الباحث القرآني

﴿إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بِالحَقِّ﴾ أخْرَجَ غَيْرُ واحِدٍ عَنْ قَتادَةَ بْنِ النُّعْمانِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - أنَّهُ قالَ: ««كانَ أهْلُ بَيْتٍ مِنّا يُقالُ لَهُمْ: بَنُو أُبَيْرِقٍ؛ بِشْرٌ وبُشَيْرٌ ومُبَشِّرٌ، وكانَ بِشْرٌ رَجُلًا مُنافِقًا يَقُولُ الشِّعْرَ، يَهْجُو بِهِ أصْحابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ يَنْحَلُهُ بَعْضَ العَرَبِ، ويَقُولُ: قالَ فُلانٌ كَذا، وقالَ فُلانٌ كَذا، فَإذا سَمِعَ أصْحابُ النَّبِيِّ -ﷺ - ذَلِكَ الشِّعْرَ قالُوا: واللَّهِ ما يَقُولُ هَذا (p-139)الشِّعْرَ إلّا هَذا الخَبِيثُ، فَقالَ: ؎أوَكُلَّما قالَ الرِّجالُ قَصِيدَةً أضِمُوا فَقالُوا ابْنُ الأُبَيْرِقِ قالَها وكانُوا أهْلَ حاجَةٍ وفاقَةٍ في الجاهِلِيَّةِ والإسْلامِ، وكانَ طَعامُ النّاسِ بِالمَدِينَةِ التَّمْرَ والشَّعِيرَ، وكانَ الرَّجُلُ إذا كانَ لَهُ يَسارٌ فَقَدِمَتْ ضافِطَةٌ مِنَ الشّامِ مِنَ الدَّرْمَكِ ابْتاعَ مِنهُ فَخَصَّ بِها نَفْسَهُ، فَقَدِمَتْ ضافِطَةٌ فابْتاعَ عَمِّي رَفاعَةُ بْنُ زَيْدٍ حِمْلًا مِنَ الدَّرْمَكِ فَجَعَلَهُ في مَشْرَبَةٍ لَهُ، وفي المَشْرَبَةِ سِلاحٌ لَهُ دِرْعانِ وسَيْفاهُما وما يُصْلِحُهُما، فَعَدا عَدِيٌّ مِن تَحْتِ اللَّيْلِ فَنَقَبَ المَشْرَبَةَ وأخَذَ الطَّعامَ والسِّلاحَ، فَلَمّا أصْبَحَ أتانِي عَمِّي رِفاعَةُ فَقالَ: يا ابْنَ أخِي تَعْلَمُ أنَّهُ قَدْ عُدِيَ عَلَيْنا في لَيْلَتِنا هَذِهِ فَنُقِبَتْ مَشْرَبَتُنا، فَذُهِبَ بِطَعامِنا وسِلاحِنا، فَتَجَسَّسْنا في الدّارِ وسَألْنا فَقِيلَ لَنا: قَدْ رَأيْنا بَنِي أُبَيْرِقٍ قَدِ اسْتَوْقَدُوا في هَذِهِ اللَّيْلَةَ، ولا نَرى فِيما نَرى إلّا عَلى بَعْضِ طَعامِكُمْ، فَقالَ بَنُو أُبَيْرِقٍ: ونَحْنُ نَسْألُ في الدّارِ واللَّهِ ما نَرى صاحِبَكم إلّا لُبَيْدَ بْنَ سَهْلٍ رَجُلًا مِنّا لَهُ صَلاحٌ وإسْلامٌ، فَلَمّا سَمِعَ ذَلِكَ لُبَيْدٌ اخْتَرَطَ سَيْفَهُ ثُمَّ أتى بَنِي أُبَيْرِقٍ، وقالَ: أنا أسْرِقُ فَواللَّهِ لَيُخالِطَنَّكم هَذا السَّيْفُ أوْ لَتُبَيِّنُنَّ هَذِهِ السَّرِقَةَ، قالُوا: إلَيْكَ عَنّا أيُّها الرَّجُلُ، فَواللَّهِ ما أنْتَ بِصاحِبِها، فَسَألْنا في الدّارِ حَتّى لَمْ نَشُكَّ أنَّهم أصْحابُها. فَقالَ لِي عَمِّي: يا ابْنَ أخِي لَوْ أتَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَذَكَرْتَ لَهُ ذَلِكَ، فَأتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أهْلَ بَيْتٍ مِنّا أهْلُ جَفاءٍ، عَمَدُوا إلى عَمِّي رِفاعَةَ فَنَقَبُوا مَشْرَبَةً لَهُ، وأخَذُوا سِلاحَهُ وطَعامَهُ، فَلْيَرُدُّوا عَلَيْنا سِلاحَنا، وأمّا الطَّعامُ فَلا حاجَةَ لَنا فِيهِ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: سَأنْظُرُ في ذَلِكَ، فَلَمّا سَمِعَ بَنُو أُبَيْرِقٍ أتَوْا رَجُلًا مِنهم يُقالُ لَهُ أُسَيْرُ بْنُ عُرْوَةَ فَكَلَّمُوهُ في ذَلِكَ، واجْتَمَعَ إلَيْهِ ناسٌ مِن أهْلِ الدّارِ فَأتَوْا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ قَتادَةَ بْنَ النُّعْمانَ وعَمَّهُ عَمَدا إلى أهْلِ بَيْتٍ مِنّا أهْلِ إسْلامٍ وصَلاحٍ يَرْمُونَهم بِالسَّرِقَةِ مِن غَيْرِ بَيِّنَةٍ ولا ثَبَتٍ، قالَ قَتادَةُ: فَأتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَكَلَّمْتُهُ فَقالَ: عَمَدْتَ إلى أهْلِ بَيْتٍ ذُكِرَ مِنهم إسْلامٌ وصَلاحٌ تَرْمِيهِمْ بِالسَّرِقَةِ عَلى غَيْرِ بَيِّنَةٍ ولا ثَبَتٍ، فَرَجَعْتُ ولَوَدِدْتُ أنّى خَرَجْتُ مِن بَعْضِ مالِي ولَمْ أُكَلِّمْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ في ذَلِكَ. فَأتانِي عَمِّي رِفاعَةُ فَقالَ: يا ابْنَ أخِي ما صَنَعْتَ؟ فَأخْبَرْتُهُ بِما قالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: اللَّهُ تَعالى المُسْتَعانُ، فَلَمْ نَلْبَثْ أنْ نَزَلَ القُرْآنُ ﴿إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ﴾ إلَخْ، فَلَمّا نَزَلَ أتى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ – بِالسِّلاحِ، فَرَدَّهُ إلى رِفاعَةَ، فَلَمّا أتَيْتُ عَمِّي بِالسِّلاحِ - وكانَ شَيْخًا قَدْ عَمِيَ في الجاهِلِيَّةِ، وكُنْتُ أرى إسْلامَهُ مَدْخُولًا - قالَ: يا ابْنَ أخِي هو في سَبِيلِ اللَّهِ، فَعَرَفْتُ أنَّ إسْلامَهُ كانَ صَحِيحًا، ثُمَّ لَحِقَ بُشَيْرٌ بِالمُشْرِكِينَ، فَنَزَلَ عَلى سُلافَةَ بِنْتِ سَعْدٍ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ومَن يُشاقِقِ الرَّسُولَ﴾ الآيَةَ، ثُمَّ إنَّ حَسّانَ بْنَ ثابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - هَجا سُلافَةَ فَقالَ: ؎فَقَدْ أنْزَلَتْهُ بِنْتُ سَعْدٍ وأصْبَحَتْ ∗∗∗ يُنازِعُها جِلْدَ إسْتِها وتُنازِعُهْ ؎ظَنَنْتُمْ بِأنْ يَخْفى الَّذِي صَنَعْتُمُ ∗∗∗ وفِينا نَبِيٌّ عِنْدَهُ الوَحْيُ واضِعُهْ فَلَمّا سَمِعَتْ ذَلِكَ حَمَلَتْ رَحْلَهُ عَلى رَأْسِها فَألْقَتْهُ بِالأبْطَحِ، فَقالَتْ: أهْدَيْتَ إلَيَّ شِعْرَ حَسّانَ! ما كُنْتَ تَأْتِينِي بِخَيْرٍ». وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ - واخْتارَهُ الطَّبَرِيُّ - ««أنَّ يَهُودِيًّا اسْتَوْدَعَ طُعْمَةَ بْنَ أُبَيْرِقٍ دِرْعًا، فانْطَلَقَ بِها إلى دارِهِ، فَحَفَرَ لَها اليَهُودِيُّ ودَفَنَها، فَخالَفَ إلَيْها طُعْمَةُ فاحْتَفَرَ عَنْها فَأخَذَها، فَلَمّا جاءَ اليَهُودِيُّ يَطْلُبُ دِرْعَهُ كافَرَهُ عَنْها، فانْطَلَقَ إلى أُناسٍ مِنَ اليَهُودِ مِن عَشِيرَتِهِ فَقالَ: انْطَلِقُوا مَعِيَ فَإنِّي أعْرِفُ مَوْضِعَ الدِّرْعِ، فَلَمّا عَلِمَ بِهِ طُعْمَةُ أخَذَ الدِّرْعَ فَألْقاها في دارِ أبِي مُلَيْكٍ الأنْصارِيِّ، فَلَمّا جاءَتِ اليَهُودُ تَطْلُبُ الدِّرْعَ فَلَمْ تَقْدِرْ عَلَيْها وقَعَ بِهِ طُعْمَةُ وأُناسٌ (p-140)مِن قَوْمِهِ، فَسَبُّوهُ، وقالَ طُعْمَةُ: أتَخُونُونِي؟! فانْطَلَقُوا يَطْلُبُونَها في دارِهِ، فَأشْرَفُوا عَلى دارِ أبِي مُلَيْكٍ فَإذا هم بِالدِّرْعِ، فَقالَ طُعْمَةُ: أخَذَها أبُو مُلَيْكٍ، وجادَلَتِ الأنْصارُ دُونَ طُعْمَةَ، وقالَ لَهُمُ: انْطَلِقُوا مَعِيَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقُولُوا لَهُ يَنْضَحُ عَنِّي ويُكَذِّبُ حُجَّةَ اليَهُودِ، فَأتَوْا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَهَمَّ أنْ يَفْعَلَ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى الآيَةَ، فَلَمّا فَضَحَ اللَّهُ تَعالى طُعْمَةَ بِالقُرْآنِ هَرَبَ حَتّى أتى مَكَّةَ، فَكَفَرَ بَعْدَ إسْلامِهِ، ونَزَلَ عَلى الحَجّاجِ بْنِ عِلاطٍ السُّلَمِيِّ، فَنَقَبَ بَيْتَهُ وأرادَ أنْ يَسْرِقَهُ، فَسَمِعَ الحَجّاجُ خَشْخَشَةً في بَيْتِهِ وقَعْقَعَةَ جُلُودٍ كانَتْ عِنْدَهُ، فَنَظَرَ فَإذا هو بِطُعْمَةَ فَقالَ: ضَيْفِي وابْنُ عَمِّي أرَدْتَ أنْ تَسْرِقَنِي؟! فَأخْرَجَهُ، فَماتَ بِحَرَّةِ بَنِي سُلَيْمٍ كافِرًا، وأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى فِيهِ: ﴿ومَن يُشاقِقِ﴾» إلَخْ». وعَنْ عِكْرِمَةَ: «أنَّ طُعْمَةَ لَمّا نَزَلَ فِيهِ القُرْآنُ ولَحِقَ بِقُرَيْشٍ، ورَجَعَ عَنْ دِينِهِ، وعَدا عَلى مَشْرَبَةٍ لِلْحَجّاجِ سَقَطَ عَلَيْهِ حَجَرٌ فَلُحِجَ، فَلَمّا أصْبَحَ أخْرَجُوهُ مِن مَكَّةَ، فَخَرَجَ، فَلَقِيَ رَكْبًا مِن قُضاعَةَ فَعَرَضَ لَهُمْ، فَقالُوا: