادَةَ مُرْسَلًا لَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ عَنْ [[في أ: "غير".]] أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ.
وَرَوَاهُ ابْنُ حَاتِمٍ عَنْ هَاشِمِ بْنِ الْقَاسِمِ الْحَرَّانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ، بِهِ بِبَعْضِهِ.
وَرَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ -يَعْنِي الصَّائِغَ -حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أحمد ابن أَبِي شُعَيْبٍ الْحَرَّانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ -فَذَكَرَهُ بِطُولِهِ.
وَرَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ أَيُّوبَ وَالْحَسَنِ بْنِ يَعْقُوبَ، كِلَاهُمَا عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أحمد بن أبي شعيب الحراني، عن محمد بْنِ سَلَمَةَ، بِهِ. ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ: سَمِعَ مِنِّي هَذَا الْحَدِيثَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِسْرَائِيلَ [[سنن الترمذي برقم (٣٠٣٦) وتفسير الطبري (٩/١٧٧) وانظر: حاشية الشيخ أحمد شاكر في كلامه على هذا الحديث (٩/١٨١) .]] .
وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي كِتَابِهِ "الْمُسْتَدْرَكِ" عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ الْأَصَمِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ العُطاردي، عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَير، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ -بِمَعْنَاهُ أَتَمَّ مِنْهُ، وَفِيهِ الشِّعْرُ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ [[المستدرك (٤/٣٨٥ - ٣٨٨) ووافقه الذهبي.]] .
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ [وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ] [[زيادة من ر، أ.]] ﴾ الْآيَةَ، هَذَا إِنْكَارٌ عَلَى الْمُنَافِقِينَ فِي كَوْنِهِمْ يَسْتَخْفُونَ بِقَبَائِحِهِمْ مِنَ النَّاسِ لِئَلَّا يُنْكِرُوا عَلَيْهِمْ، وَيُجَاهِرُونَ اللَّهَ بِهَا لِأَنَّهُ [[في أ: "فإنه".]] مُطَّلِعٌ عَلَى سَرَائِرِهِمْ وَعَالَمٌ بِمَا فِي ضَمَائِرِهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا﴾ تَهْدِيدٌ لَهُمْ وَوَعِيدٌ.
ثُمَّ قَالَ: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا] [[زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".]] ﴾ أَيْ: هَبْ أَنَّ هَؤُلَاءِ انْتَصَرُوا فِي الدُّنْيَا بِمَا أَبْدَوْهُ أَوْ أبدى لهم عند الحكام الذين يَحْكُمُونَ بِالظَّاهِرِ -وَهُمْ مُتَعَبدون [[في ر، أ: "معبدون".]] بِذَلِكَ -فَمَاذَا يَكُونُ صَنِيعُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى؟ وَمَنْ ذَا الَّذِي يَتَوَكَّلُ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي تَرْوِيجِ دَعْوَاهُمْ؟ أَيْ: لَا أَحَدَ يَكُونُ يَوْمَئِذٍ لَهُمْ وَكِيلًا وَلِهَذَا قَالَ: ﴿أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا﴾
{"ayahs_start":105,"ayahs":["إِنَّاۤ أَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِتَحۡكُمَ بَیۡنَ ٱلنَّاسِ بِمَاۤ أَرَىٰكَ ٱللَّهُۚ وَلَا تَكُن لِّلۡخَاۤىِٕنِینَ خَصِیمࣰا","وَٱسۡتَغۡفِرِ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورࣰا رَّحِیمࣰا","وَلَا تُجَـٰدِلۡ عَنِ ٱلَّذِینَ یَخۡتَانُونَ أَنفُسَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِیمࣰا","یَسۡتَخۡفُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلَا یَسۡتَخۡفُونَ مِنَ ٱللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمۡ إِذۡ یُبَیِّتُونَ مَا لَا یَرۡضَىٰ مِنَ ٱلۡقَوۡلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا یَعۡمَلُونَ مُحِیطًا","هَـٰۤأَنتُمۡ هَـٰۤؤُلَاۤءِ جَـٰدَلۡتُمۡ عَنۡهُمۡ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا فَمَن یُجَـٰدِلُ ٱللَّهَ عَنۡهُمۡ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ أَم مَّن یَكُونُ عَلَیۡهِمۡ وَكِیلࣰا"],"ayah":"إِنَّاۤ أَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِتَحۡكُمَ بَیۡنَ ٱلنَّاسِ بِمَاۤ أَرَىٰكَ ٱللَّهُۚ وَلَا تَكُن لِّلۡخَاۤىِٕنِینَ خَصِیمࣰا"}