ابْنُ سَبِيلٍ مُنْقَطِعٌ، فَحَمَلُوهُ، حَتّى إذا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ عَدا عَلَيْهِمْ فَسَرَقَهُمْ، ثُمَّ انْطَلَقَ، فَرَجَعُوا في طَلَبِهِ فَأدْرَكُوهُ، فَقَذَفُوهُ بِالحِجارَةِ حَتّى ماتَ. وعَنِ ابْنِ زَيْدٍ أنَّهُ بَعْدَ أنْ لَحِقَ بِمَكَّةَ نَقَبَ بَيْتًا يَسْرِقُهُ فَهَدَمَهُ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ، وقِيلَ: إنَّهُ أُخْرِجَ فَرَكِبَ سَفِينَةً إلى جُدَّةَ فَسَرَقَ فِيها كِيسًا فِيهِ دَنانِيرُ، فَأُخِذَ وأُلْقِيَ في البَحْرِ. هَذا، وفي تَأْكِيدِ الحُكْمِ إيذانٌ بِالِاعْتِناءِ بِشَأْنِهِ كَما في إسْنادِ الإنْزالِ إلى ضَمِيرِ العَظَمَةِ تَعْظِيمًا لِأمْرِ المُسْنَدِ، وتَقْدِيمُ المَفْعُولِ الغَيْرِ الصَّرِيحِ لِلِاهْتِمامِ والتَّشْوِيقِ. وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: (بِالحَقِّ) في مَوْضِعِ الحالِ أيْ: إنّا أنْزَلَنا إلَيْكَ القُرْآنَ مُتَلَبِّسًا بِالحَقِّ ﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ﴾ بَرِّهِمْ وفاجِرِهِمْ ﴿بِما أراكَ اللَّهُ﴾ أيْ: بِما عَرَّفَكَ وأوْحى بِهِ إلَيْكَ، و(ما) مَوْصُولَةٌ، والعائِدُ مَحْذُوفٌ، وهو المَفْعُولُ الأوَّلُ لِـ(أرى) وهي مِن رَأى بِمَعْنى عَرَفَ المُتَعَدِّيَةِ لِواحِدٍ، وقَدْ تَعَدَّتْ لِاثْنَيْنِ بِالهَمْزَةِ، وقِيلَ: إنَّها مِنَ الرَّأْيِ مِن قَوْلِهِمْ: رَأْيُ الشّافِعِيِّ كَذا، وجَعْلُها عِلْمِيَّةً يَقْتَضِي التَّعَدِّي إلى ثَلاثَةِ مَفاعِيلَ وحَذْفَ اثْنَيْنِ مِنها، أيْ: بِما أراكَهُ اللَّهَ تَعالى حَقًّا، وهو بَعِيدٌ، وأمّا جَعْلُها مِن رَأى البَصَرِيَّةِ مَجازًا فَلا حاجَةَ إلَيْهِ. ﴿ولا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ﴾ وهم بَنُو أُبَيْرِقٍ، أوْ طُعْمَةُ ومَن يُعِينُهُ، أوْ هو ومَن يَسِيرُ بِسِيرَتِهِ، واللّامُ لِلتَّعْلِيلِ، وقِيلَ: بِمَعْنى عَنْ، أيْ: لا تَكُنْ لِأجْلِهِمْ، أوْ عَنْهم ﴿خَصِيمًا﴾ أيْ: مُخاصِمًا لِلْبُرَآءِ، والنَّهْيُ مَعْطُوفٌ عَلى مُقَدَّرٍ يَنْسَحِبُ عَلَيْهِ النَّظْمُ الكَرِيمُ، كَأنَّهُ قِيلَ: إنّا أنْزَلَنا إلَيْكَ الكِتابَ فاحْكم بِهِ ولا تَكُنْ إلَخْ. وقِيلَ: عَطْفٌ عَلى (أنْزَلَنا) بِتَقْدِيرِ (قُلْنا) وجُوِّزَ عَطْفُهُ عَلى الكِتابِ لِكَوْنِهِ مُنَزَّلًا، ولا يَخْفى أنَّهُ خِلافُ الظّاهِرِ جِدًّا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب